دروس في مسائل علم الأصول - ج ٦

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8438-62-8
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٤٦

إلّا أنه حيث كان بلا تعيين ولا عنوان واقعا ـ فإنه لم يعلم كذبه إلّا كذلك ، واحتمال كون كل منهما كاذبا ـ لم يكن واحد منهما بحجة في خصوص مؤداه ، لعدم التعيين في الحجة أصلا ، كما لا يخفى.

نعم يكون نفي الثالث بأحدهما لبقائه على الحجية ، وصلاحيته على ما هو

______________________________________________________

الفجر لصوم غده وبين أن يحفظه لدفع عطشه الحادث مستقبلا أو عطش متعلّقه من أهله وعياله ، بل لا يبعد أن يحكم بفساد غسله في الفرض ؛ لأنّ صرفه فيه إيقاع نفسه ونفس آخر محترمة في الهلاكة فيكون محرّما ، ولا يبعد أن يكون احتمال حدوث العطش كافيا في وجوب الحفظ وعدم جواز إتلاف الماء حيث يجب في مثل هذه الموارد الاحتياط وعدم جواز الرجوع إلى الأصل.

ومن المرجّحات في باب التزاحم على ما يقال ما إذا كان أحد التكليفين من قبيل الواجب الذي له بدل بخلاف الواجب الآخر حيث لا يكون له بدل ، فإنّه يقدّم في الامتثال ما ليس له بدل سواء كان البدل للواجب الآخر من البدل العرضي أو الطولي.

فالأوّل : كما إذا كان أحد الواجبين تخييريّا والواجب الآخر تعيينيّا ، ولم يتمكّن المكلّف من الجمع بين أحد عدلي التخييري والواجب الآخر ، ومثله ما إذا كان أحد الواجبين مضيّقا أو فوريّا والواجب الآخر موسّعا أو غير فوريّ ، فإنّه يذكر تقديم الواجب التعييني والإتيان بعدل آخر من التخييري ، ويقدّم الواجب المضيّق ويؤخّر الموسّع إلى فرده غير المزاحم.

ولكنّ الصحيح أن الواجبين لا يدخلان في المتزاحمين فيه أصلا ، فإنّ التكليف في ناحية الموسّع لم يتعلّق إلّا بصرف وجود الطبيعي حيث يقتضي تحقّقه ، وأمّا خصوص أفراده لم يتعلّق الطلب بشيء منها ، وكذلك الأمر في ناحية الواجب

١٢١

عليه من عدم التعين لذلك لا بهما ، هذا بناء على حجية الأمارات من باب الطريقية ، كما هو كذلك حيث لا يكاد يكون حجة طريقا إلّا ما احتمل إصابته ، فلا محالة كان العلم بكذب أحدهما مانعا عن حجيته ، وأما بناء على حجيتها من باب السببية فكذلك لو كان الحجة هو خصوص ما لم يعلم كذبه ، بأن لا يكون المقتضي للسببية فيها إلّا فيه ، كما هو المتيقن من دليل اعتبار غير السند منها ، وهو بناء العقلاء على

______________________________________________________

التخييري ، فإنّ الوجوب تعلّق بالجامع بين العدلين ولو كان انتزاعيّا ، ومن الظاهر تمكّن المكلف في الفرض من الجمع بين امتثال الواجب الموسّع والمضيّق ، وكذا بين الواجب التخييري والواجب التعييني الآخر ، وعدم محذور في فعليّة كلّ من التكليفين بلا حاجة إلى تصوير الترتّب وتقديره بين التكليفين المتعلّق كلّ واحد منهما بأحدهما ، نعم الترخيص في التطبيق على الفرد من الموسّع أو العدل المزاحم للواجب الآخر يمكن أن يكون ترتّبيا على ما تقدم في البحث في الأمر بضدّين لهما ثالث.

الثاني : ما إذا كان البدل في أحد الواجبين المتزاحمين طوليّا والواجب الآخر ممّا ليس له بدل ولم يتمكن المكلّف من الجمع بين المبدل والواجب الآخر في الامتثال ، كما إذا صاد المحرم في إحرامه صيدا وقيل بعدم جواز تأخير كفارته ، وإنّه يتعيّن عليه النحر أو الذبح في مكة أو منى ، وكان له مال فدار أمره بين شراء الكفارة به وبين صرفه على الهدي الواجب عليه في حجّه تمتّعا ، فيقال بلزوم صرفه في شراء الكفارة ، فإنّه واجب لا بدل له ، ويصوم بدل الهدي حيث إنّ الصيام بدل الهدي لمن لا يتمكّن منه.

أقول : في المثال مناقشة ، فإنّ كفارة الصيد لها بدل اضطراري بل لا دليل على وجوب الكفارة فورا بل الثابت في كفارة الصيد أنه يذبح أو ينحر بمكة إن كان الصيد

١٢٢

أصالتي الظهور والصدور ، لا للتقية ونحوها ، وكذا السند لو كان دليل اعتباره هو بناؤهم أيضا ، وظهوره فيه لو كان هو الآيات والأخبار ، ضرورة ظهورها فيه ، لو لم نقل بظهورها في خصوص ما إذا حصل الظن منه أو الاطمئنان.

وأما لو كان المقتضي للحجية في كل واحد من المتعارضين لكان التعارض بينهما من تزاحم الواجبين ، فيما إذا كانا مؤديين إلى وجوب الضدين أو لزوم

______________________________________________________

في إحرام العمرة ، وفي منى إذا كان في إحرام الحج ، فالمثال من موارد دوران الأمر بين الواجب الموسّع وبين الواجب المضيّق حيث إنّ الهدي واجب عليه يتعيّن عليه الذبح بمنى يوم النحر.

