دروس في مسائل علم الأصول - ج ٦

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8438-62-8
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

والمذهب العلم بما هو صفة ويقين ينشرح به الصدر ، ويشدّ القلب بالعروة الوثقى من الإيمان والاعتقاد ، كما هو مقتضى الأمر بالإيمان فيها في الكتاب المجيد في الآيات ، وكذا الحال في الروايات الواردة فيها.

٢٨١
٢٨٢

فصل

إذا علم المقلد اختلاف الأحياء في الفتوى مع اختلافهم في العلم والفقاهة ، فلا بدّ من الرجوع إلى الأفضل [١].

______________________________________________________

في لزوم تقليد الأعلم مع إحراز العاميّ اختلاف الأحياء فيما يبتلى فيه من المسائل

[١] إذا علم العاميّ اختلاف الأحياء ـ في الفتوى سواء كان علمه باختلافهم فيها بالتفصيل أو بالإجمال بالإضافة إلى المسائل التي يبتلى بها ـ يتعيّن عليه الأخذ بفتوى الأعلم فيها ؛ لأنّ اعتبار فتاويه فيها في نظره متيقّن ، ويشكّ في اعتبار فتوى غيره.

وبتعبير آخر حكم العقل في دوران الحجّة بين التعيين والتخيير هو التعيين ، ولا يكون رجوعه فيها إلى غير الأعلم عذرا ومبرئا لذمّته حتّى فيما إذا أجاز ذلك غير الأعلم ؛ لأنّ اعتبار فتواه بفتواه دوري ، أو تسلسل إن كان بفتوى ثالث مثله.

نعم لو فرض استقلال عقل العاميّ بتساوي الرجوع إلى الأعلم أو غيره فلا بأس بتقليده المفضول لعدم لزوم المحذور ، وكذا إذا فرض أنّ الأعلم جوّز الرجوع إلى غير الأعلم في المسائل ، هذا بناء على دوران الأمر في الحجّة بين التعيين والتخيير بنظر العاميّ ، وأمّا جواز الرجوع إلى المفضول في الفرض بنظر الفقيه بملاحظة الوجوه الدالّة على جواز تقليد العاميّ فالأمر كذلك يعني تقليد العاميّ مع العلم بالاختلاف ولو إجمالا في المسائل التي يبتلى بها ورجوعه فيها إلى الأعلم متعيّن ؛ لأنّ ما دلّ على اعتبار الفتوى بالإضافة إلى العاميّ من الروايات المشار إليها لا تعمّ صورة إحرازه اختلاف العلماء في حكم المسألة ، كما هو شأن كلّ دليل يتكفّل باعتبار شيء طريقا ، فإنّه لا تعمّ صورة تعارضه ، ولا يظنّ أن يلتزم عالم أنّ الإمام عليه‌السلام إذا أمر بالرجوع إلى يونس بن عبد الرحمن أو الحارث النضري أنّه أمر بالرجوع إلى كلّ منهما

٢٨٣

إذا احتمل تعيّنه ، للقطع بحجيته والشك في حجية غيره ، ولا وجه لرجوعه إلى الغير في تقليده ، إلّا على نحو دائر.

نعم لا بأس برجوعه إليه إذا استقل عقله بالتساوي ، وجواز الرجوع إليه أيضا ، أو جوّز له الأفضل بعد رجوعه إليه ، هذا حال العاجز عن الاجتهاد في تعيين ما هو قضية الأدلة في هذه المسألة.

______________________________________________________

ولو مع علم المراجع بأنّهما يختلفان في حكم مسألته ، فإنّ ارتكاز الاعتقاد بأنّ كلّا منهما يخبر عن الحكم الشرعيّ الواحد في تلك الواقعة ، وبحسب نظر كلّ منهما ذلك الحكم غير ما يذكره الآخر.

نعم الالتزام بجواز الرجوع إلى كلّ منهما في بعض المسائل يعمّ صورة احتمال خلافهما فيها ، بل على ذلك السيرة العقلائيّة في الرجوع في ساير الامور إلى أهل خبرتها ، فيراجع الناس الأطباء في بلد مع كون كلّ منهم طبيبا حاذقا وإن احتمل المراجع اختلافهم في الطبابة في مرضه.

نعم مع إحراز اختلافهم يتّبعون قول الأعلم ومن يكون أكثر خبرة بالإضافة إلى الآخرين ، أفلا تجد أنّه إذا اختلف اثنان في فهم الحكم من رسالة مجتهد وفسّرها في الرسالة من هو أقوى خبرة في فهم الحكم منها أنّ المراجع يأخذ بقول من هو أقوى خبرة منهما؟

نعم ربّما يكون ما فسّرها به غير الأعلم منهما مطابقا للاحتياط والمراجع يعمل به احتياطا لا إلزاما بحيث لو لم يترك الاحتياط وأخذ بتفسير الأكثر خبرة في فهمها لا يكون موردا للتوبيخ ، بل يقبل عذره عند العقلاء وهذا دليل الاعتبار ، وكذا الحال في المجتهدين إذا اختلفوا أو كان واحد منهم أكثر خبرة ، بل نلتزم بجريان ذلك أي الرجوع إلى من كان أكثر خبرة في اختلاف أهل الخبرة في تعيين الأعلم أو محتمل

