دروس في مسائل علم الأصول - ج ٦

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8438-62-8
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٤٦

(مسألة ٣٦) فتوى المجتهد يعلم بأحد امور : الأوّل : أن يسمع منه شفاها ، الثاني : أن يخبر بها عدلان ، الثالث : إخبار عدل واحد بل يكفي إخبار شخص موثّق يوجب قوله الاطمئنان وان لم يكن عادلا ، الرابع : الوجدان في رسالته ، ولا بدّ أن تكون مأمونة من الغلط [١].

______________________________________________________

وكذا في مسألة الائتمام بأحد الشخصين الواجدين لشرائط الائتمام فإنه يتحقّق الائتمام ويكون مجزيا ، بخلاف ما لم يكن واجدا لشرائط الائتمام فإنه لعدم تحقّق شرائط الائتمام لم يتحقّق الائتمام ، غاية الأمر صلاة المأموم محكومة بالصحة إذا لم يرتكب في صلاته ما يبطل صلاته الفرادى حتّى حال العذر كتعدّد الركوع في ركعة ؛ وذلك فإنّ صلاته لم تنقص من صلاة المنفرد إلّا القراءة وتسقط اعتباره عند العذر ، ومنه الاعتقاد بصحة ائتمامه.

[١] وذلك فإنّ السماع من المجتهد شفاها تعلّم لفتواه وجدانا إذا كان ما ذكر المجتهد من فتواه صريحا بحسب المدلول أو كان ظاهرا ، والكلام في اعتبار الظواهر مفروغ عنه في المقام ، وأمّا الثاني يعني إخبار العدلين بفتواه فإنّه داخل في البيّنة لفتواه إذا كان إخبارهما به بالسماع من المجتهد ، وأمّا إذا لم يكن إخبارهما كذلك أو أخبر عدل بفتواه فهو داخل في خبر العدل ، وقد تقدّم اعتباره في الأحكام التي منها فتوى المجتهد بالإضافة إلى العاميّ ، بل ذكرنا اعتباره في الموضوعات أيضا وإن استشكل فيه بعض الأصحاب كالماتن قدس‌سره ، بل المعتبر في نقل الحكم خبر الثقة إذا استند في نقله إلى الحسّ وإن كان بوسائط ؛ ولذا التزم الماتن قدس‌سره في المقام باعتبار خبر العدل الواحد بل الثقة وإن لم يكن عدلا ، ولكن قيّد الثقة بوصف بقوله : «موثّق يوجب قوله الاطمينان» ولو كان مراده الإيجاب النوعيّ فمفاده اعتبار نفس خبر الثقة ، وإن كان مراده الاطمينان الشخصيّ تكون النتيجة اعتبار الاطمينان الناشئ من خبر الثقة ، وفي

٣٦١

.................................................................................................

______________________________________________________

اعتبار خبر الثقة قولان وكأنه اختار أحد القولين يعني القول الثاني.

وعلى الجملة كما أنّ قول الإمام عليه‌السلام طريق إلى الحكم الشرعيّ المجعول في الشريعة والراوي عنه عليه‌السلام يخبر عن ذلك الطريق كذلك فتوى المجتهد طريق شرعيّ إلى الحكم الشرعيّ المجعول في الشريعة بالإضافة إلى العاميّ ، والمخبر بفتوى المجتهد يخبر عن ذلك الطريق المعتبر في حقّه ، فالراوي عن المعصوم لا يروي الحكم الشرعيّ المجعول في الشريعة بالذات ، وإنّما يخبر عن طريقه بنقله قول المعصوم. كذلك الراوي لفتوى المجتهد إنما يروي طريقه إلى الحكم الشرعيّ المجعول بنقل فتوى المجتهد ونظره ؛ ولذا لم يستشكل الماتن قدس‌سره في اعتبار خبر العدل بل الثقة عن المجتهد بفتواه مع أنّه لم يلتزم باعتبار خبر العدل في الموضوعات بل استشكل في اعتباره فيها.

وما ذكر في المتن من تقييد الموثّق بما «يوجب قوله الاطمينان» إن كان من قبيل الوصف التوضيحيّ وبأنّ الموثّق من يوجب قوله الوثوق والاطمينان نوعا فهو ، وإلّا بأن كان المراد اعتبار الوثوق والاطمينان الشخصيّ من خبره فلا يمكن المساعدة عليه ؛ لما ذكرنا في بحث حجيّة الخبر من أنّ خبر الثقة موضوع للاعتبار عند العقلاء في مقام الاحتجاج والاعتذار ، ولا يدور اعتباره مدار الوثوق والاطمينان الشخصيّ وعدمه.

والوجه في اعتبار أخبار الثقات عند العقلاء هو تنظيم أمر اجتماعاتهم ولا يمكن أن يستند إلى أمر نفسانيّ لا يتمكّن نوعا من إحرازه ، وعدم إحرازه في مقام الاحتجاج والاعتذار فيما بينهم ، كما ذكرنا ذلك في بحث حجّية الظواهر أيضا ، حيث لا معنى أن يكون اعتبار ظاهر كلام المتكلّم منوطا بظنّ السامع والمستمع بمراد

٣٦٢

(مسألة ٣٧) إذا قلّد من ليس له أهليّة الفتوى ثمّ التفت وجب عليه العدول ، وحال الأعمال السابقة حال عمل الجاهل غير المقلّد. وكذا إذا قلّد غير الأعلم وجب على الأحوط العدول إلى الأعلم ، وإذا قلّد الأعلم ثمّ صار بعد ذلك غيره أعلم وجب العدول إلى الثاني على الأحوط [١].

______________________________________________________

المتكلّم وعدم ظنّه ، فيكون ظاهر كلامه معتبرا سواء حصل الظنّ منه بالمراد أم لا.

