نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٤

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: الشيخ أبو الحسن القائمي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-40-X
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٤٦٤

العقل ، وإذا كان معلوما بالاجمال كانت المخالفة إجمالية.

وحيث إن معلومية التكليف بالاجمال راجعة إلى علم بأصل التكليف وإلى علم بأن طرفه الواقعي لا يخرج عن الطرفين ، لا أحدهما بعينه ولا أحدهما المردد ، فكذلك مخالفته ، فانه مع اتيانهما معا في الحرام يقطع بأصل مخالفة التكليف ، وأن طرف هذه المخالفة ما لا يخرج عن الطرفين ، لا أنه يقطع بمخالفة أحد الفعلين ، وإلا لزم القطع بأحدهما المردد.

فلا مخالفة في وجدان العقل للتكليف الواصل إلا باتيانهما معا أو بتركهما معا لا أن المجموع مخالفة ، كيف؟ والتكليف لم يتعلق بالمجموع ؛ ليكون مخالفته بفعل المجموع ، أو بترك المجموع ، بل تعلق بشيء يعلم بعدم خروجه عن الطرفين ، فكذلك يعلم بأن هذه المخالفة المتحققة طرفها لا يخرج عن الطرفين.

والمخالفة الكذائية في وجدان العقل حتى يكون ظلما لا تكون إلا إذا أتى بالطرفين فعلا أو تركا ، حتى يحصل له علمان على حد العلم بالتكليف والعلم بطرفه.

قلت : هذه غاية تقريب الإشكال في عدم اقتضاء العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية.

ويندفع : بأن الظلم لا ينحصر في مخالفة التكليف الواصل في وجدان العقل ، بل عدم المبالاة بأمر المولى ونهيه بعدم الانبعاث ببعثه ، وبعدم الانزجار بزجره في وجدان العقل أيضا خروج عن زي الرقية ورسم العبودية.

وقد عرفت (١) مرارا : أن الانبعاث الواقعي بالبعث الواقعي وعدمه الواقعي ليسا مناطين للحسن والقبح ، فاتضح أن الانبعاث به بفعل أحد المحتملين وعدمه في عدم الانبعاث في وجدان العقل بالبعث المعلوم على حد

__________________

(١) منها في مبحث حجية القطع التعليقة : ١٠ و ٤١.

٢٤١

سواء.

وبقية الكلام في مباحث القطع.

هذا كله إن كان استحقاق العقاب بحكم العقل.

وإن كان بجعل الشارع ، فلازمه استحقاق العقاب على مخالفة الواقع بعد قيام الحجة عليه.

إذ كما أن قاعدة اللطف تقتضي جعل التكليف ، لايصال العباد إلى مصالحهم ، وصدهم عن مفاسدهم ، كذلك تقتضي جعل العقاب على مخالفته ، تحقيقا للدعوة المؤدية إلى المصالح ، وعدم الوقوع في المفاسد.

وحيث إن وجوده الواقعي لا يترتب عليه الأثر ، فلا بدّ من إيصاله ليترتب عليه الأثر ، اما عموما أو خصوصا.

والعلم بالتكليف علم بلازمه ، وهو العقاب المجعول على مخالفته ، لا من حيث الاندراج تحت عنوان الظلم ، حتى ترد المحاذير المتقدمة.

وبملاحظة العلم المزبور يحتمل العقاب على فعل كل من المحتملين ، وهو الحامل للعبد إلى الفرار عنه ، من دون حاجة إلى حكم آخر من الشرع أو من العقل.

ومنه تعرف أن المنع من المخالفة القطعية والاذن فيها شرعا ـ لكونه إذنا في الظلم ـ لا ينطبق إلا على المسلك الأول ، وإلا فلا بد من التعليل بأن جعل العقاب ورفعه متنافيان.

كما أن المنع من ترك الموافقة القطعية ـ لاحتمال العقاب الذي لا بد من دفعه ـ لا ينطبق إلا على المسلك الثاني ، وإلا فلا عقاب على المخالفة الواقعية حتى يحتمل.

بل العقاب على عدم المبالاة بأمر المولى في وجدان العقل ، وهو بنفسه ظلم. وبه يظهر الخلط في الكلمات بين المسلكين ، والله العاصم.

٢٤٢

٧٢ ـ قوله (قدّس سره) : وقد انقدح أنه لا وجه لاحتمال (١) ... الخ.

توضيح المقام : ان الترخيص في ارتكاب كل منهما بدلا ، إما أن يكون شرعيّا وإما أن يكون عقليا ، لمسوغ واستحقاق العقاب على المخالفة ، إما بحكم العقل وإما بجعل الشارع :

فان كان الترخيص شرعيا لزم اجتماع المتنافين قطعا ؛ للقطع بثبوت الاباحة تخييرا والحرمة تعيينا.

وما أفاده (قدّس سره) في مبحث القطع (٢) من أن احتمال ثبوت المتنافيين كالقطع بثبوتهما إنما يصح مع الترخيص شرعا في أحدهما المعين ، لا في كل منهما تخييرا ، وإلا فالمنافاة قطعية لا احتمالية.

كما أن مورده الترخيص الشرعي ، لا الأعم منه ومن العقلي ، ويختص الترخيص الشرعي بهذا المحذور ، ويشارك غيره في سائر المحاذير.

