دروس في مسائل علم الأصول - ج ٦

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8438-62-8
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٤٦

فصل

إذا اضمحلّ الاجتهاد السابق بتبدّل الرأي الأول بالآخر أو بزواله بدونه فلا شبهة في عدم العبرة به في الأعمال اللاحقة ، ولزوم اتباع اجتهاد اللاحق مطلقا أو الاحتياط فيها [١].

______________________________________________________

اضمحلال الاجتهاد السابق

[١] إذا اضمحلّ الاجتهاد السابق بتبدّل نظر المجتهد إلى نظر آخر أو زال نظره الأوّل من غير أن يستقرّ إلى نظر آخر فلا ينبغي التأمّل في أنّه لا عبرة بنظره السابق بالإضافة إلى الأعمال اللاحقة ، بل يتعيّن عليه العمل فيها بنظره اللاحق مطلقا أي بلا فرق بين أن يكون اجتهاده الأوّل والثاني من الجزم بالواقع أم لا ، كما أنّ عليه الاحتياط في الأعمال اللاحقة فيما زال نظره السابق من غير استقرار نظره إلى شيء ، فإنّ الاجتهاد الأوّل إن كان جزما منه بالواقع فقد فرض زواله ، وإن كان بحسبانه أنّ نظره السابق كان مدلول دليل معتبر ، وقد فرض ظهور أنّه ليس بمدلول دليل معتبر بالظفر بالمقيّد أو المخصّص أو القرينة على خلاف مدلوله أو بالظفر بالمعارض أو ظهور ضعف سنده ، وإن كان بالاعتماد على الأصل الشرعيّ فقد تبيّن أنّ المورد ليس من موارد ذلك الأصل ، ويلزم عليه العمل بنظره اللاحق إذا فرض تبدّله إليه ، ولزوم الاحتياط مع زوال نظره السابق وعدم استقراره إلى نظر آخر حيث إنّه مع التبدّل يكون نظره اللاحق مستندا إلى الحجة المعتبرة ، ومع زواله وعدمه تكون الشبهة بالإضافة إليه قبل الفحص ، فيلزم عليه الاحتياط إلى أن يصل إلى حجّة شرعيّة على التكليف أو عدمه ، أو أن يصل إلى الاعتماد على الأصل العمليّ سواء كان مثبتا للتكليف أو نافيا له.

وإنّما الكلام في المقام في بقاء اعتبار الاجتهاد الأوّل بالإضافة إلى الأعمال

٢٦١

وأما الأعمال السابقة الواقعة على وفقه المختل فيها ما اعتبر في صحتها بحسب هذا الاجتهاد ، فلا بد من معاملة البطلان معها فيما لم ينهض دليل على صحة العمل فيما إذا اختل فيه لعذر ، كما نهض في الصلاة وغيرها ، مثل : لا تعاد ، وحديث الرفع ، بل الإجماع على الإجزاء في العبادات على ما ادعي.

______________________________________________________

السابقة فلا يكون عليه التدارك ولا لمقلّديه ، أو يلزم تداركها على طبق الاجتهاد الثاني من إعادتها أو قضائها أو بغير ذلك من التدارك كتجديد المعاملة السابقة ، ويكون التدارك بعنوان الاحتياط المشار إليه على تقدير زوال الاجتهاد السابق وعدم استقرار نظره إلى أمر معيّن.

فقد ذكر الماتن قدس‌سره أنّ مقتضى القاعدة لزوم تدارك الأعمال السابقة على طبق الاجتهاد اللاحق إلّا في موارد قيام الدليل على الإجزاء والصحة مع الخلل المحرز بالاجتهاد الثاني ، كحديث : «لا تعاد» (١) في باب الصلاة وحديث الرفع (٢) في الصلاة وغيرها ، وكالإجماع على ما ادّعى في العبادات صلاة كانت أو غيرها ، وعلّل قدس‌سره كون عدم الإجزاء مقتضى القاعدة بأنّه إن كان الاجتهاد الأوّل من الجزم بالحكم فقد اضمحلّ ولم يكن في مورد الاجتهاد الأوّل إلّا التكليف والحكم الواقعيّ ، فشأن ذلك الجزم هو المعذوريّة في المخالفة ، لا صحة العمل الذي كان مع الخلل بحسب الاجتهاد اللاحق سواء كان العمل من قبيل المعاملة أو غيرها ، والمراد بالمعاملة العقود والإيقاعات.

وإن كان الاجتهاد السابق بحسبان طريق معتبر فيه ، ثمّ ظهر الخلاف وأنّه لم يكن في البين طريق معتبر ، كما في موارد الظفر بالمعارض أو القرينة على خلاف مدلوله

__________________

(١) وسائل الشيعة ٥ : ٤٧١ ، الباب الأول من أبواب أفعال الصلاة ، الحديث ١٤.

(٢) وسائل الشيعة ١ : ٣٧١ ـ ٣٧٢ ، الباب ٣ من أبواب الوضوء ، الحديث ٨.

٢٦٢

وذلك فيما كان بحسب الاجتهاد الأول قد حصل القطع بالحكم وقد اضمحلّ واضح ، بداهة أنه لا حكم معه شرعا ، غايته المعذورية في المخالفة عقلا ، وكذلك فيما كان هناك طريق معتبر شرعا عليه بحسبه ، وقد ظهر خلافه بالظفر بالمقيد أو المخصص أو قرينة المجاز أو المعارض ، بناء على ما هو التحقيق من اعتبار

______________________________________________________

أو لخلل في السند وغير ذلك ، بلا فرق بين القول بأنّ معنى اعتبار الأمارة جعل المنجزيّة والمعذريّة لها أو جعل مؤدّاها حكما طريقيّا ظاهريّا ، فإنّ الغرض من جعل الحكم الطريقيّ تنجيز الواقع عند إصابته والعذر في المخالفة عند الخطأ ، من غير أن يوجب انقلابا في الحكم الواقعيّ في الواقعة بحيث يصحّ العمل معه ، بلا فرق بين الاجتهاد في متعلّقات التكاليف والأحكام أو في نفس التكاليف والأحكام ، والمراد من متعلّقات التكاليف العبادات ، ومن متعلّقات الأحكام العقود والإيقاعات أو غيرهما مما اعتبر في ناحية موضوع الحكم قيدا كالتذكية في الحيوان.

