دروس في مسائل علم الأصول - ج ٦

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8438-62-8
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٤٦

لا يقال : إن العام بعد تخصيصه بالقطعي لا يكون مستعملا في العموم قطعا ، فكيف يكون ظاهرا فيه؟

فإنه يقال : إن المعلوم عدم إرادة العموم ، لا عدم استعماله فيه لإفادة القاعدة الكلية ، فيعمل بعمومها ما لم يعلم بتخصيصها ، وإلّا لم يكن وجه في حجيته

______________________________________________________

ولكن لا يخفى أنّه لا وجه لتخصيص العامّ الفوق بأخصّ الخاصّين أوّلا ثمّ ملاحظة النسبة بينه وبين الخاصّ الآخر الأوسع على ما تقدّم ، بل يرد التخصيص بالأخصّ في عرض تخصيصه بالخاصّ الأوسع.

نعم بما أنّ الخاصّ الأوسع مبتلى بالمعارض مع العامّ المتّصل به أخصّ الخاصين كما هو الوجه الثاني وهو صحيح ، فمقتضى المعارضة سقوطهما في مورد اجتماعهما فيتمسّك بالعامّ الفوق في مورد اجتماعهما حيث لم يثبت تخصيص له في مورد اجتماع العامّ المتصل به أخصّ الخاصّين والخاصّ المنفصل الآخر وكذا الحال في المطلق الفوق.

فيما كان مع خطاب العام خطابان خاصّان بينهما العموم من وجه

ومما ذكرنا يظهر الحال في القسم الثالث وهو ما إذا كانت النسبة بين الخاصّين العموم من وجه ، كما إذا ورد في خطاب الأمر بإكرام العلماء ، وفي خطاب ثان النهي عن إكرام العالم الفاسق وفي خطاب ثالث النهي عن إكرام العالم الكوفيّ ، وأنّه لا بدّ في الفرض من تخصيص العامّ بكلّ من الخاصّين ، بلا فرق بين كون أحدهما سابقا على الآخر من حيث الوصول أو كان وصولهما في زمان واحد ، حيث إنّ كلّا منهما يرشد إلى حصول مضمونه من زمان حصول مضمون الآخر ، وعلى ذلك فالفرق بين القسم الأوّل من الخاصّين والقسمين الثاني والثالث منهما عدم جريان شبهة انقلاب النسبة في القسم الأوّل لبقاء النسبة بحالها بعد تخصيص العامّ بأحد الخاصّين ،

١٨١

في تمام الباقي ، لجواز استعماله حينئذ فيه وفي غيره من المراتب التي يجوز أن ينتهي إليها التخصيص ، وأصالة عدم مخصص آخر لا يوجب انعقاد ظهور له ، لا فيه ولا في غيره من المراتب ، لعدم الوضع ولا القرينة المعينة لمرتبة منها ، كما لا يخفى ، لجواز إرادتها وعدم نصب قرينة عليها.

______________________________________________________

بخلاف القسمين الثاني والثالث فإنّه ربّما يتوهّم فيهما انقلاب النسبة بوصول أحد الخاصّين أو تخصيص العامّ بأخصّ الخاصّين ، ولكن ذكرنا لا وجه لجعل السابق على الخاصّ الآخر مخصّصا للعامّ أوّلا في القسم الثالث ، وتخصيص العامّ بأخصّ الخاصّين في القسم الثاني ، والفرق بين القسم الثاني والقسم الثالث أنّه إن لزم من تخصيص العامّ بكلّ من الخاصّين بقاء العامّ بلا مورد في القسم الثالث يجرى فيه ما تقدّم في القسم الأوّل ، بخلاف القسم الثاني فإنّ المعارضة فيه تقع بين العامّ وبين الخاصّ الأوسع كما هو واضح.

في الجمع بين الروايات الواردة في ضمان العارية وعدمه

ولا بأس في المقام بالتعرّض للروايات الواردة في ضمان العارية ونفي الضمان فيها وبيان طريق الجمع بينهما.

فنقول : الروايات الواردة في ذلك على خمس طوائف :

الاولى : ما دلّ على نفي الضمان في مطلق العارية كصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «صاحب الوديعة والبضاعة مؤتمنان ، وليس على مستعير عارية ضمان وصاحب العارية والوديعة مؤتمن» (١).

والطائفة الثانية : ما دلّ على عدم ضمان تلف العارية على المستعير إلّا إذا

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٩ : ٩٣ ، الباب الأوّل من أبواب العارية ، الحديث ٦.

١٨٢

نعم ربما يكون عدم نصب قرينة مع كون العام في مقام البيان قرينة على إرادة التمام ، وهو غير ظهور العام فيه في كل مقام.

فانقدح بذلك أنه لا بد من تخصيص العام بكل واحد من الخصوصات مطلقا ، ولو كان بعضها مقدما أو قطعيا ، ما لم يلزم منه محذور انتهائه إلى ما لا يجوز الانتهاء إليه عرفا ، ولو لم يكن مستوعبة لأفراده ، فضلا عما إذا كانت مستوعبة

______________________________________________________

اشترط عليه ، كصحيحة اخرى للحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام حيث ورد فيها : «إذا هلكت العارية عند المستعير لم يضمنه إلّا أن يكون اشترط عليه» (١).

الثالثة : ما دلّ على عدم الضمان في العارية في غير عارية الذهب والفضة ، كصحيحة زرارة قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام العارية مضمونة؟ فقال : جميع ما استعرته فتوى فلا يلزمك تواه إلّا الذهب والفضة فإنهما يلزمان» (٢).