وقد يقال : يعبّر عن البدل الطولي ما ليس له بدل في أجزاء الزمان كالواجب المضيّق ، بخلاف الموسّع حيث إنّ فرده في الزمان اللاحق بدل عن فرده في الزمان الأوّل.

وفيه ما تقدّم من عدم التزاحم بين الواجب المضيّق والموسّع حتّى يلاحظ المرجّح عند التزاحم ، وإن اريد من البدل الطولي ما ذكرنا فيأتي التكلّم فيه في ذيل المرجّح الآتي.

وهو ما إذا كان أحد التكليفين مشروطا بالقدرة على متعلّقه عقلا والتكليف الآخر مشروطا بالقدرة عليه شرعا ، حيث ذكروا أنّه يتعيّن على المكلّف صرف قدرته في الفرض فيما يعتبر فيه القدرة عقلا ، وذلك فإنّه مع امتثال هذا التكليف يستوفي ملاك الوجود في متعلّق ذلك التكليف قطعا ، ولا يحرز فوت ملاك التكليف الآخر ، بخلاف العكس فإنّه مع العكس يعلم بفوت ملاك التكليف الآخر جزما حيث إنّ القدرة على المتعلّق في موارد اشتراط التكليف بالقدرة عقلا شرط استيفاء الملاك ، بخلاف موارد اشتراطه بالقدرة شرعا فإنّها تكون شرطا في حدوث الملاك في

١٢٣

المتناقضين ، لا فيما إذا كان مؤدى أحدهما حكما غير إلزامي ، فإنه حينئذ لا يزاحم الآخر ، ضرورة عدم صلاحية ما لا اقتضاء فيه أن يزاحم به ما فيه الاقتضاء ، إلّا أن يقال بأن قضية اعتبار دليل الغير الإلزامي أن يكون عن اقتضاء ، فيزاحم به حينئذ ما يقتضي الإلزامي ، ويحكم فعلا بغير الإلزامي ، ولا يزاحم بمقتضاه ما يقتضي الغير الإلزامي ، لكفاية عدم تمامية علة الإلزامي في الحكم بغيره.

______________________________________________________

متعلّقه ؛ ولذا قالوا : إن القدرة في موارد اشتراط القدرة عقلا شرط لتنجّز ذلك التكليف ، بخلاف موارد اشتراطه بالقدرة شرعا ، ويعلم كون اشتراطه بالقدرة عقلا ترك أخذ القدرة في خطاب ذلك التكليف ، بخلاف اشتراطه بالقدرة شرعا فإنّ قدرة المكلّف على المتعلّق يؤخذ في خطاب ذلك التكليف.

وفيه إن اريد ممّا ذكر أنّ عدم أخذ القدرة على المتعلّق في خطاب تكليف كاشف عن إطلاق ذلك التكليف ثبوتا بحيث يجعل ذلك التكليف في حقّ العاجز أيضا ، وأنّ دخل القدرة على المتعلّق فيه كدخالة العلم يعتبر في تنجّزه عقلا ، وكذا يكون الملاك في المتعلّق موجودا في صورة عجز المكلف أيضا ، ويفوت عنه ذلك الملاك غاية الأمر يكون معذورا في فوته إن لم يكن من ناحيته تفويت ، بخلاف التكليف المعتبر فيه القدرة شرعا فإنّ الملاك فيه دائر مدار القدرة عليه ، فلا يلزم من تقديم التكليف المشروط بالقدرة العقليّة محذور ولا تفويت ملاك ، بخلاف العكس ، فيرد عليه أنّ اعتبار التكليف على المكلّف يكون لغرض كونه بوصوله إلى المكلف داعيا له إلى الإتيان بالمتعلّق أو الاجتناب عنه ، وهذا الغرض لا يحصل إلّا بالإضافة إلى القادر ؛ ولذا يكون توجيه خطابه إلى العاجز عن المتعلّق قبيحا ، بخلاف غير العالم بالتكليف فإنّ التكليف يمكن أن يكون داعيا له على الإتيان بالمتعلّق في موارد احتماله ولو بترغيبه أو أمره بالاحتياط أو لتوجيه خطابه إليه لأن يصل إليه ويكون

١٢٤

نعم يكون باب التعارض من باب التزاحم مطلقا لو كان قضية الاعتبار هو لزوم البناء والالتزام بما يؤدي إليه من الأحكام ، لا مجرد العمل على وفقه بلا لزوم الالتزام به ، وكونهما من تزاحم الواجبين حينئذ وإن كان واضحا ، ضرورة عدم إمكان الالتزام بحكمين في موضوع واحد من الأحكام ، إلّا أنه لا دليل نقلا ولا عقلا على الموافقة الالتزامية للأحكام الواقعية فضلا عن الظاهرية ، كما مر تحقيقه.

______________________________________________________

داعيا له إلى رعايته.

وعلى الجملة جعل التكليف ثبوتا في حق العاجز كالغافل لغو ، ولكن لامتناع تقييد التكليف بصورة الالتفات إليه يكون له إطلاق ذاتي من غير أن يكون فيه غرض البعث في صورة الغفلة ، بخلاف جعله في حقّ الجاهل الملتفت فإنّه ثبوتا مجعول في حقّه ، والغرض منه دعوته إلى الامتثال ولو بنحو الاحتياط ، وعلى ذلك فلا يكون لخطاب التكليف كشف في موارد اعتبار القدرة العقليّة أيضا لكون الملاك في متعلّقه حاصلا مطلقا ، وأنّ القدرة عليه شرط في استيفاء ملاكه لا في أصل الملاك.