وقد فصّل صاحب «الفصول» قدس‌سره بين المتعلّقات ونفس التكاليف والأحكام بأنّ المتعلّقات لا تتحمّل اجتهادين ، بخلاف نفس التكاليف والأحكام فيكون ـ في موارد تبدّل الرأي ـ الحكم هو الإجزاء بالإضافة إلى الأعمال السابقة بخلاف التبدّل وزوال الرأي السابق في نفس الأحكام حيث يحكم بعدم الإجزاء ، ويأتي التعرّض لعدم تمام هذا الفرق ، وقد ذكر الماتن قدس‌سره في ذيل كلامه أمرين :

أحدهما : أنّ الخلاف في موارد تبدّل الرأي أو زوال الرأي السابق في الإجزاء إنّما هو على مسلك الطريقيّة في الأمارات ، وأمّا بناء على مسلك الموضوعيّة والسببيّة في اعتبارها فلا مجال لاحتمال عدم الإجزاء ، فإنّه على ذلك المسلك لا يكون في الواقعة حكم غير مؤدّى الاجتهاد السابق ، وبالإضافة إلى الوقائع المستقبلة الحكم الواقعيّ فيها ما يكون على طبق الرأي اللاحق ، نظير تبدّل المكلّف

٢٦٣

الأمارات من باب الطريقية ، قيل بأن قضية اعتبارها إنشاء أحكام طريقية ، أم لا على ما مرّ منّا غير مرة ، من غير فرق بين تعلقه بالأحكام أو بمتعلقاتها ، ضرورة أن كيفية اعتبارها فيهما على نهج واحد ، ولم يعلم وجه للتفصيل بينهما ، كما في الفصول ، وأن المتعلقات لا تتحمل اجتهادين بخلاف الأحكام ، إلّا حسبان أن الأحكام قابلة للتغيّر والتبدل ، بخلاف المتعلقات والموضوعات ، وأنت خبير بأن الواقع واحد

______________________________________________________

من موضوع حكم إلى موضوع حكم آخر ، فإنّ الاختلاف فيها لتبدّل الموضوع نظير اختلاف موضوع وجوب القصر ووجوب التمام.

والآخر : أنّه إذا كان مستند الرأي في السابق التمسّك بالاصول العمليّة الشرعيّة كالاستصحاب وأصالة البراءة يحكم بالإجزاء مع إحراز متعلّق التكليف بالاستصحاب أو بأصالة الحليّة أو الطهارة ، واعتمد في الحكم بالإجزاء على ما ذكر في بحث الإجزاء من أنّ جريان الاستصحاب في شيء يكون قيدا لمتعلّق التكليف يثبت أنّ المعتبر فيه أعمّ من وجود ذلك الشيء واقعا أو تعبّدا ، كما هو مقتضى الاستصحاب وقاعدة الحليّة أو الطهارة ، أو يثبت أنّ متعلّق التكليف مطلق بالإضافة إلى وجود الشيء الفلانيّ وعدمه ، كما هو مقتضى أصالة البراءة الجارية عند السهو عن الجزء أو الشرط ونسيانهما ، بل حتّى في صورة الجهل على وجه ذكره في بحث الشكّ في جزئيّة الشيء أو شرطيّته في بحث الأقلّ والأكثر.

أقول : إذا قام دليل على إجزاء عمل في مورد ـ كحديث «لا تعاد» في موارد الخلل في الصلاة ـ يكون مدلوله عدم الجزئيّة أو الشرطيّة أو المانعيّة في صورة الجهل بالموضوع ، وأمّا مع العلم بالموضوع والجهل بالجزئيّة والقيديّة يكون مفاده جعل البدل في مقام الامتثال ، كما أوضحنا ذلك عند التكلّم في مفاد الحديث ، وأيضا يحكم بالإجزاء في موارد اعتبار العلم بالشيء في اعتباره قيدا لمتعلّق

٢٦٤

فيهما ، وقد عيّن أولا بما ظهر خطأه ثانيا ، ولزوم العسر والحرج والهرج والمرج المخلّ بالنظام والموجب للمخاصمة بين الأنام ، لو قيل بعدم صحة العقود والإيقاعات والعبادات الواقعة على طبق الاجتهاد الأول الفاسدة بحسب الاجتهاد الثاني ، ووجوب العمل على طبق الثاني ، من عدم ترتيب الأثر على المعاملة وإعادة العبادة ، لا يكون إلّا أحيانا ، وأدلة نفي العسر لا ينفي إلّا خصوص ما لزم

______________________________________________________

التكليف ، كما في مانعيّة نجاسة الثوب أو البدن في الصلاة حيث إنّ المانعيّة لم تثبت لواقع إصابة القذارة لهما ، بل على إحراز اصابتها ، وفي غير هذين الموردين لا يكون الإجزاء بالإضافة إلى الأعمال السابقة ، ولكن مع ذلك يظهر الحكم بالإجزاء في موارد تبدّل الرأي في العبادات ، وكذا في العقود والإيقاعات من جملة من الأعلام ، ويستفاد ذلك مما ذكره أيضا في العروة في المسألة الثالثة والخمسين من مسائل الاجتهاد والتقليد ، والمفروض في تلك المسألة وإن كان تقليد العاميّ ـ بعد موت مجتهده ـ مجتهدا آخر يخالف رأيه رأي المجتهد الذي قلّده أوّلا ، إلّا أنّ ما ذكره فيه ليس لدليل يختصّ ذلك الفرض بل يجري في فرض تبدّل الرأي على ما يأتي بيانه.