الرابعة : ما دلّ على عدم الضمان في العارية إلّا مع الاشتراط إلّا الدنانير فإنها مضمونة وإن لم يشترط ، كصحيحة عبد الله بن سنان قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : لا تضمّن العارية إلّا أن يكون اشترط فيها ضمان إلّا الدنانير فإنها مضمونة وإن لم يشترط فيها ضمانا» (٣).

الخامسة : ما دلّ على عدم الضمان إلّا في الدراهم ، كصحيحة عبد الملك بن عمرو عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «ليس على صاحب العارية ضمان إلّا أن يشترط صاحبها إلّا الدراهم فإنّها مضمونة اشترط صاحبها أو لم يشترط» (٤).

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٩ : ٩١ ، الباب الأول من أبواب العارية ، الحديث الأول.

(٢) المصدر السابق : ٩٦ ، الباب ٣ ، الحديث ٢.

(٣) المصدر السابق : الحديث الأول.

(٤) المصدر السابق : الحديث ٣.

١٨٣

لها ، فلا بد حينئذ من معاملة التباين بينه وبين مجموعها ومن ملاحظة الترجيح بينهما وعدمه ، فلو رجح جانبها أو اختير فيما لم يكن هناك ترجيح فلا مجال للعمل به أصلا ، بخلاف ما لو رجح طرفه أو قدم تخييرا ، فلا يطرح منها إلّا

______________________________________________________

ومقتضى الجمع بين العقد الإيجابيّ في كلّ من الأخيرين وبين العقد السلبي في الآخر هو الالتزام بالضمان في كلّ من عارية الدنانير والدراهم وإن لم يشترط الضمان ، وما دلّ على نفي الضمان في العارية مع عدم شرط الضمان إلّا في الذهب والفضة فالعقد الإيجابي فيه أي ثبوت الضمان في عارية الذهب والفضة يتعارض مع العقد السلبي في عدم الضمان مع عدم اشتراطه في غير الدرهم والدينار بالعموم من وجه ؛ لأنّ العقد الإيجابيّ يدلّ على عدم الضمان في الدرهم والدينار مع عدم الاشتراط ، ولا ينافي العقد السلبيّ في نفيه مع عدم الاشتراط في غير الدرهم والدينار ، وهذا العقد السلبيّ يدلّ على نفي الضمان مع عدم الاشتراط في عارية الكتب ونحوه ، ولا ينافيه العقد الإيجابيّ من ثبوت الضمان مع عدم الاشتراط في عارية الذهب والفضة ، وفي عارية مثل الحلّي من الذهب والفضة يدلّ العقد الإيجابيّ على الضمان مع عدم الاشتراط وينفي هذا الضمان العقد السلبيّ من عدم الضمان مع عدم الاشتراط في غير الدرهم والدينار ، ومع ذلك يؤخذ بإطلاق العقد الإيجابيّ الدالّ على ثبوت الضمان في عارية الذهب والفضة مع عدم الاشتراط ، ويرفع اليد عن إطلاق العقد السلبيّ أي عدم الضمان مع عدم اشتراط في غير الدراهم والدنانير ؛ لأنّ تقديم إطلاق العقد السلبيّ يوجب حمل العقد الايجابيّ المذكور على الفرد النادر ؛ لأنّ الغالب في عارية الذهب والفضة هو عارية غير الدرهم والدينار ؛ لأنّ الانتفاع الغالب في الدراهم والدنانير بصرف أعيانها بخلاف مثل الحلّي من الذهب والفضة ، فلا يكون مجال للقول بتساقطهما في مورد اجتماعهما والرجوع

١٨٤

خصوص ما لا يلزم مع طرحة المحذور من التخصيص بغيره ، فإن التباين إنما كان بينه وبين مجموعها لا جميعها ، وحينئذ فربما يقع التعارض بين الخصوصات فيخصص ببعضها ترجيحا أو تخييرا ، فلا تغفل.

هذا فيما كانت النسبة بين المتعارضات متحدة ، وقد ظهر منه حالها فيما كانت النسبة بينها متعدّدة [١].

______________________________________________________

إلى العامّ الدالّ على عدم الضمان في العارية مع عدم اشتراط الضمان ، فيكون الحاصل من الطوائف الخمس من الروايات عدم الضمان في العارية إلّا مع اشتراط الضمان في غير عارية الذهب والفضة سواء كانا من الدينار والدرهم أو من الحلي ونحوه فإن في عاريتهما الضمان إلّا مع اشتراط عدمه كما في ذيل صحيحة زرارة المتقدّمة.

[١] المراد بتعدّد النسبة عدم اتّحاد النسبة بين كلّ من الخطابين بالإضافة إلى الخطاب الثالث ، كما كان الاتحاد في الفروض المتقدّمة محفوظا حيث كانت نسبة كلّ من الخطابين بالإضافة إلى الثالث العموم والخصوص المطلق وتعرّض قدس‌سره من صور اختلاف النسبة لصورة واحدة وعطف غيرها عليها في الحكم.

موارد انقلاب النسبة

وتلك الصورة ما إذا كان في البين العامّين من وجه وورد خطاب خاصّ بالإضافة إلى أحدهما ، والتزم بأنّ الخاصّ المفروض يقدّم على عامّه ويبقى التعارض بين العامّين من وجه بحاله مطلقا أي سواء بقيت النسبة بعد تخصيص أحدهما بالخاصّ المخالف له بحالها ، كما إذا ورد التخصيص لأحدهما في بعض موارد افتراقهما أو في بعض موارد اجتماعهما أو كانت النسبة بعد تخصيص أحدهما بذلك الخاصّ العموم والخصوص المطلق ، كما إذا ورد التخصيص لأحدهما في تمام مورد

١٨٥

كما إذا ورد هناك عامان من وجه مع ما هو أخص مطلقا من أحدهما ، وأنه لا بد من تقديم الخاص على العام ومعاملة العموم من وجه بين العامين من الترجيح والتخيير بينهما ، وإن انقلبت النسبة بينهما إلى العموم المطلق بعد تخصيص أحدهما ، لما عرفت من أنه لا وجه إلّا لملاحظة النسبة قبل العلاج.