وإن كان الترخيص عقليا ، وكان استحقاق العقاب بحكم العقل :

فان كانت مخالفة التكليف الواصل واقعا ظلما ، فهو إذن في الظلم قطعا ، لأن الاذن بدلا في كل منهما موجود ، مع أن أحدهما ظلم واقعا ، بمعنى أن المعذورية في كل منهما بدلا لا تجامع تنجز الواقع ، وعدم المعذورية عقلا في مخالفة الواقع.

وإن كان عدم المبالاة في وجدان العقل بالتكليف الواصل ظلما ، فالاذن في عدم الانبعاث بارتكاب كل منهما لا يجامع كون عدم الانبعاث بالبعث المعلوم ظلما.

وإن كان الترخيص عقليّا ، والاستحقاق بجعل الشارع ، فمن الواضح :

__________________

(١) كفاية الأصول : ٣٥٩.

(٢) كفاية الأصول : ٢٧٣.

٢٤٣

أن جعل العقاب على مخالفة التكليف الواصل واقعا ، ورفع عقاب الواقع على تقدير المصادفة متنافيان ، لأن ضم الواقع إلى غير الواقع لا يحدث عقابا على مخالفة الواقع ، بل بقاء الواقع على فعليته المتقومة باستحقاق العقاب عقلا أو جعلا غير معقول.

فلا محالة إما لا فعلية ولا تنجز للواقع ، وإما لا ترخيص في كل منهما بدلا ، كما لا ترخيص في كليهما.

وأما حديث نصب الطريق أو جعل البدل ، ولو كان بعنوان القناعة بالامتثال الاحتمالي عن الامتثال القطعي ، فهو اجنبي عن انفكاك وجوب الموافقة القطعية عن حرمة المخالفة القطعية ، أولا يجدي في الانفكاك.

أما نصب الطريق ، فقد أوضحنا حاله في الجواب (١) عن الدليل العقلي للأخباريين ، وبيّنا هناك أن الحجية إما بمعنى جعل الحكم المماثل ، أو بمعنى تنجيز الواقع.

ومن البيّن امتناع اجتماع حكمين فعليين في مورد واحد ، وامتناع تنجز المنجز ، فلا علم إجمالي بحكم فعلي على أي تقدير ، أولا يؤثر على أي تقدير ، فينحل العلم حكما.

ووجوب ما قام عليه الطريق أو ما اقتضاه الأصل السليم عن المعارض ليس من ناحية رعاية العلم الاجمالي وبقاء أثره من حيث حرمة المخالفة القطعية ، بل من ناحية الحجة ، فراجع.

وأما جعل البدل : فتارة بمعنى اشتمال غير الواجب الواقعي في حال

__________________

(١) التعليقة : ٣٥ و ٣٧ وقد أجاب قده في الأولى بقوله : فالتحقيق في الجواب بناء على ارادة جعل الحكم المماثل الخ ، وفي الثانية بقوله : يمكن أن يقال إن ملاك الجواب بناء على هذا الشق هو أن المنجّز لا يتنجّز الخ.

٢٤٤

الجهل على مصلحة يتدارك بها مصلحة الواجب الواقعي ، فالمأتي به : إما هو الواقع ، أو ما يتدارك به مصلحة الواقع ، ولاشتمال غير الواجب الواقعي على مصلحة يتدارك مصلحة الواقع يخيّر العقل بين إتيانه ، وإتيان الواقع.

وليس ترك الواقع مع فعل ما يستوفى به الغرض منه قبيحا عقلا.

ولا منافاة بين العلم الاجمالي بوجوب تعييني واحد واقعا والعلم بوجوبين تخييريين شرعا وعقلا بنحو الواجبين المتزاحمين ظاهرا. فلم يسقط الوجوب الواقعي عن الفعلية ليكون خلفا ، أو يكون الترخيص التخييري منافيا ، بل يسقط بحكم العقل عن التعيّنيّة لثبوت البدل له ، ومثله لا ينافيه الترخيص إلى بدل.

واخرى : بمعنى قناعة الشارع في مقام إطاعة أحكامه ، واقتصاره على الموافقة الاحتمالية ، لما في تحصيل الموافقة القطعية من المفسدة المنافية لما تعلق به غرض الشارع من التسهيل على المكلف.

لكنك قد عرفت أن حرمة المخالفة القطعية لبقاء عقاب الواقع ، ولو لاه لم يكن وجه لحرمة المخالفة القطعية ، مع أن بقاء عقاب الواقع على حاله وارتفاعه على تقدير المصادفة متنافيان ؛ بداهة أن ضم غير الواقع إلى الواقع لا يوجب ترتب العقاب على مخالفة الواقع.

وقد مر نظيره مرارا في مسألة دليل الانسداد ، وليس إيجاب الموافقة القطعية مولويا لمصلحة ، حتى إذا كان تحصيلها ذا مفسدة غالبة يسقط خصوص وجوب الموافقة القطعية.

بل ليس هناك على أي حال غرض مولوي ولا لزوم شرعي ، بل ولا عقلي ، فلا محالة لا بد من وقوع المزاحمة بين مفسدة الموافقة القطعية والمصلحة المنبعث منها الحكم الواقعي ، ومع مغلوبية المصلحة وسقوطها عن التأثير لا تكليف فعلي حتى يحرم مخالفته القطعية.

