دروس في مسائل علم الأصول - ج ٦

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8438-62-8
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٤٦

وفي مسائل اصول الفقه [١] ولا في مبادئ الاستنباط من النحو والصرف ونحوهما ، ولا في الموضوعات المستنبطة العرفيّة أو اللغويّة ولا في الموضوعات الصرفة. فلو شكّ المقلّد في مائع أنّه خمر أو خلّ مثلا ، وقال المجتهد : إنّه خمر ، لا يجوز له تقليده. نعم من حيث إنّه مخبر عادل يقبل قوله ، كما في إخبار العاميّ العادل وهكذا ، وأمّا الموضوعات المستنبطة الشرعيّة كالصلاة والصوم ونحوهما فيجري التقليد فيها كالأحكام العمليّة.

______________________________________________________

وظاهر الآية تعبّد الجاهل بقول جاهلين مثله كما لا يخفى.

[١] كما إذا لم يتمكّن عالم من الجزم بامتناع اجتماع الأمر والنهي أو جوازه فقلّد من هو أعلم في مسائل اصول الفقه ، وكان هذا الأعلم يقول بجواز الاجتماع فيها إذا كان التركيب في مورد الاجتماع انضماميّا ، وبالامتناع فيما إذا كان التركيب فيه اتحاديّا ، وفرض أنّ العالم المفروض يتمكن من تشخيص موارد التركيب الاتحاديّ والتركيب الانضماميّ في مسائل الفقه ، فهل يجوز له بعد التقليد في المسألة الاصوليّة واستنباط الحكم الفرعيّ العمل بما استنبطه أو لا يجزي في عمل نفسه فضلا عن رجوع الغير له؟ والظاهر إمكان هذا النحو من التقليد. وما يقال من عدم حصول الاقتدار على التطبيقات والتفريعات في نتائج المسائل الاصوليّة بلا حصول الاقتدار على نفس المسائل الاصوليّة ، ويمكن العكس بأن لا يتمكّن من الاستنباط في الأحكام الفرعيّة من مداركها في جملة من الموارد ، ولكن يكون مجتهدا في نفس المسائل الاصوليّة لا يمكن المساعدة عليه.

نعم جلّ المسائل الاصوليّة هو ممّا يكون العلم بنتائجها الكلّية بالاستدلال فيها مقدّما على الاجتهاد في المسائل الفرعيّة وذلك لكثرة المسائل الفرعيّة ، والاتقان في تطبيقات قواعد الاصول فيها يحتاج إلى الإحاطة الكاملة بخصوصيّات المسائل وصعوبة ملاحظة النسبة في كثير من المسائل الفرعيّة التي تتعدّد في كلّ منها

٤٢١

.................................................................................................

______________________________________________________

الخطابات الشرعيّة المختلفة بحسب الظهورات الاستعماليّة.

وعلى أيّ حال يمكن تجويز التقليد في المسائل الاصوليّة في الجملة ، ولا يكون التجويز لغوا إلّا أنّ عمدة الدليل على جواز التقليد ما في الروايات من أخذ معالم الدين وحلاله وحرامه ممن يعلمها ، وصدق معالم الدين على ما يلتزم به الاصوليّ من التزامه بامتناع الاجتماع أو ثبوت الملازمة بين إيجاب الشيء وإيجاب مقدّمته مطلقا أو ما إذا كانت موصلة أو بقصد التوصل غير محرز ، ومجرّد عدم الإحراز كاف في الالتزام بعدم جواز التقليد فيها ، وما يستنبط من الخطابات بضميمة التقليد المتقدّم لا يكون علما بالحكم الشرعي ، لا وجدانا لما هو الفرض ، ولا اعتبارا لعدم ثبوت الاعتبار في البناء على الكبرى التي هي قول الغير في المسألة الاصوليّة.

أمّا التقليد في الموضوعات فقد قسّم الموضوعات على ثلاثة أقسام : الموضوعات المستنبطة الشرعيّة ، والموضوعات المستنبطة العرفيّة واللغويّة ، والموضوعات الصرفة ، فقد التزم قدس‌سره بجواز التقليد في الموضوعات المستنبطة الشرعيّة كالتقليد في نفس الأحكام الشرعيّة ، وبعدم جريان التقليد في غيرها من المستنبطات العرفيّة واللغويّة والموضوعات الصرفة.

أمّا جريانه في القسم الأوّل فإنّ تلك الموضوعات إمّا من مخترعات الشارع واعتباراته كالصلاة والصوم وغيرهما من العبادات أو من غير العبادات كالذكاة للذبيحة فاللازم تعلّمها ممن علم بها من مداركها الشرعيّة.

وأمّا الموضوعات الصرفة التي تكون مفاهيمها مرتكزة معلومة عند الأذهان بحيث لا إجمال فيها ، وإنّما يكون الجهل في انطباق ذلك العنوان على الخارج للجهل بشيء من جهات ما في الخارج ، كما هو الحال في الشبهات الخارجيّة ، فهذه

٤٢٢

.................................................................................................

______________________________________________________

الموضوعات خارجة عن موارد التقليد الذي هو رجوع الجاهل بالحكم الشرعيّ المجعول في الشرع إلى العالم به ، فقول المجتهد مشيرا إلى مائع أنّه خمر كإخبار ثقة بأنّه خمر.