______________________________________________________

افتراقه عن الآخر حيث لا عبرة بهذا الانقلاب ، ولا يلاحظ في أخذ النسبة بين الخطابين إلّا الظهور الأولي لكلّ منهما المعبّر عنه بالمدلولات الاستعماليّة.

نعم لو كان تخصيص أحدهما بالخاصّ المخالف له موجبا لعدم بقاء شيء تحته على تقدير تقديم العامّ الآخر عليه أو بقي تحته أفراد نادرة وقليلة بحيث لا يجوز انتهاء التخصيص إليه لتعيّن تقديم العامّ المخصّص على الآخر ، لا لانقلاب النسبة ، بل لدفع المحذور المذكور ، كما إذا ورد في خطاب استحباب إكرام العلماء وفي خطاب آخر كراهة إكرام الفساق ، فالمعارضة بينهما بالعموم من وجه ، وإذا ورد في خطاب وجوب إكرام العالم الهاشمي يرفع اليد عن الاستحباب في العالم الهاشميّ ، فيلتزم باستحباب إكرام العلماء ووجوب إكرام العالم الهاشميّ ، وتبقى المعارضة بين الاستحباب والكراهة في العالم والعالم الهاشمي بحالها ، وفي الفرض بعد تخصيص أحد العامّين النسبة بين العامّين المتخالفين في الحكم باقية بحالها.

ولو كان مدلول الخاصّ وجوب إكرام العالم العادل يقدّم في إكرام العالم الفاسق خطاب استحباب إكرام العلماء على ما دلّ على كراهة إكرام الفاسق لئلا يكون خطاب استحباب إكرام العلماء بلا مورد ، ولذا لو لم تنقلب النسبة أصلا ، ولكن كان في تقديم أحد الخطابين في مورد اجتماعهما على الآخر لزوم لغويته تعيّن العكس ، كما إذا ورد في خطاب : «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه» (١) وورد في خطاب

__________________

(١) وسائل الشيعة ٣ : ٤٠٥ ، الباب ٨ من أبواب النجاسات ، الحديث ٢.

١٨٦

.................................................................................................

______________________________________________________

آخر : «كلّ طائر يطير بجناحيه فلا بأس ببوله وخرئه» (١) فإنّهما يتعارضان في بول طير لا يؤكل لحمه ، فيقدّم خطاب كلّ طائر ؛ لأنّه لو قدّم في بول طير ما لا يؤكل لحمه خطاب اغسل ينحصر مدلول خطاب كلّ طائر على طير يؤكل لحمه ويكون عنوان الطائر لغوا ؛ لأنّ البول والروث من مأكول اللحم طاهر سواء كان طيرا أو غيره.

أقول : ظاهر كلام الماتن قدس‌سره أنّه إذا كانت النسبة بين الخطابين العموم من وجه ، وكان في البين خطاب آخر أخصّ مطلق من أحد الخطابين بحيث تكون النسبة بعد تخصيصه بالأخصّ العموم والخصوص المطلق بينه وبين الخطاب الآخر ، فلا ترتفع المعارضة بين الخطابين الأوليين ، كما إذا ورد في خطاب استحباب إكرام العلماء وفي خطاب آخر كراهة إكرام الفساق وفي البين كان خطاب وجوب إكرام العلماء العدول تكون النسبة بين خطاب استحباب إكرام العلماء بعد إخراج العدول منه وبين خطاب كراهة إكرام الفساق العموم والخصوص المطلق ، ومع ذلك يبقى التعارض بحاله ، إلّا إذا كان الباقي تحت العامّ الذي ورد عليه التخصيص ، بحيث لو قدّم خطاب العامّ الثاني عليه لزم انتهاء التخصيص إلى ما لا يجوز انتهاؤه إليه أو لا يبقى تحته فرد أصلا ، وهذا الذي أفاد لا يمكن المساعدة عليه ، فإنّ مع انقلاب النسبة من العامّين من وجه إلى العموم والخصوص المطلق بقاء التعارض بحاله غير معقول ؛ لأنّ ملاك التعارض ليس مجرّد تنافي مدلولي الدليلين بالمدلول الاستعماليّ بل الملاك فيه تنافيهما في مقام الإثبات ، بحيث يكون كلّ من الخطابين إلى دليل الاعتبار على حد سواء مع عدم إمكان شموله لهما معا ، وبعد ورود التخصيص على

__________________

(١) وسائل الشيعة ٣ : ٤١٢ ، الباب ١٠ من أبواب النجاسات ، الحديث الأول.

١٨٧

نعم لو لم يكن الباقي تحته بعد تخصيصه إلّا ما لا يجوز أن يجوز عنه التخصيص أو كان بعيدا جدا ، لقدم على العام الآخر ، لا لانقلاب النسبة بينهما ، بل لكونه كالنص فيه ، فيقدم على الآخر الظاهر فيه بعمومه ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

أحد العامّين من وجه في تمام مورد افتراقه عن الآخر يكون شمول دليل الاعتبار لكلّ من العامّ المخصّص والعام الآخر بلا محذور ، حيث يحسب العامّ المخصّص قرينة على المراد الجدّي من العامّ الآخر كما في المثال. أضف إلى ذلك أنّه لا يمكن فيما فرضه من عدم بقاء فرد تحت العامّ المخصّص بعد تخصيصه بالخاصّ الوارد عليه في تمام مورد افتراقه عن الآخر وبقاء النسبة الأولية بحالها. وبتعبير آخر انقلاب النسبة من العموم من وجه إلى العموم والخصوص المطلق يلازم بقاء العامّ المخصّص مع تقديم الآخر عليه بلا مورد أو بلوغ التخصيص إلى مرتبة الاستهجان.