٢٤٥

ومنه تعرف أن الاذن في ترك الموافقة القطعية لا يفيد اشتمال غير الواقع على مصلحة بدلية ، إلاّ إذا رجع إلى الأمر باتيان الفرد الآخر.

وإلاّ فمجرد الترخيص يكشف عن مغلوبية المصلحة الداعية إلى الايجاب الواقعي ، فيزول العلم الاجمالي بالوجوب الفعلي.

ثم إنه بعد ما عرفت حال الترخيص في أطراف العلم الاجمالي في مقام الثبوت ، فهل الدليل في مقام الاثبات واف في نفسه بالترخيص في تمام الأطراف ، أو في بعضها ، ولو بنحو الجمع بينه وبين حكم العقل بقبح الاذن في المخالفة القطعية ، أم لا؟

فنقول : قوله (ع) : ( كل شيء يكون فيه حلال وحرام ، فهو لك حلال أبدا حتى تعرف أنه حرام ) وشبهه مغيّا بالعلم (١).

وكذلك قوله (ع) : ( كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام ) (٢) وليس المغيّى معنونا بعنوان المشكوك والمشتبه ؛ ليقال : بأن الشك والاشتباه أعم من المجامع للعلم الاجمالي وغيره ، حتى يتوهم التعارض بين الغاية والمغيّى ، بل غاية ما يستفاد من الغاية كون المغيّى ما لم يعلم حكمه.

وحيث إن العلم أعم ، فكذا ما لم يعلم ، فلا يقتضي مقام الاثبات جريان قاعدة الحل في تمام الاطراف.

وأوضح منه قوله (ع) : ( رفع ما لا يعلمون ) (٣).

وقوله (ع) : ( الناس في سعة ما لا يعلمون ) (٤) واشباه ذلك.

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٧ / ٢٢٦ ، الكافي : ٦ / ٣٣٩ ، لكن مع فرق يسير في بعض الفاظ الحديث بين ما في الكتابين وبين ما في المتن.

(٢) تهذيب الأحكام : ٧ / ٢٢٦.

(٣) الخصال : ٤١٧.

(٤) عوالي اللآلي : ١ / ٤٢٤ ، لكن فيه ما لم يعلموا وهو المصدر للحديث.

٢٤٦

وأما الاستصحاب ، فمقتضى الأخبار المذيلة بقوله (ع) : ( ولكنه ينقضه بيقين آخر ) (١) ونحوه وقوع المعارضة والمناقضة بين الصدر والذيل ، بلحاظ إطلاق الشك في الصدر واطلاق اليقين في الذيل.

وقد قدمنا في بعض مباحث دليل الانسداد (٢) وسيجيء ـ إن شاء الله تعالى ـ في آخر (٣) مبحث الاستصحاب ارتفاع المناقضة ، سواء قلنا : بأن الذيل مؤكد للصدر ، فهو تابع سعة وضيقا للصدر ، أو قلنا : بأنه محدد له ، فيكون الصدر تابعا للذيل في السعة والضيق.

وقد برهنا في المقامين بعدم معقولية التحديد ، وعدم قابلية اليقين الإجمالي لاعتبار الناقضية لليقين التفصيلي بجميع وجوهه المتصورة.

كما أنه قد بينا في محله (٤) : أن استفادة تمحّض الشك في غير المقرون باليقين الاجمالي ـ من وقوع قوله (ع) : ( ولكنه ينقضه بيقين آخر ) موقع الارشاد الى حكم العقل ، بالجري على وفق اليقين الذي لا فرق فيه بين التفصيلي والاجمالي ـ مخدوشة ، فان الارشاد بلسان ( تنقضه بيقين آخر ) غير الارشاد الى الجري على وفق اليقين ، فراجع.

وعن بعض أجلة العصر (٥) الجمع بينه وبين حكم العقل ، بحيث ينتج جواز الاذن في ترك الموافقة القطعية فقط.

وتقريبه على ما أفاده أن إطلاق الاذن في ارتكاب كل منهما لحال ارتكاب الآخر وعدمه يقيد عقلا بحال عدم الآخر ، فلا يفيد حينئذ إلا جواز ارتكاب كل

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ١ / ٨.

(٢) نهاية الدراية : ٣ ، التعليقة : ١٣٢.

(٣) نهاية الدراية : ٥ ، التعليقة : ١٢٣.

(٤) نهاية الدراية : ٥ ، التعليقة : ١٢٣.

(٥) هو المحقق الحائري قده : درر الفوائد / ٤٥٩.

٢٤٧

منهما حال ترك الآخر.

ثم أورد على نفسه بأنه إذا لم يرتكبهما معا ، فقد حصل شرط كل من الحكمين ، فيلزم ثبوتهما ، ولازمه الاذن في المخالفة القطعية.

فأجاب بأن الاطلاق لا يعم حال وجود متعلقه ، ولا حال عدمه ؛ إذ بعد فرض وجوده أو عدمه يخرج عن تحت القدرة ، فلا يمكن تعلق التكليف به.

وبمثله أفاد في باب تعارض الاستصحابين (١).

والتحقيق : أن عدم أحدهما حال وجود الآخر ، إما أن يكون قيدا للمباح ، أو يكون قيدا للاباحة :

فان كان قيدا للمباح بمعنى أن الفعل المقرون بترك الآخر هو المباح ، فان رجع الاذن بهذا النحو الى تحريم الجمع بين الفعلين ليكون تركه ، إما بترك كليهما ، أو بترك أحدهما ، فيباح إباحة عرضية ، كترك الحرام في غير المقام ، فلا بأس به.