ومع الإغماض عما ذكرنا فلا موجب لتقديم التكليف الذي هو مشروط بالقدرة على متعلّقه عقلا ، فإنّ المفروض أنّ المكلّف قادر على الإتيان بمتعلّق التكليف الآخر أيضا ، فيكون الملاك الملزم فيه أيضا موجودا بناء على ما هو الصحيح من أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه ، فيكون الإتيان بالتكليف المشروط بالقدرة عقلا موجبا لفوت هذا الملاك في ظرف كان الاستيفاء ممكنا.

وعلى الجملة الكاشف عن الملاك في المتعلّق هو طلب المولى وأمره ، والمفروض في المقام ـ بناء على أن الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه ـ تحقّق القدرة بالإضافة إلى كلّ من العملين ، فالملاك في المشروط بالقدرة شرعا أي ما ورد التقييد بالقدرة في خطابه كالملاك في التكليف الآخر المشروط بالقدرة عقلا

١٢٥

وحكم التعارض بناء على السببية فيما كان من باب التزاحم هو التخيير لو لم يكن أحدهما معلوم الأهمية أو محتملها في الجملة ، حسبما فصلناه في مسألة الضد ، وإلّا فالتعيين ، وفيما لم يكن من باب التزاحم هو لزوم الأخذ بما دل على الحكم الإلزامي ، لو لم يكن في الآخر مقتضيا لغير الإلزامي ، وإلّا فلا بأس بأخذه والعمل عليه ، لما أشرنا إليه من وجهه آنفا ، فافهم.

______________________________________________________

موجود ، فاللازم في تقديم الثاني على الأوّل من ثبوت مرجّح.

نعم لو كان المراد من القدرة الشرعية المأخوذة في موضوع أحد التكليفين غير ما تقدّم ، بأن كان المراد ما يدخل فيها عدم اشتغال عهدة المكلف بتكليف آخر مشروط بالقدرة العقليّة بحيث لا يجتمع امتثاله مع المشروط بالقدرة الشرعيّة يقدّم المشروط بالقدرة العقليّة لا من باب ترجيح أحد المتزاحمين ، بل لأنّ حصول التكليف الآخر يوجب ارتفاع الموضوع للتكليف المشروط بالقدرة الشرعية.

والمتحصّل أنّ كلّ مورد تكون فعليّة أحد التكليفين موجبة لعدم حصول الموضوع للتكليف الآخر أو ارتفاعه لا يكون المفروض من التزاحم بين التكليفين ، وإنّما التزاحم بينهما فيما كان كلا التكليفين فعليّين لتمام الموضوع لكلّ منهما ، ولكن كان صرف القدرة على أحدهما موجبا لارتفاع التكليف الآخر بارتفاع القدرة على امتثاله.

نعم إذا كان للمشروط بالقدرة الشّرعية يعني : ما اخذ في خطاب الأمر به القدرة عليه ، أو ما فهم هذا الأخذ من خطاب آخر بأن جعل له بدل عند الاضطرار وعدم التمكّن منه ، حيث يفهم من جعل البدل أنّ الأمر بالمبدل عند القدرة عليه ، فإن دار أمر المكلّف بأن يصرف قدرته فيما ليس له بدل ، أو أن يصرفه فيما له بدل اضطراري لا يبعد أن يتعيّن صرفها على ما ليس له بدل اضطراري مع الإتيان بالبدل الاضطراري بعده ، فإنّ المكلّف إذا صرف قدرته على ذلك الواجب وأتى بعده بالبدل الاضطراري

١٢٦

هذا هو قضية القاعدة في تعارض الأمارات ، لا الجمع بينها بالتصرف في أحد المتعارضين أو في كليهما ، كما هو قضية ما يتراءى مما قيل من أن الجمع مهما أمكن أولى من الطرح ، إذ لا دليل عليه فيما لا يساعد عليه العرف مما كان المجموع أو أحدهما قرينة عرفية على التصرف في أحدهما بعينه أو فيهما ، كما عرفته في

______________________________________________________

يحتمل أن يفوت منه الملاك الملزم أصلا ، لاحتمال أن يكون الملاك الاضطراري بعد ارتفاع القدرة على مبدله وتعلّق الأمر ببدله كافيا بتمام ملاك مبدله ، وظهور الخطاب الاضطراري في حفظ القدرة على مبدله إنما هو فيما إذا لم يكن صرفها في واجب آخر فعلي.

عدم وقوع التعارض بين دليل جزئيّة شيء وجزئيّة الآخر أو شرطيّته إلّا عند عدم التمكّن من الجمع بينهما ولكن بين خطابيهما جمع عرفي

وقد يقال : من صغريات ذلك ما إذا كان المكلّف واجدا لمقدار من الماء ولا يكفي إلّا لوضوئه أو تطهير بدنه أو ثوبه ، حيث إنّ الوضوء يعتبر في الصلاة عند التمكّن منه كما هو المستفاد من قوله سبحانه : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً)(١) بخلاف تطهير الثوب والبدن ، فإنّ المعتبر فيه القدرة عليه عقلا فيقدّم تطهير الثوب والبدن ويتيمّم للصلاة بعده.

وفيه ما تقدّم من أنّ الأمر بالوضوء وكذا الأمر بتطهير الثوب إرشاد إلى دخالة كلّ منهما في الصلاة ، وبما أنّ اعتبار كلّ منهما في الفرض يوجب سقوط الصلاة رأسا فنعلم إجمالا عدم اعتبارهما فيها معا فيكون ما دلّ على وجوب الصلاة في الفرض مجملا مردّدا أمرها بين الصلاة مع طهارة الثوب أو البدن مع التيمّم لها ، أو الصلاة مع

__________________

(١) سورة النساء : الآية ٤٣.

