دروس في مسائل علم الأصول - ج ٦

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8438-62-8
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الكلام في بعض الموارد في كون أحد الخطابين قرينة على التصرف في الآخر.

وقد يقال كما عن الشيخ قدس‌سره (١) أنّه كلّما دار الأمر بين رفع اليد عن عموم العام الوضعيّ والعموم الإطلاقيّ في خطابين يقدّم العموم الوضعيّ على العموم الإطلاقيّ ، وعلّل ذلك بأنّ العموم في ناحية العامّ تنجيزيّ بخلافه في ناحية المطلق فإنه تعليقيّ يتوقف على تماميّة مقدمات الحكمة التي منها عدم ورود البيان للقيد ، وبما أنّ عموم خطاب العام وضعيّ يصلح لكونه بيانا للقيد على خلاف العموم الإطلاقيّ ، بخلاف العكس فإن صلاحيّة المطلق لكونه بيانا للتخصيص في العام يتوقف على تماميّة مقدمات إطلاقه الموقوف تماميتها على تخصيصه العام ، وهذا هو المراد من القول بأنّ تقديم المطلق على العام الوضعيّ يوجب تخصيص العام بوجه دائر.

وناقش الماتن قدس‌سره في هذا الاستدلال بأنّ انعقاد الظهور في ناحية العامّ وإن يكن تنجيزيّا ، بخلاف العموم الإطلاقيّ ، فإنّه تعليقيّ يتوقف على تماميّة مقدمات الإطلاق إلّا أنّ المعتبر في مقدمات الإطلاق عدم ورود القيد في مقام التخاطب بخطاب المطلق ، لا إلى الأبد ، وعلى ذلك بما أنّ خطاب كلّ من العامّ والمطلق مستقلّ على الفرض يكون الظهور في ناحية كلّ منهما تنجيزيّا فلا موجب لتقديم أحدهما على الآخر فيتعارضان في مورد الاجتماع ، وما قيل من تقديم خطاب العامّ ؛ لأنّ التقييد في المطلقات أمر غالبيّ وأغلب من التخصيص لا يفيد التقديم ، فإنّ الموجب للتقديم في تصرف غلبته وندرة التصرف الآخر ، كما في تقديم التخصيص

__________________

(١) فرائد الاصول ٤ : ٩٨.

١٦١

وتقديم التقييد على التخصيص فيما دار الأمر بينهما ، من كون ظهور العام في العموم تنجيزيا ، بخلاف ظهور المطلق في الاطلاق ، فإنه معلّق على عدم البيان ، والعام يصلح بيانا ، فتقديم العام حينئذ لعدم تمامية مقتضى الإطلاق معه ، بخلاف العكس ، فإنه موجب لتخصيصه بلا وجه إلّا على نحو دائر. ومن أن التقييد أغلب

______________________________________________________

على النسخ ، وهذا لا يجري بين التخصيص والتقييد ، فإن كثرة التخصيص أيضا بمثابة ما قيل ما من عامّ إلّا وقد خصّص.

دوران الأمر بين رفع اليد عن العموم الوضعيّ أو العموم الإطلاقيّ

أقول : لا ينبغي التأمّل في أنّ المقدمات الجارية في ناحية المطلق توجب انعقاد ظهوره الاستعمالي في ناحية المطلق في الإطلاق ، بحيث يصحّ أن ينسب إلى المتكلم أنّه حين التكلم بخطاب المطلق أظهر عموم حكمه وإطلاقه ، بأن يقال : أظهر سبحانه بقوله : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) حلّية كلّ بيع ، وهذا الظهور الاستعماليّ في ناحية العامّ بالوضع ، وفي ناحية المطلق ببركة مقدّمات الإطلاق ، كما في الفرق بين قوله عليه‌السلام : «كلّ قرض جرّ منفعة فهو ربا» (١) وبين قوله عليه‌السلام : «إنّ المقرض إذا اشترط قرضه نفعا فهو ربا» (٢) وعلى ذلك فورود خطاب القيد كورود خطاب الخاصّ لا يوجب انحلال الظهور الاستعمالي ، لا في ناحية المطلق ولا في ناحية العامّ.

نعم ترتفع أصالة التطابق بين الإطلاق ومقام الثبوت في مورد دلالة خطاب القيد من حين وروده ، كما أنّ أصالة التطابق في ناحية خطاب العامّ ترتفع من حين ورود خطاب الخاصّ ، نظير ارتفاع الموضوع للأصل العمليّ من حين قيام الطريق إلى

__________________

(١) مستدرك الوسائل ١٣ : ٤٠٩.

(٢) انظر وسائل الشيعة ١٨ : ١٤٤ ، الباب ١٢ من أبواب الربا.

١٦٢

من التخصيص.

وفيه : إن عدم البيان الذي هو جزء المقتضي في مقدمات الحكمة ، إنما هو عدم البيان في مقام التخاطب لا إلى الأبد ، وأغلبية التقييد مع كثرة التخصيص بمثابة قد قيل : ما من عام إلّا وقد خصّ ، غير مفيد ، فلا بد في كل قضية من ملاحظة

______________________________________________________

الواقع ، إلّا أنّ كون الظهور في كلّ من العامّ والمطلق تنجيزيا لا يمنع أن لا تتقدم أصالة التطابق في ناحية العامّ على أصالة التطابق في ناحية المطلق ، حيث يحسب ورود أحدهما قرينة على الآخر بالإضافة إلى المراد الجدّي منه ، فلاحظ خطاب الخاصّ مع خطاب العامّ ، فإنّ الظهور في كلّ منهما تنجيزي ومع ذلك يتقدّم الظهور الأوّل على الثاني.

