دروس في مسائل علم الأصول - ج ٦

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8438-62-8
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٤٦

(مسألة ٢٠) يعرف اجتهاد المجتهد بالعلم الوجدانيّ ، كما إذا كان المقلّد من أهل الخبرة وعلم باجتهاد شخص. وكذا يعرف بشهادة عدلين من أهل الخبرة إذا لم تكن معارضة بشهادة آخرين من أهل الخبرة ينفيان عنه الاجتهاد. وكذا يعرف بالشّياع المفيد للعلم. وكذا الأعلميّة تعرف بالعلم أو البيّنة غير المعارضة أو الشياع المفيد للعلم [١].

______________________________________________________

نعم ذكرنا فيما سبق أنّ الجاهل بالحكم في واقعة ابتلى بها يجوز له الرجوع إلى العالم بحكمها من طريق المألوف في معرفة الأحكام وإن كان متمكّنا من الوصول إلى الحكم الشرعيّ بالسؤال من الإمام عليه‌السلام والأخذ بما استظهره من كلامه ، كما هو مقتضى بعض تلك الروايات الواردة في الإرجاع إلى بعض الرواة من الفقهاء مع ظهور أنّ المأمور بالرجوع ممن له أهليّة الاستظهار من كلامه عليه‌السلام وتمكّنه من الوصول إليه فراجع.

[١] لا كلام إذا علم باجتهاد المجتهد أو كونه أعلم ، كما إذا كان المقلّد من أهل العلم والخبرة واحرز وجدانا اجتهاد شخص أو كونه أعلم من غيره ، فإنّ اعتبار العلم الوجدانيّ ذاتيّ ، بمعنى أنّه لا يحتاج اعتباره إلى جعل شرعيّ وأن يقوم الدليل على أنّ الشارع اعتبره ، وإنّما الكلام في اختصاص الاعتبار بالعلم الوجدانيّ كما هو ظاهر المتن ، أو أنّه يعمّ الاطمينان والوثوق ، ولا يبعد عدم الاختصاص فإنّ الاطمينان وإن لم يكن كالعلم الوجدانيّ بحيث يكون اعتباره ذاتيا ، إلّا أنّ الظاهر أنّ الوثوق والاطمينان يعتبر عند العقلاء ، ولم يردع عنه الشارع لا في إحراز الموضوعات ولا الأحكام.

نعم لم يثبت الاعتماد عليه حتّى عند العقلاء في إثبات الدعاوى على الغير ونحوها من ارتكاب موجب الحدّ من حقوق الله وحقوق الناس مما قرّر الشارع في

٣٢١

.................................................................................................

______________________________________________________

ثبوتها طريقا خاصّا.

ومما ذكرنا يظهر أنّه لو كان لاجتهاد المجتهد أو كونه أعلم شياع بين أهل الخبرة بحيث أوجب ذلك العلم باجتهاده أو كونه أعلم كفى في ثبوتهما ، وذكر الماتن قدس‌سره في ثبوت الاجتهاد أو الأعلمية شهادة عدلين من أهل الخبرة وكأنّ شهادتهما تدخل في البيّنة المعتبرة في الموضوعات ، ومنها اجتهاد المجتهد أو كونه أعلم.

ويستدلّ على اعتبار شهادة العدلين بوجهين :

الأوّل : ما ورد في القضاء وفصل الخصومة بين المترافعين والتعبير عن شهادتهما بالبيّنة في مثل قوله عليه‌السلام : «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات» (١) فإنّ ظاهره أنّ المراد بالبينة ما تكون بيّنة مع قطع النظر عن القضاء وإنشاء فصل الخصومة ، وقد طبّق عنوان البيّنة على شهادة العدلين إلّا في موارد خاصّة كالبيّنة على الزنا ونحوه ، والشاهد لكون المراد بالبيّنة ما ذكر وأنّ شهادة العدلين بيّنة للأمور مع قطع النظر عن مقام القضاء أنّه لو كان المراد أنّ شهادتهما بيّنة في مقام القضاء وبلحاظ فصل الخصومة ، لا مع قطع النظر عن ذلك لم يكن لعطف الأيمان على البيّنة في بعض الروايات وجه ، حيث إن اليمين أيضا في خصوص القضاء بيّنة لإثبات مورد الخصومة أو نفيه.