٢٨٤

وأما غيره ، فقد اختلفوا في جواز تقليد المفضول وعدم جوازه ، ذهب بعضهم إلى الجواز ، والمعروف بين الأصحاب ـ على ما قيل ـ عدمه وهو الأقوى ، للأصل ، وعدم دليل على خلافه ، ولا إطلاق في أدلة التقليد بعد الغض عن نهوضها على مشروعية أصله ، لوضوح أنها إنما تكون بصدد بيان أصل جواز الأخذ بقول العالم لا في كل حال ، من غير تعرض أصلا لصورة معارضته بقول الفاضل ، كما هو شأن

______________________________________________________

الأعلميّة.

والحاصل أنّ السيرة المشار إليها تكون دليلا قاطعا على تعيّن الأخذ بقول أعلم المجتهدين فيما إذا احرز اختلافهم في المسائل ولو بالعلم الإجماليّ ، وإلّا فما ذكروه من أنّ الأخذ بقول الأعلم من دوران الأمر بين التعيين والتخيير في الحجّة ، وأنّ الشكّ في اعتبار قول غير الأعلم كاف في الحكم بعدم اعتباره في الوقائع التي يبتلى العاميّ بها أو يحتمل ابتلاءه لا يفيد شيئا ، فإنّ مع سقوط دليل اعتبار الفتوى بعدم شمول ما دلّ على اعتباره للمتعارضين يمكن الإشكال في اعتبار الفتوى مع التعارض والاختلاف ، ويحتمل كون وظيفة العاميّ الأخذ بأحوط الأقوال فلا يكون في البين دوران الحجّة بين التعيين والتخيير.

وأمّا ساير ما يقال في تقديم قول الأعلم من الوجوه من دعوى الإجماع عليه ، أو دلالة مقبولة عمر بن حنظلة على الترجيح بالأعلميّة ، أو قول مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام في عهده إلى مالك الأشتر : «اختر للقضاء بين الناس أفضل رعيّتك» (١) ، أو كون فتوى الأعلم أقرب إلى الواقع ، كلّها مخدوشة ، فإنّه لا مجال لدعوى الإجماع التعبّدي في مثل المسألة ، والمقبولة واردة في ترجيح القضاء

__________________

(١) انظر نهج البلاغة : ٤٥١ ، الكتاب رقم ٥٣. طبعة دار الثقلين.

٢٨٥

سائر الطرق والأمارات على ما لا يخفى.

ودعوى السيرة على الأخذ بفتوى أحد المخالفين في الفتوى من دون فحص عن أعلميته مع العلم بأعلمية أحدهما ، ممنوعة.

ولا عسر في تقليد الأعلم ، لا عليه لأخذ فتاواه من رسائله وكتبه ، ولا لمقلديه لذلك أيضا ، وليس تشخيص الأعلمية بأشكل من تشخيص أصل الاجتهاد ، مع أن

______________________________________________________

وفصل الخصومة فلا يمكن فيه الحكم بالتخيير ، وبهذا يظهر الحال في العهد إلى مالك الأشتر ، وأنّ تعيين الأعلم للقضاء في البلد لا يقتضي تعيين أعلم الأحياء في الإفتاء ، وأنّه ربّما تكون فتوى المفضول أقرب إلى الواقع لمطابقة قوله لفتوى الميّت الأعلم من الحيّ الفاضل.

وما يقال في عدم لزوم تقليد الأعلم ؛ لكون إحراز الأعلم أمرا حرجيّا ، فيه ما لا يخفى ، فإنّ التقليد عن الأعلم ليس تكليفا نفسيّا ليرتفع بقاعدة العسر والحرج ، بل اعتبار فتوى الأعلم طريقيّ ، فمع يسر رعاية التكليف الواقعي ولو بالاحتياط في تلك المسائل لا يلاحظ عسر تعيين الأعلم أو يسره ، ويشهد لعدم كون التقليد من الأعلم أمرا حرجيّا مضافا إلى ما يأتي التزام المتشرّعة بتقليد الأعلم أو محتمل الأعلميّة في طول الأعصار في صورة إحراز المخالفة بين علماء العصر من غير أن يقعوا في حرج أو عسر.

بقي في المقام امور :

الأوّل : أنّه هل يجب الفحص عن الأعلم فيما إذا تعدّد علماء العصر واحرز اختلافهم في الفتوى في الوقائع التي يبتلي بها المقلّد؟

فنقول : لا ينبغي التأمّل في الفرض في لزوم الفحص فيما إذا علم أنّ بين الأحياء من العلماء من هو أعلم من غيرهم ؛ لأنّ اعتبار فتواه محرز دون فتوى السائرين المخالفين

٢٨٦

قضية نفي العسر الاقتصار على موضع العسر ، فيجب فيما لا يلزم منه عسر ، فتأمل جيدا.

وقد استدل للمنع أيضا بوجوه :

أحدها : نقل الإجماع على تعين تقليد الأفضل.