وعلى ذلك يتصوّر فيما إذا كان في البين عامّان بينهما العموم من وجه صور :

الاولى : ما إذا ورد خطاب ثالث يوجب تخصيصهما في تمام مورد اجتماعهما كما إذا ورد في خطاب استحباب إكرام العلماء وفي خطاب آخر كراهة إكرام الفساق ، وفي خطاب ثالث حرمة إكرام العالم الفاسق ، وفي مثل ذلك يكون الخطاب الثالث من شاهد الجمع بين الخطابين ؛ لأنّ له الدلالة على التصرف في كلا الخطابين الأوّلين ولا يرتبط هذا بباب انقلاب النسبة.

ومثل ذلك ما إذا ورد خطابان آخران غير خطابي العامّين من وجه يخصّص أحد الخطابين بعض مورد اجتماع العامين من وجه والآخر البعض الآخر من مورد اجتماعهما ، بحيث لا يبقى تحت العامّين إلّا مورد افتراقهما ، فإنّ هذا أيضا يحسب من شاهد الجمع ، ولا شبهة ولا تأمّل في ارتفاع المعارضة بين العامّين من وجه بذلك ، وإنّما يدخل في انقلاب النسبة ما إذا كان في البين عامّان من وجه بينهما

١٨٨

.................................................................................................

______________________________________________________

تعارض في مورد اجتماعهما وورد خطاب ثالث يخصّص أحدهما في تمام مورد افتراقه عن الآخر ، ففي هذه الصورة يقدّم العامّ المخصّص على العامّ الآخر ؛ لانقلاب النسبة أو للزوم اللغويّة ، وعلى الجملة هذه الصورة من صور انقلاب النسبة.

وإذا كان في البين العامّان من وجه بينهما تعارض في مورد اجتماعهما وورد خطابان آخران يحسب أحدهما مخصّصا لأحد العامّين في تمام مورد افتراقه عن الآخر ، والآخر يحسب مخصّصا للعامّ الآخر في تمام مورد افتراقه أيضا ، كما إذا ورد استحباب إكرام العلماء في خطاب وكراهة إكرام الفساق في خطاب آخر ، وورد في خطاب ثالث وجوب إكرام العلماء العدول ، وفي خطاب رابع حرمة إكرام الجاهل الفاسق ، وفي ذلك يكون التعارض بين الخطابين الأوّلين في مورد اجتماعهما بحاله بلا فرق بين القول بانقلاب النسبة أو القول بعدمه ، فإن كان لأحد العامّين ترجيح على الآخر يؤخذ به ويطرح الآخر ، وإلّا يتساقطان ويعمل بالخاصّين في مورد افتراقهما ويرجع إلى الأصل العمليّ في مورد اجتماعهما.

وقد يقال (١) : إن أطراف المعارضة في الفرض جميع الخطابات الأربعة فإن كان لأحدهما ترجيح يؤخذ به فيجمع أو يطرح الخطابات الاخرى ، فإنّ الموجب للتعارض هو العلم بكذب أحد الخطابات ، وهذا حاصل بالإضافة إلى كلّ خطاب مع الخطابات الثلاثة الباقية ، ولو كان الكذب في أحد الخاصّين كما إذا كان غير صادر أصلا أو كان الصادر الخطابات الثلاثة الباقية لانتفى التعارض بينها بانقلاب النسبة بتخصيص أحد الخطابين من وجه في تمام مورد افتراقه عن الآخر ، ويبقى تحته

__________________

(١) مصباح الاصول ٣ : ٤٠٠.

١٨٩

.................................................................................................

______________________________________________________

مورد اجتماع الخاصّين ، فيكون خاصّا بالإضافة إلى الآخر.

أقول : الموجب للتعارض ليس خصوص العلم بكذب أحد الخطابات الأربعة بمعنى عدم صدوره أصلا ، بل المراد بالكذب عدم مطابقة أحد الخطابات للحكم في مقام الثبوت ـ سواء كان عدم مطابقته لعدم صدوره أو لعدم كون مدلوله مرادا واقعا ـ ومع كون النسبة بين العامّين العموم من وجه يتحقق ملاك المعارضة بينهما بالإضافة إلى مورد اجتماعهما ، وإذا ورد الخاصّ لكلّ منهما في تمام موارد افتراقهما عن الآخر وإن يعلم بكذب أحد الخطابات الأربعة إلّا أنّه يحتمل انطباق هذا المعلوم على المعلوم بالإجمال الصغير وهو عدم مطابقة أحد العامّين من وجه في مورد اجتماعهما ، فيكون العلم الإجمالي الثاني بالإضافة إلى كلّ من الخاصّين شكّا بدويّا ، والاستشهاد لكون الخاصّين أيضا من أطراف المعارضة بأنّه لو كان في البين أحدهما دون الآخر منهما لما كان في البين العلم بالكذب ، بل كان يجمع بين العامّين من وجه بعد تخصيص أحدهما في تمام مورد افتراقه عن الآخر بتخصيص العام الآخر بالعام المخصّص كما ترى ، فإنّ الموجب لارتفاع المعارضة بين العامّين من وجه ثبوت الخاصّ بالإضافة إلى أحد العامّين فقط ، حيث يعلم به كذب أصالة العموم في ناحية عامّه الذي ورد عليه التخصيص ، وأمّا إذا كان الخاصّ في ناحية العامّ الآخر أيضا ، ويكون مفاد ذلك الخاصّ إخراج مورد افتراقه عن تحت العامّ الآخر أيضا فلا يتعيّن الكذب في أحد العامّين.