وأمّا الموضوعات المستنبطة العرفيّة أو اللغوية أو اللغويّة ، ككون الغناء مطلق كيفيّة الصوت المقتضي للطرب بمعنى خروج النفس عن الاعتدال ، أو كيفيّته التي تشتمل على الترجيع وترديد الصوت في الحلق وإن لم يكن في كلام باطل ، أو خصوص ما كان في كلام باطل ، وكون الكنز مطلق المال المذخور في الأرض أو خصوص المذخور فيها من الذهب والفضة ، وكون الصعيد مطلق وجه الأرض أو خصوص التراب والرمل ، فالصحيح جريان التقليد فيهما ؛ لأنّ مع إفتاء المجتهد بإطلاق الحكم أو خصوصه مع احتمال كون ما أفتى به هو الحكم الكلّي الفرعيّ في الواقعة يكون ذلك طريقا متّبعا بالإضافة إلى العاميّ بلا فرق بين أن يذكر الغناء مطلق كيفيّة الصوت المقتضي للطرب أو يقول هذه الكيفيّة حرام ، فمع عدم العلم بالخلاف كما هو الفرض يجب الأخذ به.

وممّا ذكرنا يظهر الحال في التقليد في أحوال الرجال في أسناد الروايات ، فإنّ إحراز عدالتهم أو وثاقتهم كإحراز العدالة والوثاقة في سائر الموارد لا تعدّ من الامور التي يرجع فيها إلى أهل خبرتها ، بل العدالة والوثاقة من الامور التي تثبت بخبر العدل بلا واسطة أو معها ويحرز بحسن الظاهر ، وليستا من الامور التي تحتاج إلى إعمال الحدس من أشخاص خاصّة ، ولا يصل الأمر إلى دعوى انسداد باب العلم في الرجال ، مع أنّه لو كان انسداد لم يثبت فيها جواز التقليد ولا اعتبار مطلق الظنّ فيها على ما تقرّر ذلك عند البحث في مقدّمات دليل الانسداد في الأحكام.

٤٢٣

(مسألة ٦٨) لا يعتبر الأعلميّة فيما أمره راجع إلى المجتهد إلّا في التقليد ، وأمّا الولاية على الأيتام والمجانين والأوقاف التي لا متولّي لها والوصايا التي لا وصي لها ونحو ذلك فلا يعتبر فيها الأعلميّة ، نعم الأحوط في القاضي أن يكون أعلم من في ذلك البلد أو في غيره مما لا حرج في الترافع إليه [١].

______________________________________________________

عدم اعتبار الأعلمية في الامور الحسبية

[١] قد يذكر في المقام دعوى الإجماع على عدم اعتبار الأعلميّة في ما أمره راجع إلى الحاكم الشرعيّ في غير مسألة التقليد في الأحكام الشرعيّة على ما تقدّم ، ولكنّ الإجماع على تقديره غير مفيد في المقام ، فإنّه من المحتمل جدّا التزام الجلّ ممن تعرّضوا لذلك لإطلاق بعض الأخبار كإطلاق التوقيع : «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا» (١) وما ورد من أنّ العلماء ورثة الأنبياء (٢) وأنّهم خلفاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّ المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام (٣) وأنّ مجاري الامور والأحكام بيد العلماء (٤). وما ورد من ثبوت منصب القضاء للفقيه على ما ورد في مقبولة عمر بن حنظلة ومعتبرة أبي خديجة وغيرها ، والظاهر أنّ الولاية للامور المشار إليها من شئون ثبوت منصب القضاء ، وكان المتصدّي لها القضاة ، كما يفصح بذلك بعض الروايات كصحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع قال : «مات رجل من أصحابنا ولم يوص فرفع أمره إلى قاضي الكوفة فصيّر عبد الحميد القيّم بماله ، وكان الرجل خلّف ورثة صغارا ومتاعا ، فباع عبد الحميد المتاع فلما أراد بيع الجواري ضعف قلبه

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٤٠ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٩.

(٢) المصدر المتقدم : ٧٨ ، الباب ٨ ، الحديث ٢.

(٣) انظر وسائل الشيعة ٣ : ٢٨٣ ، الباب ٨٨ من أبواب الدفن ، الحديث الأول.

(٤) بحار الأنوار ١٠٠ : ٨٠.

٤٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

عن بيعهنّ إذ لم يكن الميّت صيّر إليه وصيته ، وكان قيامه فيها بأمر القاضي لأنهنّ فروج ، قال : فذكرت ذلك لأبي جعفر عليه‌السلام [إلى أن قال عليه‌السلام] : إذا كان القيّم به مثلك ومثل عبد الحميد فلا بأس» (١).

أقول : قد تعرّضنا للأخبار الواردة في كون العلماء ورثة الأنبياء ونحوها في بحث ولاية الفقيه في «إرشاد الطالب» (٢) ، وذكرنا أنّه لا يتمّ الاستناد إلى شيء منها في الالتزام بثبوت ولاية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الإمام عليه‌السلام للفقيه العادل بلا فرق بين زمان الحضور وزمان الغيبة ، وأنّ غاية ما يستفاد منها أنّ ما على الانبياء في أمر تبليغ الدين وإرشاد الناس وهدايتهم من بعدهم على العلماء ، وأمّا الولاية الثابتة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام عليه‌السلام من كون أمره الولائيّ واجب الاتّباع حيث إنّهم عليهم‌السلام قوم فرض الله طاعتهم فلم تثبت ذلك للفقيه فضلا عن الولاية على التصرف ، ويشهد لذلك إطلاق تلك الأخبار وشمولها حتى لزمان الأئمّة عليهم‌السلام ، وغاية ما يستفاد من مقبولة عمر بن حنظلة ومعتبرة أبي خديجة نفوذ قضاء الفقيه وفصل خصومته وأنّ له ولاية القضاء بالنصب العامّ ولم يظهر منهما أو من غيرهما إعطاء الولاية في أموال القصّر والأوقاف مع عدم القيّم والمتولّي للفقيه. والتوقيع المتقدّم وإن كان ظاهرا في غير ذلك إلّا أنّ السند فيه غير تامّ ، ووقوع بعض التصرّفات من المنصوبين للقضاء من قبل ولاة الجور وإن لا يقبل الإنكار ، إلّا أنّه لم يثبت إعطاء الولاية لهم من قبلهم لدخولها في منصب القضاء ، بل من المحتمل أنّها كانت منصبا زائدا كان يعطى لهم ، وعلى تقديره فتلك كانت في المنصوب بنصب خاصّ لا ما إذا كان بالنصب العامّ.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٧ : ٣٦٣ ، الباب ١٦ من أبواب عقد البيع ، الحديث ٢.