إلا أنه مناف غاية المنافاة لظاهر دليل قاعدة الحل ؛ لأن ظاهره إثبات الحلية الشرعية الحقيقية لكل منهما ، لا إثبات الحرمة الظاهرية للجمع الذي لازمه الاباحة العرضية لنقيضه.

وإن لم يرجع الاذن بذلك النحو إلى تحريم الجمع ، فلازم إباحة الفعل المتقيد بعدم الآخر كون تركه ترك المباح.

وترك الفعل الخاص ، إما بترك ذات الخاص ، أو بترك الخصوصية ، أو بتركهما معا ، فينتج جواز فعلهما معا عرضا ، لأن ترك المباح فعله مباح بالعرض.

وإن كان قيدا للاباحة بمعنى الترخيص في فعل كل منهما على تقدير ترك الآخر ، فحيث إن الترك المجعول قيدا هو الترك في موقع التكليف البديل للفعل

__________________

(١) درر الفوائد / ٦٣٤.

٢٤٨

الصالح لتعلق التكليف به. فلا محالة : إما أن يكون العدم البديل بما هو عدم مقارن شرطا مقارنا للاباحة.

وإما أن يكون العدم البديل بذاته لا بوصف المقارنة قيدا.

فان كان الأول ، فلا إباحة أصلا مع ترك كليهما ، لفقد العدم المقارن في كليهما ، وإذ لا شرط فلا مشروط.

مع أنه لا شبهة في أن المباح مباح ، سواء ارتكبه أو تركه.

وإن كان الثاني ، فلازمه إباحة الفعلين مع تركهما معا ، لتحقق شرط كليهما.

مع أن المقصود إباحة أحدهما لا كليهما. والظاهر إرادة هذا الشق من جميع الشقوق المتقدمة.

ويندفع الاشكال : بأن الواجب المشروط لا يخرج عن الاشتراط إلى الاطلاق بفعلية شرطه ، ولا يلزم من جوازين مشروطين الاذن في المخالفة القطعية ، كيف؟ وفعل كل منهما هادم لتقدير جواز الآخر.

واما الجواب المذكور في طي التقريب فلا محصل له ، فان الاشكال لم ينشأ عن إطلاق الاباحة لمتعلقها حتى يمنع ، بل عن خروجها عن الاشتراط إلى الاطلاق بفعلية شرطه (١). فتدبر.

٧٣ ـ قوله ( قده ) : وأنه لو علم فعليته ولو كان بين أطراف تدريجية (٢) ... الخ.

ليس المراد من التدريجي الفعل الزماني المنطبق على قطعة من الزمان ، في قبال الدفعي الذي هو آنيّ الحصول كالوصولات إلى حدود المسافة.

__________________

(١) كذا في الأصل ، لكن الصحيح : شرطها.

(٢) كفاية الاصول / ٣٦٠.

٢٤٩

كما أنه ليس المراد منهما ما يمكن اجتماعهما في زمان واحد وما لا يمكن ، فان وطأ الامرأتين كذلك ، بل شرب الإناءين غالبا كذلك.

بل المراد أن الفعلين تارة : يكونان حاليين ، بحيث يمكن أن يقع كل منهما في حد ذاته في الحال.

وأخرى : بحيث لا يمكن أن يقع أحدهما إلا في الاستقبال.

ثم إن عدم فعلية التكليف تارة ـ لعدم فعلية موضوعه ، كعدم فعلية حرمة الواطئ بعدم فعلية كون المرأة حائضا.

وأخرى ـ لعدم حصول قيد الواجب أو الوجوب مثلا ، كالأوقات الخاصة في الصلوات اليومية ، وكالأيام المخصوصة لمناسك الحج ، وكشهر رمضان للصيام.

وثالثة ـ لعدم حصول ظرف الواجب ، كعدم الليلة المستقبلة في الوطء المحلوف على تركه في الليلة المستقبلة ، فان الليلة المستقبلة ليست دخيلة في مصلحة وجوب الوفاء بالحلف ولا دخيلة في مصلحة الوفاء ، بل حيث إن الحلف تعلق بتركه في الليلة المستقبلة ، فلذا لا ينطبق الوفاء الواجب إلا على ترك الوطء في الليلة المستقبلة.

وكذا في المعاملة الربويّة الواقعة غدا ، فان وقوعها غدا ليس دخيلا في مصلحة تحريمها ولا في مفسدة فعلها ، بل ظرف محض للمعاملة الربويّة.

فنقول : أما وطء الحائض ، فعدم فعلية حرمته ليس من ناحية تأخر زمان الحيض ، بل من ناحية عدم فعلية الموضوع ، فهو حرام مشروط بتحقق موضوعه.

وأما عدم فعلية وجوب الصلاة مع عدم دخول الوقت ، فبملاحظة عدم تحقق شرط الوجوب أو الواجب.

وأما عدم فعلية حرمة وطء المرأة المحلوفة مع تحقق الحلف الذي هو موضوع لوجوب الوفاء ، فبملاحظة أن التكليف متعلق بأمر استقبالي من باب الاتفاق ، وكذا الأمر في المعاملة الربويّة في المستقبل.