وأمّا ما ذكره قدس‌سره من «الوجدان في رسالته ولا بد من أن تكون مأمونة من الغلط» فقد ذكر في بحث حجّية الظواهر أنّه لا فرق في اعتبار ظهور الكلام بين أن يكون مكتوبا أو شفهيا ، ولا بد من إحراز كون ما في الرسالة كتابة فتواه بأن يكون مأمونا من الغلط ، كما إذا لاحظ المفتي الرسالة فوقّعها بأنّ ما ذكر فيها فتاواه في المسائل الشرعيّة ، والله العالم.

[١] وذلك فإنّ الاستناد في أعماله السابقة إلى قول من ليس له أهليّة الفتوى لا يكون استنادا فيها إلى الحجّة ولا يعتبر تعلّم قوله تعلّما للحكم الشرعيّ في الواقعة التي ابتلى بها ، فعلى ذلك يجب تدارك الأعمال السابقة على طبق فتوى المجتهد الفعليّ إذا كانت فتواه بطلان تلك الأعمال ولا يحكم بإجزائها في موارد فتواه ببطلانها ؛ لأنّ ما ذكرنا سابقا من الإجزاء في العبادات والمعاملات بمعنى العقود والإيقاعات ما إذا كان العاميّ حال العمل مستندا إلى فتوى المجتهد الواجد لما تقدّم من الشرائط.

وقد تقدّم أيضا أنّه مع علم العاميّ باختلاف الفتوى في الوقائع التي يعلم ابتلاءه بها أو يحتمل ابتلاءه عليه أن يرجع إلى الأعلم ، ولو كان علمه بالاختلاف علما إجماليّا فتقليده عن غير الأعلم في الفرض غير مجزئ ، ويجب العدول إلى الأعلم ويتدارك أعماله السابقة إذا كان منها ما يفتي الأعلم ببطلانه.

٣٦٣

(مسألة ٣٨) إن كان الأعلم منحصرا في شخصين ولم يمكن التعيين فإن أمكن الاحتياط بين القولين فهو الأحوط ، وإلّا كان مخيّرا بينهما [١].

______________________________________________________

نعم لو كان رجوعه إلى غير الأعلم فيها لفتوى الأعلم بجواز الرجوع إلى غير الأعلم فلا تحتاج الأعمال السابقة إلى التدارك ، ويحكم بإجزائها على القول بالإجزاء بالإضافة إلى الأعمال السابقة في العبادات والمعاملات ؛ لأنّ المفروض أنّ العاميّ كان مستندا في تلك الأعمال إلى الحجّة ، ونظير ذلك ما إذا كان آخذا بفتوى الأعلم في أعماله السابقة ثمّ صار غيره أعلم منه ، فيجب الرجوع إلى الأعلم الفعليّ ، ولكن يحكم في أعماله السابقة بالإجزاء.

وما ذكر الماتن قدس‌سره من الاحتياط الوجوبيّ في تقليد الأعلم وكذا في فرض صيرورة غيره أعلم منه لعلّه يريد صورة عدم العلم بالاختلاف ، وإلّا كما ذكرنا لا اعتبار بقول غير الأعلم مع الأعلم في صورة العلم ولو بالإجمال باختلافهما في المسائل التي يبتلي بها العاميّ ، وكذا مع العلم الإجماليّ في المسائل التي يحتمل الابتلاء بها.

ثمّ إنّ ما ذكره قدس‌سره إذا قلّد غير الأعلم وجب عليه العدول إلى الأعلم على الأحوط ، وكذا ما إذا قلّد الأعلم ثمّ صار غيره أعلم ، ففي الاحتياط المذكور مع احتماله التخيير بين الأعلم وغير الأعلم تأمّل ، خصوصا في الفرض الثاني حيث كانت فتوى الأوّل حجة في حقّه ودار الأمر بين بقائه على الحجّة أو صيرورة الثاني حجّة ، فلا بدّ في صورة اختلافهما في الفتوى الأخذ بالأحوط من قوليهما على ما تقدّم.

نعم في الفرض الأوّل يجري الاستصحاب في ناحية عدم كون فتوى الأوّل حجّة في حقّه من الأوّل ، فالأحوط على مسلكه العدول إلى الثاني.

[١] لإمكان الاحتياط صورتان : الاولى أن يفتي كلّ منهما في المسألة بالتكليف ولكن اختلفا في متعلّقه كما إذا أفتى أحدهما في سفر بوجوب القصر ، والآخر

٣٦٤

.................................................................................................

______________________________________________________

بوجوب التمام ، كما إذا سافر المكلّف ثمانية فراسخ ثلاثة ذهابا وأربعة رجوعا أو أفتى أحدهما في كفارة بصوم شهرين متتابعين تعيينا ، والآخر بالتخيير بينه وبين إطعام ستين مسكينا ، وفي هذا الفرض يجب على العامي الأخذ بالاحتياط بالجمع بين القصر والتمام ، وبالتكفير بشهرين عن الصيام ، وذلك إمّا لعلمه إجمالا بوجوب إحدى الصلاتين أو علمه بقيام الحجّة على وجوب شهرين ولا يعلم بقيام الحجّة على إجزاء إطعام ستين مسكينا وكونه بدلا عن صيام شهرين متتابعين ، وكما إذا أفتى أحدهما بأن من فات عنه رمي الجمرات يقضيه من الغد ، وقال الآخر يقضيه في ليلته ، فإنّه يجب عليه الجمع بين الرمي في ليلته والرمي من الغد لعلمه بقيام الحجّة على وجوب أحدهما ، ولو احتمل عدم وجوب التدارك أصلا فإنّ هذا الاحتمال لا يزيد على احتمال الخلاف وعدم الإصابة في سائر الطرق والأمارات المعتبرة.