والوجه في تقديم الخاصّ أنّه إذا اقترن بالعامّ يوجب عدم انعقاد ظهور العامّ في العموم ، وكونه قرينة على المراد من العامّ ثبوتا ، ولذا لا يفرّق أهل المحاورة بين ذكر الخاصّ متّصلا بالعامّ أو بخطاب منفصل إلّا فيما ذكرنا من عدم انعقاد الظهور الاستعمالي في الأوّل وانعقاده في الثاني ، والأمر في العام الوضعيّ والعموم الإطلاقيّ من هذا القبيل ، فإنّهما إذا اتّصلا في الخطاب لا ينعقد الظهور الإطلاقي في ناحية المطلق ، كما اعترف به الماتن قدس‌سره ، وإذا انفصلا يكون الأمر كذلك بالإضافة إلى ارتفاع أصالة التطابق في ناحية الإطلاق ، وهذا معنى تقديم العام الوضعيّ والتزم بتقديم العامّ الوضعيّ على الإطلاق في بحث دوران الواجب بين كونه مشروطا أو مطلقا برجوع القيد إلى المادّة.

في دوران الأمر بين رفع اليد عن الإطلاق الشموليّ أو البدليّ

ثمّ إنّه قد يقال بتقديم الإطلاق الشموليّ على الإطلاق البدليّ عند ما دار الأمر بين أن يرفع اليد عن الأوّل أو الثاني ، فيقيّد الإطلاق البدليّ بغير ما يشمله الإطلاق

١٦٣

.................................................................................................

______________________________________________________

الشموليّ ويذكر لذلك وجهان :

الأوّل : ما عن المحقّق القمي قدس‌سره من أن تقديم الإطلاق البدليّ على الشموليّ يوجب رفع اليد عن بعض الأحكام الواردة في خطاب الإطلاق الشموليّ ، بخلاف تقييد الإطلاق البدليّ ، فإنّه لا يوجب رفع اليد عن شيء من الحكم الوارد في خطاب الإطلاق البدليّ ؛ وذلك فإنّ الحكم الوارد في خطاب البدليّ حكم واحد لا يتعدّد ، غاية الأمر على تقدير تقديم الإطلاق الشموليّ تتضيّق دائرة متعلّق ذلك الحكم أو موضوعه ، بخلاف الحكم الوارد في خطاب الإطلاق الشموليّ فإنّه يتعدّد بتعدّد الوجودات والأفراد ، فيكون تقديم الإطلاق البدليّ موجبا لرفع اليد عن بعض الحكم الوارد فيه من بعض أفراده.

والجواب عن ذلك أنّ هذا مجرّد استحسان لا يوجب كون أحد الخطابين قرينة على الآخر هذا أوّلا ، وثانيا أنّ الإطلاق البدلي كما ذكر في بحث إطلاق المتعلّق في الأوامر بالطبائع يستلزم الترخيص من المولى في تطبيق الطبيعيّ على أيّ فرد منه ، ومع تقديم الإطلاق الشموليّ على خطاب البدليّ يرتفع بعض الترخيص عن بعض أفراده ؛ ولذا ذكرنا في بحث اجتماع الأمر والنهي في موارد التركيب الاتحاديّ التحفظ على إطلاق كلّ من خطابي الأمر والنهي ؛ للزوم المناقضة بين النهي عن الطبيعي مطلقا والترخيص في تطبيق الطبيعي المأمور به بأيّ فرد منه في صورة كونهما متحدين في الوجود.

والوجه الثاني : دعوى أنّ المقدّمات الملحوظة في ناحية الإطلاق البدلي تزيد على الملحوظة في ناحية الإطلاق الشمولي بمقدّمة ، وهي إحراز تساوي أفراد في الملاك في المطلق البدلي بالإضافة إلى أفراده ، وأمّا إحراز التساوي بينهما لا يحتاج

١٦٤

خصوصياتها الموجبة لأظهرية أحدهما من الآخر ، فتدبر.

ومنها : ما قيل فيما إذا دار بين التخصيص والنسخ ـ كما إذا ورد عامّ بعد حضور وقت العمل بالخاصّ ، حيث يدور بين أن يكون الخاصّ مخصّصا أو يكون العامّ ناسخا ، أو ورد الخاصّ بعد حضور وقت العمل بالعامّ ، حيث يدور بين أن يكون الخاصّ مخصّصا للعام أو ناسخا له ورافعا لاستمراره ودوامه ـ في وجه تقديم التخصيص على النسخ من غلبة التخصيص وندرة النسخ [١].

______________________________________________________

إليه في الإطلاق الشموليّ ؛ لأنّ شمول الحكم يجتمع مع عدم تساوي الأفراد في ملاك ذلك الحكم ، كما أنّ حرمة قتل النفس تعمّ قتل نفس العادل والفاسق والعالم والجاهل والنبي قدس‌سره والإمام عليه‌السلام مع الاختلاف في الملاك بما لا يخفى ، وهذا بخلاف الإطلاق البدلي ، فإنّ الترخيص في التطبيق لا يصحّ إلّا مع وفاء كلّ من الأفراد بالملاك الملحوظ في الأمر بالطبيعيّ.

وفيه أنّ عدم اختلاف الأفراد من حيث الوفاء بالملاك يحرز مع إطلاق متعلّق الأمر ، كإحراز شمول الحكم لجميع أفراد الطبيعي من إطلاقه.

وعلى الجملة إذا اقترن الإطلاق العموميّ بالإطلاق البدليّ يصير الكلام مجملا في ناحية كلّ منهما ويحتاج تقديم أحدهما على الآخر إلى قرينة ، وهذا بخلاف اقتران العام الوضعيّ بالإطلاق على ما تقدّم.