والثاني : بعض الروايات الوارد فيها اعتبارها في ثبوت كلّ موضوع للحكم الإلزامي وغيره تكليفا ووضعا ، كرواية مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال سمعته يقول : «كلّ شيء هو لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه ، فتدعه من قبل

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٣٢ ، الباب ٢ من أبواب كيفية الحكم ، الحديث الأول.

٣٢٢

.................................................................................................

______________________________________________________

نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ، أو المملوك عندك ولعلّه حرّ قد باع نفسه أو خدع فبيع قهرا ، أو امرأة تحتك وهي اختك أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة» (١) فإنّ ظاهرها أنّ كلّ شيء يحتمل حلّيته وحرمته وحكم بحليّته عند الجهل بأيّ جهة فهذه الحلية تنتهي بظهور الخلاف والعلم بحرمته أو تقوم بخلاف الحليّة بيّنة ، فتكون الرواية ظاهرة في أنّ البيّنة مثبتة لجميع الموضوعات التي يترتب عليها الحكم الإلزامي وضعا وتكليفا وإن اقتضى خلافها قاعدة اليد ، كما في مسألة شراء الثوب أو العبد المشترى أو أصالة عدم تحقّق الرضاع والنسب كما في مسألة تزويج المرأة إلى غير ذلك ، وعليه يرفع اليد عن أصالة عدم بلوغ أهل العلم مرتبة الاجتهاد أو عدم صيرورة المجتهد أعلم بقيام البيّنة على اجتهاده أو كونه أعلم.

وقد يناقش في الاستدلال بهذه الرواية ـ مع الإغماض عن سندها ، حيث إنّ مسعدة بن صدقة لم يثبت له توثيق ـ بأنّه لا يمكن الاستدلال بها في المقام ؛ لأن البيّنة شهادة كلّ من العدلين على واقعة محسوسة منهما ، والاجتهاد أو كون شخص أعلم من الامور الحدسيّة لا الحسّية ، ولذا يعتبر فيهما قول أهل الخبرة.

وقد يجاب (٢) عن ذلك بأنّ الأمر الحدسيّ إذا كان له أثر بارز حسّي يدرك بالحسّ كالسماع لكيفية الاستنباط من مدارك الأحكام وكيفية استظهاره الحكم منها وتكرّر هذا السماع مكرّرا يحسب عند العقلاء حسّا بالواقعة ، نظير الشهادة بإيمان

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٧ : ٨٩ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤.

(٢) التنقيح في شرح العروة ١ : ١٧٥.

٣٢٣

.................................................................................................

______________________________________________________

شخص واقعا واعتقاده بالولاية برؤية آثارها في الوقائع المتعدّدة.

وفيه إذا كان الأمر الحدسي بحيث يكون أثره محسوسا بحيث يعرفه كلّ من أحرز ذلك الأثر بالحسّ كالشهادة بالشجاعة والعدالة يصحّ دعوى أنّ هذه الامور عند العقلاء داخلة في الحسّ ، فيكون الإخبار بها برؤية آثارها شهادة عليها بالحسّ ، ولكن اجتهاد الشخص أو كونه أعلم ليس من هذا القبيل ، فإنّهما وإن يحرزان بالأثر لكن إحرازهما من الأثر أمر حدسيّ يختصّ هذا الإحراز والحدس بأشخاص مخصوصين ، ولا يكون الإخبار بهما شهادة بالواقعة بالحسّ.

ولا يستفاد اعتبار التعدّد في الإخبار عنهما مما ورد في اعتبار التعدّد في الشاهد بالواقعة ، كما لا يستفاد ذلك مما ورد في اعتبار البيّنة في القضاء ولا من رواية مسعدة بن صدقة المتقدّمة ، بل المعتبر في الامور التي يرجع فيها إلى أهل الخبرة قولهم إلّا مع الاختلاف حيث يكون المتّبع قول من هو أكثر خبرة حتّى فيما إذا كان واحدا ، وعليه فلا يعتبر فيمن يرجع إليه في إحراز الاجتهاد أو كونه أعلم التعدّد كما هو مقتضى السيرة العقلائيّة في الرجوع إلى أهل الخبرة.

وربّما يورد (١) على الاستدلال برواية مسعدة بن صدقة بأن البيّنة معناها اللغوي ما يوضح الشيء ويثبته ، وقد استعمل كثيرا حتى في الرواية بهذا المعنى ، غاية الأمر قد طبّق عنوانها في موارد فصل الخصومة على شهادة عدلين في أكثر موارد فصلها ، وإذا كان في بناء العقلاء وسيرتهم العمل بأخبار الثقات في غير موارد الدعاوى ونحوها ولم يثبت ردع الشارع عنها ، بل ورد في بعض الموارد الاعتناء بخبر الثقة مع

__________________

(١) المصدر السابق ١ : ١٧٣.