ثانيها : الأخبار الدالة على ترجيحه مع المعارضة ، كما في المقبولة وغيرها ، أو على اختياره للحكم بين الناس ، كما دل عليه المنقول عن أمير المؤمنين عليه‌السلام :

______________________________________________________

له ، فلا يكون الاستناد إلى فتوى بعضهم استنادا إلى الحجّة إلّا مع إحراز كونه هو الأعلم.

نعم يجوز في الفرض الأخذ بأحوط القولين أو الأقوال في المسألة لأنّ الفتوى المطابق للاحتياط لو كان من الأعلم فقد عمل به ، وإن كان فتوى غيره فالترخيص في الفعل أو الترك الذي هو مقتضى فتوى الأعلم لا يمنع عن الأخذ بالاحتياط في المسألة لا في الجملة ولا بالجملة ؛ ولذا لا يبعد الالتزام مع عدم إمكان تعيين الأعلم المعلوم إجمالا بالأخذ بأحوط الأقوال ، وكذا فيما إذا احتمل أنّ ما بين المختلفين في الفتوى من يحتمل كونه أعلم من غيره ، وهذا بناء على أنّ الحكم مع تساوي المجتهدين المختلفين في الفتوى هو التخيير ؛ لأنّ الأخذ بقول أحدهم مع احتمال أنّ في البين من هو أعلم منه يكون من الأخذ بمشكوك الاعتبار.

نعم إذا كان احتمال الأعلميّة منحصرا في واحد معيّن قبل الفحص أو بعده يتعيّن الأخذ بقوله على بناء التخيير بين المتساويين ، لإحراز أن فتواه بالأخذ به حجّة ، بخلاف الآخرين فإنّه لا يعلم حتى بالأخذ اعتبار فتواهم ، وبناء على التساقط في فرض عدم وجود الأعلم بينهم وعدم ثبوت التخيير بين المتساويين يكون الحكم هو لزوم الاحتياط التامّ في الواقعة ، كما في صورة إحراز التساوي وعدم ثبوت التخيير بينهما.

٢٨٧

(اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك).

ثالثها : إن قول الأفضل أقرب من غيره جزما ، فيجب الأخذ به عند المعارضة عقلا.

ولا يخفى ضعفها :

أما الأول : فلقوة احتمال أن يكون وجه القول بالتعيين للكلّ أو الجلّ هو الأصل ، فلا مجال لتحصيل الإجماع مع الظفر بالاتفاق ، فيكون نقله موهونا ، مع عدم حجية نقله ولو مع عدم وهنه.

______________________________________________________

اللهم إلّا أن يقال بثبوت السيرة العقلائيّة عند اختلاف أهل الخبرة بالرجوع إلى من يكون احتمال الخبرويّة فيه أقوى من الغير ، وإذا كان احتمال الأعلميّة غير متعيّن في واحد معيّن ، بأن احتمل أعلميّة زيد من الجميع حتى من عمرو ، واحتمل أنّ عمرا كذلك يعني أعلم من الكلّ حتى من زيد لزم الاحتياط بين فتاوى زيد وعمرو ، ولا يجب الاحتياط التامّ في الواقعة إذا علم أنّ أحدهما أعلم من الآخر إجمالا أو احتمل ذلك إجمالا ، وأمّا إذا لم يكن كذلك بأن علم تساويهما في الفضيلة ، فإن قلنا بالتخيير في المتساويين كان العاميّ مخيّرا بينهما ، وإن لم نلتزم بالتخيير لعدم تمام الدليل عليه يكون الحكم هو الاحتياط التامّ في الواقعة ، كما إذا أفتى زيد بوجوب صلاة الظهر وعمرو بوجوب الظهر أو الجمعة تخييرا وكان في المسألة قول آخر ولو من غير علماء عصره بوجوب الجمعة تعيينا فلا بدّ للعامي من الإتيان بكلّ من الظهر والجمعة تعيينا للاحتياط التامّ.

لا يقال : إذا أفتى أحد الأحياء بوجوب صلاة الظهر تعيينا والآخر بوجوبها أو وجوب الجمعة تخييرا فمع فرض التساوي بينهما في الفضيلة وكونهما أفضلين

٢٨٨

وأما الثاني : فلأن الترجيح مع المعارضة في مقام الحكومة ، لأجل رفع الخصومة التي لا تكاد ترتفع إلّا به ، لا يستلزم الترجيح في مقام الفتوى ، كما لا يخفى.

وأما الثالث : فممنوع صغرى وكبرى ، أما الصغرى فلأجل أن فتوى غير الأفضل ربما يكون أقرب من فتواه ، لموافقته لفتوى من هو أفضل منه ممن مات ،

______________________________________________________

بالإضافة إلى باقي الأحياء أو من المحتمل أعلميّتهما يكونان متفقين في عدم وجوب صلاة الجمعة تعيينا وأنّ صلاة الظهر يوم الجمعة مجزية عن الواقع ، فما وجه الاحتياط التامّ في هذه الصورة حتى لزم على العاميّ أن يحتاط بالإتيان بصلاة الجمعة أيضا.