في دوران الأمر بين التخصيص والنسخ

[١] يعني قيل في وجه تقديم التخصيص على النسخ في الفرضين ، أمّا الالتزام بالتخصيص ؛ لغلبته وندرة النسخ ، وبيان ذلك أنّه يدور الأمر بين التخصيص والنسخ في فرضين :

الأول : ما إذا ورد عامّ ثمّ ورد خطاب الخاصّ بعد زمان ، ودار أمر خطاب

١٦٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الخاصّ بين أن يكون مخصّصا لخطاب العامّ ، بأن يكون كاشفا عن عدم ثبوت العموم في مورد دلالة الخاصّ من الأوّل ، بمعنى عدم مطابقة عمومه للمراد الجدّي بالإضافة إلى مورد دلالة الخاصّ أصلا ، وهذا مساوق لخروج ما يدخل في عنوان الخاصّ عن حكم العامّ من الأوّل ، وبين كون الخاصّ المتأخّر ناسخا لعموم العامّ في مورد دلالته ، بأن ينقطع حكم العامّ فيما يدخل في عنوان الخاصّ ثبوتا من حين ورود الخاص.

ولا يخفى أنّ هذا الفرض والتردّد فيه غير مهمّ بالإضافة إلينا ؛ لأن الوظيفة بالإضافة إلينا العمل بالخاصّ في مورد دلالته ، سواء كان ناسخا لعموم العامّ أو مخصّصا له ، وإنّما تظهر الثمرة بالإضافة إلى من كان في زمان صدور العامّ وبقي إلى ما بعد زمان صدور الخاصّ ، بحيث لو كان الخاصّ المتأخّر مخصّصا لم يلزم تدارك ما فاته من العمل بعموم العامّ.

لا يقال : كيف لا يكون هذا الفرض بالإضافة إلينا مهمّا ، فإنّه إذا كان خطاب العامّ من الكتاب المجيد ، ووصل الخاصّ بعد ذلك بالخبر الواحد المنقول عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في آخر عمره الشريف ، فإنّه إن كان ناسخا لا يعتبر ؛ لعدم اعتبار خبر الواحد في نسخ أحكام الشريعة ، بخلاف ما إذا كان مخصّصا حيث يعتبر ويجوز تخصيص عموم الكتاب المجيد بالخبر الواحد.

فإنّه يقال : لا فرق في اعتبار الخبر الخاصّ ـ المخالف لعموم الكتاب أو المخالف لإطلاقه ـ بين أن يكون ناسخا لعمومه أو مخصّصا له ، وكذا في المقيّد ، نعم إذا لم يتمّ شرط الاعتبار في الخبر أو ابتلى بالمعارض يترك ، وإنّما لا يعتبر الخبر إذا كان مدلوله مباينا لما في الكتاب المجيد ، كما تقدّم بيان ذلك فيما ورد في عرض

١٦٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الأخبار على الكتاب ، والمتسالم عليه بين الكلّ عدم اعتبار هذا الخبر ، وأما إذا اريد إثبات الشريعة اللاحقة بالخبر الواحد فإنّ تأسيس الشريعة ونسخ الشريعة السابقة لا يكون إلّا من بيّنة واضحة على ذلك كالإعجاز كما هو الحال في الشرائع السابقة قبل شريعة سيّد المرسلين وخاتم النبيين ، فإنّه لا يأتي من بعدها شريعة إلى آخر الدنيا.

الثاني : ما إذا كان الخاصّ متقدّما ، وورد بعد زمان خطاب العامّ ، ودار أمر العامّ المتأخّر بين كونه ناسخا للخاصّ المتقدّم أو كان الخاصّ المتقدّم مخصّصا لعموم العامّ ، وهذا يثمر بالإضافة إلينا ، كما إذا ورد العامّ المتأخّر عن الأئمة عليهم‌السلام بناء على جواز النسخ بعد انقطاع الوحي ، بأن كان خطاب الناسخ مستودعا عندهم عليهم‌السلام من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ليظهر من عليه إظهاره منهم عند موعده ، كما إذا أظهر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حياته حرمة أكل طحال الذبيحة بالنهي عنه (١) ، ثمّ ورد عن الصادق عليه‌السلام : يؤكل من الذبيحة كلّ ما يجري فيه الدم من الحيوان ، فإن كان العام المتأخر ناسخا يحكم بجواز أكل طحال الذبيحة مما يؤكل لحمه ، بخلاف ما كان الخاصّ المتقدّم مخصّصا ، فإنّه يتعين الحكم بحرمة أكل الطحال منها ، والتزم المشهور في كلا الفرضين بالتخصيص ، وعلّلوه بندرة النسخ وكثرة التخصيص ، وأورد على ذلك الماتن قدس‌سره بأنّه بناء على ما تقدّم في دوران الأمر بين أن يرفع اليد عن العموم الإطلاقيّ والعام الوضعيّ من تعين رفع اليد عن الإطلاق يتعيّن اختيار النسخ ؛ لأن دلالة العامّ الأوّل على استمرار حكمه في فرض تقدّمه على الخاصّ ، وكذا دلالة الخاصّ على استمرار حكمه في فرض

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٤ : ١٧٤ ، الباب ٣١ من أبواب الأطعمة المحرمة ، الحديث ٩.

١٦٧

.................................................................................................

______________________________________________________

تقدّمه على العام إنّما هو بالإطلاق ، بخلاف دلالة الخاصّ المتأخّر ، فإنّ دلالته على ثبوت حكمه لأفراد الخاصّ وضعيّ ، وكذلك دلالة العامّ المتأخّر على ثبوت حكمه لأفراده ، ولازم تقديم الدلالة الوضعيّة على الإطلاق الالتزام بالنسخ ، وما قيل من كثرة التخصيص وقلّة النسخ فبمجرّده لا يوجب إلّا الظنّ بالتخصيص ، ولا اعتبار بالظنّ في رفع اليد عن الظهور ، بل لا بدّ من أن تكون ندرة النسخ بحيث يوجب قرينيّة الخاصّ على خلاف ظهور العامّ ، وأنّه لا ثبوت لمدلوله لكلّ من أفراده بحيث يعمّ أفراد الخاصّ ثبوتا.