ويشهد لما ذكرنا ما ذكره هذا القائل في النوع الثالث (١) من التعارض بين

__________________

(١) مصباح الاصول ٣ : ٤٠١.

١٩٠

.................................................................................................

______________________________________________________

الخطابين ، وهو ما إذا كان في البين خطابان عامّان بينهما تعارض بالتباين ، كما إذا ورد في خطاب : يطهر المتنجس بغسله بالماء مرّة واحدة ، وورد في خطاب آخر : يطهر المتنجس بغسله بالماء بمرّتين لا بالمرّة ، وورد في خطاب ثالث : أنه يغسل المتنجس بالماء القليل بمرتين ، وفي خطاب رابع يغسل المتنجس في الماء الجاري بمرّة واحدة ، فيكون ما دلّ على لزوم الغسل بالماء مرّة مخصّصا في صورة الغسل بالماء القليل ، كما أن العامّ الآخر : يغسل المتنجس بالماء مرّتين لا بالمرّة في صورة الغسل في الماء الجاري ، وبعد تخصيص العامّين تقع المعارضة بينهما في المغسول في الكرّ بعد ارتفاع المعارضة بينهما في المغسول بالماء القليل والجاري ، وبعبارة اخرى تنقلب نسبة التباين بين العامين إلى العموم والخصوص من وجه ، حيث يفترقان بعد التخصيص في مورد الغسل بالماء القليل والغسل في الماء الجاري ، ويجتمعان في الغسل بالكرّ ، فيقدّم أحدهما في مورد اجتماعهما لو كان لأحدهما ترجيح ، وإلّا يتساقطان فيرجع إلى الأصل العمليّ ، ويلزم على القائل بوقوع التعارض بين الخطابات الأربعة الالتزام به في هذا الفرض ، فإنّه لو لم يكن في البين أحد الخاصّين لم يكن بين الخطابات الثلاثة الباقية تعارض ، بل كان يخصّص الخاصّ المفروض عامّه ، وبعد صيرورة عامّه خاصّا كان يخصّص العامّ الآخر ، فلو فرض عدم ورود خطاب : أن المتنجس يطهر في الغسل بالماء الجاري بمرّة ، وكان الوارد الخاصّ : بأنّه يغسل المتنجس بالماء القليل بمرّتين ، وبعد تخصيص العامّ الوارد : بأنّ المتنجس يغسل بالمرّة ، يكون مفاد العامّ كفاية غسل المتنجس بمرّة في غير الغسل بالماء القليل ، وهذا المفاد خاصّ بالإضافة إلى ما دلّ على طهارة المتنجس بالغسل بمرّتين ، فتكون نتيجة الخطابات الثلاثة الغسل بمرّتين في الغسل بالماء القليل.

١٩١

.................................................................................................

______________________________________________________

والقسم الثاني من النوع الثالث من التعارض بين أكثر من الدليلين ما إذا كان خطابان بينهما تباين في الحكم ، وورد خطاب ثالث مخصّص بالإضافة إلى أحدهما كما إذا ورد في خطاب : أكرم العلماء ، وفي خطاب آخر : لا تكرم العلماء ، وورد في خطاب ثالث : لا تكرم العالم الفاسق ، فإنّ هذا الخطاب مخصّص بالإضافة إلى ما دلّ على وجوب إكرام العلماء فيقيّد خطاب وجوب إكرامهم بغير الفساق ، وهذا بناء على مسألة انقلاب النسبة يوجب تخصيص ما دلّ على وجوب إكرام العلماء ، فيكون وجوب الإكرام في غير العالم الفاسق ، وبناء على إنكار الانقلاب يحكم بعدم جواز إكرام العالم الفاسق ، ويتعارض ما دلّ على وجوب إكرام العلماء مع النهي الوارد عن إكرام العلماء.

وربّما يقال (١) من هذا القبيل ما ورد في : أن الزوجة لا ترث من العقار ، وورد في خطاب آخر : أن الزوجة ترث من العقار ، وورد في خبر ثالث : أنها ترث منه إذا كانت ذات ولد من زوجها.

ولكن لا يخفى أنّ القضية الشرطيّة بما أنّ لها مفهوما يكون ما ورد في ذات ولا من شاهد الجمع لا من باب انقلاب النسبة.

والقسم الثالث من اختلاف النسبة بين الخطابات ما إذا كان في البين خطابان متعارضان بالتباين ، وورد خطابان آخران أحدهما خاصّ مخالف بالإضافة إلى أحد العامّين والآخر خاصّ مخالف بالإضافة إلى العامّ الآخر ، كما إذا ورد خطاب وجوب إكرام العلماء ، وفي الآخر عدم وجوب إكرامهم ، وورد في خطاب ثالث لا يجب إكرام

__________________

(١) مصباح الاصول ٣ : ٤٠١.

١٩٢

.................................................................................................

______________________________________________________

النحويين من العلماء ، وورد في خطاب رابع إكرام العلماء العدول ، ومن الظاهر أن الخاصّين يتعارضان في النحويّ العادل ، ويفترقان في النحويّ غير العادل وفي غير النحوي من العالم العادل ، وإذا سقطا في النحويّ العادل بالمعارضة فيما إذا لم يكن بينهما ترجيح أو أخذ بأحدهما على تقديره يبقى العامّان على التعارض بالتباين في موردي افتراق الخاصين أو في مورد اجتماعهما أيضا على تقدير ترجيح أحد الخاصّين.