فإنه يقال : ما ذكر إنّما يتمّ فيما إذا احرز أنّ أحدهما أعلم من الآخر أو محتمل الأعلميّة ، ولكن لم يتمكّن من تعيينه شخصا منهما ، وأمّا إذا احرز تساويهما ولم نقل بالتخيير في الفرض كما هو المفروض ؛ لأنّه لم يتمّ دليل على اعتبار فتواهما للتعارض يسقط اعتبار كلّ من الفتويين ، وقد ذكرنا أنّه إذا سقط الطريق عن الاعتبار في مدلولهما المطابقيّ فلا يبقى مجال لاعتبار مدلولهما الالتزاميّ ، وإذا احتمل وجوب صلاة الجمعة تعيينا فاللازم رعايته.

فقد تحصّل من جميع ما ذكرنا أنّ المعيّن لاعتبار فتوى مجتهد إحراز أعلميّته بالإضافة إلى الآخرين أو احتمال الأعلميّة فيه خاصّة ، بأنّه إمّا أعلم من السائرين أو أنّه والسائرين على حدّ سواء ، بلا فرق بين أن يصل احتمال الأعلميّة فيه إلى حدّ الظنّ أم لا. وأمّا إذا تردّدت الأعلميّة بين المتعدّدين أو احتمالهما فاللازم الاحتياط بالأخذ بالفتوى المطابقة للاحتياط منهما.

٢٨٩

ولا يصغى إلى أن فتوى الأفضل أقرب في نفسه ، فإنه لو سلم أنه كذلك إلّا أنه ليس بصغرى لما ادعى عقلا من الكبرى ، بداهة أن العقل لا يرى تفاوتا بين أن تكون الأقربية في الأمارة لنفسها ، أو لأجل موافقتها لأمارة أخرى ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

الثاني : إذا تردّدت الأعلميّة بين اثنين ، بأن ظنّ أنّ زيدا أعلم من عمرو ، واحتمل أيضا أنّ عمرا أعلم من زيد ، ولكن كان احتمال أعلميّة عمرو أضعف ، فهل الظنّ يكون معيّنا لاعتبار فتواه بحيث لا يلزم على العاميّ الاحتياط بين فتواهما ، أو يجب في الفرض الجمع بأحوط القولين في المسائل؟ بناء على ما ذكر من التخيير بين المتساويين فمجرّد احتمال مرجّحيّة الظنّ يوجب دوران الحجّة بين التعيين والتخيير فاللازم الأخذ باحتمال التعيين ، وأمّا بناء على عدم الدليل على التخيير ولزوم الاحتياط بين فتاويهما أو حتّى بالإضافة إلى الواقع فلا يكون مجرّد الظنّ بالأعلميّة مع احتمال الأعلميّة في الطرف الآخر أيضا مرجّحا فاللازم الاحتياط بالأخذ بأحوط القولين أو الاحتياط التامّ على تفصيل تقدّم.

هذا كلّه فيما إذا أمكن الاحتياط بين الفتاوى أو في الواقع وإلّا فمع اختصاص احتمال الأعلميّة ـ ظنّا أو بدونه ـ لأحدهما يختصّ العمل بفتواه وإلّا يتخيّر ؛ لأنّ اللازم على المكلّف مع عدم التمكّن من الموافقة القطعيّة للحكم الواقعيّ أو الحجّة المعتبرة الاكتفاء بالموافقة الاحتماليّة ، بل الأمر كذلك حتى فيما أمكن الاحتياط بين الفتاوى أو حتّى بالإضافة إلى الحكم الواقعيّ في الواقعة ، ولكن احرز أنّ الشارع لا يلزم الناس على الاحتياط المتقدّم ، لعسره على الناس ولما يناسب كون الشريعة سمحة وسهلة ، بأن يوجب إلزامهم به فرار الناس عن الالتزام بأحكام الشريعة ، فيتخيّر الناس في الوقائع بالاكتفاء بالموافقة الاحتماليّة فيما إذا لم تختصّ الواقعة بنفسها بعلم إجماليّ ، أو لم يختصّ احتمال الأعلميّة بواحد من المجتهدين سواء كان بحدّ

٢٩٠

وأما الكبرى فلأن ملاك حجية قول الغير تعبدا ولو على نحو الطريقية ، لم يعلم أنه القرب من الواقع ، فلعله يكون ما هو في الأفضل وغيره سيان ، ولم يكن لزيادة القرب في أحدهما دخل أصلا.

نعم لو كان تمام الملاك هو القرب ، كما إذا كان حجة بنظر العقل ، لتعين الأقرب قطعا ، فافهم.

______________________________________________________

الظن أم لا.

الثالث : قد ذكر في العروة في المسألة السابعة عشرة من مسائل الاجتهاد والتقليد من العروة : المراد من الأعلم من يكون أعرف بالقواعد والمدارك للمسألة وأكثر اطلاعا لنظائرها وللأخبار وأجود فهما للأخبار ، والحاصل أن يكون أجود استنباطا ، والمرجع في تعيينه أهل الخبرة والاستنباط.