وعن المحقّق النائيني قدس‌سره (١) : أنّ كلّ حكم مجعول لا يتكفّل خطابه لبيان استمراره وعدم نسخه ، وإذا احتمل نسخه فلا يتمسّك في بقائه إلّا بدليل آخر يدلّ على بقائه أو بالاستصحاب في ناحية عدم نسخه ، فيدور الأمر في المقام بين العمل بالاستصحاب وبين الأخذ بظاهر الخطاب المتأخّر ، ومع ظهوره لا تصل النوبة إلى استصحاب عدم النسخ في الخاصّ المتقدّم ، فيتعيّن الالتزام بكون العامّ المتأخّر ناسخا ، ولكنّ الصحيح في وجه الالتزام بالتخصيص ـ فيما إذا ورد خاصّ أوّلا ثمّ ورد العامّ متأخرا ـ أنّ استفادة العموم من خطاب العامّ موقوفة على جريان مقدّمات الحكمة في مدخول أداة العموم لإحراز المراد منه بحسبه ، ومع الخاص المتقدّم لا تتمّ مقدّماته في ناحية ذلك المدخول.

أقول : في كلا الأمرين ممّا ذكره قدس‌سره تأمّل بل منع ، فإنّ عدم جواز التمسّك بخطاب الحكم في موارد احتمال نسخه هو ما إذا أمكن النسخ فيه حقيقة كما في

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٧٣٩ ـ ٧٤٠.

١٦٨

ولا يخفى أنّ دلالة الخاص أو العام على الاستمرار والدوام إنما هو بالإطلاق لا بالوضع ، فعلى الوجه العقلي في تقديم التقييد على التخصيص كان اللازم في هذا الدوران تقديم النسخ على التخصيص أيضا ، وإنّ غلبة التخصيص إنما توجب

______________________________________________________

الأحكام من الموالي العرفيّة ، وأمّا الأحكام الشرعيّة حيث يمتنع النسخ فيها بمعناه الحقيقي ، بل يكون النسخ فيها بمعنى تقييد الحكم إلى زمان ، فيدور الأمر فيه بين إطلاق الحكم من حيث الأزمنة وبين تقييده إلى زمان ، ومع عدم ثبوت الدليل على التقييد يتمسّك بإطلاق خطاب الحكم من حيث الأزمنة ، ولذا ذكرنا عدم الحاجة في إثبات بقاء الأحكام المجعولة في الشريعة إلى التمسّك بقولهم عليهم‌السلام : «حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام أبدا إلى يوم القيامة» (١) كما ورد ذلك في صحيحة زرارة المروية في الجزء الأوّل من «اصول الكافي» في باب البدع والرأي والمقاييس ، ولا لاستصحاب بقاء الأحكام الشرعية وعدم نسخها ، بل يتمسّك بنفس الخطابات المتكفّلة للأحكام الشرعيّة في الوقائع.

وأمّا ما ذكره من أن التمسّك بالعام الوضعيّ متفرّع على جريان مقدمات الحكمة في مدخول أداة العموم ، فقد تقدّم (٢) في بحث العامّ والخاصّ أنّ أداة العموم بمقتضى وضعها دالّة ـ مع عدم ذكر قيد لمدخولها ـ على عموم الحكم لأفراد المدخول بلا حاجة إلى مقدّمات الحكمة ؛ ولذا لا يستفاد من أداة العموم التأكيد ، وتقدّم العام الوضعي على العام الإطلاقي لعدم تماميّة مقدمات الحكمة في ناحية العموم الإطلاقيّ إذا اقترنا على ما مرّ.

والصحيح في الجواب في المقام من كون الخاصّ المتقدّم مخصّصا للعامّ

__________________

(١) اصول الكافي ١ : ٥٨.

(٢) دروس في مسائل علم الاصول ٢ : ٣٩٣.

١٦٩

أقوائية ظهور الكلام في الاستمرار والدوام من ظهور العام في العموم إذا كانت مرتكزة في أذهان أهل المحاورة بمثابة تعد من القرائن المكتنفة بالكلام ، وإلّا فهي وإن كانت مفيدة للظن بالتخصيص ، إلّا أنها غير موجبة لها ، كما لا يخفى.

ثمّ إنه بناء على اعتبار عدم حضور وقت العمل [١]. في التخصيص ، لئلّا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، يشكل الأمر في تخصيص الكتاب أو السنة بالخصوصات الصادرة عن الأئمة عليهم‌السلام ، فإنها صادرة بعد حضور وقت العمل

______________________________________________________

المتأخّر هو أنّ الخطاب المنقول عن الأئمة عليهم‌السلام بما أنّهم مبيّنون لأحكام الشريعة فظاهر كلامهم أنّ الحكم الوارد في العامّ الصادر عنهم ثابت من زمان تشريع أحكام الشريعة ، لا أنّه حكم يثبت من زمان بيانهم ، وما تقدّم من تصوير النسخ في كلامهم مجرّد تصوير ، وإلّا فظاهر كلامهم ثبوت مدلوله من أوّل الشريعة ، وإذا كان مدلول كلّ من العامّ المتأخّر والخاصّ ثابتا من الأوّل يتعيّن تخصيص العامّ بالخاصّ وإن كان الخاصّ متقدّما صدورا ، وإنّما يحتمل النسخ فيما إذا كان كلّ من الخاصّ المتقدّم والعامّ المتأخّر في الكتاب المجيد أو في كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولكن ظاهر خطاب الحكم فيهما أيضا أنّ مدلول كلّ منهما ثابت من زمان تشريع الأحكام ، وإنّما لوحظ التقدّم والتأخّر في إبلاغ الأحكام إلى العباد لرعاية المصلحة ، فلا يكون للعامّ المتأخّر ظهور تصديقيّ في إرادة العموم ثبوتا ، وكأنّ العام والخاصّ وردا في زمان.