وربّما يتمسّك بأصالة الاشتغال وأنّ مقتضاه الجمع بين الفتويين في العمل والأخذ بالأحوط منهما ؛ لأنّ العلم الإجماليّ للعاميّ بثبوت التكاليف في الوقائع التي يبتلي بها مقتضاه الاحتياط في جميع الصور المتقدمة ، بل عليه الاحتياط حتى فيما إذا احتمل التكليف إلّا في مورد أحرز الحجّة على نفي التكليف فيه ، كما إذا أفتى في واقعة كلّ من المجتهدين اللذين لا يحرز الأعلم منهما بعدم التكليف ، بخلاف ما إذا أفتى أحدهما بالتكليف ، وأفتى الآخر بعدمه حيث إنّ مع اشتباه الحجّة بلا حجّة من الفتويين لا يحرز قيام الحجّة على نفي التكليف.

هذا كلّه فيما إذا أمكن الاحتياط بالعمل بالفتويين أو الأخذ بأحوط القولين ، وأمّا إذا لم يمكن الاحتياط كذلك ، كما إذا أفتى أحدهما بوجوب فعل والآخر بعدم جوازه أو أفتى أحدهما بوجوب الإفطار والآخر بوجوب الصوم فيتخيّر العاميّ في

٣٦٥

(مسألة ٣٩) إذا شكّ في موت المجتهد أو في تبدّل رأيه أو عروض ما يوجب عدم جواز تقليده ، يجوز له البقاء إلى أن يتبيّن الحال [١].

______________________________________________________

العمل بأحدهما لكفاية الامتثال الاحتماليّ بعد فرض عدم تمكّنه من الموافقة القطعيّة بالعمل بالفتويين.

وربّما (١) يقال في الفرض بتقديم فتوى من فيه ترجيح كما إذا كان في أحدهما المعيّن ظنّ بأنّه الأعلم ، ولعلّ ذلك للنزول من الموافقة الظنيّة بعد عدم التمكّن من الموافقة القطعيّة.

وفيه أنّ العلم باعتبار أحد الفتويين لا يزيد على العلم الوجدانيّ بثبوت أحد التكليفين ، فمع كون المقام من دوران الأمر بين المحذورين لا يكون العلم بثبوت الحرمة أو الوجوب بيانا لأحدهما المعيّن ، والعلم باعتبار الفتوى بالحرمة أو الوجوب لا يزيد على العلم بأحدهما ، كما أنّ الظنّ بأحدهما بعينه لا أثر له فكذلك العلم باعتبار أحد الفتويين ، ولا تقاس المسألة بما إذا كان أحد المجتهدين بعينه أعلم من الآخر احتمالا بأن علم إما أنّه أعلم أو متساويين فبناء على التخيير في المتساويين يتعيّن تقليد ما هو محتمل أعلميّته من الآخر في موارد العلم بخلافهما ولو كان المعلوم كذلك بالعلم الإجمالي.

وعلى الجملة الظنّ إنّما يعتبر في الحجّة في دوران أمر الحجّة بين التعيين والتخيير كما يعتبر الظنّ بالأهميّة في مقام التكليفين المتزاحمين.

[١] وذلك للاستصحاب في حياته وسائر أوصافه التي تكون دخيلة في جواز البقاء على تقليده ، وبما أنّ الشبهة موضوعيّة لا يجب الفحص من بقاء حياته أو سائر

__________________

(١) التنقيح في شرح العروة ١ : ٢٦٨.

٣٦٦

(مسألة ٤٠) إذا علم أنّه كان في عباداته بلا تقليد مدّة من الزمان ولم يعلم مقداره ، فإن علم بكيفيّتها وموافقتها للواقع أو لفتوى المجتهد الذي يكون مكلّفا بالرجوع إليه فهو ، وإلّا فيقضي المقدار الذي يعلم معه بالبراءة على الأحوط ، وإن كان لا يبعد جواز الاكتفاء بالقدر المتيقّن [١].

______________________________________________________

الأوصاف ، بل يبنى على بقائها حتى يتبيّن الحال.

نعم على العاميّ إحراز جواز البناء على هذا البقاء من غير ناحية فتوى ذلك المجتهد المشكوك بقاؤه على الأوصاف.

[١] إذا اتّفق للعاميّ المفروض في المسألة العلم بأنّ أعماله السابقة كانت موافقة للوظيفة الواقعيّة وفرض الإتيان بها بقصد التقرّب فلا ينبغي التأمّل في عدم لزوم تداركها ؛ لأنّ التقليد لم يكن شرطا في صحّة العبادات بل طريقا إلى إحراز امتثال التكاليف المتعلّق بها ، وكذا إذا علم أنّها تكون مطابقة لفتوى المجتهد الذي تكون وظيفته في لزوم تداركها وعدمه الرجوع إليه فعلا ، فإنّه مع فتوى المجتهد الفعليّ بما ينطبق على أعماله السابقة لا موضوع لتداركها حتّى فيما إذا كانت بعض تلك الأعمال باطلة على فتوى المجتهد الذي كان على العاميّ الرجوع إليه في تلك الأعمال ، فإنّ فتوى المفتي تعتبر طريقا إلى التكليف والحكم الشرعيّ في الواقعة بنحو القضيّة الحقيقيّة من أوّل الشريعة ، وإذا سقطت فتوى المجتهد عن الاعتبار لموته أو غيره أو لم يكن معتبرا في حقّه لعدم تعلّمه منه وعدم الاستناد إليه في مقام العمل يكون الطريق إلى تلك القضية الحقيقيّة فتوى المجتهد الذي عليه الرجوع فعلا ؛ ولذا ذكرنا أنّ مقتضى القاعدة تدارك الأعمال السابقة على طبق فتوى من يعتبر فتواه فعلا حتى فيما إذا كان متعلّما من المجتهد السابق وكان مستندا إلى فتواه حين العمل ، وإنّما التزمنا بالإجزاء للعلم بأنّ الشارع لا يريد تدارك عباداته السابقة فيما إذا احتمل

٣٦٧

.................................................................................................