أقول : ما ذكره قدس‌سره في قوله أجود استنباطا بالإضافة إلى الآخرين صحيح ، ويحصل ذلك بكون الشخص أقوى مهارة في القواعد التي تحسب من المدارك في المسائل من حيث تنقيحها وتطبيقها على صغرياتها ، وأجود فهما للخطابات الشرعيّة والخصوصيّات الواردة فيها خصوصا في الأخبار من تشخيص مداليلها ، وتشخيص الجمع العرفيّ بين مختلفاتها ، ولحاظ المعارضة بين بعضها مع بعض ، ولا أظنّ أن يكون مجرّد كثرة الاطلاع على الأخبار أو نظائر المسألة دخيلا في الأعلميّة ، والمراد من القواعد المشار إليها أعمّ من القواعد الفقهيّة العامّة أو القواعد الاصوليّة التي يستعملها الفقيه في مقام الاستنباط من الخطابات الشرعيّة كما لا يخفى.

٢٩١
٢٩٢

فصل

اختلفوا في اشتراط الحياة في المفتي ، والمعروف بين الأصحاب الاشتراط وبين العامّة عدمه ، وهو خيرة الأخباريّين وبعض المجتهدين من أصحابنا [١].

______________________________________________________

اشتراط الحياة في المفتي

[١] ذكر قدس‌سره أنّ المعروف بين أصحابنا اعتبار حياة المجتهد في جواز تقليده فلا يجوز تقليده بعد موته حدوثا وبقاء ، خلافا لما هو المعروف بين العامّة من عدم اعتبار الحياة ، وهو خيرة الأخباريّين وبعض المجتهدين من أصحابنا ، وربّما يفصّل فيقال لا يجوز تقليد المجتهد بعد موته ابتداء ، ولكن يجوز البقاء على تقليد المجتهد بعد موته ، فيشترط في جواز التقليد البدويّ ولا يشترط في التقليد الاستمراريّ. وذكر قدس‌سره في وجه ما هو المعروف بين أصحابنا وهو المختار عنده بأنّ جواز تقليد الميّت مشكوك والأصل عدم جوازه. وبتعبير آخر كون شيء طريقا بحيث يوجب تنجّز الواقع عند الإصابة والعذر عند خطئه وموافقته يحتاج إلى الإحراز وقيام دليل عليه ، وإلّا فالأصل عدم الاعتبار.

وقد يقال في الاستدلال على الجواز وجوها ضعيفة لا تصلح لرفع اليد عن الأصل الذي ذكرناه.

منها الاستصحاب في بقاء رأي المجتهد ونظره بعد وفاته أيضا على الاعتبار.

وأجاب قدس‌سره عن هذا الوجه بأنّ الرأي والنظر بنظر العرف متقوّم بالحياة ، ولا بقاء له بعد موت المجتهد حتى يستصحب اعتباره ، ويعتبر في جريان الاستصحاب في حكم ـ وضعيّا كان أو غيره ـ بقاء الموضوع له ، وبقاء بعض الأحكام بعد موت الشخص كطهارته أو نجاسته وجواز نظر زوجته إليه إنّما هو بحسبان العرف بتقوّم هذه الأحكام ببدنه الباقي بعد موته وإن كانت الحياة دخيلة في حدوث هذه

٢٩٣

وربما نقل تفاصيل :

منها : التفصيل بين البدوي فيشترط ، والاستمراري فلا يشترط ، والمختار ما هو المعروف بين الأصحاب ، للشك في جواز تقليد الميت ، والأصل عدم جوازه ، ولا مخرج عن هذا الأصل ، إلّا ما استدل به المجوّز على الجواز من وجوه ضعيفة.

منها : استصحاب جواز تقليده في حال حياته ، ولا يذهب عليك أنه لا مجال له ، لعدم بقاء موضوعه عرفا ، لعدم بقاء الرأي معه ، فإنه متقوم بالحياة بنظر

______________________________________________________

الأحكام ، وهذا بخلاف اعتبار الرأي والنظر ، فإنّ الرأي والنظر بحسب النظر العرفيّ يتقوّمان بحياة الشخص ، ولا بقاء له بعد الموت ليستصحب اعتباره.

نعم الموضوع له وإن كان باقيا حقيقة لقيامه بالنفس الناطقة التي لتجرّدها لا زوال له ، إلّا أنّ المعيار في جريان الاستصحاب بقاء الموضوع بنظر العرف ، ولا بقاء للموضوع للرأي والنظر بعد الموت ، فلا يجدي بقاء النفس عقلا في جريان الاستصحاب مع عدم مساعدة العرف على بقاء النفس وحسبان أهله أنّها غير باقية وإنّما تعاد يوم القيامة بعد انعدامها. وتعرّض قدس‌سره بعد ذلك لما يقال : هذا فيما كان حدوث الرأي والنظر موضوعا لحدوث الاعتبار وبقاء الرأي والنظر موضوعا لبقاء الاعتبار ، وأمّا إذا كان الحدوث بمجرده موضوعا لحدوث الاعتبار وبقائه فلا إشكال في جواز التقليد بعد موت المجتهد. وأجاب عن ذلك بأنّ الأمر ليس كذلك ، بل بقاء الرأي موضوع لبقاء الاعتبار ؛ ولذا لو تبدّل رأي المجتهد أو زال بالهرم والجنون فلا يبقى للرأي الحادث اعتبار ، هذا كلّه بالإضافة إلى جواز التقليد عن المجتهد بعد موته ابتداء.

