دروس في مسائل علم الأصول - ج ٦

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8438-62-8
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٤٦

وأمّا الترجيح بمثل الاستصحاب ، كما وقع في كلام غير واحد من الأصحاب ، فالظاهر أنه لأجل اعتباره من باب الظنّ والطريقيّة عندهم [١].

______________________________________________________

الربيبة ينافي الكتاب المجيد الدالّ على حرمتها فيما دخل بأمّها ، تسقط اعتبار خبر عدم حرمتها في فرض الدخول بامّها ، ويبقى من مدلوله عدم حرمة ربيبة لم يدخل بأمّها ، وهذا المدلول أخصّ بالإضافة إلى الخبر الدالّ على حرمة الربيبة ، فيرفع اليد به عن إطلاق الخبر الدالّ على حرمة الربيبة وأنّ حرمتها فيما إذا دخل بأمّها ، فلا حرمة فيما إذا لم يدخل بأمّها ، وهذا بناء على انقلاب النسبة ظاهر ، وأمّا بناء على إنكاره كما عليه الماتن قدس‌سره فالأمر أيضا كذلك ؛ لأنّه يلزم من تقديم الخبر الدالّ على حرمتها مطلقا إلغاء قيد الدخول بأمّها في الآية ، وحمله على القيد الغالب كقيد (اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ)(١) تكلّف بلا موجب ، كما لا موجب لطرح الخبر الدالّ على عدم حرمتها في مورد افتراقه عن مدلول الآية ؛ لأنّ مورد افتراقه ليس مخالفا للكتاب المجيد ، ليكون باطلا مطلقا.

في عدم كون الاستصحاب مرجّحا لأحد الخبرين المتعارضين

[١] لا يخفى أنّ الاستصحاب بناء على كونه أمارة ظنيّة على الواقع ـ للغلبة بين حدوث الشيء وبقائه ـ يكون من القسم الأوّل الذي لم يقم على اعتباره دليل ، فيجري في الترجيح به ما تقدّم في الترجيح بالقسم الأوّل.

لا يقال : المفروض اعتبار الاستصحاب ، فيكون من القسم الثالث.

فإنّه يقال : بناء على كونه أمارة للواقع وموجبا للظنّ بمدلول أحد الخبرين المتعارضين أو كون مدلوله أقرب إلى الواقع من مدلول الخبر الآخر يمكن الترجيح

__________________

(١) سورة النساء : الآية ٢٣.

٢٢١

وأما بناء على اعتباره تعبدا من باب الأخبار وظيفة للشاك ، كما هو المختار ، كسائر الأصول العملية التي يكون كذلك عقلا أو نقلا ، فلا وجه للترجيح به أصلا ، لعدم تقوية مضمون الخبر بموافقته ، ولو بملاحظة دليل اعتباره كما لا يخفى.

هذا آخر ما أردنا إيراده ، والحمد لله أولا وآخرا وباطنا وظاهرا.

______________________________________________________

به ، بناء على التعدّي من المرجّحات المنصوصة بأحد المناطين ، إلّا أنّه لا يمكن كونه من القسم الثالث ؛ لأنّه لو تمّ الدليل على اعتباره من باب الطريقيّة فاعتباره فيما إذا لم يكن في البين خبر معتبر أو أمارة معتبرة اخرى ؛ ولذا لم يعهد الالتزام باعتبار الاستصحاب بحيث يخصّص ظاهر الكتاب سواء كان عمومه وضعيّا أو إطلاقيّا ، ويجعل الاستصحاب المنافي للخبر معارضا له ، ففي المقام بناء على ثبوت الترجيح بين الخبرين المتعارضين تكون مرجّحيّة الاستصحاب من القسم الأوّل ولو لم نقل بأنّ الحكم هو التخيير بينهما مع عدم الترجيح.

وأمّا لو قيل على كون الاستصحاب أصلا عمليّا حتّى في الشبهات الحكميّة فلا معنى للترجيح به كما هو الحال في سائر الاصول العمليّة ، فإنّ مدلول الخبر الحكم الفرعيّ الكلّي الواقعيّ ، والاستصحاب مع قطع النظر عن دليل اعتباره ليس بشيء أصلا ، وبالنظر إلى دليل اعتباره مدلوله حكم شرعيّ تعبديّ عند الجهل بالواقع ، فبناء على التخيير بين الخبرين المتعارضين لا موضوع للاستصحاب لإمكان الظفر بالأمارة المعتبرة بالأخذ بأحد الخبرين ، وبناء على سقوط المتعارضين مع عدم الترجيح يكون الاستصحاب متّبعا بنفسه ، ومرجّحيته حينئذ لأحدهما موجبا لانعدام نفسه ، واستلزام وجود شيء عدمه يمتنع ، بلا فرق بين القول بأنّ مفاد خطابات الاستصحاب ثبوت الحكم الفرعيّ الظاهريّ أو التعبّد بالعلم بالواقع على ما تقدّم من حكومة الأمارة على الاستصحاب.

٢٢٢

أما الخاتمة : فهي فيما يتعلق بالاجتهاد والتقليد

فصل

الاجتهاد لغة : تحمّل المشقة ، واصطلاحا كما عن الحاجبي والعلامة : استفراغ الوسع في تحصيل الظنّ بالحكم الشرعي [١].

______________________________________________________

في الاجتهاد وبيان حقيقته

[١] الاجتهاد لغة : تحمّل المشقة ، بناء على أن (الجهد) بالفتح والضّم بمعنى واحد ، وبناء على كونه بالضمّ بمعنى الطاقة وبالفتح بمعنى المشقة يكون الاجتهاد بمعنى تحمل المشقّة أو كسب الطاقة ، ويقال إنّه في اصطلاح الاصوليين كما عن الحاجبي والعلامة بمعنى استفراغ الوسع في تحصيل الظنّ بالحكم الشرعيّ ، والظاهر أنّ المراد من الحكم الشرعيّ الحكم الفرعيّ الكلّي.