______________________________________________________

صحتها واقعا وكان حين العمل مستندا إلى فتوى من كانت فتواه معتبرة في حقّه ، وكذلك الحال في عقوده وإيقاعاته السابقة ، وأمّا إذا لم يستند حين العمل بذلك الفتوى فالإجزاء فيها خارج عن مورد العلم به ، فلا بدّ من تداركها على فتوى المجتهد الذي تكون وظيفته الرجوع إليه فعلا.

نعم يفصّل في المقام بأنّه لا يحتاج إلى التدارك في العبادات التي يكون تداركها بالقضاء ، فإنّه يكفي فيها احتمال مطابقتها للواقع حال العمل أو صحّتها واقعا ، فلا يجب فيه القضاء بخلاف ما إذا احرز بطلانها بحسب فتوى المجتهد الذي يرجع إليه فعلا لإخلاله فيها بما يوجب قضاءها ، كالإخلال ببعض الأركان في الصلاة أو الإخلال بسائر الأجزاء وتركها مع احتمال اعتبارها حال العمل حيث لا مجرى لحديث «لا تعاد» مع احتمال الاعتبار والإخلال حال العمل.

وعلى الجملة موارد لزوم القضاء إحراز الفوت وجدانا أو بطريق معتبر فعلا فمع عدم إحرازه كذلك كما إذا لم يخلّ بصلاته حال عدم تقليد في أركانها ولا في سائر الأجزاء وشرائطها إلّا نسيانا أو غفلة فيكون مقتضى حديث «لا تعاد» الحكم بصحّتها ، بخلاف ما إذا أخلّ في الأركان أو في الأجزاء والشرائط التي كان يحتمل حال العمل اعتبارها ومع ذلك لم يكن يراعيها ، فإنّه يجب عليه تدارك تلك الصلوات ، وكذا الحال في سائر العبادات التي يحرز فوتها بفتوى المجتهد الذي يجب الرجوع إليه فعلا. وأمّا إذا شكّ في فوتها لعدم علمه بكيفية عمله في ذلك الحال فلا يجب قضاؤها لأنّ الشكّ فيه من الشكّ في التكليف فعلا.

وقد ذكر النائيني قدس‌سره (١) اختصاص حديث «لا تعاد» بالناسي حيث إنّ المكلف

__________________

(١) كتاب الصلاة للمحقّق الآملي ٣ : ٥.

٣٦٨

.................................................................................................

______________________________________________________

حال صلاته وإخلاله فيها جهلا كان مكلّفا بالإتيان بالصلاة التامّة كما هو مقتضى التكليف الواقعيّ غير المقيّد بالعلم والجهل بالجزئيّة والشرطيّة ، فالمكلّف الجاهل والمخلّ بالجزء أو الشرط جهلا مكلّف عند

إخلاله كقبل الإخلال ، وبعده مكلّف بما كان مكلّفا به ، بخلاف الناسي فإنّه حين نسيانه لا يكون مكلّفا بالصلاة التامّة لنسيانه الجزء والشرط وبعد تذكّره وزوال نسيانه يتوجه إليه التكليف بالإعادة أو عدمها ، بخلاف الجاهل قاصرا أو مقصّرا فإنّه حين العمل يكون مكلّفا بالصلاة التامّة على ما تقدّم.

أقول : لا يختصّ ما ذكره قدس‌سره بالناسي بل يجري في حقّ المقصّر الذي كان غافلا عن اعتبار شيء في الصحة حيث إنّ التكليف بالواجد له لغفلته ساقط في حقّه فلا يختص الأمر بالإعادة في حقّ الناسي.

لا يقال : إذا كان غفلة المكلّف عن اعتبار شيء في الصلاة ناشئا عن ترك التعلّم فلا يكون المكلّف معذورا في تركه في الصلاة.

فإنّه يقال : هذا لا يمنع عن الحكم بصحة الصلاة التي أتى بها حال غفلته إذا لم يكن الإخلال في أركانها.

أضف إلى ذلك أنّ الغافل الذي لم يكن له سبيل إلى معرفة جميع ما يعتبر في الصلاة وكان معتقدا صحّة ما أتى به حال العمل فيدخل في حديث «لا تعاد» ، فإنّه يجري فيه ما ذكره قدس‌سره في الاستظهار من حديث «لا تعاد».

أضف إلى ذلك أنّ مفاد حديث «لا تعاد» ليس تكليفا نفسيّا بل هو إرشاد إلى بقاء التكليف الواقعيّ عند الإخلال بما ذكر في المستثنى وعدم بقائه مع الإخلال بما يدخل في المستثنى منه ، وأنّ التعبير بالإعادة وعدمها لفرض أنّ المكلف حين

٣٦٩

.................................................................................................

______________________________________________________

العمل يأتي بما يعتقد أنّه وظيفته ؛ ولذا لا يشمل الجاهل المقصّر الذي يحتمل عند الإتيان أنّ عمله ناقص وفيه خلل من حيث بعض الأجزاء والشرائط أو ارتكاب المانع مع تمكّنه من الإتيان بصلاته صحيحة ولو بالتعلّم ، مع أنّ الالتزام بشمول حديث لهذا الجاهل المقصّر يوجب حمل بعض الخطابات الواردة في الأجزاء والشرائط والموانع للعمل على الفرد النادر كقوله عليه‌السلام : «من تكلّم في صلاته متعمّدا فعليه إعادة الصلاة» (١) فإنّه على تقدير شمول «لا تعاد» للمقصّر الذي يحتمل عند التكلّم في صلاته بطلانها يلزم حمل الخطاب المذكور على العالم المتعمّد ، وصدوره من العالم المتعمّد المريد للامتثال نادر.

والمتحصّل مما ذكرنا أنّ الجاهل إذا لم يعلم كيفيّة عمله واحتمل صحته واقعا لا يجب عليه القضاء ؛ لأنّ الموضوع لوجوبه فوت الفريضة في وقتها ، ومقتضى الاستصحاب في عدم الفوت ولا أقل أصالة البراءة عن تكليف القضاء عدم وجوبه.