(٢) إرشاد الطالب ٣ : ٢٦ فما بعد.

٤٢٥

.................................................................................................

______________________________________________________

وعلى الجملة بما أنّ هذه الولاية مخالفة للأصل فلا بدّ من الاقتصار على مورد اليقين ، وهو ما إذا كان المتصرّف في تلك الامور الفقيه ولو بغير المباشرة من التوكيل والإجازة لمن يقوم بها ، ولكن لا تعتبر الأعلميّة في المجيز ومن يرجع إليه في التوكيل والإذن أو النصب على ما مرّ ؛ لأنّه لا يحتمل أن يكون جميع الامور الحسبيّة في جميع أرجاء العالم بيد شخص واحد.

نعم في الأمر الذي يريد الشخص التصدّي له إن كان من الامور المهمّة جدّا كحفظ نظام البلاد وترتيب امور نظمها والمحافظة على أمنها وتهيئة الاستعدادات اللازمة للدفاع عنها ومنع نشر الفساد وإقامة مراكزه فيها فلا يبعد اعتبار إجازة الأعلم وأنّ له إجازة التصدّي للغير إذا كان الغير أهلا له ، وأنّ عليه الامتناع عن الإجازة إذا لم يحرز الأهليّة فيمن يستجيزه.

هذا بالإضافة إلى الامور الحسبيّة ، وأمّا بالإضافة إلى القضاء فلا يعتبر فيه الأعلميّة كما هو مقتضى الإطلاق في مقبولة عمر بن حنظلة ، وإطلاق معتبرة أبي خديجة سالم بن مكرم حيث ورد في الاولى : «ينظران إلى من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا» (١) وفي الثانية : «انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا» (٢) والشيء وإن كان نكرة يعمّ الشيء اليسير إلّا أنّه قد تقدّم أنّه بالإضافة إلى علم قضايا الأئمة عليهم‌السلام فلا ينافي كثرته في نفسه. وعلى تقدير الإغماض يقيّد بما ورد في المقبولة : «نظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا».

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ : ٣٤ ، الباب ٢ من أبواب مقدمات العبادات ، الحديث ١٢.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٣ ، الباب الأول من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٥.

٤٢٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وما ورد في المقبولة من فرض العلم بالمخالفة في القضاء والأمر بالرجوع إلى الأعدل والأفقه لا يعمّ فرض عدم العلم بالمخالفة مع فرض الشبهة فيه حكميّة كما هو مقتضى اختلاف الفقيهين في حديثهم عليهم‌السلام ، وأمّا ما في العهد المعروف إلى مالك الاشتر : «اختر للقضاء أفضل رعيّتك» (١) فهو وإن كان معتبرا من حيث السند حيث إنّ الشيخ قدس‌سره ذكر له طريقا معتبرا ، وعدم الإشارة إلى الاختلاف في متن العهد ، وأنّه يروى بالطريق المعتبر العهد المعروف دليل على عدم الخلاف في متنه ، إلّا أنه لا دلالة له على أنّ وظيفة المترافعين المراجعة في القضاء إلى الأفضل ، بل غاية ما يستفاد منه هو أنّ على الوالي الذي عليه تعيين القاضي للبلد بالنصب الخاصّ أن يعيّن الأفضل ، والكلام في المقام في الرجوع إلى القاضي المنصوب بنصب عامّ.

ثمّ إنّه قد يعدّ من الامور الحسبيّة التي يرجع في التصرف فيها إلى الفقيه السهم المبارك للإمام من الخمس ، أو أنّه وإن لم يكن من تلك الامور إلّا أنّه إذن الفقيه معتبر في التصرّف فيه في زمان الغيبة وعدم حضور الإمام عليه‌السلام.

وينبغي في المقام الكلام في سهم الإمام عليه‌السلام من الخمس أوّلا ، والتكلّم في أنّه كيف يتصرّف فيه زمان الغيبة ، فنقول المشهور بين أصحابنا أنّ الخمس يقسّم على ستّة أسهم ثلاثة منها لله ولرسوله والإمام عليه‌السلام فإنّ ما كان لله بملكيّة اعتباريّة يصل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وما كان للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وصولا وأصالة يصل إلى الإمام عليه‌السلام ، فيكون نصف الخمس ملك الإمام بعنوان أنّه الإمام المنصوب بعد النبيّ بحسب العصور والأزمنة ، وثلاثة أسهم منه للأيتام والمساكين وابناء السبيل ممن ينتسب إلى هاشم بالابوّة ،

__________________

(١) نهج البلاغة : من كتاب له عليه‌السلام كتبه للأشتر النخعي ، الكتاب رقم (٥٣).

٤٢٧

.................................................................................................

______________________________________________________

ولزوم اعتبار الخمس ستة أسهم كما ذكرنا هو المشهور بين الأصحاب واستظهر ذلك من ظاهر الآية المباركة : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ)(١) ، مضافا إلى دلالة بعض الروايات.