أقول : عدم جواز تقليد المجتهد بعد زوال عقله بجنون ونحوه أو تبدّل رأيه لا يدلّ على أنّ الموضوع لحدوث الاعتبار حدوث الرأي ، ولبقاء الاعتبار بقاء الرأي ،

٢٩٤

العرف ، وإن لم يكن كذلك واقعا ، حيث إن الموت عند أهله موجب لانعدام الميت ورأيه ، ولا ينافي ذلك صحة استصحاب بعض أحكام حال حياته ، كطهارته ونجاسته وجواز نظر زوجته إليه ، فإن ذلك إنما يكون فيما لا يتقوم بحياته عرفا بحسبان بقائه ببدنه الباقي بعد موته ، وإن احتمل أن يكون للحياة دخل في عروضه واقعا ، وبقاء الرأي لا بد منه في جواز التقليد قطعا ، ولذا لا يجوز التقليد فيما إذا تبدّل الرأي أو ارتفع ، لمرض أو هرم إجماعا.

______________________________________________________

فإنّ نظير ذلك ثابت في اعتبار الخبر أيضا ، فإنّ المخبر إذا ذكر كذب خبره السابق وأنّه وقع اشتباها فلا يعبأ بخبره السابق في الأحكام الشرعيّة الكلّية ، بل في الموضوعات أيضا في غير مقام الشهادة والإقرار حيث إنّ مع تمام الشهادة وحصول القضاء لا ينقض الحكم السابق ، والرجوع من الإقرار السابق لا يسمع يعنى لا يبطل إقراره السابق إلّا فيما اعتبر تعدّد الإقرار كالإقرار بالزنا ونحوه أو مطلق الحدود بناء على سقوطها بعد الإقرار على ما قيل ، مع أنّ الخبر والإقرار بحدوثهما موضوع للاعتبار حدوثا وبقاء ، وكما يمكن أن يكون الخبر فيما إذا وقع موضوعا للاعتبار بشرط عدم رجوع المخبر عن إخباره وعدم اعترافه بوقوعه اشتباها ، كذلك يمكن أن يكون الرأي موضوعا لحدوث الاعتبار وبقائه ما لم يقع رجوع عن الرأي الحادث أو ما لم يحدث جنون ونحوه ، حيث إنّ المفتي بعد جنونه رأيه السابق غير معتبر ، لا لعدم بقاء الرأي بعده ، بل لأنّ المجنون لا يليق به منصب الزعامة الدينيّة ؛ ولذا يعتبر في مرجع التقليد بعض الامور مما لا يكون الشخص مع فقدها مناسبا لذلك المنصب ولو مع بقاء رأيه.

والصحيح في الجواب عن استصحاب اعتبار الرأي والنظر هو ما تقدّم عند التكلّم في الاستصحاب في الأحكام من الشريعة السابقة ، وأنّ المتيقّن هو اعتبار رأي

٢٩٥

وبالجملة يكون انتفاء الرأي بالموت بنظر العرف بانعدام موضوعه ، ويكون حشرة في القيامة إنما هو من باب إعادة المعدوم ، وإن لم يكن كذلك حقيقة ، لبقاء موضوعه ، وهو النفس الناطقة الباقية حال الموت لتجرده ، وقد عرفت في باب الاستصحاب أن المدار في بقاء الموضوع وعدمه هو العرف ، فلا يجدي بقاء النفس عقلا في صحة الاستصحاب مع عدم مساعدة العرف عليه ، وحسبان أهله أنها غير باقية وإنما تعاد يوم القيامة بعد انعدامها ، فتأمل جيدا.

لا يقال : نعم ، الاعتقاد والرأي وإن كان يزول بالموت لانعدام موضوعه ، إلّا أن حدوثه في حال حياته كاف في جواز تقليده في حال موته ، كما هو الحال في الرواية.

______________________________________________________

المجتهد بالإضافة إلى من تعلّم الحكم منه حال حياته ، وأمّا بالإضافة إلى من لم يتعلّم منه حال حياته وأراد تعلّم رأيه ونظره بعد موته فلا دليل على اعتبار نظره الحادث بالإضافة إليه ، والمتيقّن السابق غير باق قطعا ، والمشكوك فعلا غير مسبوق باليقين به. أضف إلى ذلك أنّ الشبهة حكميّة والاستصحاب في عدم الجعل بنحو العموم لو لم يكن واردا على الاستصحاب في بقاء المجعول فلا ينبغي أنّه معارض له.

ومع الاغماض عن جميع ما ذكر فما ذكر الماتن قدس‌سره من عدم بقاء الرأي للميّت ـ فإنّ قيامه بالنفس الناطقة وهي وإن كانت باقية حقيقة ولكنّ بقاءها خلاف النظر العرفيّ حيث يرى أهل العرف زوالها بالموت ويحسبون الحشر إعادة للنفس الناطقة المعدومة ـ لا يخفى ما فيه ، فإنّ أهل العرف يرون بقاء الروح الانسانيّة ويحتمل بقاء الميّت بعد موته على رأيه وإن يحتملون الزوال بحسب انكشاف الحال للروح بعد الموت إلّا أنّ ذلك لا يمنع من استصحاب بقاء رأيه بحاله ولو بالنسبة إلى المدارك التي كانت عنده قبل موته في هذه الدنيا.