نعم لا تجري في حقّ العاميّ الجاهل حال العمل أصالة الصحّة في عمله أي قاعدة الفراغ فإنّ العامي المفروض يحتمل إخلاله بالعمل جهلا لا بطروّ الغفلة حال العمل على ما قرّر ذلك في بحث قاعدة الفراغ ، كما أنّ الاستصحاب في عدم الإتيان بالواجب عليه في وقته لا يثبت فوت ذلك الواجب.

وممّا ذكر يظهر أنّه على العاميّ تدارك معاملاته السابقة إذا احتمل الخلل فيها على طبق فتوى المجتهد الذي يجب الرجوع إليه فعلا. وعلى ما ذكرنا كلّما دار أمر القضاء بين الأقلّ والأكثر يكتفى بالأقلّ ؛ لأصالة عدم فوت الزائد أو لأصالة البراءة عن

__________________

(١) وسائل الشيعة ٨ : ٢٠٦ ، الباب ٤٤ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث ٣.

٣٧٠

(مسألة ٤١) إذا علم أنّ أعماله السابقة كانت مع التقليد لكن لا يعلم أنّها

______________________________________________________

وجوب قضاء الزائد.

ولكن ربّما يقال في الدوران بين الأقل والأكثر لزوم القضاء بمقدار يعلم الفراغ ، وعن بعض بمقدار يظنّ بالفراغ ، وقد ذكر في وجه ذلك أنّ في مورد دوران التكليف بين الأقلّ والأكثر غير الارتباطيين تجرى البراءة عن التكليف الزائد ، كما إذا أتلف مال زيد وتردّدت قيمته بين الأقلّ والأكثر ، أو علم بعد شهر رمضان أنّه أفطر الصيام في مرضه ودارت تلك الأيام بين الثمانية وبين العشرة ، أو أنّه استيقظ من نومه وتردّد أنّه نام تمام وقت صلاتين أو يوما واحدا بتمامه ، ففي مثل ذلك لا ينبغي التأمّل في الاكتفاء بالأقلّ ، وأمّا إذا تردّد التكليف المنجّز السابق بين الأقلّ والأكثر ، كما إذا علم أنّه لم يصلّ أيّاما وتردّد في تلك الأيام بعد ذلك بين الأقل والأكثر فإنّه يجب عليه الاحتياط ، وذلك فإنّ كلّ يوم ترك فيه الصلاة فقد تنجّز عليه قضاء صلوات ذلك اليوم ، وكذا الحال فيما إذا تركها في اليوم الثاني تنجّز عليه قضاء صلوات ذلك اليوم أيضا ، وهكذا فإنّ هذا المكلّف إذا اقتصر بعد ذلك بمقدار الأقلّ يحتمل مخالفة بعض التكاليف المنجّزة في حقّه من السابق ، ونظير ذلك ما إذا استدان من زيد تدريجا وبعد ذلك تردّد في ما استدانه بين الأقلّ والأكثر ، فإنّه لا تجري البراءة في ناحية الأكثر حيث إنّه كان مكلّفا بأداء كلّ دين بالتكاليف المنجّزة من السابق فيحتمل عدم سقوط بعضها عن عهدته بأداء الأقلّ والعاميّ الذي ترك التقليد عمدا من هذا القبيل.

ولكن لا يخفى ما فيه ، أوّلا : لعدم اندراج المقام في الكبرى المذكورة حيث إنّ المكلّف لا يعلم بكيفيّة أعماله السابقة الصادرة في ذلك الزمان ويحتمل انطباق تلك

٣٧١

كانت عن تقليد صحيح أم لا ، بنى على الصحّة [١].

______________________________________________________

الأعمال على طبق فتوى المجتهد الذي يجب عليه الرجوع إليه فعلا.

نعم إذا علم أنّ ما أتى به سابقا كان مخالفا لفتوى من يجب عليه الرجوع إليه فعلا وتردّد بعد ذلك في مقداره بين الأقلّ والأكثر فيمكن أن يقال : مقتضى ما تقدم هو الاحتياط.

وثانيا : أنّ التكليف في دوران الواجب الاستقلاليّ بين الأقل والأكثر هو تنجّز الأقلّ والرجوع إلى البراءة في الأكثر من غير فرق بين الموارد ؛ لأنّ تنجّز التكليف وإن كان بالعلم إلّا أنّ بقاء تنجّزه إنّما هو ببقاء ذلك العلم على ما قرّر في بحث اعتبار العلم والاعتقاد.

إجراء أصالة الصحة في تقليده السابق

[١] الشكّ في صحّة تقليده السابق من حيث الصحّة وعدمها يكون في فروض :

الأوّل : أن يشكّ في أنّ من قلّده سابقا ، بأن تعلّم منه الفتوى وعمل بها هل كان واجدا للصفات التي تعتبر في ناحية من يرجع إليه العاميّ ليكون العمل بفتاواه مجزيا فيما إذا كان فتوى من يرجع إليه فعلا مخالفا لفتوى ذلك المجتهد الذي كان يقلّده؟

الثاني : أن يشكّ في الطريق الذي اعتمد عليه في التقليد في السابق هل كان من الطرق المعتبرة في تشخيص المجتهد الواجد للشرائط أو كان اعتماده في تقليده السابق بغير تلك الطرق؟

الثالث : أن يشكّ في كلا الأمرين من كونه واجدا للصفات المعتبرة في أخذ الفتوى منه وكون أخذه منه الفتاوى للاعتماد على الطرق المعتبرة في تشخيص من يرجع إليه والأخذ منه أم لا.

ويكون غرضه من إحراز صحة تقليده منه إحراز الإجزاء في أعماله السابقة

٣٧٢

.................................................................................................

______________________________________________________

التي وقعت على طبق فتاوى ذلك المجتهد ، واخرى يكون غرضه إحراز صحة البقاء على تقليده كما إذا مات ذلك المجتهد وكان من يرجع إليه فعلا في تعلّم الفتوى شخص آخر أو عدم جواز رجوعه إلى حيّ آخر إذا كان الحيّ الآخر الفعليّ واجدا لما يعتبر في التقليد عنه.