ويرد على التعريف المذكور بأنّ الظنّ بالحكم الفرعي الكلّي لا قيمة له ، ولا يترتّب عليه أثر مع عدم قيام الدليل على اعتباره ، ومع قيام الدليل على اعتبار أمر فاللازم اتّباعه ، سواء كان مفيدا للظنّ أم لا ؛ ولذا ذكر الماتن قدس‌سره الأولى تبديل الظنّ بالحكم الشرعيّ إلى الحجّة به ، فيكون الاجتهاد بمعنى استفراغ الوسع في تحصيل الحجّة بالحكم الشرعي. وأردف على ذلك أنه لا يمكن للأخباريّ تأبّي الاجتهاد بهذا المعنى ، غاية الأمر أنّه لا يرى بعض ما يراه الاصوليّ حجّة من أفراد الحجّة ، وهذا غير ضائر بالالتزام بالاجتهاد بذلك المعنى ، حيث إنّ اختلاف الاصوليّ مع الأخباريّ في بعض أفراد الحجّة كالاختلاف بين الاصوليين بعضهم مع بعض في اعتبار بعض الأمور أو الحاصل بين الأخباريين بعضهم مع بعض ، ولعلّ ذكر الظن في تعريف الاجتهاد أوجب تأبّي الأخباري ، ولا موجب أيضا لذكره ، فإنّ استفراغ الوسع لتحصيل العلم بالحكم الشرعيّ أيضا داخل في الاجتهاد ، فلا وجه لانحصاره على

٢٢٣

وعن غيرهما : ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم الشرعي الفرعي من الأصل فعلا أو قوة قريبة.

ولا يخفى أن اختلاف عباراتهم في بيان معناه اصطلاحا ، ليس من جهة الاختلاف في حقيقته وماهيته ، لوضوح أنهم ليسوا في مقام بيان حده أو رسمه ،

______________________________________________________

تحصيل الظنّ مع أنّ الظنّ بنفسه كما ذكر لا أثر له ، ولعلّ منشأ ذلك أخذ التعريف من كلمات العامّة ، ولكنّ الموضوع لجواز الافتاء وكذا لجواز الاعتماد عليه في عمل نفسه هو الاجتهاد الفعلي.

ويخطر بالبال أنّ إضافة استفراغ الوسع في التعريف بلا طائل ، فإنّه لو قيل بأن الاجتهاد هو تحصيل الحجّة على الحكم الشرعيّ الفرعيّ الكلّي لكان أخصر ، اللهم إلّا أن يقال إنّ الإضافة للاحتراز عن تقليد العاميّ أي تعلّم الفتوى ليستند إليه في مقام العمل ، فإنّه أيضا من تحصيل الحجّة على الحكم الشرعي الفرعي الكلّي ، ولكن لا يكون التحصيل باستفراغ الوسع وصرف الطاقة ، وإن قيل إنّ الاجتهاد هو تحصيل الحجّة التفصيليّة على الحكم الشرعيّ الفرعيّ لم يرد ذلك وكان أخصر.

وعن غيرهما تعريف الاجتهاد بالملكة التي يقتدر بها على استنباط الحكم الشرعيّ من الأصل فعلا أو قوة ، والمراد بالأصل المدرك.

وربّما قيل بأنّ المراد من القوّة القوّة القريبة ، للاحتراز عن العاميّ المتمكّن من تحصيل العلوم.

وفيه أنّه لا يطلق على تمكّنه الاجتهاد ، لعدم فعليّة الملكة له ؛ لأنّ الملكة التي يطلق عليها الاجتهاد هي تمكّن الشخص على الاستنباط فعلا أو بالقوة ، يعني فيما إذا كان ما يطلق عليه مدارك الأحكام في تناول يده ، وبتعبير آخر : الملكة أمر تحصيليّ يطلق على فعليّته ، فتكون الفعليّة والقوّة القريبة قيدا للاستنباط لا لنفس الملكة كما

٢٢٤

بل إنما كانوا في مقام شرح اسمه والإشارة إليه بلفظ آخر وإن لم يكن مساويا له بحسب مفهومه ، كاللغوي في بيان معاني الألفاظ بتبديل لفظ بلفظ آخر ، ولو كان أخص منه مفهوما أو أعم.

ومن هنا انقدح أنه لا وقع للإيراد على تعريفاته بعدم الانعكاس أو الإطراد ،

______________________________________________________

لا يخفى.

ثمّ يقع الكلام في أنّ من له ملكة الاجتهاد على ما ذكر ـ بالإضافة إلى مسائل أبواب الفقه جميعها أو إلى بعضها ـ هل يتعيّن عليه الاجتهاد باستفراغ وسعه في الوقائع التي يحرز الابتلاء بها أو يحتمل ابتلاءه بها ، أو أنّه يجوز له تركه والأخذ بالتقليد فيها ممن أحرز فيه اجتماع شرائط التقليد عنه ، فقد يقال بتعيّن الاجتهاد عليه في الموارد التي لا يتيسّر له الاحتياط فيها ، ومع تيسّره يتخيّر ولا يجوز له التقليد بوجه ، بمعنى أنّ فتوى المجتهد الآخر لا يكون مجزيا في حقّه ؛ لأنّ الدليل على جواز التقليد السيرة العقلائيّة الجارية فيهم من الرجوع إلى أهل الخبرة ولم تحرز هذه السيرة في حقّ من يكون نفسه من أهل الخبرة ، بأن يتمكّن مع تمكّنه من المعرفة الرجوع إلى غيره ، وليس في البين دليل لفظيّ على جواز التقليد ، بحيث يكون له إطلاق من هذه الجهة ليتمسّك بإطلاقه.