وربّما ينسب الخلاف إلى ابن الجنيد وأنّه قال : السهام في الخمس خمسة ، بحذف سهم الله ، وعن «المدارك» الميل إليه ، وقد تعرّضنا لذلك في بحث قسمة الخمس من مباحث كتاب الخمس ، وبيّنا أنّ نصف الخمس يعني سهم الله وسهم الرسول وذي القربى المعبر عنه بسهم الإمام عليه‌السلام يصل إلى الإمام عليه‌السلام ، وأنّ نصفه الآخر يعني سهم اليتامى والمساكين وابن السبيل المعبّر عنه بسهم السادات يصرف ويعطى الهاشميّ منهم أي من ينتسب إلى هاشم من جهة الأب ، وفي موثقة زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «لو كان العدل ما احتاج هاشمي ولا مطّلبي إلى صدقة ، إنّ الله جعل لهم في كتابه ما كان فيه سعتهم» (٢) ، ونحوها غيرها. ومن الظاهر أنّ المجعول لهم في الكتاب ما في آية الخمس.

والمحكيّ عن ابن الجنيد أنّ السهام في الخمس خمسة ، بحذف سهم الله تعالى ، وعن «المدارك» الميل إليه لصحيحة ربعي بن عبد الله بن الجارود عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا أتاه المغنم أخذ صفوه وكان ذلك له ثمّ يقسم ما بقي خمسة أخماس ويأخذ خمسة ثمّ يقسم أربعة أخماس بين الناس الذين قاتلوا عليه ثمّ قسّم الخمس الذي أخذه خمسة أخماس يأخذ خمس الله عزوجل

__________________

(١) سورة الأنفال : الآية ٤١.

(٢) وسائل الشيعة ٩ : ٢٧٦ ـ ٢٧٧ ، الباب ٣٣ من أبواب المستحقين للزكاة ، وفيه حديث واحد.

٤٢٨

.................................................................................................

______________________________________________________

لنفسه ثمّ يقسم الأربعة أخماس بين ذوي القربى واليتامى والمساكين وأبناء السبيل يعطى كلّ واحد منهم حقّا وكذلك الإمام يأخذ كما أخذ الرسول» (١).

وفيه أنّ مدلولها اكتفاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بسهم الله سبحانه وأنّه كان يترك سهمه ، وحيث إنّ سهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ملكه فله وضعه كيف ما شاء ، فلا دلالة لها على أنّ فعله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان واجبا عليه ، وما في ذيلها : وكذلك الإمام أخذ كما أخذ الرسول ، لم يكن بيانا للحكم الواجب على الإمام عليه‌السلام في الخمس فضلا عن صفو المال من المغنم.

وعلى الجملة ففي الآية المباركة ولو بملاحظة الروايات الواردة في قسمة الخمس ظهور ودلالة على كون الخمس على ستّة أسهم ، وورد في روايات منها صحيحة البزنطي عن الرضا عليه‌السلام : «أنّ ما كان لله وللرسول يصل إلى الإمام عليه‌السلام حيث سئل عليه‌السلام عن قول الله عزوجل : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى) فقيل له : فما كان لله فلمن هو؟ فقال : «لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وما كان لرسول الله فهو للإمام» (٢) كما أنّ المراد بذي القربى في الآية الأئمة عليهم‌السلام كما يظهر ذلك من غير واحدة من الروايات ، وهذه السهام الثلاثة بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله للإمام من بعده وللإمام من بعد الإمام ، وفي مرسلة حماد بن عيسى عن العبد الصالح عليه‌السلام في حديث طويل قال : «وله [يعني للإمام] نصف الخمس كملا ، ونصف الخمس الباقي بين أهل بيته ، فسهم ليتاماهم وسهم لمساكينهم وسهم لأبناء سبيلهم يقسّم بينهم على الكتاب

__________________

(١) المصدر السابق : ٥١٠ ، الباب الأول من أبواب قسمة الخمس ، الحديث ٣.

(٢) المصدر السابق : ٥١٢ ، الحديث ٦.

٤٢٩

.................................................................................................

______________________________________________________

والسنة ما يستغنون به في سنّتهم» (١) وقد تقدّم في موثقة زرارة : «لو كان العدل ما احتاج هاشمي ولا مطّلبي إلى صدقة ، إن الله جعل لهم في كتابه ما كان فيه سعتهم».

ثمّ إنّه لا ينبغي التأمّل في جواز تصدّي مالك المال لدفع نصف الخمس يعني سهم اليتامى والمساكين وابن السبيل إليهم زمان عدم حضور الإمام وعدم التمكّن من إيصال هذه السهام الثلاثة إليه ـ بناء على ما ذكرنا من عدم ثبوت الدليل على الولاية العامّة للفقيه العادل ونيابتهم عن الإمام عليه‌السلام بالنيابة العامّة ـ فإنّ مقتضى الآية المباركة والروايات المشار إليها أنّ نصف الخمس إنّما جعل لسدّ حوائج اليتامى والمساكين وأبناء السبيل من السادات ، كما يشهد لذلك صحيحة زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّه لو كان العدل ما احتاج هاشمي ولا مطّلبي إلى صدقة ، إنّ الله جعل لهم في كتابه ما كان فيه سعتهم ، ثمّ قال : إنّ الرجل إذا لم يجد شيئا حلّت له الميتة ، والصدقة لا تحلّ لأحد منهم إلّا أن لا يجد شيئا ويكون ممّن يحلّ له الميتة» (٢).

وهذه الصحيحة ومثلها بضميمة ما تقدّم من كون السهام الثلاثة للإمام عليه‌السلام تدلّ على قسمة الخمس على ستة أقسام وأنّ سهم السادة تعويض عن الزكاة التي يكون فيها للمالك أكثر المال وله الولاية على إخراجها ؛ ولأنّ الشركة في كلّ من الزكاة والخمس بحسب الماليّة ، لا من قبيل الإشاعة في العين حتى لا يجوز لأحد الشريكين ولو كان سهمه أكثر التصرّف في بعض المال بلا إذن شريكه ، فإنّ الشركة

__________________

(١) الكافي ١ : ٦١٩ ، الباب ١٨٦ ، الحديث ٤.