[١] ذكروا اعتبار ورود الخاصّ قبل حضور وقت العمل بالعامّ ، وأنّه إذا ورد بعد حضور وقت العمل به يكون ناسخا لعمومه ، وعليه فيشكل في الخصوصات المأثورة عن الأئمة عليهم‌السلام ، حيث إنّها وردت بعد حضور وقت العمل بالعامّ في الكتاب والسنة والالتزام بالنسخ فيها بعيد جدّا ، ولو قلنا بإمكان النسخ منهم عليهم‌السلام بالتقريب المتقدّم.

١٧٠

بعموماتهما ، والتزام نسخهما بها ولو قيل بجواز نسخهما بالرواية عنهم عليهم‌السلام كما ترى ، فلا محيص في حله من أن يقال : إن اعتبار ذلك حيث كان لأجل قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وكان من الواضح أن ذلك فيما إذا لم يكن هناك مصلحة في إخفاء الخصوصات أو مفسدة في إبدائها ، كإخفاء غير واحد من التكاليف في الصدر الأول ، لم يكن بأس بتخصيص عموماتهما بها ، واستكشاف أن موردها كان خارجا عن حكم العام واقعا وإن كان داخلا فيه ظاهرا ، ولأجله لا بأس بالالتزام بالنسخ بمعنى رفع اليد بها عن ظهور تلك العمومات بإطلاقها في الاستمرار والدوام أيضا ، فتفطن.

______________________________________________________

ولكنّ لا يخفى أنّ الاشتراط المذكور في التخصيص غير تامّ على إطلاقه فإنّه لقبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وإذا فرض صلاح في تأخير بيانه أو المفسدة في إظهاره فلا قبح في التأخير ، وعليه تكون الخصوصيّات المأثورة عنهم كاشفة عن عدم إرادة العموم من العمومات من الأوّل. ولو كان ذلك التأخير موجبا لاتّباع تلك العمومات ما لم ينكشف حال عدم الإرادة ، وذكر الماتن قدس‌سره لا بأس بالالتزام بالنسخ في تلك العمومات بمعنى رفع اليد عن ظهورها في الاستمرار والدوام من حيث العمل ، ولكن لا يخفى أنّ هذا ليس من النسخ ، فإنّ النسخ ينحصر في ما إذا كان للحكم ثبوت واقعيّ إلى زمان ، ولكن خطاب ذلك الحكم ظاهرا أو موهما للدوام والاستمرار ، ويكون الخطاب الناسخ مبيّنا لعدم دوامه واستمراره ، وفيما إذا كان الخطاب المتأخّر كاشفا عن عدم ثبوت ذلك الحكم من الأوّل رأسا ، كما في خطاب الخاصّ المتأخّر حيث يكشف من عدم ثبوت الحكم لبعض أفراد العامّ من الأوّل أصلا ، وأمّا ارتفاع أصالة العموم الجارية في ناحية العامّ إلى زمان ورود الخاصّ فهو ليس من نسخ الحكم المجعول ، بل من نظير ارتفاع الأصل العمليّ بارتفاع موضوعه ،

١٧١
١٧٢

فصل

لا إشكال في تعيين الأظهر لو كان في البين إذا كان التعارض بين الاثنين [١] وأمّا إذا كان بين الزائد عليهما فتعيّنه ربّما لا يخلو عن خفاء ؛ ولذا وقع بعض الأعلام في اشتباه وخطأ ، حيث توهّم أنّه إذا كان هناك عامّ وخصوصات وقد خصّص ببعضها كان اللازم ملاحظة النسبة بينه وبين سائر الخصوصات بعد

______________________________________________________

ولا يخفى أيضا أنّ ورود الخصوصيّات ونقلها عن الأئمة عليهم‌السلام لا يكشف عن عدم سبق بيانها أصلا ، بل يمكن جلّها أو بعضها مسبوقة ببيان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولو لبعض الناس ولم يصل ذلك البيان لعدم اهتمام السامعين بنقلها أو لغير ذلك.

اختلاف الخطابات وتعارضها

[١] توضيح الكلام في المقام أنّه إذا كان بين الخطابين اختلاف يكون تعيين أنّهما من المتعارضين أو بينهما جمع عرفي بلا إشكال على ما تقدّم ، وأمّا إذا وقع الاختلاف بين أكثر من الدليلين فربّما يكون تعيين أنّ بينهما جمعا عرفيا أو أنّهما من المتعارضات خفاء ؛ ولذلك ينبغي التكلم في بيان أقسامها والتعرض لحكم كلّ قسم منها ، فنقول : قد يكون الوارد في الخبر من قبيل خطاب العامّ والوارد في الخطابات الاخرى كلّها من قبيل الخاصّ إلى ذلك العامّ ، ولكن النسبة بين كلّ خاصّ بالإضافة إلى الخاصّ الآخر تختلف فربّما تكون النسبة التباين بين موضوعهما ، واخرى العموم من وجه ، وثالثة العموم المطلق ، ورابعة بالاختلاف.