أضف إلى ذلك ما ذكره الشيخ قدس‌سره في رسالته المعمولة في الاجتهاد والتقليد من حكاية الإجماع على عدم جواز التقليد لمن يتمكّن من تحصيل المعرفة بالأحكام الشرعيّة بالرجوع إلى مداركها ، وتعيين الوظيفة عند الجهل بها ، وما ذكره بعضهم في هذا المقام من أنّ من له ملكة الاجتهاد يعلم إجمالا بتوجّه التكاليف إليه في جملة من الوقائع التي يبتلي بها فعلا أو مستقبلا ، والخروج عن عهدتها بالاحتياط أو باستفراغ وسعه في تحصيلها من مداركها محرز ، والشكّ في الخروج عن العهدة بالمراجعة إلى

٢٢٥

كما هو الحال في تعريف جل الأشياء لو لا الكل ، ضرورة عدم الإحاطة بها بكنهها ، أو بخواصها الموجبة لامتيازها عما عداها ، لغير علام الغيوب ، فافهم.

وكيف كان ، فالأولى تبديل الظن بالحكم بالحجة عليه ، فإن المناط فيه هو تحصيلها قوة أو فعلا لا الظن حتى عند العامة القائلين بحجيته مطلقا ، أو بعض

______________________________________________________

الغير.

ولا تفيد دعوى انحلال علمه الإجمالي بأنّه يعلم بثبوت جملة من التكاليف في الموارد التي أفتى فيها من يريد الرجوع إليه بالتكاليف ، وثبوت الزائد على تلك التكاليف غير معلوم ، والوجه في عدم كون الدعوى مفيدة أنّ صاحب الملكة إذا احتمل التكليف في بعض ساير الموارد التي أفتى من يريد الرجوع إليه فيها بعدم التكليف يكون مكلّفا بالفحص فيها عن مدارك الأحكام بمقتضى أخبار وجوب التعلّم وعدم معذوريّة للجاهل التارك للتعلّم.

أقول : دعوى السيرة القطعيّة من المتشرعة الموجودين في زمان الأئمة عليهم‌السلام على مراجعتهم الرواة المعروفين بالفقاهة في أخذ الأحكام والتكاليف أمر قطعيّ ، لا يحتاج هذا الجواز إلى دعوى السيرة العقلائيّة على الرجوع إلى أهل الخبرة ، ليناقش في عمومها أو خصوصها بالإضافة إلى غير المتمكّن ، وفي الروايات الواردة المستفاد منها جواز الرجوع إطلاق حتّى بالإضافة إلى صورة إمكان الوصول إلى الحكم والتكليف بالسماع عن المعصوم عليه‌السلام كصحيحة عبد العزيز بن المهتدي أو حسنته قال : «سألت الرضا عليه‌السلام فقلت : إنّي لا ألقاك في كلّ وقت فعمّن آخذ معالم ديني؟ قال : خذ عن يونس بن عبد الرحمن» (١) فإنّ الأخذ يعمّ ما إذا كان بصورة

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٤٨ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٤.

٢٢٦

الخاصة القائل بها عند انسداد باب العلم بالأحكام ، فإنه مطلقا عندهم ، أو عند الانسداد عنده من أفراد الحجة ، ولذا لا شبهة في كون استفراغ الوسع في تحصيل غيره من أفرادها ـ من العلم بالحكم أو غيره مما اعتبر من الطرق التعبدية الغير

______________________________________________________

سماع الرواية أو بيان الحكم ، ونحوها غيرها.

ورواية أحمد بن إسحاق التي لا يبعد اعتبارها سندا ، فإنّه روى عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : «سألته وقلت : من اعامل وعمّن آخذ وقول من أقبل؟ فقال : العمري ثقتي فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي ، وما قال لك عنّي فعنّي يقول ، فاسمع له وأطع ، فإنّه الثقة المأمون. قال «وسألت أبا محمد عليه‌السلام عن مثل ذلك ، فقال العمري وابنه ثقتان ، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان ، وما قالا لك فعنّي يقولان ، فاسمع لهما وأطعهما ، فإنّهما الثقتان المأمونان» الحديث (١).

وصحيحة عبد الله بن أبي يعفور قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام إنّه ليس كلّ ساعة ألقاك ولا يمكن القدوم ويجيء الرجل من أصحابنا فيسألني ، وليس عندي كلّ ما يسألني عنه ، فقال : ما يمنعك من محمد بن مسلم الثقفي ، فإنّه سمع من أبي وكان عنده وجيها» (٢) فإنّ الأخذ برواية محمد بن مسلم عن الإمام عليه‌السلام لا يحتاج إلى السؤال كما يظهر من حال أصحابهم عليهم‌السلام من نقل بعضهم الحديث عن بعض آخر عن الإمام عليه‌السلام ، ففي الرواية حثّ على الأخذ بما يقول محمد بن مسلم الثقفي وإن كان قوله باستفادته مما سمعه عن الإمام عليه‌السلام.

ومما ذكر يظهر الحال في دعوى الإجماع بأنّ المتمكّن من إحراز التكاليف في

__________________

(١) المصدر السابق : ١٣٨ ، الحديث ٤.

(٢) المصدر السابق : ١٤٤ ، الحديث ٢٣.

٢٢٧

المفيدة للظن ولو نوعا ـ اجتهادا أيضا.