١٢٧

الصور السابقة ، مع أن في الجمع كذلك أيضا طرحا للأمارة أو الأمارتين ، ضرورة سقوط أصالة الظهور في أحدهما أو كليهما معه ، وقد عرفت أن التعارض بين الظهورين فيما كان سنديهما قطعيين ، وفي السندين إذا كانا ظنيين ، وقد عرفت أن قضية التعارض إنما هو سقوط المتعارضين في خصوص كل ما يؤديان إليه من

______________________________________________________

الوضوء مع نجاسة الثوب والبدن ، وبما أنّه لا معيّن في البين فيرجع إلى أصالة عدم التعيين في كلّ منهما ، ونتيجة ذلك التخيير.

نعم الأحوط صرف الماء أوّلا في تطهير الثوب أو البدن ثمّ التيمم للصلاة.

وقد يقال في المقام يقع التعارض في الفرض بين ما دلّ على اعتبار الوضوء في الصلاة وبين ما دلّ على اعتبار طهارة الثوب والبدن ، وبما أنّ ما دلّ على اعتبار الوضوء موافق للكتاب المجيد فيقدّم.

ولكن لا يمكن المساعدة عليه فإنّ الأمر بالوضوء أو تطهير الثوب ـ كما ذكرنا ـ إرشادي ومعنى الأمر الإرشادي أنّه لا تتحقّق الصلاة بدون الوضوء سواء تمكّن منه أم لا ، كما أنّ مقتضى الأمر بتطهير الثوب أنّه لا تكون الصلاة بدون الطهارة من الخبث بلا فرق بين التمكّن منه وعدمه ، ولازم الإطلاقين سقوط الأمر بالمشروط ، وليس خطاب الإرشاد إلى الشرطيّة والجزئيّة كإطلاق الواجب النفسي من أنّه يجب على المتمكّن منه سواء وجب على المتمكّن عمل آخر أم لا ؛ ليقع التعارض بينهما مع العلم بعدم وجوب أحدهما من غير تعيين.

وعلى الجملة مفاد خطاب الإرشاد إلى شرطيّة شيء دخالته في الواجب من غير نظر إلى نفي دخالة الآخر فيه أو إثبات دخالته ، فالتعارض بالمعنى المصطلح لا يكون في الأوامر الإرشاديّة إلى الجزئيّة والشرطية والمانعيّة بالإضافة إلى المأمور به عند التمكّن من الإتيان بها جميعا.

١٢٨

الحكمين ، لا بقاؤهما على الحجية بما يتصرف فيهما أو في أحدهما ، أو بقاء سنديهما عليها كذلك بلا دليل يساعد عليه من عقل أو نقل ، فلا يبعد أن يكون المراد من إمكان الجمع هو إمكانه عرفا ، ولا ينافيه الحكم بأنه أولى مع لزومه حينئذ وتعينه ، فإن أولويته من قبيل الأولوية في أولي الأرحام ، وعليه لا إشكال فيه ولا كلام.

______________________________________________________

نعم تكون خطاباتها متعارضة فيما إذا علم بعدم سقوط أصل الواجب النفسي عن المكلّف عند عدم التمكّن من الجمع بين اثنين منها أو أكثر من اثنين ، فيقتضي خطاب الشرطيّة أو الجزئيّة في ناحية كلّ منهما اعتباره في الواجب النفسي بعينه ، وإذا اقتضى كلّ منهما اعتباره بعينه فيؤخذ بأصل الاعتبار حيث يحتمل أصل الاعتبار في ناحية كلّ منهما ، ويرفع اليد عن كون اعتباره بعينه ، بعين الجمع الذي ذكرنا في الواجبين كالظهر والجمعة.

وبتعبير آخر يكون هذا من موارد الجمع العرفي ، ولا تصل النوبة إلى ملاحظة الترجيح ليقال إنّ ما دلّ على اعتبار الوضوء موافق للكتاب المجيد ، بل الكتاب المجيد أيضا من الخطابات الناظرة إلى الإرشاد إلى الشرطيّة بالإضافة إلى الوضوء والغسل ، وبينه وبين الخطاب الوارد في شرطيّة طهارة الثوب والبدن في الصلاة عند عدم التمكّن من الجمع بينهما وتمكّنه من كلّ منهما جمع عرفي على ما بيّناه.

نعم إذا لم يكن لدليل الاشتراط والجزئيّة إطلاق في ناحية أحدهما بعينه يعتبر ما فيه إطلاق ، ومع عدم الإطلاق في ناحية شيء منهما والعلم باعتبار أحدهما في هذا الحال يرجع إلى الأصل العملي ، ومقتضاه التخيير كما تقدّم.

عدم التزاحم في موارد تعذّر أحد الشرطين أو الجزءين أو الشرط أو الجزء

وممّا ذكرنا يظهر أنّ ما في العروة من أنّه إذا لم يتمكّن في صلاة من الجمع بين

١٢٩

.................................................................................................

______________________________________________________

القيام مع الركوع والسجود الاختياريين بأن يصلّي قائما مع الإيماء لهما وبين الصلاة جالسا مع الركوع والسجود الاختياريين ، أنّه إذا أمكن تكرار الصلاة تارة بالقيام مع الإيماء واخرى جالسا مع الركوع والسجود ، وأنّه يتخيّر مع عدم التمكّن من التكرار لا يمكن المساعدة عليه ، فإنّ الجمع بينهما فيما إذا احرز اعتبار أحدهما بعينه بأن دار أمر الواجب بين المتباينين ، وأمّا مع احتمال اعتبار أحدهما يكون مقتضى الجمع التخيير بينهما ، وما عن النائيني قدس‌سره في تعليقته في أحد الموضعين من تقديم القيام ؛ لكون ظرف امتثاله أسبق ، وفي موضع آخر تقديم الركوع والسجود الاختياريين ؛ لكونهما أهمّ لا يمكن المساعدة عليه ؛ لخروج المقام عن المتزاحمين.