٣٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

كونها من الموضوعات يكون خبره أيضا بيّنة.

ولكن قد ذكرنا في بحث ثبوت النجاسات أنّ المراجع في الأخبار يطمئنّ لو لا الجزم بأنّ البيّنة في زمان الصادقين عليهما‌السلام وما بعده في نظير المقامات ظاهرها شهادة العدلين ، فالعمدة في الإشكال ضعف الرواية سندا وكذا خبر عبد الله بن سليمان عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الجبن قال : «كلّ شيء حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان أنّ فيه ميتة» (١).

وعلى الجملة هاتان الروايتان لضعفهما سندا لا تصلحان للردع عن السيرة التي أشرنا إليها من الاحتجاج والاعتذار في الموضوعات أيضا بأخبار الثقات ، كما هو الحال في الإخبار بالأحكام الكليّة بحكاية قول المعصوم عليه‌السلام أو فتوى المجتهد الذي تكون فتواه معتبرة في حقّ العاميّ.

وقد يقال : إنّه لو لم نقل باعتبار خبر الثقة في ساير الموضوعات فأيضا يلتزم باعتبار الخبر باجتهاد شخص أو بأعلميّته أو بفتواه ولو كان الخبر واحدا ولم يعارض خبره بخبر مثله ، وذلك فإنّ الخبر باجتهاد شخص أو كونه أعلم ، أو بفتواه كما يخبر بهما كذلك يخبر بأنّ فتواه هو الحكم الشرعيّ في حقّ العاميّ نظير خبر زرارة مثلا بقول الإمام عليه‌السلام ، فإنّه كما أنّ المرويّ بالمطابقة قول الإمام عليه‌السلام كذلك المرويّ بالالتزام هو الحكم الشرعيّ الكلّي.

غاية الأمر المدلول الالتزاميّ في خبر زرارة بقول الإمام عليه‌السلام يكون بحدس المجتهد ، وفي الإخبار باجتهاد شخص أو أعلميته أو فتواه يكون أيضا بحدس

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٥ : ١١٨ ، الباب ٢٥ من أبواب الأطعمة المباحة ، الحديث ٢.

٣٢٥

.................................................................................................

______________________________________________________

المجتهد ولكن لا يختصّ به بل يعمّ المخبر بالاجتهاد والفتوى أيضا ، وكما أنّ الإخبار بقول المعصوم حتى للمخبر به بالإضافة إلى المدلول المطابقيّ كذلك نفس اجتهاد الشخص أو فتواه مدلول مطابقيّ وحسّي للمخبر بهما.

ثمّ ذكر القائل إنّه على ذلك يكفي الخبر الواحد في توثيق الراوي ولا يحتاج إلى التعدّد ولو قيل باعتبار التعدّد في الإخبار عن الموضوعات ، حيث إنّ الإخبار بتوثيق الراوي إخبار عن كون ما يرويه هو الحكم الشرعيّ الكلّي.

ولا يخفى ما فيه ، فإنّ غاية ما ذكر أن يكون الخبر الواحد كافيا في نقل فتوى المجتهد لمقلّديه بالتقريب ، وأمّا الإخبار بكون الشخص مجتهدا أو أنّ ما استظهره من مدارك الأحكام استنباط شخص ذي ملكة بطريق متعارف فهو إخبار بأمر حدسيّ لا حسّي ، بخلاف خبر زرارة بقول الإمام عليه‌السلام حيث إنّ ما يرويه من قول الإمام عليه‌السلام أمر حسّي قد سمعه منه عليه‌السلام ، وكذا الحال في خبر شخص بكون الراوي ثقة ، فإنّه قد أحرز حال الراوي وأنّه يجتنب عن الكذب وإظهار خلاف الواقع ، وأمّا كون ما يرويه عن الإمام عليه‌السلام هو الحكم الشرعيّ واقعا فهذا خارج عن شأن الراوي بما هو راو ، ولا يدلّ دليل اعتبار خبر الثقة بقول الإمام عليه‌السلام على اعتبار حدس الراوي في هذه الجهة ، بل اعتباره بالنسبة إلى اعتبار الدالّ على الحكم الشرعيّ الكلّي الحكم الذي يستظهره الفقيه من ذلك الدالّ ، بخلاف الخبر عن اجتهاد شخص فإنّه ليس إخبارا بالدالّ على الحكم الشرعيّ ولا بلزوم الحكم الشرعيّ الكلّي حسّا ، بل المخبر عن الحكم الشرعيّ الكلّي هو نفس ذلك المجتهد.