قال قدس‌سره في تلك المسألة : إذا قلّد من يكتفي بالمرّة مثلا في التسبيحات الأربع واكتفى بها أو قلّد من يكتفي في التيمّم بضربة واحدة ، ثمّ مات ذلك المجتهد ، فقلّد من يقول بوجوب التعدّد لا يجب عليه إعادة الأعمال السابقة ، وكذا لو أوقع عقدا أو إيقاعا بتقليد مجتهد يحكم بالصحة ، ثمّ مات وقلّد من يقول بالبطلان يجوز له البناء على الصحة ، نعم فيما سيأتي يجب عليه العمل بمقتضى فتوى المجتهد الثاني ، وأمّا إذا قلّد من يقول بطهارة شيء كالغسالة ، ثمّ مات وقلّد من يقول بنجاسته فالصلوات والأعمال السابقة محكومة بالصحة وإن كانت مع استعمال ذلك الشيء ، وأمّا نفس ذلك الشيء إذا كان باقيا فلا يحكم بعد ذلك بطهارته ، وكذا الحال في الحلّية

٢٦٥

منه العسر فعلا ، مع عدم اختصاص ذلك بالمتعلقات ، ولزوم العسر في الأحكام كذلك أيضا لو قيل بلزوم ترتيب الأثر على طبق الاجتهاد الثاني في الأعمال السابقة ، وباب الهرج والمرج ينسد بالحكومة وفصل الخصومة.

______________________________________________________

والحرمة ، فإذا أفتى المجتهد الأوّل بجواز الذبح بغير الحديد مثلا ، فذبح حيوانا كذلك فمات المجتهد وقلّد من يقول بحرمته ، فإن باعه أو أكله حكم بصحّة البيع وإباحة الأكل ، وأمّا إذا كان الحيوان المذبوح موجودا فلا يجوز بيعه ولا أكله وهكذا.

وظاهر كلامه قدس‌سره أنّه يحكم بالإجزاء في موارد العبادات والعمل بمقتضى الاجتهاد الأوّل بالإضافة إلى الأعمال السابقة ، وإنّما اللازم مراعاة فتوى الآخر بالإضافة إلى الأعمال الآتية ، وكذا الحال بالإضافة إلى المعاملات أي العقود والإيقاعات ، وأمّا في غير العبادات وغير العقود والإيقاعات فلا بدّ من رعاية فتوى الآخر حتى بالإضافة إلى السابق كما في الحكم بطهارة الغسالة وجواز الذبح بغير الحديد ، فإنّه لو بقي الحيوان المذبوح أو تلك الغسالة يحرم أكله ولا يجوز بيعه ويحكم بنجاسة الغسالة.

أقول : يستدلّ على الإجزاء في الاجتهاد الأوّل بالإضافة إلى الأعمال السابقة بوجوه :

الوجه الأول : أنّ الاجتهاد اللاحق لا يكشف عن بطلان الأعمال السابقة بكشف وجدانيّ بل المحتمل حتى بعد الاجتهاد الثاني أن تكون الوقائع في علم الله على طبق الاجتهاد الأوّل ، وعلى ذلك يمكن دعوى عدم سقوط الاجتهاد الأوّل عن الاعتبار بالإضافة إلى الأعمال الماضيّة ، وإنّما المحرز عدم ترتيب أثر عليه بالإضافة إلى الأعمال المستقبلة حيث زال أو تبدّل بالاجتهاد الثاني ، والمعلوم من اعتبار الاجتهاد الثاني هو هذا المقدار.

٢٦٦

وبالجملة لا يكون التفاوت بين الأحكام ومتعلقاتها ، بتحمل الاجتهادين وعدم التحمل بينا ولا مبينا ، بما يرجع إلى محصل في كلامه ـ زيد في علو مقامه ـ فراجع وتأمل.

______________________________________________________

والجواب عن ذلك بأنّ الاجتهاد الأوّل بعد زواله لا يكون ، ليكون حجّة بالإضافة إلى الأعمال السابقة ، بخلاف الاجتهاد الثاني فإنّه تعلّق بالحكم حتّى بالإضافة إلى تلك الأعمال وحكم وقائعها ، فاللازم أن يستند في عدم تدارك الأعمال السابقة إلى حجّة ، وبما أنّ الاجتهاد الثاني تعلّق بحكم الواقعة من الأوّل فاللازم اتّباع ذلك.

وبتعبير آخر الاجتهاد السابق لا يزيد على العلم الوجدانيّ والاعتقاد الجزميّ بالموافقة في تلك الوقائع ، وكما أنّه إذا زال الاعتقاد السابق وتبدّل إلى العلم بالخلاف أو بالشكّ الساريّ فاللازم اتّباع الطريق الفعليّ ، أو ملاحظة القواعد عند تبدّله إلى الشكّ الساريّ ، هذا بالإضافة إلى نفس رأي المجتهد ونظره السابق ، وأمّا بالإضافة إلى مستنده فقد ظهر بالاجتهاد الثاني أو بزواله أنّه لم يكن موضوع الاعتبار ، بل كان مجرّد الاعتقاد والغفلة في تشخيص موضوع الاعتبار عند الاجتهاد واستنباط حكم الواقعة ، غايته أنّها عذر ما لم ينكشف الحال.