١٣٠

فصل

لا يخفى أن ما ذكر من قضية التعارض بين الأمارات إنما هو بملاحظة القاعدة في تعارضها [١]. وإلّا فربما يدعى الإجماع على عدم سقوط كلا المتعارضين في الأخبار ، كما اتفقت عليه كلمة غير واحد من الأخبار ، ولا يخفى أن اللازم فيما إذا

______________________________________________________

حكم المتعارضين

[١] المراد بمقتضى القاعدة النظر إلى أصل دليل الاعتبار في كلّ من المتعارضين سواء كان المتعارضان فردين من نوع واحد من الأمارة أو كان كلّ منهما من نوع غير النوع الآخر ، وقام الدليل على اعتبار كلّ من النوعين مع قطع النظر عن صورة التعارض ، وقد تقدّم أنّ القاعدة الأوّلية عدم اعتبار شيء من المتعارضين ، لا بالإضافة إلى مدلولهما المطابقي ولا إلى مدلولهما الالتزامي ، خلافا للماتن قدس‌سره حيث اقتصر في سقوطهما عن الاعتبار بالإضافة إلى مدلولهما المطابقي لا بالإضافة إلى المدلول الالتزامي ، إذ يتفقان فيه ، فإنّ أحدهما لا بعينه مما لم يحرز كذبه باق تحت دليل الاعتبار ، ويمكن به نفي الثالث ، وقد ذكروا أنّ المتعارضين فيما كانا من قبيل خبر العدل أو الثقة في الأحكام الشرعيّة العمليّة يعتبران على وجه التخيير مطلقا ، كما هو مختار الماتن ١ حيث التزم بأنّ ملاحظة المرجّحات على نحو الاستحباب والأفضليّة أو التخيير بعد فقد المرجّحات المنصوصة ، أو بعد فقد مطلق المرجّح كما ذهب إلى كلّ منهما جمع.

ولا يخفى أنّه لو تمّ شيء مما ذكر بقيام دليل معتبر عليه فيؤخذ بمقتضاه ، وإلّا فإن دار أمر الحجّة فيهما بين التعيين والتخيير يؤخذ بالتعيين ، للعلم بصحة الاستناد إليه تنجيزا وتقديرا ، وأمّا الآخر فلم تحرز صحة الاستناد إليه بل مقتضى الاستصحاب عدم تعلّق الاعتبار به لا بنحو التعيين ولا بنحو التخيير ، وإن لم يكن

١٣١

لم تنهض حجة على التعيين أو التخيير بينهما هو الاقتصار على الراجح منهما ، للقطع بحجيته تخييرا أو تعيينا ، بخلاف الآخر لعدم القطع بحجيته ، والأصل عدم حجية ما لم يقطع بحجيته ، بل ربما ادعي الإجماع أيضا على حجية خصوص الراجح ، واستدلّ عليه [١] بوجوه أخر ، أحسنها الأخبار وهي على طوائف :

______________________________________________________

الأمر دائرا بينهما بل احتمل الاعتبار في المتعارضين بنحو التخيير أو بنحو التعيين فالأصل عدم اعتبارهما تخييريّا ولا اعتبار أحدهما تعيينيّا.

وعلى الجملة ففي دوران الحجّة بين كونها تخييريّة أو تعيينيّة يتعيّن الأخذ باحتمال التعيين ، وأمّا إذا احتمل عدم حجيّة شيء منهما لا تعيينا ولا تخييرا فلا يجوز الاعتماد على شيء منهما.

لا يقال : إذا احرز اعتبار المتعارضين في الجملة ودار أمره بنحو التخيير والتعيين فلم لا يؤخذ بالتخيير نظير دوران أمر الواجب بين كونه تخييريا أو تعيينيا ، حيث إنّ مقتضى أصالة البراءة الجارية في ناحية التعيين جواز الاكتفاء بالجامع بينهما المعبّر عن ذلك بالتخيير.

فإنّه يقال : الفرق هو أنّ المطلوب من الأثر في باب الحجج التنجيز والتعذير عند الاستناد إليه في العمل ، ومعنى التخيير في الحجّة أنّه يصير معتبرا عند الأخذ ، لا تعلّق الاعتبار بالجامع نظير تعلّق التكليف بالجامع بين العملين ، فإنّ التخيير في الطريق بهذا المعنى غير معقول ، فالاستصحاب في عدم جواز الاستناد إلى ما يحتمل فيه أصل الاعتبار وعدم اعتباره في مقام العمل جار بلا معارض ، ولا يجري الاستصحاب في ناحية عدم اعتبار ما يعلم اعتباره تخييرا أو تعيينا ؛ لأنّه إن اريد إثبات تعلّق الاعتبار بالآخر أيضا وجواز الاستناد إليه فهو مثبت ، وإن اريد نفي كونه منجّزا أو معذّرا وعدم جواز الاستناد إليه فجوازه والتعذير فيه قطعيّ.

[١] يعني يستدلّ على الترجيح بين الخبرين المتعارضين بوجوه أحسنها

١٣٢

.................................................................................................