الصورة الاولى : ما إذا كانت النسبة بين كلّ خاصّ بالإضافة إلى الخاصّ الآخر التباين بالمعنى المتقدّم ، كما إذا ورد في خطاب ؛ حرمة كلّ ربا ، بالعموم الوضعيّ أو حتّى بالإطلاق ، وورد في خبر عدم حرمة الربا بين الوالد والولد ، وفي خبر ثالث عدم حرمة الربا بين الزوج وزوجته وهكذا ، وحيث إنّ كلّا من الخاصّين بالإضافة إلى

١٧٣

تخصيصه به. فربما تنقلب النسبة إلى عموم وخصوص من وجه ، فلا بد من رعاية هذه النسبة وتقديم الراجح منه ومنها ، أو التخيير بينه وبينها لو لم يكن هناك راجح ، لا تقديمها عليه ، إلّا إذا كانت النسبة بعده على حالها.

______________________________________________________

خطاب حرمة الربا من قبيل الخاصّ بالإضافة إلى العام أو المقيّد بالإضافة إلى المطلق يكون تخصيص خطاب العامّ أو تقييد خطاب المطلق بكلّ منهما متعيّنا ، سواء كان خطاب العامّ والمطلق واردا في الكتاب المجيد أو السنّة أو في الخبر الواحد.

نعم ، قد يكون خطاب العامّ والمطلق بحيث يلزم من تخصيصه أو تقييده بكلّ منهما بقاؤه بلا مورد أو بقاء أفراد نادرة ، بحيث يكون تخصيص العامّ أو تقييد المطلق بذلك الحدّ مستهجنا ، كما إذا ورد في الخبر استحباب إكرام كلّ عالم أو العلماء ، وفي خبر آخر وجوب إكرام العالم العادل ، وفي ثالث يحرم إكرام العالم الفاسق ، فإنّ تخصيص خطاب العامّ أو المطلق بهما يوجب بقاء العامّ أو المطلق بلا مورد أو أفراد نادرة ؛ لأنّ العالم الذي لا يدخل في أحد العنوانين غير موجود أو أنّه نادر ، كما في العالم في أوّل بلوغه بناء على أنّ العدالة هي الملكة أو الاستمرار في الاستقامة في الدين ، وإذا لم يرتكب في زمان بلوغه معصية ولم يحصل له ملكة أو استمرار في العمل بالوظائف فهو عالم غير عادل ولا فاسق.

وقد ذكر الماتن قدس‌سره أنّه في هذا الفرض يقع التعارض بين خطاب العامّ ومجموع الخاصّين ؛ لأنّ النسبة بينه وبين مجموعهما التباين ، بمعنى عدم الجمع العرفيّ بينهما ، فإن كان لخطاب العامّ مرجح بالإضافة إلى كلّ منهما فيؤخذ به ، ويقع التعارض العرضيّ بين الخاصّين ؛ لأنّ المعلوم عدم صدقهما مع فرض صدق العامّ ، وعلى ذلك فإن رجح أحد الخاصّين لمرجح فيه أو أخذ به تخييرا يخصّص خطاب

١٧٤

.................................................................................................

______________________________________________________

العامّ به ويطرح الخاصّ الآخر ، وإن لم يكن العامّ بالإضافة إلى أحدهما أرجح وكان الترجيح في كلّ منهما فيؤخذ بهما ويطرح العامّ رأسا ، وكذا فيما إذا أخذ بهما تخييرا ، لتساوي العامّ بالإضافة إليهما لعدم المرجّح له.

وقد يقال : بأنّه لا وجه لجعل العامّ أحد طرفي المعارضة وجعل الطرف الآخر للمعارضة مجموع الخاصّين ، لتحقّق الجمع العرفيّ بين العامّ وكلّ من الخاصّين ، ومجموع الخاصّين ليس أمرا آخر غيرهما ليلاحظ النسبة بينه وبين العامّ ، فالمتعيّن في الفرض الأخذ بخطاب العامّ على كلّ تقدير ، ويعمل بالأخبار العلاجيّة في ناحية الخاصّين للتعارض بينهما ، فيقدّم أحدهما ترجيحا أو تخييرا ، ويخصّص العامّ به ويطرح الآخر.

أقول : قد تقدّم أنّ الأخذ بكلّ من خطابي العامّ والخاصّ وعدم حسابهما متعارضين لكون الخاصّ قرينة عرفا لبيان المراد الجدّي من خطاب العامّ ، وإذا فرض التعدّد في ناحية الخاصّ على نحو المفروض في المقام فلا يكون الخاصّ المتعدّد قرينة عرفيّة على المراد الجدّي منه ، ومع عدم حسابهما قرينة عرفيّة تقع المعارضة بين العامّ والخاصّ لا محالة ، وكون أحدهما قرينة بشرط لا من الآخر لا يلازم كونه قرينة بشرط الاجتماع والانضمام إلى الآخر ، وبتعبير آخر الخصوصات المرويّة عن الأئمة عليهم‌السلام كلّها بمنزلة كلام واحد منقول عنهم ، وهذا الكلام فيما أوجب التخصيص المستهجن في خطاب العامّ فلا يعدّ قرينة عرفيّة على المراد الجدي ، فتقع المعارضة بينهما وبين خطاب العامّ على قرار ما تقدّم.

وعلى الجملة ، حاصل ما ذكر في الكفاية فيما إذا استلزم تخصيص العامّ بكلّ من الخاصّين عدم بقاء مورد لحكم العامّ أو انتهاء تخصيصه إلى حدّ الاستهجان هو

١٧٥

.................................................................................................