ومنه قد انقدح أنه لا وجه لتأبي الأخباري عن الاجتهاد بهذا المعنى ، فإنه لا محيص عنه كما لا يخفى ، غاية الأمر له أن ينازع في حجية بعض ما يقول

______________________________________________________

الوقائع التي يبتلى بها أو يحتمل الابتلاء بها لا يجوز له التقليد ، بل يتعيّن عليه الاجتهاد أو الاحتياط ، فإنّ هذه المسألة لم تكن معنونة في كلمات جلّ الأصحاب حتى يعلم الاتفاق على عدم الجواز ، مع كون مقتضى جملة من الروايات الجواز كما ذكرنا ، وإذا جاز رجوع صاحب ملكة الاجتهاد إلى من استفرغ وسعه في تحصيل العلم بالأحكام الشرعيّة في الوقائع التي يبتلى بها أو يحتمل الابتلاء فيكون ذلك من العالم بأحكامه وتكاليفه ، فلا يعمّه ما دلّ على وجوب التعلّم والفحص وعدم كون ترك العمل بها مع ترك التعلّم عذرا.

روى الشيخ في أماليه قال حدثنا محمد بن محمد يعني المفيد قدس‌سره قال أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد عن محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري عن أبيه عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن زياد قال : «سمعت جعفر بن محمد عليه‌السلام يقول وقد سئل عن قول الله تعالى : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) فقال : إنّ الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة أكنت عالما؟ فإن قال : نعم ، قال له : أفلا عملت بما علمت ، وإن قال كنت جاهلا قال له : أفلا تعلّمت حتّى تعمل ، فيخصمه وذلك الحجّة البالغة» (١) ولا ضعف في السند ، ولا يضرّ عدم إخراجها في الكتب الأربعة ، ومدلولها عدم معذوريّة المكلف في ترك العمل بالوظائف في الوقائع مع التمكّن من تحصيل العلم بها.

وعلى الجملة الأخبار المشار إليها كهذه الرواية ظاهرها كون وجوب التعلّم

__________________

(١) بحار الأنوار ١ : ١٧٧ ، والآية : ١٤٩ من سورة الأنعام.

٢٢٨

الأصولي باعتباره ويمنع عنها ، وهو غير ضائر بالاتفاق على صحة الاجتهاد بذاك المعنى ، ضرورة أنه ربما يقع بين الأخباريين ، كما وقع بينهم وبين الأصوليين.

______________________________________________________

طريقيّ يوجب تنجّز التكاليف في صورة إمكان إحرازها ، فلا يضرّ سبق العلم الإجمالي بالتكاليف وانحلاله بالتعلّم بمقدار يوجب انحلاله عدم تنجّز التكليف في صورة احتماله ولو بعد الانحلال إذا أمكن الفحص والطلب والظفر به.

فتحصّل أنّ مع ترك الإحراز والفحص يجب الاحتياط رعاية للاحتمال ، وأنّه يتعيّن على المكلّف في الوقائع التي يبتلى بها تعلّم الوظيفة فيها ، والعمل بما علمه من اجتهاد أو تقليد أو الأخذ بالاحتياط فيها ، ولا يكون جهله مع تركه التعلّم مع مخالفته التكليف فيها عذرا.

والروايات المشار إليها مدلولها جواز الرجوع إلى من يعرف الأحكام الشرعيّة في الوقائع من مداركها المتعارفة التي جلّها الروايات المأثورة عن المعصومين عليهم‌السلام والكتاب المجيد ، فلا دليل على اعتبار قول من يدّعى العلم بها عن غير المدارك المتعارفة من طريق الرياضات النفسانية والجفر والرمل والاستحسانات والقياسات ونحوها كما هو واضح.

٢٢٩
٢٣٠

فصل

ينقسم الاجتهاد إلى مطلق وتجزّ ، فالاجتهاد المطلق هو ما يقتدر به على استنباط الأحكام الفعليّة من أمارة معتبرة أو أصل معتبر عقلا أو نقلا في الموارد التي لم يظفر فيها بها ، والتجزّي هو ما يقتدر به على استنباط بعض الأحكام [١].

______________________________________________________

أقسام الاجتهاد

[١] ذكروا تقسيم الاجتهاد إلى الاجتهاد المطلق والاجتهاد المتجزي ، وهذا التقسيم أمر صحيح ومتعيّن بناء على أنّ المراد بالاجتهاد ملكة الاجتهاد والاستنباط ، فالاجتهاد المطلق ملكة يقتدر بها صاحبها على عرفان الوظيفة الفعليّة في كلّ واقعة تعرّض عليه سواء كان ذلك الحكم الفعليّ من قبيل الحكم الواقعيّ أو الظاهريّ ، فإنّه تارة يتمكّن من الوصول إلى الأحكام الشرعيّة المجعولة في الوقائع المعبّر عنها بالأحكام الواقعيّة ، سواء كان وصوله وعلمه بها وجدانيّا أو تعبديّا ، كما في موارد قيام الأمارة المعتبرة بالحكم الواقعيّ ، أو يتمكّن من الوصول إلى حال الحكم والتكليف الواقعيّ من حيث التنجز أو عدمه ، مع تعيين الحكم الظاهريّ الشرعيّ ، كما في موارد الاصول الشرعيّة ، أو بدون تعيينه ، كما في موارد الاصول العقليّة ، ولا يضرّ بالاجتهاد المطلق عدم تمكّن المجتهد من الوصول إلى الحكم الشرعي المجعول في واقعة بعنوان الحكم الواقعيّ ، فإنّ عدم وصوله ليس لقصور باعه واقتداره ، بل لأجل عدم دليل موجب للعلم به أو يعتبر علما به ، وهذا بخلاف الاجتهاد بنحو التجزّي ، فإنّ صاحب هذا الاجتهاد لا يتمكّن من معرفة الوظيفة الفعليّة في كلّ واقعة تعرض عليه ، وذلك لقصور باعه واقتداره.