٢٥٠

فمن ينكر الواجب المعلّق كشيخنا العلامة (١) الانصاري ( قده ) بملاحظة أن المصلحة الباعثة على إرادة الفعل : إما قائمة به لا على تقدير ، فالارادة فعلية متعلقة بأمر لا على تقدير ، فلها الباعثية على إيجاد الفعل فعلا.

وإما قائمة به على تقدير ، فالارادة المنبعثة عنها إرادة فعلية متعلقة بأمر على تقدير ، فلا باعثية لها إلاّ مع فرض حصول ذلك التقدير ، ولا ثالث للإرادتين حتى يسمى وجوبا معلّقا.

فعليه : يكون مثال الحيض عنده من التكليف المشروط ، بخلاف مثالي الحلف والمعاملة الربويّة ، فانه ليس الزمان شرطا لا للتكليف ولا للمكلف به ، فالارادة فيهما فعلية لا على تقدير.

فيصح على هذا المبنى دعوى الشيخ الأجل ( قده ) جريان البراءة في مثال الحيض ، لدوران الأمر بين المطلق والمشروط الذي لا باعثية له بالفعل.

وجريان الاحتياط في مثالي الحلف والمعاملة الربويّة ؛ لأن التكليف في كل من الطرفين لا قيد له وجوبا وواجبا ، فالحكم فعلي لا على تقدير ، وله الباعثية بالفعل.

وأما بناء على ما ذكرناه ـ في مبحث الواجب المعلق ـ ، من أن البعث والانبعاث متلازمان متضايفان ، وهما متكافئان في الضرورة والامتناع والامكان ، وفي القوة ، والفعلية.

ومن الواضح أن البعث الفعلي فعليته بمعنى أنه يمكن أنه يكون داعيا بالفعل ، ولا يعقل ذلك إلا مع إمكان الانبعاث بالفعل ، ويستحيل الانبعاث نحو الفعل المتأخر.

__________________

(١) مطارح الانظار / ٥٣.

٢٥١

فعليه : لا فرق بين الأمثلة في عدم فعلية التكليف ، غاية الامر أن عدم الفعلية تارة ـ بعدم فعلية الشرط الشرعي ، سواء كان زمانا أو غيره.

وأخرى : بعدم إمكان الانبعاث ، لتقيده بالزمان المتأخر من باب الاتفاق ، فلا يمكن البعث بالفعل عقلا ، لتضايفه ، مع إمكان الانبعاث.

ومما ذكرنا يظهر ان الالتزام باشتراط التكليف بالزمان المتأخر بنحو الشرط المتأخر لا يجدي شيئا ، فان فيه محذور استحالة الوجوب المعلق ، لانفكاك زمان الوجوب عن زمان الوجوب ، ومحذور استحالة الشرط المتأخر.

نعم ربما يقال : (١) بمنجزية العلم الاجمالي في جميع الأمثلة ، نظرا إلى أن الواجب المشروط مع العلم بتحقق شرطه في ظرفه كالواجب المطلق في وجوب مقدماته الوجودية والعلمية ، وإن كان الوجوب المشروط باقيا على عدم فعليته بالفعل.

وفيه : إن أريد وجوب المقدمة شرعا بحكم العقل في المقدمات التي لا يمكن تحصيلها في وقت ذيها فهو غير معقول لأن وجوب المقدمة شرعا وجوب معلولي منبعث عن وجوب ذيها ، فيتبعه في الفعلية ، ومع الالتزام بعدم فعلية وجوب ذيها كيف يعقل فعلية وجوبها؟

والعلم بتحقق الشرط في ظرفه لا يؤثر في المعلوم باخراجه إلى الفعلية. والعقل يستحيل أن يحكم بمثل هذا الوجوب المعلولي.

وإن أريد حكم العقل بمجرد اللزوم واللابدية ـ ، نظرا إلى حكمه باستحقاق العقاب على ترك الواجب في وقته بترك هذه المقدمة التي لا يمكن تحصيلها في وقته ـ ، فعلى فرض تسليمه لا يجدي في وجوب الغسل قبل الفجر حتى يؤتى به بقصد الأمر.

__________________

(١) القائل هو المحقق النائيني قده. أجود التقريرات ٢ / ٢٧٢.

٢٥٢

والتحقيق : إمكان الفرق بين المقدمات الوجودية والمقدمة العلمية بعدم وجوب المقدمة الوجودية ، لترشحه من وجوب ذيها ، ولا وجوب لذيها فعلا ، ولزوم المقدمة العلمية عقلا ، لأنه أثر العلم بالتكليف ، لا أثر التكليف بنفسه.

بيانه : أن مقتضى علمه الاجمالي بالتكليف ، إما في الحال أو في الاستقبال مع بقائه على شرائط الفعلية والتنجز في ظرفه ، هو وصول كل من التكليفين المحتملين وصولا إجماليا ، وهو كاف في فعلية الواصل في موطنه.

فيعلم إجمالا أن مخالفة هذا التكليف الحالي في الحال ، أو مخالفة ذلك التكليف الاستقبالي في الاستقبال موجبة لاستحقاق العقاب ، إما على هذه المخالفة في الحال ، أو على تلك المخالفة في الاستقبال ، فكل من المخالفتين في موطنها مما يحتمل ترتب العقاب عليها ، وهو الحامل على دفع العقاب المحتمل بترك المخالفة في موطنها.