لا يقال : في النوع الثالث قسم رابع ، وهو ما إذا كان بين خطابين تعارض بالتباين كما إذا ورد في خطاب يستحب إكرام العلماء ، وورد في خطاب آخر يجب إكرام العلماء ، وورد خاصّان بينهما العموم والخصوص المطلق ، كما إذا ورد في خطاب ثالث لا تكرم عالما عصى ربّه ، وفي رابع لا بأس بإكرام عالم هاشمي عصى ربّه.

فإنّه يقال : نعم ولكن إذا كانت النسبة بين الخاصّين العموم والخصوص المطلق وكان الخاصّ الأوسع بحيث يتخصّص كلّا من المتباينين بقيت النسبة بين العامّين على التباين في غير مورد تخصيصها بالخاصّ الأوسع بعد تخصيصه بأخصّ الخاصين وصيرورة الخاصّ المخصّص للعامّين واحدا كما في المثال ، وأمّا إذا كان الخاصّ الأوسع بحيث يخصّص أحد العامّين فقط ، كما إذا ورد في خطاب : يجب إكرام العلماء ، وفي خطاب آخر : لا يجب إكرام العلماء ، وورد في خطاب ثالث : يجب إكرام العلماء العدول ، وفي رابع : لا يجب إكرام العالم العادل من غير الهاشمي ، فإنّه في الفرض بعد تخصيص الخاصّ الأوسع يعني يجب إكرام العلماء العدول بما دلّ على عدم وجوب إكرام العالم العادل من غير الهاشمي تكون النتيجة وجوب إكرام العلماء العدول من الهاشميين ، وبعد رفع اليد بهذه النتيجة عما دلّ على عدم

١٩٣

.................................................................................................

______________________________________________________

وجوب إكرام العلماء العدول من غير الهاشميين بقي تحت ما دلّ على عدم وجوب إكرام العلماء العالم الذي لا يدخل في عنوان العالم العادل الهاشميّ ، وهذا العامّ المخصّص أخصّ مطلق بالإضافة إلى عموم ما دلّ على وجوب إكرام العلماء ، فتنقلب النسبة من التباين بين العامّين إلى العموم والخصوص المطلق.

١٩٤

فصل

لا يخفى أنّ المزايا المرجّحة لأحد المتعارضين الموجبة للأخذ به وطرح الآخر بناء على وجوب الترجيح [١] وإن كانت على أنحاء مختلفة.

______________________________________________________

[١] وحاصل ما ذكره قدس‌سره في هذا المقام أنّ المزايا المخصوصة الموجبة لترجيح أحد الخبرين المتعارضين على الآخر بناء على لزوم الترجيح مختلفة لا تدخل في نوع أو صنف واحد ، ومواردها أيضا متعدّدة ، فإنّ الفقاهة أو الأوثقيّة مرجّحة لأحد الخبرين في راويه ، والشهرة في الرواية مرجّحة لنفس الخبر والنقل حيث إنّ الخبر المشهور قد تكرّر نقله عن المعصوم عليه‌السلام بخلاف الشاذّ ، ومخالفة العامّة مزيّة في وجه صدور الخبر ، والفصاحة في أحد الخبرين مزيّة في متن أحد الخبرين وتبعّد التصرف في نقل متنه ، وموافقة الكتاب أو الشهرة الفتوائيّة مرجّحة في مضمون الخبر ومدلوله ، ولكن كلّ هذه المرجّحات على اختلافها واختلاف مواردها على حدّ سواء في أنّ وجود أيّ منها في أحد المتعارضين يوجب اعتبار صدوره ، بخلاف الآخر حيث لا يعتبر صدوره ، وذلك فإنّ التعبّد بصدور لا تعبّد لوجه صدوره أو ظهوره لغو محض ، ولا يقاس بما إذا كان الخبران قطعيّين في صدورهما ، فإنّ الترجيح فيهما يكون في وجه الصدور أو الظهور حيث لا مورد للتعبّد في صدورهما ، ليقال إنّ التعبّد به في المطروح لغو محض.

وقد يقال : التعارض بين الخبرين وإن يوجب سقوط كليهما عن الاعتبار في صدورهما ومع ثبوت الترجيح لأحدهما. يتعيّن التعبّد بصدور ذي المزيّة ، ويترتّب عليه اعتبار وجه صدوره وظهوره حيث جرت سيرة العقلاء في كلام احرز استناده إلى المولى والمتكلم على حمله على الجدّ واتّباع الظهور ، وأمّا الآخر فلا يمكن التعبّد بصدوره لكونه لغوا ، ولكن هذا فيما كان التعارض بينهما بالتباين ، وأمّا إذا كان

١٩٥

ومواردها متعددة ، من راوي الخبر ونفسه ووجه صدوره ومتنه ومضمونه مثل : الوثاقة والفقاهة والشهرة ومخالفة العامة والفصاحة وموافقة الكتاب والموافقة لفتوى الأصحاب ، إلى غير ذلك مما يوجب مزية في طرف من أطرافه ، خصوصا

______________________________________________________

بالعموم من وجه فالتعارض في مورد اجتماعهما لا يوجب عدم التعبّد بصدورهما ، بل لا بدّ من أن يكون الترجيح بينهما في مورد اجتماعهما بملاحظة الترجيح في وجه الصدور أو المضمون ، لا بمرجّحات الصدور ، فإنّ ملاحظة مرجّحات الصدور يوجب طرح الآخر في مورد الافتراق أيضا.