الوجه الثاني : ما يذكر في المقام ونحوه من أنّ تدارك الأعمال السابقة في العبادات والمعاملات من العقود والإيقاعات يوجب العسر والحرج نوعا ، بحيث لو لم يخلّ تداركها بنظام معاش العباد يقع الناس في العسر والحرج نوعا ، كما إذا تبدّل الرأي الأوّل أو زال بعد زمان طويل من العمل به ، بل تدارك المعاملات ربّما يوجب الاختلاف بين الناس ، ولزم الفحص عن مالك الأموال التي اكتسبها الناس بالمعاملات التي ظهر فسادها على طبق الاجتهاد الثاني أو التقليد الثاني ، أو المعاملة معها معاملة الأموال المجهول مالكها ، إلى غير ذلك من المحذور ممّا يقطع بعدم إلزام الشارع بمثل

٢٦٧

وأما بناء على اعتبارها من باب السببية والموضوعية ، فلا محيص عن القول بصحة العمل على طبق الاجتهاد الأول ، عبادة كان أو معاملة ، وكون مؤداه ـ ما لم يضمحل ـ حكما حقيقة ، وكذلك الحال إذا كان بحسب الاجتهاد الأول مجرى الاستصحاب أو البراءة النقلية ، وقد ظفر في الاجتهاد الثاني بدليل على الخلاف ، فإنه عمل بما هو وظيفته على تلك الحال ، وقد مر في مبحث الإجزاء تحقيق المقال ، فراجع هناك.

______________________________________________________

هذه التداركات التي كانت الأعمال حين وقوعها على طبق الحجّة المعتبرة في ذلك الزمان.

نعم لو بقي موضوع الحكم السابق كالحيوان المذبوح بغير الحديد مع إمكان ذبحه به يعمل في مثله على ما تقدّم في كلام صاحب العروة.

وقد أجاب عن ذلك الماتن قدس‌سره وغيره بأنّ أدلّة نفي العسر والحرج ناظرة إلى نفي العسر أو الحرج الشخصيّ ، فيلتزم بالنفي في موارد لزومهما ، ومسألة الاختلاف بين الناس في موارد المعاملات ترتفع بالمرافعات.

أقول : لا يخفى أنّ وجه الاستدلال ناظر إلى دعوى العلم والاطمينان بأنّ الشارع لم يلزم الناس بتدارك الأعمال السابقة ، فإنّ لزومه ينافي كون الشريعة سهلة وسمحة ، كما أنّه يوجب فرار الناس عن الالتزام بالشريعة ، نظير ما ادّعى من العلم والاطمينان بعدم لزوم الاحتياط على العاميّ في الوقائع التي يختلف المجتهدان أو أكثر في حكمها فيما إذا احتمل العاميّ أن الحكم الواقعيّ خارج عن اجتهادهما.

الوجه الثالث : دعوى سيرة المتشرعة على عدم لزوم تدارك الأعمال الماضيّة الواقعة في وقتها على طبق الحجّة المعتبرة من العبادات والمعاملات من العقود والإيقاعات ، نعم لم يثبت اعتبار الفتوى السابق في موارد بقاء موضوع الحكم

٢٦٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الوضعيّ السابق أو موضوع الحكم التكليفيّ ، كما في مثل مسألتي الذبح بغير الحديد وبقاء ذلك الحيوان المذبوح كذلك بعضا أو كلّا ، وبقاء الشيء المتنجّس الذي كان على اجتهاده السابق أو تقليده طاهرا ، ومن المقطوع عدم حدوث هذه السيرة جديدا من فتوى العلماء بالإجزاء ، بل كانت سابقة ومدركا لهذا الفتوى ، كما يظهر ذلك من الروايات التي ذكر الإمام عليه‌السلام الحكم فيها تقيّة ، حيث لم يرد في شيء من الروايات تعرّضهم عليهم‌السلام للزوم تدارك الأعمال التي روعيت فيها التقيّة حين الإتيان بها.

وعلى الجملة لا امتناع في إمضاء الشارع المعاملات التي صدرت عن المكلّف سابقا على طبق الحجّة عنده ، ثمّ ينكشف فسادها واقعا ووجدانا فضلا عما لم ينكشف إلّا تعبّدا ، كما يشهد لذلك الحكم بصحة النكاح والطلاق من كافرين أسلما بعد ذلك ، وانكشف لهما بطلان عقد النكاح ، أو الطلاق الحاصل قبل إسلامهما ، وكذا في مسألة التوارث قبل إسلامهما ، وكما في مسألة الرجوع عن الإقرار الأوّل بالإقرار الثاني على خلاف الأوّل.

نعم فيما إذا انكشف بطلان العمل السابق وجدانا لم يحرز جريان السيرة على الإجزاء ، بل المحرز جريانها في موارد الانكشاف بطريق معتبر غير وجدانيّ ، كما وقع ذلك في نفوذ القضاء السابق حيث لا ينتقض ذلك القضاء حتّى فيما إذا عدل القاضي عن فتواه السابق ، ولا ينافي الإجزاء كذلك في مثل هذه الموارد مع مسلك التخطئة ، وربّما يشير إلى الإجزاء التعبير بنسخ الحديث فيما إذا قام خبر معتبر عن إمام عليه‌السلام على خلاف الخبر السابق ، كما في موثّقة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قلت له : ما بال أقوام يروون عن فلان وفلان عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يتّهمون بالكذب فيجيء

٢٦٩

.................................................................................................

______________________________________________________

منكم خلافه؟ قال : إنّ الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن» (١) فإنّ نسخ القرآن يكون بالتخصيص والتقييد والحمل على خلاف ظاهره بالقرينة كما هو مقتضى الجمع العرفيّ في موارده ، والتعبير يشير إلى الإجزاء في موارده حتّى فيما إذا كان بين الحديثين صدر أحدهما أوّلا ثمّ جاء بعد العمل به خلافه حتّى في موارد الجمع العرفيّ.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤.

٢٧٠

فصل

في التقليد

وهو أخذ قول الغير ورأيه للعمل به في الفرعيّات أو للالتزام به في الاعتقاديّات تعبّدا [١] بلا مطالبة دليل على رأيه ، ولا يخفى أنّه لا وجه لتفسيره بنفس العمل ضرورة سبقه عليه ، وإلّا كان بلا تقليد ، فافهم.