ولا يتوقف فعلية التكليف في موطنه على أزيد من الوصول ، كما لا يتوقف استحقاق العقاب على أزيد من مخالفة التكليف في موطن المخالفة وفي ظرف ترتب استحقاق العقاب.

كما لا يتوقف لزوم المقدمة العلمية ودفع العقاب المحتمل على أزيد من احتمال العقاب بالاضافة إلى المخالفة الواقعية للتكليف الحقيقي في ظرفه.

فان قلت : لا عبرة بوصول التكليف الاستقبالي في الحال ، فان وجوده وعدمه على حد سواء ، وانما العبرة بالوصول في موطن يترقب فيه البعث والانبعاث ، وهو الوصول في الاستقبال.

فهذا الوصول الاجمالي لا أثر له بالاضافة إلى أحد الطرفين.

قلت : أولا إن هذا الوصول الحالي يكفي في فعلية التكليف الاستقبالي في ظرفه بنفس هذا الوصول ، فانه لا منافات بين فعليته من قبل هذا الوصول فعلا ، وعدم فعليته من قبل تضايف البعث والانبعاث ، فانه لا يكون البعث فعليا

٢٥٣

إلا حيث يمكن الانبعاث الفعلي.

وثانيا : إن مفروض الكلام بقاء التكليف الاستقبالي على شرائط الفعلية والتنجز ، فمع العلم باستمرار الوصول وعدم التبدل بانقلاب العلم جهلا يقطع بفعلية التكليف الاستقبالي بالوصول بقاء ، وإن لم يكن فعليا بالوصول حدوثا.

فان قلت : العلم الاجمالي لا يزيد على العلم التفصيلي ، مع أنه لو كان التكليف الاستقبالي معلوما بالتفصيل لم يكن له أثر ، لا من حيث نفسه ولا من حيث مقدماته الوجودية والعلمية.

بل اللازم تعلق العلم الاجمالي بتكليف فعلي ، بحيث إذا انقلب علمه الاجمالي إلى التفصيلي لكان ذا أثر فعلا.

قلت : اللازم أن يكون المعلوم بالاجمال ذا أثر في موطن فعليته ، لا ذا أثر في الحال على أيّ حال ، إلا أن العلم التفصيلي طرفه مفصل ، ولا أثر له فعلا من جميع الجهات ، بخلاف العلم الاجمالي ، فان أحد طرفيه حالي ، ومراعاته عقلا أثر احتمال العقاب عليه فعلا.

فان قلت : العلم الاجمالي لا يؤثر في التنجز إلا إذا تعلق بحكم فعلي ، وحيث إنه لا يتعلق بالمردد بل بالجامع بين الحكمين ، والجامع بين الفعلي وغيره غير فعلي ، فلا أثر له في التنجّز.

قلت : الفعلية عندنا بنفس الوصول ، والواصل هو الانشاء بداعي جعل الداعي ، سواء كان متعلقا بأمر حالي أو استقبالي ، فبالوصول يكون الانشاء المتعلق بأمر حالي أو استقبالي فعليا ، إما في الحال أو في الاستقبال.

* * *

٢٥٤

[ التنبيه الأول ]

٧٤ ـ قوله ( قده ) : ان الاضطرار كما يكون مانعا عن العلم (١) ... الخ.

توضيح المقام وتفصيل الكلام : أن الاضطرار إذا كان إلى أحد الأمرين بلا تعيين ، فالوجه في عدم منعه عن تنجيز العلم الاجمالي أن الاضطرار ليس إلى شرب النجس ولو على سبيل الاحتمال ، إذ احتمال الانطباق عند فعلية الارتكاب لا عند فعلية الاضطرار ، فهو غير مضطر الى الحرام قطعا.

ومتعلق التكليف بما هو مقدور فعلا وتركا ، لا أن أحدهما المردد حرام وأحدهما المردد مضطر إليه ، ليقال : بأن نسبة الاضطرار إلى الحرام وغيره على حد سواء ، بل معنى الاضطرار إلى أحدهما أنه لا يقدر على تركهما معا ، مع القدرة على فعل كل منهما وتركه في نفسه.

وعليه فشرائط تنجز الخطاب الواقعي من العلم به والقدرة على متعلقه موجودة ، فيؤثر العلم أثره ، وإنما المكلف يعجز عن الموافقة القطعية دون الامتثال بالكلية ، فيكون معذورا عقلا فيما هو عاجز عنه ، لا في غيره مع ثبوت مقتضيه.

وما يمكن أن يقال في وجه مانعية الاضطرار أمران :

أحدهما : ما في الكتاب عن شيخنا الاستاذ ( قده ) كما في فوائده (٢) أيضا ، وهو منافاة الترخيص التخييري مع الحرمة التعيينية ، ومقتضى الأهمية المفروضة سقوط الحرمة التعيينية بالمضادة.

__________________

(١) كفاية الاصول / ٣٦٠.

(٢) التعليقة على فرائد الأصول / ٣٣١.

٢٥٥

فلا علم بتكليف فعلي ، حتى يقال : بأن سقوط لزوم الموافقة القطعية لا يقتضي سقوط حرمة المخالفة القطعية.

إلا أن هذا البيان إنما يجدي فيما إذا كان الترخيص شرعيا ، لا فيما إذا كان عقليا أيضا ؛ إذ الترخيص العقلي ليس من مقولة الحكم الفعلي حتى يضاد الحرمة التعيينية الفعلية.