______________________________________________________

ملاحظة الترجيح بين خطاب العامّ ومجموع الخاصّين ، فإن كان العامّ راجحا بالإضافة إلى مجموع الخاصّين يؤخذ به ، ويقع التعارض العرضيّ بين الخاصّين ، ولو كان لأحدهما ترجيح بالإضافة إلى الخاصّ الآخر أو أخذ بأحدهما تخييرا ، فيخصّص العامّ به ويطرح الخاصّ الآخر ، وكذا الحال فيما لو أخذ بخطاب العامّ تخييرا مع عدم ترجيح لخطابه ولا للخاصّين فإنه يؤخذ بالعامّ ويطرح من الخاصّين المرجوح منهما مع ترجيح لأحدهما أو لأخذ أحدهما تخييرا ، وهذا بخلاف ما أخذ بالخاصّين لثبوت الترجيح في ناحية الخاصّين ، فإنّه يطرح خطاب العامّ رأسا ، وكذا إذا أخذ بخطاب الخاصّين تخييرا.

وما ذكره قدس‌سره صحيح بناء على ثبوت الترجيح بين المتعارضين ، ومع عدمه الحكم هو التخيير.

ثمّ لا يخفى أنّه يكتفى في كون العامّ أرجح بالإضافة إلى مجموع الخاصّين أن يكون راجحا لأحد الخاصّين ومساويا مع الخاصّ الآخر ، وعليه يقدّم على مجموع الخاصّين وحيث إن الخاصّ المساوي للعامّ أرجح من الخاصّ الآخر يخصّص العام به ، ويسقط الخاصّ الآخر عن الاعتبار ، وأمّا إذا كان العام أرجح بالإضافة إلى كلّ من الخاصّين يؤخذ به ويقع التعارض العرضيّ بين الخاصّين ، فإن كان بينهما أيضا ترجيح يؤخذ به ويخصّص العامّ به ، لعدم التعارض إلّا بين العامّ ومجموع الخاصّين ، لا المعارضة بينه وبين كلّ واحد من الخاصّين ، وإن لم يكن رجحان بين الخاصّين يؤخذ بأحدهما تخييرا ويخصّص العام به لما عرفت ، ويسقط الخاصّ الآخر عن الاعتبار.

ويكفي أيضا في ترجيح ناحية الخاصّين بأن يكون أحدهما راجحا بالإضافة

١٧٦

.................................................................................................

______________________________________________________

إلى العامّ والآخر مساويا له ، فإنّه إذا أخذ بالخاصّ الراجح أمكن الأخذ بالعامّ أيضا لعدم المعارضة بينه وبين العامّ ، وأمّا الخاصّ المساوي للعامّ فيسقط عن الاعتبار مع اختيار العامّ تخييرا بينه وبين الخاصّ الآخر ، وأمّا إذا أخذ بالخاصّ الآخر مع الخاصّ الراجح ترجيحا لناحية مجموع الخاصّين يلغى خطاب العامّ ، كما يلغى خطاب العامّ إذا كان كلّ من خطابي الخاص أرجح بالإضافة إلى خطاب العامّ ، ومقتضى كلام الماتن الأخذ بالخاصّين ، وأمّا إذا كان خطاب العامّ راجحا بالإضافة إلى أحد الخاصّين ومرجوحا بالإضافة إلى الخاصّ الآخر فمقتضى كلام الماتن قدس‌سره من أنّ المعارضة بين خطاب العامّ ومجموع خطابي الخاصّ هو كون العامّ في الفرض مساويا لمجموع الخاصّين بوقوع الكسر والانكسار ، فإمّا أن يؤخذ بالخاصّين تخييرا فيلغو العامّ أو الأخذ بخطاب العامّ ، ولا موجب لتخصيصه بالخاصّ الراجح تقديما له على الخاصّ الآخر ؛ وذلك فإنّ المأخوذ في مقام الترجيح مجموع الخاصّين لا أحدهما ، وهذا منسوب إلى الماتن قدس‌سره كما أشرنا.

يورد (١) عليه بأنّ المعارضة إنّما هي لعدم صدق أحد الخطابات الثلاثة خطاب العامّ أو خطاب الخاصّ الراجح على العامّ أو الخاصّ الآخر الذي يكون خطاب العامّ راجحا عليه فلا موجب لرفع اليد عن كلا الخاصّين ، بل بما أنّ المرجوح بالإضافة إلى خطاب العامّ يسقط عن الاعتبار لمزية العامّ والخاصّ الآخر عليه ، فيعمل بالعامّ والخاصّ الراجح.

ولكن لم يوجد في كلام الماتن قدس‌سره في «الكفاية» ما يدلّ على ذلك ، ولعلّه

__________________

(١) مصباح الاصول ٣ : ٣٩١.

١٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

استفيد من قوله : «فلو رجّح جانبها أو اختير فيما لم يكن هناك ترجيح فلا مجال للعمل به أصلا بخلاف ما لو رجح طرفه أو قدّم تخييرا فلا يطرح منها إلّا خصوص ما لا يلزم من طرحه المحذور من التخصيص بغيره».

والمتحصّل مما ذكر أنّه لو كان لأحد الخاصّين مزيّة على العامّ والخاصّ الآخر يؤخذ به ويجمع بينه وبين العامّ فلا موجب إلّا لطرح الخاصّ الآخر ، وكذا لو اختير جانب الخاصّين تخييرا بينهما وبين العامّ وكان ترجيح لأحدهما بالإضافة إلى الخاصّ الآخر يطرح الخاص الآخر ، ويجمع بين الخاصّ الراجح وبين العامّ في العمل ، كما في الفرض الأخير بلا موجب لطرح العامّ أصلا ، لما ذكرنا من أن الموجب للتعارض العلم الإجمالي بكذب أحد الخطابات الثلاثة من دون تعيين.