وقد يقال : بعدم إمكان التجزّي في الاجتهاد بمعنى الملكة ، فإنّ الملكة أمر

٢٣١

ثم إنه لا إشكال في إمكان المطلق وحصوله للأعلام ، وعدم التمكن من الترجيح في المسألة وتعيين حكمها والتردد منهم في بعض المسائل إنما هو بالنسبة إلى حكمها الواقعي ، لأجل عدم دليل مساعد في كل مسألة عليه ، أو عدم الظفر به بعد الفحص عنه بالمقدار اللازم ، لا لقلّة الاطلاع أو قصور الباع.

وأما بالنسبة إلى حكمها الفعلي ، فلا تردد لهم اصلا ، كما لا إشكال في جواز

______________________________________________________

بسيط لا مركّب ، والأمر البسيط إمّا أن يحصل وإمّا أن لا يحصل ، ولو كان المراد بالاجتهاد هو الفعلي منه ، فالتجزّي فيه بمعنى أن يستنبط بعض الأحكام من مداركها ، ويترك الاستنباط في بعضها الآخر فهو أمر ظاهر ولكنّه غير مهمّ في المقام ، بل الموضوع للبحث هو أن يتمكّن الشخص من استنباط جملة من الأحكام من مداركها كالمجتهد المطلق ولا يتمكّن من استنباط جملة اخرى.

ولكن لا يخفى ما فيه ، فإنّ مسائل الفقه وأبوابها مختلفة بحسب المدارك والاستفادة من المدارك تختلف بحسب السهولة والصعوبة ، فربّ مسألة يكون المدرك فيها رواية ، سندها معتبر ولا مورد للتأمّل في ظهورها ، بخلاف بعض المسائل الاخرى فإنّ المدرك فيها الأخبار المختلفة المتعدّدة ، وإحراز ما يعارضها أو وجود الجمع العرفيّ بينها أو بين بعضها مع البعض الآخر يحتاج إلى كثرة الانس بالروايات ؛ والخبرة الزائدة في تشخيص الملاك في الجمع العرفيّ وعدمه ، وربّ مسألة تحتاج استفادة الحكم فيها إلى ضمّ مقدّمة عقليّة أو مقدّمات عقلية بخلاف بعضها الآخر ، والأشخاص مختلفون بحسب قصور الباع وطوله بالإضافة إلى تحصيل الاقتدار على الاستنباط بمقدّماته ، فيوجب ذلك حصول الاقتدار تدريجا وحصول مرتبة منه قبل حصول مرتبة اخرى إلى أن تكمل في بعض الأشخاص إلى المرتبة الأعلى من الاجتهاد ، ولهذا الكلام تتمّة نتعرّض لها عند تعرّض الماتن قدس‌سره.

٢٣٢

العمل بهذا الاجتهاد لمن اتصف به ، وامّا لغيره فكذا لا اشكال فيه ، اذا كان المجتهد ممن كان باب العلم او العلمي بالأحكام فتوحا له ـ على ما يأتى الأدلّة على جواز التقليد ـ بخلاف ما إذا انسدّ عليه بابهما ، فجواز تقليد الغير عنه في غاية الإشكال [١].

______________________________________________________

في جواز الرجوع إلى المجتهد الانفتاحيّ والإشكال في الرجوع

وقد ظهر ممّا تقدّم أنّ الاجتهاد بمعنى الملكة لا يكون عدلا في مسألة أنّه يجب على المكلّف في الوقائع التي يبتلي بها أو يحتمل ابتلاءه أن يكون مجتهدا أو مقلّدا أو محتاطا ، بل المراد منه الاجتهاد الفعليّ ، وهو تحصيل الحجّة التفصيليّة على حكم الواقعة ، وهذا الاجتهاد مما لا ينبغي اعتباره في حقّ نفسه ، سواء كانت استفادته الحكم بالواقعة عن الأدلّة علما بالحكم الواقعي فيها وجدانا أو تعبّدا أو علما بالوظيفة الظاهريّة ، أو حتّى فيما كان ما يعتمد عليه مما يستقلّ به العقل في تنجّز الواقع أو العذر فيه ؛ ولذا لا يفرق في جواز الاكتفاء باتّباع اجتهاده بين أن يكون انفتاحيّا أو انسداديّا ، ودعوى أنّ ما يحصّله الانسدادي في غالب الوقائع لا يكون علما بالحكم الشرعيّ لا واقعا ولا ظاهرا ، ويمكن له الرجوع إلى المجتهد الانفتاحيّ الذي يعلم الوظائف الشرعيّة في الوقائع كما ترى ؛ وذلك فإنّ الانسداديّ على مسلك الحكومة يرى أنّ غيره أيضا غير عالم بالوظيفة الشرعيّة ، وبالأحكام الشرعيّة في الوقائع لا واقعا ولا تعبّدا ، وإنّما يتخيل أنّه عالم بها ، وأدلّة وجوب التعلّم ساقطة لعدم التمكّن من تحصيل العلم بالأحكام الشرعيّة في معظم الوقائع ، ولا موضوع لرجوعه إلى من يدّعي الانفتاح حيث لا يكون من رجوع الجاهل بالأحكام إلى العالم بها ، بل من رجوع الجاهل إلى مثله في جواز الرجوع إلى المجتهد الانفتاحي والاشكال في الرجوع فيما إذا كان انسداديا.