بل معناه حكم العقل بمعذورية المضطر في ارتكاب ما اضطر إليه إذا صادف الحرام الواقعي ، فلا بد من ملاحظة منافاة هذه المعذورية العقلية مع الحرمة الفعلية من حيث الأثر.

وأي منافاة بين المعذورية في ترك الموافقة القطعية ، وعدم المعذورية في المخالفة القطعية.

هذا مضافا إلى أنه لو كان هناك تكليف شرعي بحفظ النفس عن الهلاك مثلا ، فهو تكليف تعييني لا ينافي بنفسه لحرمة شرب النجس تعيينا ، إذ المفروض عدم الاضطرار إلى شرب النجس بما هو ، بل العقل لمكان عدم تميز الحرام عن الحلال يعذره في تطبيق الحفظ الواجب على كل من الفعلين.

فليس هناك ايضا إلا المعذورية العقلية ، وقد مرّ عدم منافاتها للحرمة الواقعية من حيث أثرها.

ثانيهما : ما مرّ منا مرارا (١) : من أن المعذورية في ارتكاب أحدهما ، ورفع عقاب الواقع عند المصادفة ينافي بقاء عقاب الواقع على حاله حتى يحرم المخالفة القطعية ، فان ضم غير الواقع إلى الواقع لا يحدث عقابا على الواقع ، والمانع من تنجز التكليف هو الاضطرار ، لا اختيار ما يرتكبه في مقام الاضطرار حتى يعقل

__________________

(١) منها ما تقدم في التعليقة ٧٢ ومنها ما تقدم في مبحث حجية القطع. نهاية الدراية ٣ : التعليقة ٤٤.

٢٥٦

التكليف المتوسط المصطلح عليه عند بعضهم (١) تبعا للشيخ الأعظم ( قده ) ، بداهة أنه مأذون في الارتكاب ، سواء ارتكب أم لا.

فان قلت : هذا إذا كان الاضطرار سابقا على العلم الاجمالي ، وأما مع منجزية العلم الاجمالي ولحوق الاضطرار فلا ، وذلك لاحتمال بقاء التكليف المنجز بالنسبة إلى ما يرتكبه ، فيجب مراعاته عقلا.

قلت : مجرد عروض الاضطرار يوجب حكم العقل بعدم العقاب على ارتكاب أي واحد كان ، ولا يدور حكم العقل مدار الارتكاب.

فمن الأول لا يحتمل بقاء التكليف الفعلي المنجز ، لتقومه باستحقاق العقاب على مخالفته عند مصادفته ، وحيث لا عقاب عليه وإن صادفه ، فلا يحتمل بقاء التكليف من الأول ، سواء ارتكب أحدهما أم لا.

ولذا ذكرنا سابقا أن ايجاب الموافقة القطعية لازم حرمة المخالفة القطعية ، وأن الاذن في ترك الموافقة القطعية يستلزم الاذن في المخالفة القطعية.

ومما ذكرنا تبين أنه لا وجه للالتزام بالتوسط في التكليف ، بحيث يكون باقيا على تقدير ارتكاب غير الحرام وساقطا على تقدير ارتكاب الحرام ، فان لزوم الالتزام به فيما إذا قام الدليل على ارتفاع الحرمة بارتكاب متعلقها ، فحينئذ يعلم منه بانضمامه إلى دليل الحرمة اختصاصها بمن لم يرتكب متعلقها.

مع انه ليس كذلك ، بل الترخيص شرعا أو عقلا يدور مدار الاضطرار المشفوع بالجهل بالحرام تطبيقا ، فمن أول الأمر يجوز له ارتكاب أي واحد كان ، سواء ارتكب أم لم يرتكب ، ونفس جواز الارتكاب وإن صادف الواقع مناف عقلا لفعلية الحرمة واستحقاق العقاب على المخالفة عند المصادفة ، فتدبر جيدا.

__________________

(١) هو المحقق النائيني قده. أجود التقريرات ٢ / ١ ـ ٢٧٠.

٢٥٧

وقد مضى فيما تقدم شطر مما يتعلق بالمقام ، فراجع (١).

وأما إذا كان الاضطرار إلى أحدهما المعين :

فان كان الاضطرار سابقا على العلم ، فلا شبهة في عدم منجزية العلم ، فان المعيّن حلال قطعا وإن كان حرما واقعا ، وليس إلاّ مجرد احتمال التكليف في الطرف الآخر ، وهذا هو الفارق بين سبق الاضطرار إلى المعين وسبقه إلى الغير المعين ، لاحتمال تعلق الاضطرار بالحرام الواقعي في الأول دون الثاني ، كما عرفت.

وإن كان الاضطرار بعد حصول العلم وتأثيره أثره ، فالشيخ الأعظم (قدس سره) في رسالة البراءة (٢) على الاحتياط وبقاء العلم بأثره ؛ لأن وجوب الاجتناب عن كل واحد من الطرفين بملاحظة احتمال التكليف المنجز بالعلم في ذلك الطرف ، وهو بعينه موجود هنا ، لاحتمال بقاء التكليف المنجز في غير المضطر إليه ، كاحتمال ثبوته فيه قبل الاضطرار.

وعن شيخنا العلامة ( رفع الله مقامه ) في متن الكتاب ، وفي فوائده (٣) ، عدم منجزية العلم الاجمالي بقاء.