(٢) مرّ تخريجه قبل قليل.

٤٣٠

.................................................................................................

______________________________________________________

في العين بحسب الماليّة مقتضاها إخراج الزكاة والخمس من العين أو من قيمتها ، ويجوز التصرّف في المال بعد إخراج سهم الغير ولو بالقيمة ـ ولو قلنا بأنّ تعلّق الخمس أو الزكاة بالمال بنحو الكلّي في المعيّن جاز التصرّف ولو قبل الإخراج ـ كما يدلّ على ذلك صحيحة محمد بن خالد البرقي قال : «كتبت إلى أبي جعفر الثاني عليه‌السلام هل يجوز أن أخرج عما يجب في الحرث من الحنطة والشعير وما يجب على الذهب ، دراهم بقيمة ما يسوى؟ أم لا يجوز إلّا أن يخرج من كلّ شيء ما فيه؟ فأجاب أيّما تيسّر يخرج» (١).

وعلى الجملة مقتضى الإشاعة في ماليّة العين كما في إرث الزوجة من البناء دفع القيمة ، وأنّه إذا كان من بيده المال الذي فيه حقّ من سهم الغير بنحو الإشاعة في الماليّة يجوز أن يدفع سهمه بالقيمة.

والحاصل إذا كان مدلول الآية المباركة ولو بملاحظة الروايات الواردة في تفسيرها وملاحظة صحيحة زرارة المتقدّمة أنّ نصف الخمس ولو بالقيمة سهم السادات الكرام ، يجب على الذي أكثر المال له إيصال هذا السهم إليهم.

وما دلّ على ولاية الإمام عليه‌السلام على ذلك السهم ووجوب إيصاله إلى الإمام عليه‌السلام كصحيحة حفص البختري عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «خذ مال الناصب حيثما وجدته وادفع إلينا الخمس» (٢). وفي صحيحة علي بن مهزيار قال : «قال أبو علي بن راشد قلت له : أمرتني بالقيام بأمرك وأخذ حقّك فأعلمت مواليك بذلك ، فقال لي بعضهم : وأي

__________________

(١) وسائل الشيعة ٩ : ١٦٧ ، الباب ١٤ من أبواب زكاة الذهب والفضة ، الحديث الأول.

(٢) المصدر السابق : ٤٨٧ ـ ٤٨٨ ، الباب ٢ من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث ٦.

٤٣١

.................................................................................................

______________________________________________________

شيء حقّه؟ فلم أدر ما أجيبه ، فقال : يجب عليهم الخمس» (١) الحديث ، غاية ما يستفاد منه إيصال سهم السادات أيضا إلى الإمام عليه‌السلام ولو مع التمكّن من الإيصال إلى وكلائهم ، وأمّا مع عدم إمكانه وانتهاء أمر الوكالة كما في زمان الغيبة الكبرى يكون مقتضى الآية المباركة بضميمة مثل صحيحة زرارة المتقدّمة إيصال المالك ودفعه سهمهم إليهم ، ولا ننكر أنّ الدفع إليهم بالاستيذان ممّن يلزم إيصال سهم الإمام إليه زمان الغيبة ـ على ما نذكر ـ أحوط ، وأمّا بالإضافة إلى سهم الإمام عليه‌السلام فلا يجري فيه حكم المال المجهول مالكه ، نظير مال الغير الذي بيد الإنسان ولا يمكن إيصاله إليه لجهالة مكانه وعدم إمكان إحرازه ، حيث إنّ جهة صرف المال معلوم في الجملة كغيره من المال المجهول مالكه مع العلم بجهة صرفه الذي عيّنه ذلك المالك.

ويبقى في البين دعوى الجزم بأنّ الإمام عليه‌السلام راض وصادر منه الإذن في التصرّف في ذلك السهم في امور ، من ترويج أحكام الشريعة وتثبيت أمر المذهب ونشره حتّى في الأجيال الآتية من المؤمنين بتربية علماء الدين والمذهب وتبيين معتقدات الشيعة وطريق عرفانهم حجج الله بعد نبيّهم وإيصال وإبقاء آثار أهل البيت وإنقاذ المضطرّين ورفع اضطرارهم وابتلاءاتهم إلى غير ذلك من المهمات التي ترجع كلّها إلى أمر ترويج الدين والمذهب ونشره في الأجيال والبلاد والقرى وإنقاذ المضطرّين من المؤمنين بقضاء حوائجهم الضروريّة ، وحيث إنّ المتصرّف في السهم المبارك غير مالك بل هو ملك الإمام عليه‌السلام ولو بعنوان الإمامة فاللازم أن يكون المتصرّف من يعلم برضاء الإمام عليه في تصرّفه على ما ذكر ، والمتيقّن هو الذي

__________________

(١) وسائل الشيعة ٩ : ٥٠٠ ، الباب ٨ من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث ٣.

٤٣٢

.................................................................................................

______________________________________________________

يرجع إليه في أخذ الفتوى لاحتمال دخالته في الرضا بالتصرّف ، حيث إنّ إيصال السهم المبارك إلى يد وكلائه الثقات ورعاية نظره في التصرّف يوجب عزّ المذهب ويعرف المذهب بعظمة هؤلاء الرجال كما يعرف كلّ من الأقوام برئيسهم ، وإذا احتمل دخالة هذا الأمر في رضاء الإمام عليه‌السلام فلا يجوز التصرّف فيه بطريق آخر ؛ لأنّ القاعدة الأوّليّة عدم جواز التصرّف في مال الغير ، ولا يجري هذا بالإضافة إلى سهم السادة الكرام ؛ لما ذكرنا من ثبوت الإطلاق في وجوب إخراجه ودفعه وعدم ثبوت التقييد لها بالدفع إلى الإمام عليه‌السلام إلّا بمقدار إمكان الإيصال إليه عليه‌السلام.