______________________________________________________

[١] ظاهر كلام الماتن قدس‌سره أنّ التقليد عبارة عن تعلّم قول الغير ورأيه ، ويكون داعيه إلى تعلّمه العمل به في الفرعيّات والالتزام به في الاعتقاديات تعبّدا أي بلا مطالبة دليل على رأيه وقوله ، بمعنى أنّ المتعلّم والآخذ برأي الغير لا يطالب الدليل على رأيه وقوله ، وهذا أحد الأقوال في تفسيره وبيان المراد منه ، وقيل إنّه نفس الالتزام بالعمل بقول الغير ، وعلى ذلك فلو أخذ رسالة مجتهد للعمل بما فيها في الوقائع التي يبتلى بها فقد حصل التقليد وإن لم يعلم بما في الرسالة من أحكام الوقائع فضلا عن العمل بما فيها ، وقيل إنّه نفس العمل بقول الغير ، بمعنى أنّ العمل إذا استند إلى قول الغير ورأيه تحقّق التقليد.

ولا يخفى أنّ ما يأتي بأنّه يجب على المكلّف في الوقائع التي يبتلى بها أن يكون مجتهدا أو مقلّدا أو محتاطا لا ينظر إلى ما ذكر من أنّ التقليد هو الالتزام بالعمل بقول الغير ، ولا لمجرّد تعلّمه لغاية العمل به ، فإنّ الوجوب المذكور من حكم العقل على ما يأتي ، والذي يحكم به العقل مراعاة الأحكام والتكاليف الشرعيّة في الوقائع بالموافقة والطاعة إمّا بالوجدان ويحصل ذلك بالاحتياط ، أو بالاعتبار والاعتماد على حجّة فعليّة وهي ما استنبطه من مدارك الأحكام والتكاليف بطريق مألوف كما في المجتهد ، أو قول المجتهد وفتواه على تقدير تمام الدليل على جواز الاعتماد على فتوى الفقيه من العاميّ في مقام العمل.

وعلى الجملة حكم العقل في مقام الطاعة هو لزوم تحصيل المؤمّن للمكلّف

٢٧١

ثم إنه لا يذهب عليك أن جواز التقليد ورجوع الجاهل إلى العالم في الجملة ، يكون بديهيا جبلّيا فطريا لا يحتاج إلى دليل ، وإلّا لزم سدّ باب العلم به على العامي مطلقا غالبا ، لعجزه عن معرفة ما دلّ عليه كتابا وسنّة ، ولا يجوز التقليد فيه أيضا ، وإلّا لدار أو تسلسل ، بل هذه هي العمدة في أدلته ، وأغلب ما عداه قابل للمناقشة ،

______________________________________________________

في الوقائع التي يبتلى بها ، ولا يلزم في حكمه بلزوم تحصيله أن يكون سبق التعلّم على العمل ، وأن يكون عمله بدونه قبله من العمل بلا تقليد ، حيث إنّه إذا عمل العاميّ في واقعة عملا برجاء أنّه عمل بالواقع والوظيفة ، ثمّ ظهر له بعد العمل أنّه على طبق فتوى المجتهد الذي يجب الرجوع إليه كفى ذلك في حكم العقل المتقدّم ، وعدم سبق التقليد على العمل لا يضرّ في الفرض ، فاستشهاد الماتن قدس‌سره بأنّ التقليد عبارة عن تعلّم الوظيفة للعمل لا نفس العمل بقول الغير وإلّا كان العمل الأوّل بلا تقليد كما ترى ، هذا كلّه بالإضافة إلى حكم العقل.

وأمّا الأدلّة والخطابات الشرعيّة فقد ذكرنا سابقا أنّ وجوب تعلّم الأحكام والتكاليف بالإضافة إلى الوقائع التي يبتلى بها المكلّف أو يحتمل ابتلاءه بها طريقيّ ، بمعنى أنّ الغرض من إيجاب التعلّم إسقاط الجهل بالتكليف عن العذريّة في صورة إمكان تعلّمه ، فهذه الأدلّة منضمّا إلى الروايات الواردة في إرجاعهم عليهم‌السلام الناس إلى رواة الاحاديث وفقهاء أصحابهم كافية في الجزم في أنّ لزوم تعلّم الأحكام في الوقائع التي يبتلي بها المكلف أو يحتمل ابتلاءه يعمّ التعلّم من فقهاء رواة الأحاديث ، فلا يكون الجهل مع إمكان التعلّم من الفقيه عذرا في مخالفة التكليف وترك الوظيفة.

ومما ذكرنا يظهر أنّ ما ذكره في العروة ـ من بطلان عمل العاميّ التارك للاحتياط والتقليد ـ بمعنى عدم الإجزاء به عقلا ، وأنّه لو كان مع تركهما مخالفة التكليف

٢٧٢

لبعد تحصيل الإجماع في مثل هذه المسألة ، مما يمكن أن يكون القول فيه لأجل كونه من الأمور الفطرية الارتكازية ، والمنقول منه غير حجة في مثلها ، ولو قيل بحجيتها في غيرها ، لوهنه بذلك.

ومنه قد انقدح إمكان القدح في دعوى كونه من ضروريات الدين ، لاحتمال

______________________________________________________

الواقعيّ لاستحقّ العقاب على تلك المخالفة ، بخلاف ما إذا لم يكن تركهما موجبا لذلك ، كما إذا عمل حين العمل برجاء أنّه الواقع ، ثمّ علم بعده أنّه مطابق لفتوى من يجب عليه التعلّم منه ، فإنّ الأمن وعدم استحقاق العقاب الحاصل بهذا الإحراز كاف في نظر العقل ، وليس وجوب التعلّم قبل العمل كسائر التكاليف النفسيّة على ما تقدّم.