[١] وأمّا جواز رجوع العاميّ إلى المجتهد المطلق في الوقائع للعمل بفتاواه فهو

٢٣٣

فإن رجوعه إليه ليس من رجوع الجاهل إلى العالم بل إلى الجاهل ، وأدلة جواز التقليد إنما دلت على جواز رجوع غير العالم إلى العالم كما لا يخفى ، وقضية مقدمات الانسداد ليست إلّا حجية الظن عليه لا على غيره ، فلا بد في حجية اجتهاد مثله على غيره من التماس دليل آخر غير دليل التقليد وغير دليل الانسداد

______________________________________________________

مقتضى ما استفدناه من الروايات المشار إليها سابقا ، وقلنا باستمرار سيرة المتشرعة على ذلك في الجملة حتى من زمان المعصومين عليهم‌السلام حيث ما يستنبطه المجتهد وهي الكبرى الكلّية من الحكم الشرعيّ في الواقعة لا تختص بالمستنبط ، بل قد لا يكون داخلا في موضوع تلك الكبرى ، وهذا فيما كان المجتهد انفتاحيّا ظاهر ، وأمّا إذا كان انسداديّا فقد استشكلوا في جواز الرجوع إليه ، فإنّه إذا كان المجتهد انسداديّا على مسلك الحكومة ، فلا يكون عالما بالحكم الشرعيّ الفرعيّ في معظم الوقائع ، بل يكون كالعاميّ جاهلا به ، غاية الأمر ظنّه أي إطاعته الظنيّة مجزية ، حيث يستقلّ العقل بأنّه لا يصحّ للشارع مطالبته ولا مطالبة غيره في تلك الوقائع بأزيد من الطاعة الظنيّة ، كما لا يجوز للمكلّف الاقتصار على ما دون الإطاعة الظنيّة ، وأدلّة جواز التقليد مقتضاها رجوع الجاهل بالحكم الشرعيّ في الوقائع إلى العالم به.

وعلى الجملة مقتضى تلك الأدلّة بجواز تعلّم العاميّ الأحكام الشرعيّة من العالم بها ولا تفيد الرجوع إلى هذا المجتهد ، وأيضا فقضيّة مقدّمات الانسداد جواز الاقتصار بالطاعة الظنيّة وعدم جواز الاقتصار بدونها ، وهذا في حقّ من يتمّ في حقّه مقدّمات الانسداد ، ولا تتمّ في حقّ العاميّ ؛ لأن له طريقا آخر إلى الأحكام الشرعيّة في الوقائع التي يبتلى بها ، وهو فتوى المجتهد الذي يرى انفتاح باب العلم فيها ، بل لا يجرى في حقّ العاميّ ما هو من مقدّمات الانسداد وهو عدم لزوم الاحتياط في الوقائع بمقتضى علمه الإجمالي بثبوت التكاليف في جملة من الوقائع التي يبتلي أو يحتمل ابتلاءه بها. نعم إذا لم يكن في البين مجتهد انفتاحي وتمكّن العاميّ من إحراز

٢٣٤

الجاري في حق المجتهد ، من إجماع أو جريان مقدمات دليل الانسداد في حقه ، بحيث تكون منتجة لحجية الظن الثابت حجيته بمقدماته له أيضا ، ولا مجال لدعوى الإجماع ، ومقدماته كذلك غير جارية في حقه ، لعدم انحصار المجتهد به ، أو عدم لزوم محذور عقلي من عمله بالاحتياط وان لزم منه العسر ، إذا لم يكن له سبيل إلى إثبات عدم وجوبه مع عسره.

______________________________________________________

عدم وجوب الاحتياط عليه ـ لاستلزامه المحذور وأنّ الله لا يؤاخذه بتركه عند الاحتياط ـ أمكن إحرازه جواز الاقتصار له على الامتثال الظنّي.

والحاصل أنّ تقليده من المجتهد الانسداديّ القائل بالحكومة مشكل من جهتين :

الاولى : قصور أدلّة جواز التقليد حيث إنّ مقتضاها ـ كما تقدّم ـ جواز رجوع الجاهل بالحكم الشرعيّ في الوقائع إلى العالم به ، لا جواز الرجوع في حكم العقل.

والثانية : قصور ما دلّ على كفاية الامتثال الظنّي في معظم الوقائع ، فإنّه لا يجري إلّا على من تتمّ في حقّه مقدّمات الانسداد.

وأمّا على القول بالكشف والالتزام بأنّ ما يقتضي مقدّمات الانسداد هو العلم بأنّ الشارع اعتبر الظنّ بالأحكام من التكاليف الواقعيّة وغيرها طريقا إلى إحرازها فيشكل رجوع العاميّ إلى هذا المجتهد أيضا من الجهة الثانية ، فإنّ الحكم المظنون للمجتهد الانسداديّ على الكشف وإن كان إحرازا للحكم الشرعيّ إلّا أنّ الموضوع لاعتبار الظنّ من تتمّ في حقّه مقدّمات الانسداد ، فلا تتمّ في حقّ العاميّ لتمكّنه من الرجوع إلى المجتهد الانفتاحيّ.

في جواز الرجوع إلى المجتهد الانفتاحيّ في موارد الطرق والأمارات والاصول العقليّة

لا يقال : مقتضى ما ذكر من كون مفاد أدلّة جواز التقليد رجوع الجاهل بالأحكام الشرعيّة إلى العالم بها عدم جواز رجوع العاميّ إلى الانفتاحيّ أيضا في موارد الطرق

٢٣٥

نعم ، لو جرت المقدمات كذلك ، بأن انحصر المجتهد ، ولزم من الاحتياط المحذور ، أو لزم منه العسر مع التمكن من إبطال وجوبه حينئذ ، كانت منتجة لحجيته في حقه أيضا ، لكن دونه خرط القتاد ، هذا على تقدير الحكومة.

وأما على تقدير الكشف وصحته ، فجواز الرجوع إليه في غاية الإشكال لعدم

______________________________________________________

والأمارات المعتبرة بالخصوص ، فإنّ اعتبارها عند الماتن قدس‌سره ومن يقول بقوله هو جعل الحجيّة يعني المنجّزيّة والمعذريّة لها ، فلا يكون المجتهد في موارد قيامهما عالما بالأحكام الشرعيّة المجعولة للوقائع ، وعدم علمه بالحكم الواقعي ظاهر ، وعدم علمه بالحكم الظاهريّ هو مقتضى الالتزام بأنّه يثبت للأمارة مع اعتبارها ما كان ثابتا للعلم عقلا من المنجّزية والمعذرية ، لا جعل مؤدّى الطرق والأمارات حكما شرعيّا ظاهريّا كما عليه الشيخ قدس‌سره.