ولكن لا يخفى ما فيه ، فإنّه كما يمكن التعبّد بالصدور في أحد المتعارضين بالإضافة إلى تمام مدلوله كذلك يمكن التعبّد بالصدور بالإضافة إلى بعض مدلوله دون بعضه الآخر ، وفي تعارض الخبرين بالعموم من وجه مقتضى دليل الاعتبار لخبر الثقة التعبّد بالصدور في كلّ منهما بحسب مورد افتراقهما ، لعدم المعارضة بينهما بالإضافة إلى موردي افتراقهما ، وإذا شملت الأخبار العلاجيّة لأحدهما لثبوت المرجّح فيه يكون التعبد بالصدور فيه حتى بالإضافة إلى مورد اجتماعهما أيضا ، فيكون الخبر الآخر مطروحا بالإضافة إلى مورد الاجتماع.

وبتعبير آخر الاعتبار حكم يطرأ على الخبر باعتبار مدلوله ، وإذا كان مدلوله متعدّدا وانحلاليّا يمكن التعبّد بصدوره بالإضافة إلى بعض ذلك المتعدّد ، فإذا فرض أنّه يدخل في النهي عن إكرام الفساق إكرام العالم الفاسق فيمكن التعبّد ولو ببركة الأخبار العلاجيّة بصدوره بالإضافة إلى تمام مدلوله ، لثبوت المرجّح فيه على خبر يستحب إكرام كلّ عالم ، ولا يكون في خبر أكرم كلّ عالم تعبّد بالصدور بالإضافة إلى إكرام العالم الفاسق ، حيث يحتمل أن يكون صدورهما واقعا كذلك ، بأن كان خبر أكرم كلّ عالم مقترنا بما يقتضى اختصاصه بغير العالم الفاسق ، ووقعت الغفلة للناقل عن

١٩٦

لو قيل بالتعدي من المزايا المنصوصة ، إلّا أنها موجبة لتقديم أحد السندين وترجيحه وطرح الآخر ، فإن أخبار العلاج دلت على تقديم رواية ذات مزية في أحد أطرافها ونواحيها فجميع هذه من مرجحات السند حتى موافقة الخبر للتقية ،

______________________________________________________

التعرض لنقل تلك القرينة ولو بلحاظ كونها من قبيل قرينة الحال والمقام.

والحاصل كما أنّ أصالة الظهور فيما كان السند في كلّ من الخطابين قطعيّا انحلاليّ ، فيمكن اعتبار الظهور في البعض وعدم اعتباره في البعض الآخر كذلك أصالة الصدور في الخبرين ، فإنّ عدم صدور الخبر لاقترانه بقيد أو قرينة يوجب صدور بعض ظاهره الفعليّ دون تمامه.

ودعوى عدم إمكان التبعيض في الخبر من حيث الصدور لا تخلو عن الجزاف ، نعم لو كان التعبّد بالصدور وصفا للخبر بحسب الدالّ ، كما في الحكم بحرمة الكذب لأمكن المناقشة في التبعيض ولما كان الخبر معتبرا إذا علم أنّ المخبر يروي الحكم عن الإمام عليه‌السلام بالنقل بالمعنى ، ولو قال المتكلّم : زيد وعمرو قائمان وكان القائم في الواقع أحدهما دون الآخر ، وقال آخر : بكر وخالد قائمان ولم يكن واحد منهما قائما فقد كذب كلّ من الخبرين كذبا واحدا ؛ لأنّ الكذب ولو كان بحسب مدلول الكلام إلّا أنّه وصف وعنوان لنفس الدالّ ، بخلاف الاغتياب فإنّه عنوان ينطبق على الخبر في مدلوله ، لا أنّه عنوان للدالّ حيث إنّ الاغتياب كشف ما ستره الله على مؤمن فالمتكلّم بكلام واحد قد يكشف به عما ستره الله على مؤمنين كما إذا قال : زيد وعمرو شربا الخمر.

ثمّ على ما ذكرنا من إمكان التبعيض في الخبر في التعبّد بصدوره لا يختلف فيما كان التعدّد والانحلال في مدلوله وضعيّا أو بالإطلاق ، لما تقدّم من انعقاد الظهور الاستعمالي بمقدمات الإطلاق.

١٩٧

فإنها أيضا مما يوجب ترجيح أحد السندين وحجيته فعلا وطرح الآخر رأسا ، وكونها في مقطوعي الصدور متمحضة في ترجيح الجهة لا يوجب كونها كذلك في غيرهما ، ضرورة أنه لا معنى للتعبد بسند ما يتعين حمله على التقية ، فكيف يقاس على ما لا تعبد فيه للقطع بصدوره؟.

ثمّ إنّه لا وجه لمراعاة الترتيب بين المرجّحات لو قيل بالتعدّي [١].

______________________________________________________

في تعارض النسخ واختلافها

بقي الكلام في اختلاف النسخ في كونه داخلا في باب التعارض ، ليلاحظ الترجيح أو أنّه داخل في اشتباه الحجّة باللاحجّة ، والصحيح أنّ اختلاف النسخ إن كان من مصنّفين ، كما إذا روى الخبر الكليني قدس‌سره بنحو والشيخ أو الصدوق قدس‌سرهما بنحو آخر ، بحيث لا يدخل نقل أحدهما في التبعيض في النقل فهذا يدخل في باب التعارض ؛ لأنّ العلم بعدم صدور أحد المنقولين عن المعصوم عليه‌السلام ملاك التعارض ، إلّا أن يكون الاختلاف بالزيادة والنقيصة بحيث لا تنفي الزيادة راوي النقيصة وراوي الزيادة ينقلها ، فيثبت بنقله الزيادة من غير معارضة بينهما.