هذا كلّه على تقدير ثبوت الخمس والتكليف بالأداء كما هو ظاهر الآية المباركة والروايات الواردة في السؤال عن الخمس والمعادن والكنز والغوص وأرباح التجارات والصناعات من فاضل المئونة ، ولكن ربّما يتوهّم أو يستظهر من بعض الروايات تحليل الخمس أو السهم المبارك للشيعة من ناحية الأئمة عليهم‌السلام ، فلا يكون للمؤمن تكليف بالإضافة إلى الخمس أو السهم المبارك كصحيحة أبي بصير وزرارة ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام علي بن أبي طالب : «هلك الناس في بطونهم وفروجهم ، لأنّهم لم يؤدّوا إلينا حقّنا ، ألا وإنّ شيعتنا من ذلك وآباءهم في حلّ» (١) وصحيحة ضريس الكناسي قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «أتدري من أين دخل على الناس الزنا؟ فقلت : لا أدري ، فقال : من قبل خمسنا أهل البيت ، إلّا لشيعتنا الأطيبين ، فإنّه محلّل لهم ولميلادهم (٢). ومعتبرة يونس بن يعقوب ، قال : «كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام فدخل عليه رجل من القمّاطين فقال : جعلت فداك تقع

__________________

(١) وسائل الشيعة ٩ : ٥٤٣ ، الباب ٤ من أبواب الانفال ، الحديث الأول.

(٢) المصدر السابق : ٥٤٤ ، الحديث ٣.

٤٣٣

.................................................................................................

______________________________________________________

في أيدينا الأرباح والأموال وتجارات نعلم أنّ حقّك فيها ثابت وإنّا عن ذلك مقصّرون ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : ما انصفناكم إن كلّفناكم ذلك اليوم» (١) ، ومعتبرة أبي خديجة سالم بن مكرم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رجل وأنا حاضر حلّل لي الفروج ، ففزع أبو عبد الله عليه‌السلام فقال له رجل : ليس يسألك أن يعترض الطريق ، إنّما يسألك خادما يشتريها أو امرأة يتزوّجها أو ميراثا يصيبه أو تجارة أو شيئا اعطيه ، فقال : هذا لشيعتنا حلال ، الشاهد منهم والغائب والميّت منهم والحيّ وما يولد منهم إلى يوم القيامة فهو حلال ، أمّا والله لا يحلّ إلّا لمن أحللنا له» (٢) الحديث ، وفي مقابل ذلك روايات تدلّ على إيصال الخمس وحقّ الإمام عليه‌السلام إليه وجملة من الروايات في صورة كون المال للشيعة كصحيحة حفص بن البختري عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «خذ مال الناصب حيثما وجدته وادفع إلينا الخمس» (٣) ، وما في صحيحة علي بن مهزيار بعد عدّ ما يجب فيه في كلّ عامّ من الخمس كتب عليه‌السلام : «فمن كان عنده شيء من ذلك فليوصله إلى وكيلي» (٤).

وعلى الجملة قضية وكلاء الأئمة عليهم‌السلام وأنّهم كانوا يأخذون الحقوق للإمام عليه‌السلام وكان عمدتها الخمس من الواضحات ، وشيء من ذلك لا يجتمع مع الأمر بالتحليل المتوهّم من الروايات المتقدّمة ، بل أمر الإمام عليه‌السلام مواليه بإيصال الخمس إلى وكيله أو دفعه إليه ، كما هو ظاهر صحيحة علي بن مهزيار ، وأنّ ما يصل إليه في كلّ عام

__________________

(١) المصدر السابق : ٥٤٥ ، الحديث ٦.

(٢) المصدر السابق : ٥٤٤ ، الحديث ٤.

(٣) وسائل الشيعة ٩ : ٤٨٧ ـ ٤٨٨ ، الباب ٢ من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث ٦.

(٤) المصدر السابق : ٥٠١ ـ ٥٠٢ ، الباب ٨ ، الحديث ٥.

٤٣٤

.................................................................................................

______________________________________________________

بعنوان الربح والفائدة أو سائر العناوين الراجعة إلى الدخول في عنوان الفائدة هو المراد من الغنيمة.

وأمّا أخبار التحليل فهي ناظرة إلى تحليل ما يؤخذ من الناس وقد تعلّق الخمس به في أيديهم ثمّ يصل إلى الشيعة منهم فإنّه مورد التحليل ، بل ظاهر بعضها عدم اختصاص التحليل بوصول ما فيه الخمس ممن لا يعتقد به ، بل يعمّ ما يصل المال المتعلّق به الخمس ممن لا يدفعه كما هو الحال بالإضافة إلى معتبرة أبي خديجة ، وما ورد ما ظاهره عدم حلّ الخمس فيما كان متعلّقا به في الأيدي السابقة على تقدير تماميّة السند كرواية أبي بصير عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سمعته يقول : «من اشترى شيئا من الخمس لم يعذّره الله ، اشترى ما لا يحلّ له» (١) يحمل على شراء غير الشيعة.