فإن كان غرضه إحراز الإجزاء في أعماله السابقة الصادرة عنه على طبق فتاوى المجتهد السابق وقلنا بالإجزاء في تلك الأعمال فيترتّب عليها الإجزاء في صورتين :

الاولى : أن يكون تقليده سابقا عنه للاعتماد في تقليده على الطرق المعتبرة في تشخيص من يجوز أو يجب تقليده من زمان تقليده.

والثانية : إحرازه فعلا بتلك الطرق أنّه كان في زمان الأخذ منه والعمل واجدا لتمام شرائط التقليد وإن كان في السابق معتمدا على غير تلك الطرق ، وحيث إنّ إحرازه فعلا كون ذلك المجتهد الذي أخذ في السابق منه الفتوى كان كذلك يكفي في إحراز الإجزاء ، بل وفي جواز البقاء إذا مات على تلك الفتاوى التي تعلّمها ، وعدم جواز العدول مع عدم موته إلى الحيّ الفعلي ولو كان مساويا معه في الفضيلة ، لا يكون في البين موضوع لأصالة الصحة في تقليده السابق ، كما لا يكون موضوع لأصالة الصحة فيما إذا لم يحرز أنّه كان على الأوصاف المعتبرة وعلم أنّه كان عند تقليده سابقا غير معتمد على الطرق المعتبرة في تشخيص الأعلم واجدا للأوصاف ؛ لأنّه مع إحراز الغفلة في تقليده السابق أو احتمال تعمّده فيه الخلل لا مجرى لأصالة الصحة على ما تقرّر في محلّه.

نعم يبقى ما إذا احتمل صحة تقليده عنه سابقا بالاعتماد على الطرق المعتبرة في تشخيصه وجدانه الصفات وإن كان لا يتذكر بذلك فعلا ، فإنّه تجري في تقليده

٣٧٣

(مسألة ٤٢) إذا قلّد مجتهدا ثمّ شكّ في أنّه جامع للشرائط أم لا وجب عليه الفحص [١].

______________________________________________________

أصالة الصحة ويبقى على تقليده في تلك المسائل التي تعلّمها إذا لم يثبت الحيّ الآخر أو الحيّ الفعليّ أعلم منه وأفضل.

وعلى الجملة فصحة التقليد السابق تحرز إمّا بأن يعتمد العاميّ على الطرق المعتبرة في تشخيص من رجع إليه في تعلّم الفتوى زمان التقليد والعمل أو بعد ذلك ، وأمّا مع عدم اعتماده عليها كذلك فمجرّد احتمال كونه واجدا لتمام الصفات لا يجدي في صحّته إذا لم يحرز بعد ذلك أيضا كونه واجدا لها. هذا كلّه بناء على الإجزاء وعدم لزوم الاحتياط في موارد الاختلاف.

[١] إذا كان الشكّ في كونه جامعا للشرائط بقاء ؛ لاحتمال زوالها بعد أن كان جامعا لها فلا ينبغي التأمّل في جواز البناء على بقائه على تلك الشرائط ، فإنّ ذلك مقتضى الاستصحاب الجاري في الموضوعات عند الشكّ في بقائها وقد تقدّم ذلك ، وأمّا إذا أحرز زوالها أو بعضها واحتمل بقاء فتواه السابق الذي تعلّم منه حال استجماعه الشرائط فقد تعرّضنا لذلك في مسألة جواز البقاء على تقليد الميّت ، وذكرنا أنّه يمكن اعتبار فتوى من كان مستجمعا للشرائط حتى بعد زوالها فيما إذا صدرت الفتوى أو كان تعلّمه منه قبل زوالها ، كما هو الحال في اعتبار الخبر عن المعصوم عليه‌السلام بالأحكام الشرعيّة أو الخبر والشهادة على الموضوعات قبل زوال وصف العدالة والثقة عن الراوي ، فإنّ زوال الوصف عن الراوي والشاهد فيما بعد لا يوجب سقوط خبره أو شهادته عن الاعتبار ، بل يمكن التشبّث في إثبات ذلك في الفتوى أيضا بعد زوال بعض الأوصاف عن المفتي كالحياة ببعض الإطلاق في الأخبار الواردة في الإرجاع إلى بعض الفقهاء من الرواة ، إلّا أنّه قد بيّنا أنّه لا يمكن الالتزام ببقاء

٣٧٤

.................................................................................................

______________________________________________________

فتوى المفتي على الاعتبار بعد زوال بعض الأوصاف عنه مما يكون اتّباع فتواه بعد زواله مهانة في الدين والمذهب.

وإذا اعتقد العاميّ كون مجتهد واجدا لتمام الأوصاف المعتبرة في اعتبار فتواه كالأعلميّة في المسائل الخلافيّة بين العلماء وقلّده فيها ثمّ شكّ في صحة اعتقاده السابق واحتمل خطأه نظير الشكّ الساري فيتعيّن في الفرض الفحص وإحراز صحة اعتقاده ، ومراد الماتن قدس‌سره في حكمه بوجوب الفحص هذا الفرض كما أشرنا إلى ذلك آنفا حيث إنّ قاعدة اليقين لا دليل على اعتبارها.