وأمّا إذا كان الاختلاف في نسخ كتاب واحد ، وعلم أنّ منقول المؤلّف أحدهما وكان الناسخان ممن وصل إليه نسخة الكتاب بطريق معتبر ، وكانا ثقتين فهذا أيضا داخل في التعارض في النقل ، بخلاف ما إذا علم أنّ ما نقل المؤلّف أحدهما ، ولم يظهر كيفية وصول النسخة إلى الناسخ ، فلا يجري على اختلاف النسختين حكم التعارض ولا يثبت شيء من مورد الاختلاف.

[١] وحاصل ما ذكر قدس‌سره في المقام أنّه لو بنى على التعدّي من المرجّحات المنصوصة إلى غيرها ـ بأحد المناطين اللذين استظهرا من الروايات الواردة في الترجيح من كون ذي المزيّة إصابته الواقع مظنونا أو كونه أقرب إلى إصابة الواقع

١٩٨

وإناطة الترجيح بالظن أو بالأقربية إلى الواقع ، ضرورة أن قضية ذلك تقديم الخبر الذي ظن صدقه أو كان أقرب إلى الواقع منهما ، والتخيير بينهما إذا تساويا ، فلا وجه لإتعاب النفس في بيان أن أيّها يقدم أو يؤخر إلّا تعيين أن أيّها يكون فيه المناط في صورة مزاحمة بعضها مع الآخر.

وأما لو قيل بالاقتصار على المزايا المنصوصة فله وجه لما يتراءى من ذكرها مرتبا في المقبولة والمرفوعة ، مع إمكان أن يقال : إن الظاهر كونهما كسائر أخبار الترجيح بصدد بيان أن هذا مرجح وذاك مرجح ، ولذا اقتصر في غير واحد منها على

______________________________________________________

بالإضافة إلى الآخر ـ لما كان بين المرجّحات ترتيب ، بل إذا كان أحد المتعارضين واجدا لمزيّة والآخر منهما واجدا لمزيّة اخرى فإن احرز بذلك مناط الترجيح في أحدهما دون الآخر فيقدّم على الآخر وإلّا يرجع إلى إطلاقات التخيير.

نعم لو اقتصر بالمرجّحات المنصوصة فيمكن القول باعتبار الترتيب الوارد في المقبولة والمرفوعة ، ولكنّ الصحيح على ذلك أيضا عدم لزوم رعاية الترتيب ، بل إذا كان في أحد المتعارضين مرجّح منها وفي الآخر منهما مرجّح آخر منها يؤخذ بإطلاقات التخيير ، وإن اختصّ أحدهما بمرجّح منها من دون أن يوجد في الآخر مرجّح يقدّم ما فيه المرجّح ، وذلك فإنّ المقبولة وغيرها ناظرة إلى بيان تعداد المرجّحات لا لرعاية الترتيب بينها أيضا ، ويشهد لذلك الاقتصار في بعض الروايات على ذكر مرجّح واحد كمخالفة العامّة أو موافقة الكتاب ، وملاحظة الترتيب يوجب تقييد هذه الروايات بالمقبولة ، وهذا النحو من التقييد المستلزم لخروج كثير من الصور بعيد جدّا.

وعلى الجملة إن كان في أحد المتعارضين ملاك الترجيح من حيث الصدور وفي الآخر ملاك الترجيح من جهة الصدور أو المضمون أو غيرهما يلاحظ ما حصل

١٩٩

ذكر مرجح واحد ، وإلّا لزم تقييد جميعها على كثرتها بما في المقبولة ، وهو بعيد جدا ، وعليه فمتى وجد في أحدهما مرجح وفي الآخر آخر منها ، كان المرجع هو إطلاقات التخيير ، ولا كذلك على الأول بل لا بد من ملاحظة الترتيب ، إلّا إذا كانا في عرض واحد.

وانقدح بذلك أن حال المرجح الجهتي حال سائر المرجحات ، في أنه لا بد في صورة مزاحمته مع بعضها من ملاحظة أنّ أيّهما فعلا موجب للظن بصدق ذيه بمضمونه ، أو الأقربية كذلك إلى الواقع ، فيوجب ترجيحه وطرح الآخر ، أو أنه لا مزية لأحدهما على الآخر ، كما إذا كان الخبر الموافق للتقية بما له من المزية مساويا للخبر المخالف لها بحسب المناطين ، فلا بد حينئذ من التخيير بين الخبرين ، فلا وجه لتقديمه على غيره ، كما عن الوحيد البهبهاني قدس‌سره وبالغ فيه بعض أعاظم المعاصرين ـ أعلى الله درجته ـ ولا لتقديم غيره عليه [١].

______________________________________________________

فيه مناط الترجيح بناء على التعدّي ، ومع عدم حصوله يرجع إلى إطلاقات التخيير ، كما إذا كان الخبر المخالف للعامّة مع الموافق لهم سيّان في مناطين ، كما إذا كان في الموافق مرجح آخر من مرجّحات المتعارضين ، وما عن الوحيد البهبهاني قدس‌سره ـ من تقديم مرجّح جهة الصدور على المرجّحات الاخرى ، لأن مع كون أحد الخبرين مخالفا للعامّة والآخر موافقا لهم يتعيّن حمل الخبر الموافق لهم على التقيّة ، نظير ما إذا كان بين ظهوري الخبرين جمع عرفي يعني أن الأظهريّة في أحدهما تكون موجبة لحمل الآخر على خلاف ظاهره ـ غير صحيح.

[١] يعني لا وجه لتقديم غير مرجّحات جهة الصدور على مرجّح جهة الصدور ، وهذا تعريض لما ذكره الشيخ قدس‌سره من أنّ الخبر الذي في صدوره مزيّة يتقدّم على الآخر وإن كان في ذلك الآخر مزيّة جهة الصدور ، كما إذا كان أحد الخبرين رواته

٢٠٠