______________________________________________________

الأخبار ، والأخبار الواردة في المتعارضين على طوائف :

منها : ما ظاهره التخيير بين الخبرين المتعارضين مطلقا ، أي من غير دلالة لها على رعاية الترجيح كخبر الحسن بن الجهم عن الرضا عليه‌السلام ورواه في الوسائل عن كتاب الاحتجاج لأحمد بن علي بن أبي طالب الطبري مرفوعا إلى الحسن بن الجهم : «قال قلت له : تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة ، فقال : ما جاءك عنّا فقس على كتاب الله عزوجل وأحاديثنا فإن كان يشبههما فهو منّا ، وإن لم يكن يشبههما فليس منّا ، قلت : يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا نعلم أيهما الحقّ ، قال : فإذا لم تعلم فموسّع عليك بأيهما أخذت» (١) وهذا الخبر لا بأس بدلالة ذيله على التخيير بين المتعارضين ولكن لضعف سنده لا يمكن الاعتماد عليه. وخبر الحارث بن المغيرة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلّهم ثقة فموسّع عليك حتّى ترى القائم عليه‌السلام فتردّ إليه» (٢) والسند فيه كما في قبله ، فإنّه رواه الطبرسي أيضا مرفوعا عن الحارث بن المغيرة ودلالته على التخيير والتوسعة غير بعيدة.

ومنها : صحيحة علي بن مهزيار التي رواها الشيخ «باسناده عن أحمد بن محمد عن العباس بن معروف عن علي بن مهزيار قال : قرأت في كتاب لعبد الله بن محمد إلى أبي الحسن عليه‌السلام : اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد الله عليه‌السلام في ركعتي الفجر في السفر فروى بعضهم : صلّها في المحمل وروى بعضهم لا تصلّها إلّا على

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢١ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٠.

(٢) المصدر السابق : ١٢٢ ، الحديث ٤١.

١٣٣

منها : ما دلّ على التخيير على الإطلاق ، كخبر الحسن بن الجهم ، عن الرضا عليه‌السلام : (قلت : يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا يعلم أيّهما الحق ، قال : فإذا لم يعلم فموسع عليك بأيهما أخذت). وخبر الحارث بن المغيرة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : (إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلهم ثقة ، فموسع عليك

______________________________________________________

الأرض فوقّع عليه‌السلام : موسّع عليك بأيّة عملت» (١).

ومكاتبة محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري إلى صاحب الزمان عليه‌السلام وفيها «قال عليه‌السلام في الجواب عن ذلك حديثان ، أمّا أحدهما ، فإذا انتقل من حالة إلى اخرى فعليه التكبير ، وأمّا الآخر ، فإنّه روي أنه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبّر ثمّ جلس ثمّ قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير ، وكذلك التشهد الأوّل يجري هذا المجرى ، وبأيّهما أخذت من جهة التسليم كان صوابا» (٢).

ولكن لا يخفى عدم دلالة شيء منهما على التخيير بين المتعارضين. أمّا صحيحة علي بن مهزيار فالتخيير واقعي للجمع العرفي بين الحديثين ؛ لأنّ أحدهما ظاهر في اعتبار الصلاة على الأرض في نافلة الفجر بمعنى عدم جوازها على المحمل ، والاخرى نصّ في جوازها فيه فيحمل النهي عن العبادة على الكراهة بمعنى قلّة الثواب ، وكذلك في المكاتبة وأنّ التكبيرة في القيام بعد الجلوس من السجدة الثانية أو عند القيام من التشهد ليست كالتكبيرة في ساير الحالات ، وأنّ الأولى منها هو الذكر الخاصّ.

وقول الماتن قدس‌سره : «إلى غير ذلك» لعلّه يشير إلى موثّقة سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام «قال : سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر ، كلاهما يرويه ، أحدهما يأمر

__________________

(١) المصدر السابق : الحديث ٤٤.

(٢) وسائل الشيعة ٦ : ٣٦٢ ، الباب ١٣ من أبواب السجود ، الحديث ٨.

١٣٤

حتى ترى القائم فترد عليه). ومكاتبة عبد الله بن محمد إلى أبي الحسن عليه‌السلام (اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، في ركعتي الفجر ، فروى بعضهم : صل في المحمل ، وروى بعضهم : لا تصلها إلّا في الأرض ، فوقع عليه‌السلام : موسع عليك بأية عملت) ومكاتبة الحميري إلى الحجة عليه‌السلام إلى أن قال في

______________________________________________________

بأخذه ، والآخر ينهاه عنه ، كيف يصنع؟ قال : يرجئه حتى يلقى من يخبره ، فهو في سعة حتى يلقاه» (١).

ولكن لا يخفى أنّ المفروض فيها دوران الأمر بين المحذورين فيما إذا لم يكن الأمر والنهي قابلين للجمع العرفي المتقدّم في صحيحة علي بن مهزيار والمكاتبة ، ومع عدم إمكان الاحتياط يكون ـ في مورد دوران المحذورين ـ التخيير عملا.

وعلى الجملة ما هو تامّ سندا لا دلالة له على التخيير بين المتعارضين ، وما هو غير معتبر سندا دلالته على التخيير لا تفيد شيئا.

ودعوى انجبار ضعف السند بالشهرة كما يظهر بملاحظة كلام الكليني قدس‌سره وغيره لا تمكن المساعدة عليها ، فإنّ الكليني قدس‌سره قد أخذ التخيير بين المتعارضين من بعض ما ورد من التخيير في موارد الجمع العرفيّ كصحيحة علي بن مهزيار ، وقد ذكرنا خروج مثلها عن مورد الكلام ، وقد ذكر في ديباجة الكافي : «فاعلم يا أخي أرشدك الله ، أنّه لا يسع أحدا تمييز شيء مما اختلف الرواية فيه عن العلماء برأيه إلّا على ما أطلقه العالم بقوله عليه‌السلام : واعرضوهما على كتاب الله فما وافق كتاب الله عزوجل فخذوه ، وما خالف كتاب الله فردّوه ، وقوله عليه‌السلام : دعوا ما وافق القوم ، فإن الرشد في خلافهم ، وقوله عليه‌السلام : خذوا بالمجمع عليه ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٨ ، من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٥.