وقد ذكرنا عند التعرّض للأخبار الواردة في الاستصحاب (١) أنّ دعوى ظهور بعض تلك الأخبار في قاعدة اليقين فيكون دليلا على اعتبارها أيضا ، لا يمكن المساعدة عليها فإنّ قوله عليه‌السلام : «من كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه» (٢) وإن قيل بظهوره في القاعدة حيث إنّ دخول (الفاء) على (شكّ) الدالّة على حصول الشكّ بعد اليقين مع حذف متعلّقهما الظاهر فرض اتحاد متعلّقهما من جميع الجهات لا ينطبق إلّا على قاعدة اليقين ؛ لأنّه لا يعتبر في الاستصحاب حصول الشكّ بعد اليقين ، بل المعتبر فيه سبق المتيقن على المشكوك وإن كان الشكّ حاصلا قبل اليقين ولا يمكن في الاستصحاب اتحاد متعلّقي اليقين والشكّ من جميع الجهات ، بل يكون متعلّق اليقين سابقا وبقاؤه مشكوكا ، بخلاف قاعدة اليقين حيث يكون نفس اليقين سابقا والشكّ لاحقا مع اتحاد متعلّقهما من جميع الجهات.

__________________

(١) دروس في مسائل علم الاصول ٥ : ١٦٩ و ١٧٠.

(٢) وسائل الشيعة ١ : ٢٤٦ ـ ٢٤٧ ، الباب الأول من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ٦.

٣٧٥

(مسألة ٤٣) من ليس أهلا للفتوى يحرم عليه الإفتاء ، وكذا من ليس أهلا للقضاء يحرم عليه القضاء بين الناس ، وحكمه ليس بنافذ [١].

______________________________________________________

والوجه في عدم المساعدة على الدعوى المذكورة أنّ صدر الخبر مع قطع النظر عن ذيله وإن كان كما ذكر إلّا أنّ الذيل وهو : «فليمض على يقينه» ، قرينة على أنّ المراد منه أيضا الاستصحاب حيث إنّ ظاهره المضي على يقينه الموجود حال المضيّ ، وهذا يكون في الاستصحاب ؛ لأنّ اليقين والشكّ في موارد الاستصحاب يجتمعان في زمان الحكم بالبقاء لاختلاف متعلّقهما من حيث الحدوث والبقاء.

وعلى الجملة دخول (كان) على (يقين) بلحاظ المتيقّن حيث إنّ زمانه بالإضافة إلى زمان الشكّ ماض غالبا في موارد الاستصحاب ولا يوجب تقييدا في سائر خطابات الاستصحاب المطلقة من هذه الجهة كقوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين أبدا بالشكّ وإنّما انقضه بيقين آخر» (١).

[١] إن كان عدم أهليّته للإفتاء لفقده ملكة الاجتهاد وعدم معرفة الأحكام في المسائل من مداركها الشرعيّة فلا ينبغي التأمّل في حرمة إفتائه ؛ لأنّه يدخل في الافتراء على الله كما إذا بيّن الحكم الشرعيّ بالاستحسان والقياس والتأويل بذهنه القاصر ، ويدخل في قوله سبحانه : (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ)(٢) حيث إنّه سبحانه عدّ ما نسب إليه بلا إذن وحجّة في الافتراء على الله سبحانه.

وفي صحيحة أبي عبيدة قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : «من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، ولحقه وزر من عمل بفتياه» (٣).

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ : ٢٤٥ ، الباب الأول من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث الأول.

(٢) سورة يونس : الآية ٥٩.

(٣) وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٠ ، الباب ٤ من أبواب صفات القاضي الحديث الأول.

٣٧٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وفي صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إيّاك وخصلتين ففيهما هلك من هلك ، إيّاك أن تفتي الناس برأيك أو تدين بما لا تعلم» (١) وفي معتبرة السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يعذّب الله اللسان بعذاب لا يعذّب به شيئا من الجوارح ، فيقول : ربّ عذّبتني بعذاب لم تعذّب به شيئا ، فيقال له : خرجت منك كلمة فبلغت مشارق الأرض ومغاربها ، فسفك بها الدم الحرام وانتهب بها المال الحرام وانتهك بها الفرج الحرام ، وعزّتي لا عذّبك بعذاب لا أعذّب به شيئا من جوارحك» (٢) إلى غير ذلك.

وأمّا إذا كان عدم أهليّته للفتوى من سائر الجهات مع علمه بالحكم الشرعيّ الكليّ من مدارك الأحكام على ما هو طريق الاستنباط منها ، ففي مثل ذلك مما يكون نظره وفتواه حجّة في حقّ نفسه فلا بأس بإظهار نظره وفتواه في نفسه ، فإنّه من الفتوى بعلم وليس من الإفتاء بالرأي والتأويل والاستحسان إلّا أنّه قد يلتزم بحرمته ؛ لكون إفتائه إغراء للجاهل وإضلالا له لعدم اعتبار فتواه بالإضافة إلى غير نفسه ، وهذا فيما كان السائل أو السامع عنه جاهلا بسائر شرائط العمل بالفتوى ، وكانت الفتوى بحيث تتضمّن دعوة السائل والجاهل إلى العمل بفتواه ، وأمّا إذا أظهر للجاهل شرائط العمل بفتوى المفتي ولم يتضمّن افتاؤه العمل به ، كما إذا قال الحكم الشرعيّ في الواقعة بنظري هذا ، فمجرّد ذلك لا حرمة فيه ؛ لأنّه صدق وفتوى بعلم وليس فيه دعوة إلى العمل به إذا كان المخاطب عالما بشرائط اعتبار الفتوى.

وأمّا إذا لم يكن عالما بها فعليه أن يعلمه شرائط العمل به من غير أن يظهر بأنّه

__________________

(١) المصدر السابق : ٢١ ، الحديث ٣.

(٢) المصدر السابق : الحديث ٤.

٣٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

واجدها وإلّا كان كذبا.