نعم المخبر باجتهاد شخص أو بكونه أعلم يخبر عن حكم جزئيّ وهو اعتبار فتواه ، ولكن لا يكون قوله في هذا الحكم معتبرا لو لم يكن عند من يخبره هذا الحكم

٣٢٦

(مسألة ٢١) إذا كان مجتهدان لا يمكن تحصيل العلم بأعلميّة أحدهما ولا البيّنة ، فإن حصل الظنّ بأعلميّة أحدهما تعيّن تقليده ، [١] بل لو كان في أحدهما احتمال الأعلميّة يقدّم ، كما إذا علم أنّهما إمّا متساويان أو هذا المعيّن أعلم ولا يحتمل أعلميّة الآخر ، فالأحوط تقديم من يحتمل أعلميّته.

(مسألة ٢٢) يشترط في المجتهد امور : البلوغ ، والعقل ، والإيمان ، والعدالة [٢].

______________________________________________________

معلوما ، كما هو الحال في الإخبار بسائر الموضوعات حيث إنّ المعتبر بقول المخبر نفس الإخبار بالموضوع ، ولو بنى على اعتبار تعدّد الشاهد والمخبر لزم رعاية التعدّد في الإخبار عنهما مع قطع النظر عما ذكرنا من عدم الاعتبار في موارد الرجوع إلى أهل الخبرة ، ومما ذكر يظهر الحال في موارد الإخبار بكون الراوي ثقة وأنّه من قبيل الإخبار بالموضوع لا الحكم الكلّي ولا الحكم الجزئيّ إذا لم يحرز المجتهد اعتبار خبر الثقة.

[١] قد تقدّم الكلام في ذلك في ذيل لزوم تقليد الأعلم فيما إذا علم الاختلاف بين المجتهدين في المسائل التي يمكن ابتلاء المكلف بها حتى فيما إذا كان ذلك بنحو العلم الإجماليّ ، وذكرنا أنّ الاطمينان والوثوق ملحق بالعلم ، وأنّ مجرّد الظن لا اعتبار به ، بل لو اختصّ احتمال الأعلميّة بأحدهما المعيّن تعيّن تقليده وإن لم يكن الاحتمال بمرتبة الظنّ ، ومع جريان الاحتمال في ناحية كلّ منهما يحتاط أو يكتفي بالموافقة بقول أحدهما على ما مرّ من التفصيل.

[٢] ينبغي أن تعلم الامور المعتبرة في المجتهد بالإضافة إلى اعتبار فتواه في حقّ العاميّ ، لا بالإضافة إلى عمل نفسه حيث تقدّم أنّ العاميّ لا بدّ له من علمه بجواز التقليد ، ولا يمكن أن يحصل له العلم إلّا إذا اجتمع في المجتهد الذي يرجع إليه جميع ما يحتمل دخالته في جواز التقليد ، والكلام في المقام أنّه بنظر المجتهد

٣٢٧

.................................................................................................

______________________________________________________

المستفاد من مدارك الحكم أيّ أوصاف تعتبر في المجتهد الذي يرجع إليه العاميّ حتى يمكن للعاميّ بعد كونه القدر المتيقن من جواز التقليد أن يستند إلى فتواه في رجوعه ولو في احتياطاته إلى من هو واجد لما يعتبره من أوصاف المجتهد ، فنقول :

أمّا اعتبار البلوغ فقد ادّعي على اعتباره في المجتهد الإجماع والاتّفاق وأنّ المرجعيّة التي ينالها أشخاص مخصوصون منصب يتلو منصب الإمامة والنبوّة ، فلا يناسب التصدّي لها من الصّبي حيث يصعب على الناس إحراز أنّه لا يصدر عنه انحراف وزلل ، ولا ينتقض ذلك بنبوّة بعض الأنبياء وتصدّيهم النبوة حال صغرهم ، وكذا بالإمامة حيث تصدّى بعض الأئمّة إلى الإمامة حال صغرهم ، فإنّ عصمتهم تخرجهم عن مقام التردّد والشكّ في أقوالهم ، وتوجب اليقين والجزم بصحّة أقوالهم وأفعالهم.