٢٩٦

فإنه يقال : لا شبهة في أنه لا بد في جوازه من بقاء الرأي والاعتقاد ، ولذا لو زال بجنون أو تبدل ونحوهما لما جاز قطعا ، كما أشير إليه آنفا. هذا بالنسبة إلى التقليد الابتدائي.

وأمّا الاستمراري فربّما يقال بأنه قضية استصحاب الأحكام التي قلّده فيها [١].

______________________________________________________

[١] بعد ما منع قدس‌سره من جريان الاستصحاب ـ في بقاء حجيّة الرأي والنظر بما ذكره من أنّ الموضوع لحدوث الحجيّة حدوث الرأي ولبقائها بقاء الرأي ، وحيث إنّ المجتهد لا يبقى له رأي ونظر بعد موته فلا يكون لاستصحاب الحجيّة والنظر موضوع ليجري فيه الاستصحاب ـ تعرّض لاستصحاب آخر ذكروه لمشروعيّة بقاء العاميّ على تقليد مجتهده بعد موته ، وهو جريانه في بقاء الأحكام الشرعيّة الثابتة في حقّ العامّي عند تقليده ذلك المجتهد حال حياته ، حيث إنّ رأي مجتهده ونظره وإن كان واسطة في حدوثها إلّا أنّ تلك الأحكام التي حدوثها مقتضى حجّية رأي مجتهده عارضة لموضوعاتها من الأفعال وغيرها كسائر الموضوعات.

وأجاب عن هذا الاستصحاب بأنّه لا مجال له بناء على ما تقدّم منه من أنّ اعتبار شيء طريقا مقتضاه ثبوت الحجّيّة أي المنجّزيّة والمعذّريّة له ، لا إنشاء أحكام يكون مفادها مطابقا لمفاد ذلك الشيء حتّى بمفاد الحكم الشرعيّ الطريقيّ الظاهريّ ، وإذا كان مفاد دليل اعتباره ثبوت الحجيّة أي المنجّزيّة والمعذّريّة تكون الحجّيّة ثابتة لنفس الرأي والنظر ، ولا بقاء لهما بعد موت المجتهد ليجري فيه الاستصحاب في ناحية حجّيته ، وما تقدّم منه قدس‌سره سابقا في بعض تنبيهات الاستصحاب في توجيه قيام الأمارة المعتبرة مقام العلم في إحراز الحالة السابقة من أنّ مفاد خطابات الاستصحاب جعل الملازمة بين ثبوت الحكم وبقائه بحيث تكون الحجّة على الحدوث

٢٩٧

فإن رأيه وإن كان مناطا لعروضها وحدوثها ، إلّا أنه عرفا من أسباب العروض لا من مقومات الموضوع والمعروض ، ولكنه لا يخفى أنه لا يقين بالحكم شرعا سابقا ، فإن جواز التقليد إن كان بحكم العقل وقضية الفطرة كما عرفت فواضح ، فإنه لا يقتضي أزيد من تنجز ما أصابه من التكليف والعذر فيما أخطأ ، وهو واضح. وإن كان بالنقل فكذلك ، على ما هو التحقيق من أن قضية الحجية شرعا ليس إلّا ذلك ،

______________________________________________________

حجّة البقاء أيضا عند الشك كان تكلّفا ، فلا يقال إنّ مقتضاه أنّ ما دلّ على اعتبار الرأي والنظر عند حدوثه يلازم بقاء الحادث على اعتباره ، فلا يكون في البين دليل حجّية رأيه السابق في اللاحق أي بعد موته.

نعم بناء على ما هو المعروف عند العلماء من أن مقتضى اعتبار شيء طريقا إنشاء أحكام تكليفية أو وضعيّة على طبق الطريق المعتبر ، وتكون تلك الأحكام أحكاما طريقية ظاهرية فللاستصحاب في بقاء تلك الأحكام بعد موت المجتهد في حقّ مقلديه وجه ، بدعوى أنّ حدوثها وإن كان مقتضى اعتبار الرأي والنظر إلّا أنّها كانت قائمة بموضوعاتها ومتعلّقاتها ، إلّا أنّه لا يمكن المساعدة عليها ، فإنّه وإن بنى على ثبوت تلك الأحكام في حقّ العاميّ إلّا أنّها كانت بعنوان رأي المجتهد ونظره ، وهذا العنوان المقوّم لها غير باق بعد موت المجتهد ، واحتمال أنّ الأمر في تلك الأحكام كان بهذا العنوان كاف في عدم جريان الاستصحاب فيها ، لعدم إحراز بقاء العنوان المقوّم لها.

بل يمكن أن يقال إنّه إذا لم يجز البقاء على تقليد المجتهد بعد زوال رأيه لهرم ومرض لم يجز البقاء بعد موته بالأولويّة ؛ لأنّ المرض والهرم لا يوجب زوال الشخص بل يزول رأيه ونظره ، بخلاف الموت فإنّه زوال للشخص أيضا.