وأمّا ما ذكره جمع من العلماء من اعتبار العمل بفتوى المجتهد حال حياته في جواز البقاء على تقليده بعد موته ، وما ذكروه من عدم جواز العدول عن الحيّ إلى حيّ آخر مع العمل بفتوى الأوّل وجوازه بدونه لا يقتضى كون التقليد هو نفس العمل ، فإنّ المتّبع في جواز الأول وعدم الجواز في الثاني ملاحظة الدليل فيهما ليؤخذ بمقتضاه ؛ ولذا اعتبر في الجواز وعدمه العمل فيهما من يرى التقليد هو الالتزام بالعمل أو التعلّم للعمل.

يقع الكلام في جواز التقليد في طريق إحراز العاميّ جوازه بنظره ، ليمكن له التقليد ، وفي جوازه للعاميّ بنظر المجتهد ، وقد ذكر الماتن قدس‌سره أنّ جوازه في الجملة أي الفرعيّات ـ مع ملاحظة الأوصاف المعتبرة في المجتهد أو المحتملة اعتبارها ـ من الأوّليات التي تكون فطريّة لكلّ إنسان يعلم بثبوت الأحكام والوظائف الشرعيّة في الوقائع التي يبتلى بها أو يحتمل الابتلاء بها ، ولأجل كون هذا فطريّا جبليّا يجده كلّ عاميّ من نفسه ، ولا يحتاج فيه إلى دليل يوجب علمه بجوازه ، ولو كان علم العاميّ بجوازه موقوفا على الدليل على إحرازه جوازه لانسدّ باب العلم بجوازه عليه

٢٧٣

أن يكون من ضروريات العقل وفطرياته لا من ضرورياته ، وكذا القدح في دعوى سيرة المتدينين.

وأمّا الآيات ، فلعدم دلالة آية النفر (١) والسؤال (٢) على جوازه ، لقوة احتمال أن يكون الإرجاع لتحصيل العلم لا للأخذ تعبدا ، مع أن المسئول في آية السؤال هم أهل الكتاب كما هو ظاهرها ، أو أهل بيت العصمة الأطهار كما فسر به في الأخبار (٣).

______________________________________________________

مطلقا أي ولو كان له حظّ من العلم ما لم يكن له ملكة الاجتهاد ، فإنّ استناد العاميّ في جوازه إلى التقليد يستلزم الدور أو التسلسل ، فإنّ تقليده في مسألة جواز التقليد يتوقّف أيضا على إحرازه جواز التقليد فيها.

وأمّا جواز رجوع العاميّ إلى المجتهد بنظر المجتهد فقد ذكر الماتن قدس‌سره أنّ العمدة في جوازه بنظر الفقيه هو الحكم الفطريّ أيضا ؛ لأنّ ما عداه من الوجوه القائمة عند المجتهد التي ذكروها غير تامّة ، كالاستدلال على جوازه بالإجماع ، فإنّ الإجماع مدركيّ لاحتمال أن يكون المدرك لاتفاقهم هو كون الرجوع أمرا فطريّا ارتكازيّا ، وهذا حال الإجماع المحصّل ، فكيف بالمنقول؟ وإن قيل باعتبار المنقول في غير مثل المقام ، وممّا ذكر يظهر الحال في دعوى كون جواز التقليد على العاميّ من ضروريات الدين ؛ لأنّ احتمال كونه من ضروريّات العقل وفطريّاته أولى من تلك الدعوى ، وأيضا يظهر الحال في دعوى سيرة المتديّنين ، فإنّ سيرتهم ليست ناشئة من مستند شرعيّ غير ما ذكر من كون الجواز أمرا فطريّا ، وما استند في جوازه من بعض الآيات من الكتاب المجيد غير تامّ ، فإنّ آية النفر لا دلالة لها على جوازه وأخذ قول

__________________

(١) التوبة : ١٢٣.

(٢) النحل : ٤٣.

(٣) الكافي ١ : ١٦٣ ، الباب ٢٠.

٢٧٤

نعم لا بأس بدلالة الأخبار عليه بالمطابقة أو الملازمة ، حيث دلّ بعضها (١) على وجوب اتباع قول العلماء ، وبعضها على أن للعوام تقليد العلماء ، وبعضها على جواز الإفتاء مفهوما مثل ما دلّ على المنع عن الفتوى بغير علم ، أو منطوقا مثل ما دلّ على إظهاره عليه‌السلام المحبة لأن يرى في أصحابه من يفتي الناس بالحلال والحرام.

______________________________________________________

النذير والفقيه تعبّدا ، حيث إنّها في مقام إيجاب تعلّم الأحكام والتفقّه فيها ووجوب إبلاغها إلى السائرين بنحو الوجوب الكفائي ، وآية السؤال في مقام إيجاب الفحص والتعلّم ، ولعلّه لتحصيل العلم لا إيجاب التعبّد بجواب المسئول ، كما يشهد لذلك كون المسئول هم أهل الكتاب والمسئول عنه من الاعتقاديّات ، ولو قيل بأن المسئول هم الأئمّة عليهم‌السلام كما ورد في بعض الروايات فلا شبهة في اعتبار قولهم وكلامهم ، وهذا خارج عن مورد الكلام في المقام.

نعم يتمّ الاستدلال على جواز التقليد بالروايات الواردة في جواز تقليد العاميّ بالمطابقة أو بالاستلزام أو بالمفهوم ، كما فيما ورد في جواز الإفتاء مع العلم مفهوما أو منطوقا ، فإنّ ما يدلّ على عدم جواز الإفتاء من غير علم ظاهر مفهوما جواز الإفتاء بالعلم ، وهذا الجواز يستلزم جواز التقليد ، ونظير ذلك ما ورد في إظهاره عليه‌السلام أن يرى في أصحابه من يفتي الناس بالحلال والحرام ، فإنّ مقتضاه جواز التقليد بالاستلزام ؛ لأنّ افتاء شخص أو شخصين لا يوجب العلم بالواقع ، بخلاف الأمر بإظهار الحقّ وحرمة كتمانه ، فإنّه لا يدلّ على التعبّد بالإظهار والأخذ بالبيان ، فإنّ الأمر بالإظهار وحرمة الكتمان لغاية ظهور الحقّ والعلم به ، كما يقتضيه مناسبة الحكم والموضوع.