وأجاب الماتن قدس‌سره عن الإشكال بأنّ دليل اعتبار الأمارة مقتضاه اعتبارها في حقّ الجميع ممّن لا يعلم الحكم الشرعيّ الواقعيّ في الواقعة من دون اختصاص اعتباره بالمجتهد ، والعاميّ يرجع إلى المجتهد الانفتاحيّ فيما يعلم المجتهد من قيام أمارة في الواقعة على التكليف أو الحكم الشرعيّ الكذائيّ في الواقعة.

لا يقال : العاميّ يرجع إلى المجتهد الانفتاحيّ في موارد فقد الأمارة المعتبرة والأصل الشرعيّ ، فلا يكون للمجتهد الانفتاحيّ فيها علم بالحكم الواقعيّ كما هو الفرض ولا بالحكم الشرعيّ الظاهريّ كما هو مقتضى فقد الأصل الشرعي.

وأجاب الماتن قدس‌سره عن ما يستفاد من ظاهر كلامه بأنّ العاميّ يرجع في تلك الوقائع إلى المجتهد فيما يعلمه المجتهد من فقد الأمارة والأصل الشرعيّ ، وبعد ذلك يعمل العامي بما هو وظيفته عند العقل ولو كان ما استقلّ به عقله غير ما يستقلّ به مجتهد نفسه من البراءة أو الاحتياط.

٢٣٦

مساعدة أدلة التقليد على جواز الرجوع إلى من اختص حجية ظنه به ، وقضية مقدمات الانسداد اختصاص حجية الظن بمن جرت في حقه دون غيره ، ولو سلم أن قضيتها كون الظن المطلق معتبرا شرعا ، كالظنون الخاصة التي دل الدليل على اعتبارها بالخصوص ، فتأمل.

إن قلت : حجية الشيء شرعا مطلقا لا يوجب القطع بما أدى إليه من الحكم

______________________________________________________

في الرجوع إلى المجتهد الانفتاحيّ في الاصول الشرعيّة

أقول : الرجوع إلى المجتهد الانفتاحيّ في موارد الطرق والأمارات المعتبرة بلا محذور ، فإنّ معنى اعتبار الأمارة اعتبارها علما بالواقع ، وإذا كان مقتضى دليل الاعتبار أنّ المجتهد في موارد قيامها بثبوت التكليف أو نفيه عالم بتلك التكاليف والأحكام أو نفيهما تكون فتواه بثبوتها أو نفيها فتوى بالعلم لا بغير العلم ، ومقتضى جواز أدلّة رجوع الجاهل إلى العالم جواز أخذ العاميّ بفتواه في تلك الوقائع ، وكذا الحال في رجوع العاميّ إلى المجتهد في موارد جريان الاصول المحرزة والاصول الشرعيّة التي مفادها حكم شرعي ظاهريّ ، إلّا أنّه قد يشكل الرجوع إلى المجتهد الانفتاحيّ في موارد رجوعه إلى الاصول الشرعيّة والاصول العقليّة بأنّ الموضوع للاصول العمليّة عدم إمكان تحصيل العلم بالحكم الواقعيّ بالفحص عن طريق الحكم الواقعيّ وإحراز التكليف ، وهذا الموضوع محقّق في حقّ المجتهد الذي يتمسّك بالاصول العمليّة ، ولكنّ الموضوع غير تامّ في حقّ العاميّ إذا كان في البين مجتهد انفتاحيّ آخر يرى ـ ولو في بعض تلك المسائل ـ قيام الطريق المعتبر بالحكم والتكليف الواقعيّ ، نظير ما تقدّم في عدم جواز رجوع العاميّ إلى المجتهد الانسداديّ مع وجود مجتهد انفتاحيّ ، لعدم تماميّة موضوع اعتبار مطلق الظنّ في حقّ العاميّ ، بعدم تماميّة مقدّمات الانسداد في حقّه.

٢٣٧

ولو ظاهرا ، كما مر تحقيقه ، وأنه ليس أثره إلّا تنجز الواقع مع الإصابة ، والعذر مع عدمها ، فيكون رجوعه إليه مع انفتاح باب العلمي عليه أيضا رجوعا إلى الجاهل ، فضلا عما إذا انسد عليه.

______________________________________________________

وقد استشكلنا بذلك على سيّدنا الاستاذ أطال الله بقاءه ، وأجاب بما (١) حاصله أنّ الإشكال غير صحيح على إطلاقه وإن كان صحيحا في الجملة ، وأوضح ذلك بأنّ من يفتي بعدم وجوب فعل على المكلّفين لعدم تماميّة الحجّة على الوجوب عنده ، إمّا أن يكون أعلم ممّن يفتي بوجوبه بزعم قيام طريق معتبر فيه ، وإمّا أن لا يكون أعلم منه.

فعلى الأوّل : لا يكون قول غيره حجّة في حقّ العاميّ ، ليكون مانعا من الرجوع إلى الحكم الذي استفاده الأعلم من الأصل العمليّ ، والوجه في عدم حجيّة قول غيره حتّى في حقّ العاميّ ما يأتي من أنّ الدليل على حجيّة الفتوى في حقّ العاميّ ـ أيّا ما فرض غير السيرة العقلائيّة ـ لا يشمل المتعارضين وصورة العلم بمخالفة مجتهدين في الفتوى ، كما هو الحال في الدليل القائم على اعتبار كلّ أمارة ، وفي الفرض لا يشمل ذلك الدليل شيئا من الفتويين ، لما ذكرنا أنّ الأصل سقوط المتعارضين عن الاعتبار. نعم السيرة العقلائيّة جارية على اتّباع قول الأعلم من أهل الخبرة عند اختلافهم ، وعلى ذلك فلا تكون فتوى المجتهد غير الأعلم بالحكم الواقعيّ مانعا عن الرجوع إلى من ينكر قيام الدليل على الحكم الواقعيّ.