أقول : لا يخفى ما في كلامه في قوله قدس‌سره عدم جريان الاستصحاب على تقدير

٢٩٨

لإنشاء أحكام شرعية على طبق مؤداها ، فلا مجال لاستصحاب ما قلده ، لعدم القطع به سابقا ، إلّا على ما تكلفنا في بعض تنبيهات الاستصحاب ، فراجع ، ولا دليل على حجية رأيه السابق في اللاحق.

وأما بناء على ما هو المعروف بينهم ، من كون قضية الحجية الشرعية جعل مثل ما أدت إليه من الأحكام الواقعية التكليفية أو الوضعية شرعا في الظاهر ، فلاستصحاب ما قلّده من الأحكام وإن كان مجال ، بدعوى بقاء الموضوع عرفا ،

______________________________________________________

الالتزام بأنّ معنى اعتبار الرأي والنظر جعل الحجيّة له إلّا على التكلّف السابق ، مع أنّ على ذلك التكلّف أيضا لا موضوع للاستصحاب في المقام ؛ لأنّ التكلّف السابق كان حاصله أنّه إذا احرز التكليف والحكم بالأمارة المعتبرة ، وكان الشكّ في سعة ذلك الحكم والتكليف ثبوتا بحيث على تقدير ثبوته واقعا له سعة تبقى في مورد قصور تلك الأمارة على دلالتها على البقاء ، فيقال إنّ مفاد خطابات الاستصحاب جعل الملازمة والتعبّد بها في مورد الشكّ في البقاء على تقدير الثبوت سابقا ، فتكون النتيجة هي أنّ الأمارة التي تكون منجّزة لذلك التكليف والحكم توجب التنجّز بالإضافة إلى مورد الشكّ في بقائه ، والشكّ في المقام ليس في بقاء التكليف والحكم الواقعيّ على تقدير إصابة الفتوى بالواقع وثبوت ما أدّى إليه نظر المجتهد واقعا ، بل بقاؤه على هذا التقدير وجدانا معلوم ، وإنّما الشكّ في نفس إصابة نظر المجتهد للواقع.

نعم على تقدير الثبوت كان رأيه ونظره منجّزا له بالإضافة إلى حال حياته ، كما أنّه كان موافقة نظره عذرا على تقدير عدم إصابة ومخالفة المكلّف الواقع ، والمفروض أنّ هذا المنجّز والمعذّر انتفى بموت المجتهد ، فإن أمكن استصحاب الحجيّة لذلك النظر الذي كان حال حياة المجتهد فهو ، وأمّا إذا بنى على أنّ النظر في

٢٩٩

لأجل كون الرأي عند أهل العرف من أسباب العروض لا من مقومات المعروض ، إلّا أن الإنصاف عدم كون الدعوى خالية عن الجزاف ، فإنه من المحتمل ـ لو لا المقطوع ـ أن الاحكام التقليدية عندهم أيضا ليست أحكاما لموضوعاتها بقول مطلق ، بحيث عدّ من ارتفاع الحكم عندهم من موضوعه ، بسبب تبدل الرأي ونحوه ، بل إنما كانت أحكاما لها بحسب رأيه ، بحيث عدّ من انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه عند التبدل ، ومجرد احتمال ذلك يكفي في عدم صحة استصحابها ،

______________________________________________________

بقائه منجّز بالإضافة إلى التكاليف المتوجهة إلى المقلّدين فلا موضوع للحجيّة ؛ لانتفاء ذلك النظر بالموت.

هذا كلّه مع قطع النظر عمّا ذكرنا في اعتبار شيء طريقا حيث يعتبر ذلك الشيء علما بالواقع ، وعليه فالمكلّف عند تعلّم رأي المجتهد وفتواه حال حياته للعمل كان عالما بتكاليفه الواقعيّة في نظر الشارع ويشكّ بعد موته أنّ المتعلّم منه كذلك يكون أيضا عالما بتلك التكاليف بنظر الشارع ، فبناء على جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة يجري الاستصحاب في بقائه عالما بها.

وأمّا ما ذكره قدس‌سره في وجه عدم جواز البقاء وتقليد الميّت ابتداء بقياس الأولويّة فقد ذكرنا ما فيه ، فإنّ الإجماع على عدم جواز البقاء وتقليد المجتهد بعد الجنون أو الهرم الذي يلحق معه الشخص بالصبيان ، للعلم بعدم رضا الشارع بزعامتها الدينيّة ، بخلاف الموت فإنّه ارتحال الشخص من عالم إلى عالم أرقى حيث بموت الأنبياء والمعصوم والأولياء لا ينقص من شرفهم وعظمتهم شيئا ؛ ولذلك نلتزم بجواز البقاء على تقليد الميّت إذا لم يكن في الأحياء الموجودين من هو أعلم منه ، بل وجوب البقاء على تقليده إذا كان هو أعلم منهم ، وتعلّم منه حال حياته الوظائف الشرعيّة للعمل بها ، وأمّا ما لم يتعلّمها فاللازم فيها الرجوع إلى الحيّ على التفصيل السابق.

٣٠٠