وفي هامش الكتاب (٤) على منجزيته بقاء ، وموافقة الشيخ الأعظم ( قده ) في ذلك.

واستند (قدس سره) في عدم البقاء على صفة التنجّز (٥) إلى أن القدرة شرط للتكليف حدوثا وبقاء ، فكما انه إذا علم إجمالا بثبوت خطاب مردد بين

__________________

(١) في التعليقة ٧٢.

(٢) فرائد الاصول المحشى ٢ / ٨٧.

(٣) التعليقة على فرائد الاصول / ٣٣١.

(٤) كفاية الأصول / ٣٦٠.

(٥) كذا في الأصل ، لكن الصحيح : التنجيز.

٢٥٨

فعل مقدور وفعل غير مقدور ، فلا أثر له لعدم التكليف الفعلي على أي تقدير ، كذلك إذا علم إجمالا بمثله بقاء لا حدوثا ، فانه لا علم له بتكليف فعلي على أي تقدير بقاء من أول الأمر ، بل له العلم به إلى حد الاضطرار.

واستند (قدس سره) في البقاء على صفة التنجّز (١) إلى دوران الأمر بين تكليف محدود في هذا الطرف وتكليف مطلق في ذلك الطرف فيكون احتمال التكليف المطلق من اول الأمر مقرونا باحتمال التكليف المحدود فله الأثر من اول الأمر بيانه : أنه ليس التكليف المعلوم مرددا بين ان يكون محدودا او مطلقا ، حتى ينحل إلى معلوم ومشكوك ، نظرا إلى أن ثبوت أصله إلى هذا الحد متيقن وفيما بعده مشكوك ، بل اشتراط أصل التكليف بالقدرة وتحديده بالاضطرار معلوم.

إنما الشك في أن التكليف بترك شرب النجس المعلوم ، هل هو منطبق على ترك شرب هذا الاناء إلى حد الاضطرار إلى شربه؟ أو على ترك شرب ذلك الاناء الذي لا اضطرار اليه على الفرض؟.

وليس التكليف في أحد الطرفين من حيث الانطباق متيقنا بالاضافة إلى الآخر ، نظير ما إذا علم بأنه مأمور بالجلوس ، إما في هذا المسجد ساعة ، أو في ذلك المسجد الآخر ساعتين ، فكونه مأمورا بجلوس ساعة ، وإن كان معلوما على أي تقدير ، لكنه لا بنحو التطبيق ، فلا يجدي في الانحلال.

فان قلت : هذا إذا كان هناك تكليف واحد ، وأما إذا كان كل ترك من تروك شرب النجس بملاحظة قطعات الأزمنة مطلوبا مستقلا ، فهناك تكاليف متعددة بتعدد التروك ، وكل ترك في كل زمان سواء كان في طرف هذا الإناء أو في طرف ذلك الإناء الآخر مطلوب إلى حد الاضطرار ، فاحتمال مطلوبية ترك

__________________

(١) كذا في الأصل ، لكن الصحيح : التنجيز.

٢٥٩

شرب هذا الإناء في هذه الساعة مقرون باحتمال مطلوبية ترك شرب الآخر في هذه الساعة ، وهكذا الى حد الاضطرار.

وأما بعد الاضطرار ، فليس ترك شرب ما لم يضطر إليه ذا طرف فعلا ليدور الأمر بين مطلوبيته ومطلوبية طرفه ، ولا ذا طرف قبلا ، لأن كل ترك في كل زمان كان له طرف يختص به دوران الأمر بين مطلوبيته أو مطلوبية طرفه ، فليس للترك بعد الاضطرار طرف لا فعلا ولا قبلا ، فهو احتمال بدوي غير مقرون باحتمال آخر ، ولو من أول الأمر.

قلت : أولا ـ إن مطلوبية كل ترك في كل زمان ملازمة لمطلوبية ترك آخر في زمان آخر ؛ لأن كل ترك مطلوب من حيث إنه ترك شرب النجس مثلا ، فكل التروك في جميع الأزمنة في الطرفين على حد واحد.

وحينئذ نقول : إن التكليف بترك الشرب في كل زمان إن كان محققا من أول الأمر بنحو الواجب المعلّق ، فلا إشكال من حيث دوران الأمر بين ثبوت تكاليف متعددة من الأول ، إما في طرف المضطر إليه إلى حد الاضطرار ، وإما في الطرف الآخر إلى الآخر.

وكذا إن كان بنحو الواجب المشروط ، وقلنا : بأن العلم به بلحاظ فعليته في ظرفه للعلم بتحقق شرائط تنجزه في ظرفه له الأثر ، فان العلم بالتكاليف الحالية والاستقبالية له الأثر من أول الأمر ، فيتنجز التكليف فيما بعد الاضطرار للعلم به إجمالا من الأول.

وإن قلنا : بأن العلم بالواجب المشروط لا أثر له قبل تحقق شرطه ، فيكون العلم بالتكليف في كل زمان منجزا له في ذلك الزمان إلى أن ينتهي إلى الاضطرار ، فلا علم فيما بعده بتكليف فعلي في هذا الزمان ، إما في هذا الطرف أو في ذلك الطرف.

والمفروض : أن العلم به إجمالا من أول الأمر لا أثر له ، فيجب الاحتياط

٢٦٠