وعلى الثاني : أي ما إذا لم يكن الانفتاحيّ أعلم ، إمّا أن يعلم العاميّ بفتوى من يقول بالتكليف الواقعيّ لقيام الطريق عنده أو يكون جاهلا به ، فإن كان جاهلا فالأمر

__________________

(١) مصباح الاصول ٣ : ٤٣٩.

٢٣٨

قلت : نعم ، إلّا أنه عالم بموارد قيام الحجة الشرعية على الأحكام ، فيكون من رجوع الجاهل إلى العالم.

إن قلت : رجوعه إليه في موارد فقد الأمارة المعتبرة عنده التي يكون المرجع فيها الأصول العقلية ، ليس إلّا الرجوع إلى الجاهل.

______________________________________________________

كما ذكر في الصورة الاولى من اعتبار فتوى المجتهد ما لم يعلم تفصيلا أو إجمالا بالمخالفة مع الآخرين ؛ وذلك فإنّ جواز الأخذ مع عدم العلم بالخلاف مقتضى أدلّة جواز التقليد على ما يأتي ، ولا يقاس ذلك بموارد تمكّن المجتهد من الطريق إلى التكليف في الشبهات الحكميّة ، حيث لا يجوز له الرجوع إلى الأصل العمليّ فيها ، فإنّ موضوع اعتبار الأصل عدم الحجّة للتكليف وهو غير محرز قبل الفحص ، فإنّ الطريق بوجوده الواقعيّ مع إمكان الوصول إليه طريق بالإضافة إلى المجتهد ، وأين هذا من محلّ الكلام في العاميّ؟ حيث إنّ فتوى من يفتي بالتكليف غير معتبر في حق العاميّ قبل الوصول إليه.

وأمّا على فرض علم العاميّ بفتوى المجتهد الآخر بالتكليف فالصحيح في مورده عدم جواز الرجوع إلى المجتهد الأوّل الذي يتمسّك بالأصل الشرعيّ ، ولا الثاني لمعارضة فتوى كلّ منهما مع الآخر ، فلا بدّ للعاميّ من الاحتياط ، لكون الشبهة حكميّة وقبل الفحص بالإضافة إليه ، نعم لو تمّ ما ذكر الشيخ قدس‌سره في رسالته المعمولة في الاجتهاد والتقليد من الإجماع على عدم وجوب الاحتياط على العاميّ ، وثبوت جواز الرجوع إلى كلّ منهما جاز له الرجوع إلى من يفتي بعدم التكليف ، ويكون الإجماع هو الدليل في المسألة وإن كان خلاف القاعدة.

ولا يخفى أنّ في هذا الجواب اعتراف بجواز رجوع العاميّ إلى المجتهد الانسداديّ إذا كان أعلم من المجتهد الانفتاحيّ إذا سقطت فتوى الانفتاحيّ غير

٢٣٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الأعلم في الوقائع التي يزعم فيها قيام الطريق بقول المجتهد الانسداديّ ، سواء التزم الانسداديّ بمقدّمات الانسداد على الحكومة أو على الكشف ، فإنّ الأعلم أقوى خبرة بثبوت الطرق الخاصّة وعدم ثبوتها ومداليها ، ومقتضى السيرة المشار إليها اتّباع قوله ، فإن تمّت عنده مقدّمات الانسداد على نحو الحكومة فيرجع العاميّ إلى ذلك المجتهد في كون الوظيفة للكلّ في الوقائع الامتثال الظنّي ، وكذا تشخيص موارده ، لكونه من أهل خبرة ذلك ، وفي كون الوظيفة جواز الاقتصار عليها إذا لم يمكن للعاميّ إحراز ذلك من وجه آخر.

وإن تمّت المقدمات عنده على نحو الكشف فيرجع إلى الانسداديّ في تشخيص موارد قيام الظنّ بالتكليف وكون الوظيفة العمل بالظنون الموجودة في الوقائع ؛ لأنّ نظر الانسداديّ أنّ وظيفة الكلّ الالتزام بما يلتزم هو من الوظيفة.

نعم لو قيل إنّ مقتضى ما ورد في جواز التقليد هو رجوع الجاهل بالحكم الشرعيّ الكلّي في الواقعة إلى العالم به ، وأنّ الانسداديّ على الحكومة لا يعرف الحكم الشرعيّ في الوقائع ، يكون الرجوع إليه كالرجوع إلى الانفتاحيّ في موارد الاصول العقليّة ، وأمّا الرجوع إلى الانسداديّ على نحو الكشف فلا محذور فيه ؛ لأنّه عالم بالحكم الشرعيّ الفعليّ في الوقائع ، لاعتبار الشارع الظنّ النوعيّ وظنّه الشخصي علما بالحكم الشرعيّ ، واختصاص اعتبار الظنّ في خصوص حقّه لا ينافي جواز الرجوع إليه بعد كون مظنونه هو الحكم الفرعيّ الكلّي ، نظير العلم الوجداني فإنّ اعتباره مختصّ بالعالم ، ومع ذلك لا ينافي جواز الرجوع إليه بأدلّة وجوب تعلّم الأحكام من العالم بها.

وعلى الجملة وجود المجتهد الانفتاحيّ مع كونه غير أعلم لا يمنع عن جواز

٢٤٠