بقي أمر وهو أنّه قد ورد في صحيحة علي بن مهزيار قال : قرأت في كتاب لأبي جعفر عليه‌السلام من رجل يسأله أن يجعله في حلّ من مأكله ومشربه من الخمس ، فكتب بخطه : «من أعوزه شيء من حقّي فهو في حلّ» (٢) وظاهرها بإطلاقها يعمّ ما إذا كان حقّه عليه‌السلام قد انتقل إليه بالشراء ونحوه أو تعلّق حقّه عليه‌السلام بالمال في يده فتحمل على الصورة الاولى ، ومع الإغماض عن ذلك فللإمام عليه‌السلام الإغماض عن الخمس في حقّ شخص أو جماعة واقعين في الحرج ، كما يشهد لذلك صحيحة علي بن مهزيار حيث أوجب الإمام عليه‌السلام في سنة الكتابة بعض الخمس وأغمض عن بعض آخر.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٩ : ٥٤٠ ، الباب ٣ من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث ٦.

(٢) المصدر السابق : ٥٤٣ ، الباب ٤ ، الحديث ٢.

٤٣٥

(مسألة ٦٩) إذا تبدّل رأي المجتهد هل يجب عليه إعلام المقلّدين أم لا؟ فيه [١] تفصيل : فإن كانت الفتوى السابقة موافقة للاحتياط فالظاهر عدم الوجوب ، وإن كانت مخالفة فالأحوط الإعلام ، بل لا يخلو عن قوّة.

______________________________________________________

[١] القائل بوجوب الإعلام عند تبدّل رأي المجتهد إمّا أن يستند إلى عدم جواز التسبيب إلى خلاف الوظيفة الواقعيّة ، وأنّ فتوى المجتهد سابقا مع عدم إعلامه بتبدّل فتواه تسبيب ، فعليه أن يفصّل بين أن تكون فتواه السابقة مطابقة للاحتياط أو مخالفة له ، فلا يجب الإعلام بالعدول في الأوّل دون الثاني ، كما إذا كانت فتواه حرمة العصير بعد غليانه وذهاب ثلثيه بغير النار ثمّ تبدّل رأيه إلى حلية العصير بعد غليانه وذهاب ثلثيه ولو بغير النار ، فإنّ فتواه سابقا بالحرمة كانت بحسب ما استفاده من مدارك الأحكام فلم يكن في إظهاره في السابق محذور ، وعدم إعلامه بعد تبدّل رأيه ليس فيه أيّ تسبيب إلى مخالفة التكليف الإلزاميّ من ترك الواجب أو الحرام ، غاية الأمر أنّ مقلّديه يتركون العصير الذي ذهب ثلثاه بغير النار بعد غليانه بالبناء على حرمته ، وهذا البناء منهم لا يتضمّن أيّ محذور لهم لإحرازهم بوجه معتبر حرمته بفتواه السابق فلا تشريع ، وكذا الحال إذا استند القائل بوجوب الإعلام إلى آية النفر حيث يجب على الفقيه في الدين إنذار قومه ، والإبلاغ بالحليّة والطهارة ونحوهما لا يدخل في عنوان الإنذار.

نعم إذا كانت فتواه السابقة على خلاف التكليف الإلزاميّ ثمّ تبدّل رأيه إلى التكليف الإلزاميّ أو ما يلزم التكليف الإلزامي يكون مقتضى وجوب الإنذار إعلامه ، وكذا مقتضى عدم جواز التسبيب إلى مخالفة التكليف الإلزاميّ.

ولكن لا يخفى أنّ المجتهد لم يكلّف العاميّ العمل بفتواه ، بل هو من عنده أحرز أنّه يجوز له العمل بفتواه فيما إذا كانت فتواه السابقة غير إلزاميّة ، والمفروض أنّ

٤٣٦

(مسألة ٧٠) لا يجوز للمقلّد إجراء أصالة البراءة أو الطهارة أو الاستصحاب في الشبهات الحكميّة [١] وأمّا في الشبهات الموضوعيّة فيجوز بعد أن قلّد مجتهده في حجيّتها ، مثلا : إذا شكّ في أنّ عرق الجنب من الحرام نجس أم لا ، ليس له إجراء أصالة الطهارة ، لكن في أنّ هذا الماء أو غيره لاقته النجاسة أم لا ، يجوز له إجراؤها بعد أن قلّد المجتهد في جواز الإجراء.

______________________________________________________

المجتهد لم يقصّر في فتواه السابقة ، بل فحص المقدار اللازم من الفحص وأفتى بحلّية عمل وجوازه ، والعاميّ أيضا أحرز من عنده أنّه يجوز العمل بفتواه ، لإحرازه الامور المعتبرة فيه الموضوع لجواز العمل بفتواه.

نعم إذا سأل أحد المجتهد واشتبه وأفتى له بخلاف فتواه من الإلزام فعليه أن ينبّه السائل إذا أمكن ، نظير ما ذكرنا في اشتباه الناقل في نقل فتوى المجتهد ، وهذا غير مسألة التبدّل ، وأمّا بالإضافة إلى الإنذار فاللازم أن يجعل فتواه اللاحقة إذا كانت إلزاميّة في معرض الوصول ، لا إعلام الذين أخذوا منه فتواه السابقة واستمرّوا في العمل على طبقها بمقتضى الاستصحاب في عدم عدوله وبقائه على فتواه.

[١] والوجه في ذلك أنّ كلّا من أصالة البراءة والطهارة والاستصحاب جريانها عند الشكّ في الشبهات الحكميّة مشروطة بالفحص عن مدارك الأحكام والتكاليف وعدم الظفر بالدليل على الحكم والتكليف في موارد إجرائها ، وبما أنّ العاميّ لا يتمكّن من هذا الفحص وإحراز عدم الدليل على التكليف والحكم الواقعيّ في الوقائع فلا يتمّ في حقّه الموضوع لاعتبار تلك الاصول.