والحاصل أنّ الأخبار المشار إليها لكثرتها وتعدّد أسانيدها توجب القطع

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٩٨ ، الباب ١١.

٢٧٥

لا يقال : إن مجرد إظهار الفتوى للغير لا يدلّ على جواز أخذه واتباعه.

فإنه يقال : إن الملازمة العرفية بين جواز الإفتاء وجواز اتباعه واضحة ، وهذا غير وجوب إظهار الحق والواقع ، حيث لا ملازمة بينه وبين وجوب أخذه تعبدا ، فافهم وتأمل.

______________________________________________________

بصدور بعضها عن الإمام عليه‌السلام ، وإمضائهم جواز تقليد العاميّ في الفرعيّات ولو في الجملة ، فيكون مخصّصا لما دلّ على عدم جواز اتّباع غير العلم ، وما دلّ على الذمّ على تقليد الغير من الآيات والروايات كقوله سبحانه : (لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(١) وقوله سبحانه : (قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ)(٢) مع إمكان دعوى خروج التقليد في الفرعيّات من الفقيه عن مدلول الآيتين تخصّصا لا تخصيصا ، فإنّ آية الذمّ على الاقتداء راجعة إلى رجوع الجاهل إلى مثله ، وآية النهي عن اتّباع غير العلم ناظرة إلى النهي في الاعتقاديّات التي لا بدّ من تحصيل العلم والمعرفة بها.

وأمّا قياس الفرعيّات بالاعتقاديّات في عدم جواز التقليد ، بدعوى أنّ مع غموض الأمر في الاعتقاديّات لا يجوز التقليد فيها ، فكيف يجوز في الفرعيّات مع سهولة الوصول إليها فلا يمكن المساعدة عليه ، فإنّ الاصول الاعتقاديّة المطلوب فيها العلم واليقين والاعتقاد مسائل معدودة يتيسّر تحصيل العلم بها لكلّ شخص ، بخلاف الفرعيّات التي لا يتيسّر الاجتهاد الفعليّ في مسائلها إلّا في كلّياتها للأوحديّ في طول عمرهم كما لا يخفى.

أقول : الحكم العقليّ الفطريّ وإن كان المنشأ في بناء العقلاء على الرجوع في

__________________

(١) سورة الإسراء : الآية ٣٦.

(٢) سورة الزخرف : الآية ٢٢.

٢٧٦

وهذه الأخبار على اختلاف مضامينها وتعدد أسانيدها ، لا يبعد دعوى القطع بصدور بعضها ، فيكون دليلا قاطعا على جواز التقليد ، وإن لم يكن كل واحد منها بحجة ، فيكون مخصصا لما دلّ على عدم جواز اتباع غير العلم والذم على التقليد ، من الآيات والروايات.

______________________________________________________

كلّ أمر يعرفه أهل خبرته إليهم ، إلّا أنّ هذا البناء وحكم العقل قابل للردع عنه ، حيث يمكن للشارع إلغاء التقليد في الحكم الشرعيّ الفرعيّ بالأمر بالاحتياط في كلّ واقعة لم يتفق العلماء الموجودون في عصره على نفي التكليف فيها ، وإذا أمكن ذلك واحتمل العاميّ الردع فلا يفيده الحكم العقليّ الفطريّ ، وقوله قدس‌سره : لو لا ذلك الفطريّ عند العاميّ لانسدّ على العاميّ باب العلم بجواز التقليد ، ممنوع ؛ إذ اللازم على العاميّ علمه بجواز التقليد له في المسائل التي يبتلى بها ، وهذا يحصل من الاستدلال ، والاستدلال لا يتوقّف على تمكّنه وإحاطته بجميع ما يكون دليلا للجواز عند الفقيه ، بل على العاميّ أن يعتمد على علمه الحاصل من فتوى علماء عصره العدول المعروفين ومن كان قبل عصره ، والجزم بأنّه لو منع الناس عن الرجوع إلى العلماء في تعلّم الفتوى والعمل به وأوجب عليهم الاحتياط لما أفتى هؤلاء بالجواز ، وجواز الاقتصار بالعمل على طبق الفتوى المعتبر ، وبهذا أيضا يقنع نفسه في مسألة لزوم تحصيل العلم واليقين في الاعتقاديّات ورفع اليد عن حكم الارتكاز ، بأنّه لو لم يجب ذلك على الناس وجاز التقليد فيها لما أفتوا بوجوب تحصيل العلم واليقين والاعتقاد ولو بدليل يقنع نفسه.

وقد يقال : إنّه لو لم يتمكّن العاميّ من تحصيل العلم بجواز التقليد كان اللازم في حقّه بحكم العقل هو الاحتياط في الوقائع بالأخذ فيها بأحوط الأقوال من العلماء المعروفين في عصره ؛ لأنّه لا يعلم بثبوت تكاليف زائدة في حقّه في الوقائع التي

٢٧٧

قال الله تبارك وتعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(١) وقوله تعالى : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ)(٢) مع احتمال أن الذم إنما كان على تقليدهم للجاهل ، أو في الأصول الاعتقادية التي لا بد فيها من اليقين ، وأما قياس المسائل الفرعية على الأصول الاعتقادية ، في أنه كما لا يجوز التقليد فيها مع الغموض فيها

______________________________________________________

يبتلي بها غير ما أفتوا بها فيها ولو من بعضهم ، فإنّ مقتضى العلم الإجماليّ بالتكاليف في موارد فتاويهم يوجب علمه الإجماليّ بثبوت التكاليف في حقّ المكلفين في الوقائع ، وهذا الاحتياط على ما ذكرنا لا يوجب محذورا على العاميّ من عسر فضلا عن اختلال النظام.