١٣٥

الجواب عن ذلك حديثان ... إلى أن قال عليه‌السلام (وبأيهما أخذت من باب التسليم كان صوابا) إلى غير ذلك من الإطلاقات.

ومنها : ما دلّ على التوقف مطلقا [١].

ومنها : ما دلّ على ما هو الحائط منها.

ومنها : ما دلّ على الترجيح بمزايا مخصوصة ومرجحات منصوصة.

______________________________________________________

ونحن لا نعرف من جميع ذلك إلّا أقلّه ولا نجد شيئا أحوط ولا أوسع من ردّ علم ذلك كلّه إلى العالم عليه‌السلام وقبول ما وسع من الأمر فيه بقوله عليه‌السلام : وبأيّهما أخذتم من باب التسليم وسعكم» (١).

[١] إن كان المراد مما دلّ على التوقّف مطلقا ما ورد في التوقّف في مطلق الشبهة والأمر بالاحتياط فيها ، فتلك الأخبار خارجة عن محل الكلام في المقام ، وقد تعرّضنا لها في بحث أصالة البراءة (٢) وبيّنا وجه الجمع بينها وبين ما دلّ على عدم وجوب الاحتياط والتوقف في الشبهات ، والكلام في المقام في الخبرين المتعارضين ، وإن أراد أنّه قد ورد في الخبرين المتعارضين الأمر بالتوقّف والاحتياط بالخصوص من غير تفصيل فلا نعرفه إلّا ما يمكن أن يقال بظهور موثقة سماعة المتقدّمة (٣) في ذلك ، ولكن قد تقدّم أنّ المفروض فيها دوران الأمر بين المحذورين وإمكان الوصول إلى إحراز الواقع بالرجوع إلى الإمام عليه‌السلام وعدم شيء في الارتكاب إلى زمان الوصول ، ولا دلالة لها على وجوب التوقّف والاحتياط في الخبرين المتعارضين.

__________________

(١) المصدر السابق : ١١٢ ، الحديث ١٩.

(٢) دروس في مسائل علم الأصول ٣ : ٢٨٤ فما بعد.

(٣) مرّ تخريجه آنفا.

١٣٦

من مخالفة القوم وموافقة الكتاب والسنة ، والأعدلية ، والأصدقية ، والأفقهية والأورعية ، والأوثقية ، والشهرة على اختلافها في الاقتصار على بعضها وفي الترتيب بينها.

ولأجل اختلاف الأخبار اختلفت الأنظار.

______________________________________________________

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ مكاتبة محمد بن علي بن عيسى التي رواها ابن إدريس في آخر السرائر نقلا عن كتاب مسائل الرجال لعلي بن محمد ، أنّ محمد بن علي بن عيسى كتب إليه : «عن العلم المنقول إلينا عن آبائك وأجدادك صلوات الله عليهم قد اختلف علينا فيه ، كيف العمل به على اختلافه أو الردّ إليك فيما اختلف فيه؟ فكتب : ما علمتم أنّه قولنا فألزموه ، وما لم تعلموا فردّوه إلينا» (١) تدلّ على وجوب التوقّف عند تعارض الأحاديث.

نعم قد ورد الأمر بالتوقف بعد ما فرض السائل تساوي الروايتين في المرجحات الواردة فيها ، كما أنّه قد ورد فيما رواه ابن أبي جمهور الأحسائي في «عوالي اللآلي» عن العلّامة مرفوعا إلى زرارة الأخذ بما يوافق الاحتياط منهما بعد فقد المرجّحات الواردة فيها في أحد المتعارضين قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام فقلت : «جعلت فداك يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان فبأيّهما آخذ؟ فقال عليه‌السلام : يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر ، فقلت : يا سيّدي إنّهما معا مشهوران مرويّان مأثوران عنكم ، فقال عليه‌السلام : خذ بقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك ، فقلت : إنّهما معا عدلان مرضيّان موثّقان ، فقال : انظر ما وافق منهما مذهب العامّة فاتركه وخذ بما خالفهم ، قلت : ربّما كانا معا موافقين لهم أو مخالفين ، فكيف

__________________

(١) السرائر ٣ : ٥٤٨.

١٣٧

فمنهم من أوجب الترجيح بها ، مقيدين بأخباره إطلاقات التخيير ، وهم بين من اقتصر على الترجيح بها ، ومن تعدى منها إلى سائر المزايا الموجبة لأقوائية ذي المزية وأقربيته ، كما صار إليه شيخنا العلامة (أعلى الله مقامه) ، أو المفيدة للظن ، كما ربما يظهر من غيره.

فالتحقيق أن يقال : إنّ أجمع خبر للمزايا المنصوصة في الأخبار هو المقبولة والمرفوعة [١] مع اختلافهما وضعف سند المرفوعة جدّا ، والاحتجاج بهما على وجوب الترجيح في مقام الفتوى لا يخلو عن إشكال.

______________________________________________________

أصنع؟ فقال : إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك ما خالف الاحتياط فقلت : إنّهما معا موافقان للاحتياط أو مخالفان له ، فكيف أصنع؟ فقال عليه‌السلام إذن فتخيّر أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر» (١).