وبتعبير آخر الأخبار الواردة في وجوب تعلّم التكاليف والأحكام في الوقائع حيث إنّ مدلولها إسقاط عذريّة الجهل بالتكاليف في موارد تمكّن المكلّف من الوصول إلى تلك التكاليف ولو بطريق معتبر ، فلا يكون للعاميّ سبيل إلى إجراء تلك

٤٣٧

(مسألة ٧١) المجتهد غير العادل أو مجهول الحال لا يجوز تقليده [١] وإن كان موثوقا به في فتواه ولكن فتاواه معتبرة لعمل نفسه ، وكذا لا ينفذ حكمه ولا تصرّفاته في الامور العامّة ، ولا ولاية له في الأوقاف والوصايا وأموال القصّر والغيّب.

______________________________________________________

الاصول مع تمكّنه من الوصول إلى التكاليف في تلك الموارد بأخذ الفتوى من المجتهد الواجد للشرائط ، وكما أنّ المجتهد ليس له إجراء تلك الاصول قبل الفحص عن مدارك الأحكام ، لسقوط جهله بالحكم والتكليف قبل الفحص عن تلك المدارك المعتبرة في حقّه ، كذلك لا يجوز للعاميّ ولو كان فاضلا يعلم باعتبار تلك الاصول إجراؤها قبل الفحص عن فتاوى المجتهد الذي تعتبر فتاواه في الوقائع في حقّه علما بالواقع.

وهذا بخلاف الشبهات الموضوعيّة الصرفة التي بيّناها سابقا ، فإنّ العاميّ يجوز له الرجوع فيها إلى تلك الاصول عند الشكّ فيها خارجا بعد أخذ الفتوى من المجتهد بعدم لزوم الفحص فيها ، أو مع علمه بعدم لزوم الفحص فيها من جهة كونه فاضلا قد اجتهد في جريان الاصول العمليّة فيها من غير اشتراط الفحص ، كما إذا شكّ في أنّ هذا الماء أو شيئا آخر لاقى نجسا أم لا ، فيبني على طهارته إلى أن يعلم نجاسته إلى غير ذلك.

[١] وذلك فإنّه مع عدم العدالة لا تكون فتواه معتبرة في حقّ العامي ، لما تقدّم من أنّ المعتبر فتوى العادل لا ما يعمّ من يتحرّز عن الكذب خاصّة ، وكذلك إذا لم يكن في المجتهد سائر الأوصاف المعتبرة في أخذ الفتوى منه.

نعم فتواه معتبرة في حقّه ؛ لأنّها ممّا أخذها من مدارك الأحكام بطريق متعارف كسائر المجتهدين وإن لم يجز للعاميّ تقليده ، وكذا الحال فيما إذا شكّ في عدالته

٤٣٨

(مسألة ٧٢) الظنّ بكون فتوى المجتهد كذا لا يكفي في جواز العمل ، إلّا إذا كان حاصلا [١] من ظاهر لفظه شفاها ، أو لفظ الناقل ، أو من ألفاظه في رسالته. والحاصل أنّ الظنّ ليس حجّة ، إلّا إذا كان حاصلا من ظواهر الألفاظ منه ، أو من الناقل.

______________________________________________________

ولم تكن حالته السابقة العدالة ، بلا فرق بين القول بأنّها ملكة أو الاستمرار والاستقامة في الدين ؛ لأنّ كلّا من العدالة والاستمرار على الاستقامة أمر حادث مسبوق بالعدم ، ولا ينفذ أيضا قضاؤه ولا تصرّفاته في الامور العامّة ولا يكون له ولاية في التصرّف في الأوقاف وأموال الغيّب والقصّر من باب الحسبة ، على ما تقدّم الكلام في وجه جواز التصرّف فيها.

[١] قد تقدم في بحث الظواهر أنّ المعتبر هو ظهور الكلام الصادر عن الغير أو كلام الناقل عن الغير مع ثبوت اعتبار نقله ، ولا يختلف بين أن يكون الكلام الصادر بالتلفظ أو بكتابته ، فما لم يحرز بوجه معتبر قرينة على أنّ مراده على خلاف ظاهره يتّبع ظاهر كلامه ـ سواء حصل الظنّ بأن ظاهر كلامه مراده الجدّي أو لم يحصل ـ وإذا كان ظاهر كلامه في أمر ولم يظنّ المستمع بأنّ مراده الجدّي هو على طبق ذلك الظاهر فعمل على خلافه يؤاخذه المتكلّم بظاهر كلامه ، واعتذاره بأنّي ما حصلت على الظنّ بالمراد أو كان ظنّي على إرادة خلاف الظهور غير مقبول عند العقلاء ، وحيث إنّ الشارع لم يخترع في تفهيم مراداته طريقا آخر غير ما عند العقلاء من الطريق يكون الأمر بالإضافة إلى ظهورات الخطابات الشرعيّة أيضا كذلك ، فالملاك في الاعتذار والاحتجاج هو ظهورات الخطابات والكلام الصادر عن المتكلّم مع عدم قرينة معتبرة على إرادة المتكلّم خلاف الظهور ، وما في كلام الماتن قدس‌سره من الاستثناء بقوله : إلّا إذا كان حاصلا من لفظه ، مما يوحي إلى الذهن أنّ الاعتبار بنفس الظنّ الشخصيّ الناشئ من الظهور غير مراد قطعا ، ولعلّ مراده الظنّ النوعيّ الذي

٤٣٩

.................................................................................................

______________________________________________________

مرجعه إلى أصالة التطابق بين الظهور والمراد الجدّي حيث يكون هذا التطابق في نوعه ظنيّا ، والمراد من الظهور الذي يبنى على أنّ المراد الجدّي للمتكلّم على طبقه هو الظهور الاستعماليّ الذي لا من إحرازه ومع عدم القرينة على الخلاف يبنى على التطابق.

٤٤٠