ولكن لا يخفى أنّ انحلال العلم الإجماليّ الكبير بالعلم الإجمالي الصغير لا ينفع فيما إذا كان احتمال التكليف بنفسه منجّزا للتكليف كما في المفروض في المقام ، حيث لا يتمكّن العاميّ من الفحص عن جميع الفتاوى في الوقائع ولا عن أدلّة الأحكام.

نعم إذا حصل له الوثوق والاطمئنان بعدم الدليل على التكليف في غير موارد فتوى العلماء المعروفين في عصره ، مع اعتقاده وجزمه بأنّ الشارع لم يردع عن العمل بوثوقه واطمئنانه ذلك أمكن له ترك الاحتياط في غير موارد فتاوى علماء عصره بالتكليف ، أو حصل الوثوق بفحص علماء عصره في مورد فتاويهم بنفي التكليف ، وكان هو بنفسه عارفا باعتبار الاصول النافية.

وأيضا ما ذكر الماتن قدس‌سره من الإيراد على دعوى الإجماع ونقله وإن كان صحيحا إلّا أنّ عطفه قدس‌سره دعوى السيرة المتشرعة على الإجماع في عدم جواز الاعتماد عليها

__________________

(١) الاسراء : ٣٦.

(٢) الزخرف : ٣٣.

٢٧٨

كذلك لا يجوز فيها بالطريق الأولى لسهولتها ، فباطل ، مع أنه مع الفارق ، ضرورة أن الأصول الاعتقادية مسائل معدودة ، بخلافها فإنها مما لا تعد ولا تحصى ، ولا يكاد يتيسر من الاجتهاد فيها فعلا طول العمر إلّا للأوحدي في كلياتها ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

لا يمكن المساعدة عليه ، فإنّه لو ثبتت السيرة المتشرعة وكونها حتّى في زمان المعصومين عليهم‌السلام لكان ذلك دليلا جزميّا على عدم الردع عن السيرة العقلائيّة المعمولة بالإضافة إلى الأحكام الفرعيّة.

وأمّا الروايات فلا بأس بدلالتها ـ ولو بالالتزام في بعضها وبالمطابقة في بعضها الآخر ـ على جواز تعلّم العاميّ والعمل على طبقه في الأحكام الفرعيّة من العالم بها بالطرق المألوفة في الجملة ، ويأتي التعرّض لذلك تفصيلا.

وقد ظهر ممّا تقدّم استقلال العقل بعد اعتبار قول المفتي في حقّ العاميّ بأنّ المكلّف في الوقائع التي يبتلى بها إمّا أن يكون مجتهدا يعمل على طبق اجتهاده ، أو مقلّدا يعمل على طبق فتوى المجتهد أو محتاطا ، وهذا التخيير بعد إحراز جواز الامتثال الإجماليّ حتى فيما إذا كان العمل عبادة ، والاحتياط فيها موجبا لتكرار العمل ؛ ولذا لا يجوز الأخذ بالاحتياط في العبادات إلّا مع إحراز جوازه ولو بالاجتهاد في هذه المسألة أو مع التقليد فيها ، واعتبار قول المفتي في حقّ العاميّ كاعتبار خبر العدل والثقة في الأحكام طريقيّ يوجب تنجّز الواقع مع الإصابة والعذر عند موافقته وخطئه ، فيختصّ اعتبار الفتوى بموارد الجهل بالحكم الواقعيّ ، ولا يكون مورد التقليد في ضروريات الدين والمذهب ، ولا في القطعيّات التي يعرفها العاميّ ولو بالتسالم عليه كأكثر المباحات.

نعم فيما يتردّد الحكم بين الإباحة والاستحباب أو بينهما وبين الكراهة فإن أراد

٢٧٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الإتيان بقصد الاستحباب أو بقصد الكراهة كي ينال الثواب فعليه إحراز خصوص الحكم أو الإتيان بالرجاء واحتمال نيل الثواب ؛ لئلا يكون عمله تشريعا ، وقد تقدّم مدلول أخبار وجوب طلب العلم وأنّه بالإضافة إلى الفرعيات طريقيّ.

بقي في المقام ما ربّما يتوهّم من أنّ العمومات الناهية عن اتّباع غير العلم والمتضمّنة للذمّ على اتّباع غيره رادعة عن التقليد كقوله سبحانه : (لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(١) وقوله سبحانه : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا)(٢) إلى غير ذلك.

ولكنّ العموم أو الإطلاق لا يصلح رادعا خصوصا بالإضافة إلى السيرة المتشرعة والمشار إليها والأخبار المستفاد منها لزوم رجوع العاميّ إلى الفقيه ، وقول الفقيه يكون من اتّباع العلم ، والذم في الآية راجع إلى اتّباع الجاهل مثله بقرينة ما في ذيلها : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) مع أنّها ناظرة إلى التقليد في الاعتقاديّات ولا يجزي فيها التقليد ، بل يجب فيها تحصيل العلم والعرفان والإيمان ، ولا يمكن فيها الأخذ ببعض الأخبار ، ودعوى إطلاقها يعمّ جواز التعلّم في الاعتقاديات أيضا بالأخذ بما يقول المسئول ، فيكون قوله أيضا فيها علما وعرفانا لا يمكن المساعدة عليه بوجه ، فإنّ مقتضى تلك الروايات اعتبار قول من يرجع إليه ، وأنّه علم في جهة طريقيّته لا من جهة الوصفيّة ، والمطلوب في اصول الدين

__________________

(١) سورة الإسراء : الآية ٣٦.

(٢) سورة المائدة : الآية ١٠٤.

٢٨٠