فتكون النتيجة أنّ كلّ مورد كان منشأ التعارض بين الخطابات متعددة العلم الإجمالي بكذب أحدها واقعا ، فإن كان أحد الخطابات مرجوحا بالإضافة إلى الباقي يتعيّن ذلك في السقوط عن الاعتبار ويؤخذ بالباقي منها ، وإن لم يكن شيء منها مرجوحا بالإضافة إلى الباقي ، فبناء على ما هو الصحيح من عدم ثبوت التخيير بين المتعارضين حتى في الأخبار يسقط كلّ منها عن الاعتبار فيرجع إلى القاعدة الأوّليّة ولو كان أصلا عمليّا سواء كان مقتضاه الاشتغال أو البراءة ، وبناء على مسلك التخيير يختار أحدهما في الطرح ويعمل بالباقي لوجود الجمع العرفيّ بعد سقوط المطروح بين الخطابات الباقية ، وقول الماتن قدس‌سره في تقرير المعارضة بين العامّ ومجموع الخاصّين يقابل بالعلم بكذب هذا الخاصّ أو مجموع العامّ والخاصّ الآخر.

تعارض العمومات والخصوصات مع كون النسبة بين الخاصّين العموم والخصوص المطلق

وإذا كانت النسبة بين الخاصّين العموم والخصوص المطلق ، كما إذا ورد الأمر

١٧٨

.................................................................................................

______________________________________________________

بإكرام العلماء في خطاب ، وفي خطاب آخر النهي عن إكرام من عصى ربّه ، وفي خطاب ثالث النهي عن إكرام العالم الفاسق بناء على أنّ المراد بالفاسق المرتكب للكبيرة ، فإنّ الظاهر تخصيص العامّ بكلّ منهما ؛ لأنّه لا تنافي بين خطاب النهي عن إكرام العالم العاصي وخطاب النهي عن إكرام العالم الفاسق ؛ لأنّ كلّا منهما خطاب انحلاليّ من حيث الحكم الوارد فيه يتوافقان في السلب بناء على ما هو الصحيح من عدم المفهوم للوصف ، وذكر الخاصّ الأوسع والخاصّ الأضيق متعارف ، فيكون تخصيص الأخصّ بالذكر للاهتمام به نظير قوله عليه‌السلام : «لا تصلّ خلف شارب النبيذ المسكر» (١) وقوله : «لا تصلّ خلف الفاسق» (٢) بلا فرق فيما ذكر بين كون الخاصّ الأخصّ واردا قبل الآخر أو بعده أو وردا في زمان واحد ، وقد تقدّم في دوران الأمر بين النسخ والتخصيص بما أنّ الأئمة عليهم‌السلام مبيّنون لأحكام الشريعة يخبرون عن زمان تشريع الأحكام التي منها الحكم الوارد في خطاب العامّ وكلّ من الخاصّين ولو كان أحدهما صادرا عن الإمام السابق عليه‌السلام والآخر صادرا عن الإمام اللاحق بمنزلة الصادرين عن إمام واحد ، فلا وجه في الفرض من تخصيص الخاصّ بأخصّ الخاصين أوّلا لكونه متعيّنا أو كونه سابقا.

نعم هذه الملاحظة صحيحة فيما إذا كان أخصّ الخاصّين متّصلا بخطاب العامّ من الأوّل كما إذا ورد في الخطاب : أكرم العلماء إلّا من ارتكب كبيرة ، وورد في خطاب آخر : لا تكرم عالما عصى ربّه ، فإنّ العامّ المتصل به أخصّ الخاصّين

__________________

(١) انظر وسائل الشيعة ٨ : ٣١٦ ، الباب ١١ من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث ١١.

(٢) انظر المصدر السابق : ٣١٤ ، الحديث ٢ و ٤.

١٧٩

وفيه : إن النسبة إنما هي بملاحظة الظهورات ، وتخصيص العام بمخصص منفصل ولو كان قطعيا لا ينثلم به ظهوره ، وإن انثلم به حجيته ، ولذلك يكون بعد التخصيص حجة في الباقي ، لأصالة عمومه بالنسبة إليه.

______________________________________________________

والخاصّ الآخر يجتمعان في عالم ارتكب صغيرة ولم يتب ، فإنّ مقتضى خطاب العامّ طلب إكرامه ، ومقتضى الخاصّ المنفصل عدم طلب إكرامه ، فيرجّح أحدهما في مورد الاجتماع مع ثبوت الراجح ومع عدمه يتخيّر أو يتساقطان في مورد الاجتماع ويرجع إلى العامّ الفوق أو المطلق المقام أو يرجع إلى الأصل العمليّ.

وعن النائيني قدس‌سره (١) أنّه إذا كان في البين عامّ أو مطلق آخر غير ما اتّصل به أخصّ الخاصّين لم يجز الرجوع إليه ولا تخصيصه بالخاصّ المنفصل بعد تعارض العامّ المتّصل به أخصّ الخاصين والخاصّ المنفصل الآخر ، وذكر في وجه ذلك وجهين لهما معا :

الأوّل : أنّه لا تعارض بين العامّ المتّصل به أخصّ الخاصّين والخاصّ المنفصل الآخر بالإضافة إلى مدلول أخصّ الخاصّين ، فيخصّص العامّ الفوق في ذلك المقدار وبعد تخصيصه في ذلك المقدار يكون مدلوله معارضا بالخاصّ المنفصل الأوسع ، كما هو الحال في تعارض العامّ المتّصل به أخصّ الخاصّين مع ذلك الخطاب الخاصّ المنفصل.

والثاني : أي عدم صلاحية الخاصّ المنفصل لتخصيص العامّ الفوق لكونه مبتلى بالمعارض ، والمعارض العامّ المتّصل به أخصّ الخاصين ، ومع الابتلاء بالمعارض كيف يصلح لتخصيص العامّ الفوق أو تقييد المطلق الفوق.

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٧٤٤ ـ ٧٤٥.

١٨٠