وأمّا القضاء ممن ليس أهلا له فقد يقال بحرمة تصدّي القضاء بين الناس ، ولو كان عالما بموازين القضاء وكان قضاؤه على طبقها ، ولكن كان فاقدا لبعض ما يعتبر في القاضي من الصفات ، ولا يقاس بالإفتاء ممّن يعلم الأحكام من مداركها ولكن كان فاقدا لشرائط التقليد منه ، والفرق في ذلك أنّه يظهر من الروايات حرمة القضاء ممّن يكون فاقدا للوصف المعتبر في القضاء وأنّه لا يجوز القضاء إلّا ممّن ثبت الإذن له فيه ، وفي صحيحة سليمان بن خالد عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «اتّقوا الحكومة فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء العادل بين المسلمين لنبيّ أو وصيّ نبيّ» (١) فإنّ مقتضاه أنّه لا يجوز التصدّي للقضاء بين الناس لغير النبيّ أو وصيّ النّبيّ ، فيرفع اليد عن مقتضاها فيما إذا ثبت له الإذن من النبيّ أو الوصيّ ولو كان الإذن عامّا على ما نطقت به مقبولة عمر بن حنظلة وغيرها مما يأتي.

وعلى الجملة القضاء في المرتبة الاولى إنّما هو للنبيّ والوصيّ وفي المرتبة الثانية من كان مأذونا في القضاء بين الناس من قبل أحدهما ولو كان بإذن عامّ ، ويبقى غير من لم يثبت في حقّه الإذن تحت المنع المستفاد من الحصر الوارد في الصحيحة. وبتعبير آخر الإفتاء هو بيان الحكم الشرعيّ الكليّ المجعول بنحو القضية الحقيقيّة كقول المجتهد : الخمر نجس ، وعصير الزبيب بعد غليانه أيضا حلال ، وبيع المكيل والموزون بلا كيل ولا وزن باطل ... إلى غير ذلك. وأمّا القضاء أي فصل الخصومة هو تعيين حكم جزئيّ في الواقعة وإنشاؤه ثبوته في الواقعة ، كقوله في المترافعين إليه في

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٧ ، الباب ٣ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣.

٣٧٨

.................................................................................................

______________________________________________________

قضية دعوى الدين : إنّ فلانا مديون لفلان وعليه إفراغ ذمته ... ونحوها ، وهذا لا يجوز التصدّي له إلّا ممّن كان جامعا للشرائط والأوصاف المعتبرة في القاضي.

نعم بيان أنّ مقتضى موازين أن يحسب فلان مديونا لفلان من غير أن ينشأ الحكم ممّن يكون عالما بموازين القضاء ولم يكن واجدا لما يعتبر في القاضي لا يكون من التصدّي للقضاء ولا يحسب قوله قضاء ، وهذا بخلاف التصدّي للقضاء وإنشاء الحكم فإنه لا يجوز ؛ لما تقدّم ، ويؤيّده ما ورد من قول علي عليه‌السلام مخاطبا لشريح : «يا شريح! قد جلست مجلسا لا يجلسه إلّا نبيّ أو وصيّ نبيّ أو شقيّ» (١).

ويدلّ على عدم جواز الترافع إلى غير الواجد للشرائط ما ورد في النهي عن الترافع إلى قضاة الجور ، وفي معتبرة أبي خديجة سالم بن مكرم : «إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور ، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا ، فاجعلوه بينكم فإنّي قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه» (٢) فإنّ ظاهرها أنّ جواز القضاء بين الناس ومشروعيّته يكون بجعلهم ولو كان بجعل وإذن عامّ ، وهذا الجعل ثابت في حقّ من يكون من أهل الإيمان ويعرف جملة من قضاياهم عليهم‌السلام كما في هذه المعتبرة : «من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما فإنّي قد جعلته عليكم حاكما» (٣) كما ورد في مقبولة عمر بن حنظلة الوارد فيها السؤال عمّن ترفع إليه المرافعة عند الحاجة إلى القضاء وفصل

__________________

(١) المصدر السابق : الحديث ٢.

(٢) المصدر السابق : ١٣ ، الباب الأول ، الحديث ٥.

(٣) وسائل الشيعة ١ : ٣٤ ، الباب ٢ من أبواب مقدمة العبادات ، الحديث ١٢.

٣٧٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الخصومة بعد بيان عدم جواز رفعها إلى قضاة الجور.

والحاصل أنّ التصدّي للقضاء بين الناس ممّن لا يكون واجدا للصفات المعتبرة في القاضي والمراجعة إليه في المرافعات أمر محرّم ، ولا يكون قضاؤه نافذا.

نعم مجرّد بيان الحكم الجزئيّ في الواقعة بنحو الإخبار به من العالم به على طبق موازين القضاء من غير أن ينشأ ذلك الحكم بقصد أن يتّبعوه فلا دليل على حرمته ، كما إذا قال : الحكم الشرعيّ في هذه الواقعة على طبق موازين القضاء ينبغي أن يكون كذا.

ثم ينبغي الكلام في المقام في اعتبار الاجتهاد في القاضي في جواز قضائه ونفوذه بأن يكون عالما بالأحكام الشرعيّة من مداركها بطريق متعارف مألوف بين العلماء ، أو كفاية العلم بها ولو من طريق التقليد الصحيح فخصوص العلم بطريق الاجتهاد غير معتبر ، فالمنسوب إلى المشهور اعتباره ، وعن جماعة منهم صاحب الجواهر قدس‌سره (١) كفاية علم القاضي ولو بطريق التقليد الصحيح ، فلا يعتبر في جواز القضاء ونفوذه عنده إلّا علم القاضي بما يقضي بالحجّة المعتبرة عنده ولو أفتى المفتي بأنّه في اختلاف المالك ومن تلف المال عنده من غير تفريط فقال المالك : إنّه كان قرضا ، وقال من تلف المال عنده : إنّه كان وديعة ، إذا لم يكن لمن يدعي الوديعة بيّنة على أنّه كان وديعة ، يحلف المالك على عدم الوديعة أو كونه قرضا ويأخذ بدل التالف ، ووقع الخلاف كذلك بين اثنين وترافعا عند من يعلم ولو بالتقليد يجوز له القضاء بذلك. واستدلّ على ذلك بالآيات والروايات كقوله تعالى : (وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ

__________________

(١) جواهر الكلام ٤٠ : ١٥ فما بعد.

٣٨٠