ولا يخفى أنّ ظاهر هذه المرفوعة كون أحد الخبرين موافقا للاحتياط مرجحا له في مقام المعارضة لا أنّه يجب الاحتياط في الواقعة بعد فقد المرجحات.

المرجحات لأحد المتعارضين

[١] قد ذكر الماتن قدس‌سره أنّ المقبولة والمرفوعة من بين أخبار الترجيح أجمع خبرين للمزايا المنصوصة لأحد المتعارضين على الآخر ، ولكن ضعف سند المرفوعة وضعف دلالتهما على لزوم الترجيح في مقام الإفتاء ، لاختصاصهما بالترجيح في مقام القضاء والخصومة يمنعان من الالتزام بلزوم الترجيح بين المتعارضين في مقام الإفتاء ، ويشكل رفع اليد بهما عن إطلاقات التخيير في الطائفة الاولى من الأخبار ، والمتعيّن لزوم الاقتصار في الترجيح على مقام القضاء وفصل

__________________

(١) مستدرك الوسائل ١٧ : ٣٠٣ ، الباب ٩. عن غوالي اللآلي.

١٣٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الخصومة ؛ لأنّ فصل الخصومة لا يمكن بالتخيير ؛ لأنّ كلّا من المترافعين يختار ما هو أصلح له ؛ ولذا أمر عليه‌السلام مع عدم المرجّحات الواردة فيها بتأخير الواقعة إلى لقائه ، وهذا بخلاف مقام الإفتاء ، ولو قيل بظهورهما في الترجيح في مقام الإفتاء أيضا فشمولهما لمثل زماننا ممّا لا يتمكّن من لقاء الإمام عليه‌السلام غير ظاهر ، لضعف المرفوعة سندا ، واختصاص المقبولة بصورة التمكّن من لقائه عليه‌السلام ؛ ولذا ما ارجع إلى التخيير بعد فقد المرجحات.

مع أنّه لو التزمنا بلزوم الترجيح بلا فرق بين الزمانين لزم حمل إطلاقات التخيير وما لم يستفصل فيها من وجود المرجح وعدمه على الفرض النادر ، حيث إنّ كون المتعارضين متساويين من جميع الجهات صورة نادرة ، فالمتعيّن على تقدير ظهور المقبولة في لزوم الترجيح حتى في مقام الإفتاء حملها على صورة التمكّن من لقائه عليه‌السلام ، أو حمل الترجيح بالمرجحات مطلقا على الاستحباب ، ويشهد لكون الترجيح بها استحبابي اختلاف الروايات الواردة في المرجحات من حيث تعدادها وتقديم بعضها على بعض وبهذا ـ أي بالاختلاف الكثير بين أخبار الترجيح حيث يعدّ قرينة على الاستحباب ـ يظهر الحال في ساير أخبار الترجيح ، وأنّ الحكم بالترجيح فيها أيضا استحبابي.

ثمّ أشار قدس‌سره إلى أخبار الترجيح بموافقة الكتاب أو مخالفة القوم ، فذكر في كون تلك الأخبار في بيان المرجّح لأحد المتعارضين تأمّل وإشكال ، ووجهه أنّ الخبر المخالف للكتاب العزيز في نفسه لا يكون حجّة بشهادة ما ورد في أنّه : «زخرف» (١)

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١١٠ و ١١١ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٢ و ١٤.

١٣٩

.................................................................................................

______________________________________________________

و «باطل» (١) و «ليس بشيء» (٢) أو «لم نقله» (٣) أو «اضربوه على الجدار» (٤) ، وكذا الخبر «الموافق للقوم» (٥) فإنّ أصالة عدم صدوره تقيّة مع ملاحظة الخبر الآخر المخالف لهم غير جارية للوثوق بصدوره تقيّة ، فيكون مثل هذه الأخبار في مقام تمييز الحجّة عن اللاحجّة ، لا في مقام ترجيح أحد المتعارضين على الآخر ، ولو تمّ ظهورها في الترجيح أيضا فلا بد من حملها على تمييز الحجّة عن اللاحجّة ، أو على استحباب الترجيح ولو بأن يحمل بعض تلك الأخبار على تمييز الحجّة عن اللاحجّة وبعضها الآخر على استحباب الترجيح ، وأيضا لو كان الترجيح بين المتعارضين أمرا لازما لزم تقييد التقييد في أخبار الترجيح وهي آبية عن التقييد ، وكيف يمكن التقييد في مثل : «ما خالف الكتاب زخرف باطل لم نقله» بأن يحمل على صورة فقد المرجح للخبر الآخر؟

أقول : ما ذكر قدس‌سره من كون مورد المرفوعة كالمقبولة الحكومة وفصل الخصومة من سهو القلم ، فليس في المرفوعة ما يدلّ على ذلك ، وأمّا ما ذكره من التخيير لا يناسب فصل الخصومة ، فيقال (٦) : إنّه مبنيّ على أن يكون التخيير في المتعارضين في المسألة الفرعيّة ، وأمّا إذا كان في المسألة الاصوليّة فيتعيّن على الحاكم الأخذ بأحد

__________________

(١) المصدر السابق : ١٢٣ ، الحديث ٤٨.

(٢) وسائل الشيعة ٢٢ : ٣٩ ، الباب ١٥ من أبواب مقدمات الطلاق ، الحديث ٧.

(٣) انظر وسائل الشيعة ٢٧ : ١١١ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٥.

(٤) لم نعثر عليه.

(٥) وسائل الشيعة ٢٧ : ١١٢ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٩.

(٦) فوائد الاصول ٤ : ٧٧٢.

١٤٠