وعلى الجملة مع العصمة لا ينظر إلى السنّ والبلوغ ، بخلاف من لم تكن فيه العصمة ، فإنّ الصّبي في صباوته معرض لعدم الوثوق به ، كيف وقد رفع القلم عنه ولا ولاية له بالمعاملة في أمواله ونحوها ، فكيف يكون له منصب الفتوى والقضاء للناس؟ مع أنّ من يؤخذ منه الفتوى يحمل أوزار من يعمل بفتاويه ، مع أنّ الصّبي لا يحمل وزر عمله فضلا عن أوزار أعمال الناس.

والحاصل المرتكز عند المتشرعة هو كون المفتي ممن يؤمن بأنّ وزر من عمل بفتواه عليه وأنّه يحاسب به ، ويشهد لذلك بعض الروايات منها صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال : كان أبو عبد الله عليه‌السلام قاعدا في حلقة ربيعة الرأي ، فجاء أعرابيّ فسأل ربيعة الرأي عن مسألة فأجابه ، فلمّا سكت قال له الأعرابيّ : أهو في عنقك؟ فسكت عنه ربيعة ولم يرد عليه شيئا ، فأعاد المسألة عليه فأجابه بمثل ذلك ، فقال له الأعرابيّ : أهو في عنقك؟ فسكت ربيعة ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «هو في

٣٢٨

.................................................................................................

______________________________________________________

عنقه ، قال أو لم يقل وكلّ مفت ضامن؟» (١).

وربّما ينساق من معنى تقليد مجتهد تحميل وزر العمل بفتواه عليه ، وعلى ذلك فلا يصلح الصّبي والمجنون للتحميل والتحمّل للوزر عليه ، بل يكون في تقليد المجنون ولو كان أدواريّا مهانة للمذهب حيث إنّ المرجعيّة للفتاوى ـ كما تقدّم ـ منصب وزعامة دينيّة يتلو منصب الإمامة ، والمجنون والفاسق بل العادل الذي له سابقة فسق ظاهر عند الناس لا يصلح لهذا المنصب.

ويعتبر فيمن يرجع إلى فتاواه كونه أهل الإيمان لا لمجرّد رواية أحمد بن حاتم بن ماهويه قال : كتبت إليه يعني أبا الحسن الثالث عليه‌السلام أسأله عمّن آخذ معالم ديني؟ وكتب أخوه أيضا بذلك ، فكتب إليهما : فهمت ما ذكرتما فاصمدا في دينكما على كلّ مسنّ في حبّنا وكلّ كثير القدم في أمرنا ، فإنّهما كافوكما إن شاء الله تعالى» (٢) ورواية علي بن سويد قال : كتب إليّ أبو الحسن عليه‌السلام وهو في السجن : «وأمّا ما ذكرت يا علي ممّن تأخذ معالم دينك ، لا تأخذنّ معالم دينك عن غير شيعتنا فإنّك إن تعدّيتهم أخذت دينك عن الخائنين الذين خانوا الله ورسوله ، وخانوا أماناتهم ، إنّهم ائتمنوا على كتاب الله فحرّفوه وبدّلوه فعليهم لعنة الله ولعنة رسوله» (٣).

فإنّ الثانية ضعيفة سندا لوقوع محمد بن اسماعيل الرازي وعلي بن حبيب المدائني في سندها ، وكذا الاولى فإنّ في سندها أحمد بن حاتم وغيره ممّن لم تثبت وثاقته ، مع أنّ في الاولى اعتبار كثرة الحبّ ، وقدم أمره في ولايتهم ، بل لما

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٢٠ ، الباب ٧ من أبواب آداب القاضي ، الحديث ٢.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٥١ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٥.

(٣) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٥٠ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٢.

٣٢٩

والرجوليّة ، والحرية ، على قول [١].

______________________________________________________

تقدّم من أنّ المرجعيّة في الفتاوى منصب يتلو منصب الإمامة ، وغير المؤمن لا يصلح لذلك فإنّ تصدّيه لهذا المنصب وهن ، حيث يوهم الناس بطلان المذهب حيث يلقي فيهم أنّه لو كان مذهبهم حقّا لما عدل عنه.

وما ذكر من الأوصاف يعتبر في المجتهد ابتداء وفي البقاء على تقليده لجريان ما ذكرنا من الوجوه المانعة في أصل الرجوع وفي البقاء على تقليده.

[١] يعتبر فيمن يرجع إليه في الفتوى الرجوليّة ، ويستدلّ على ذلك بما ورد في القضاء في معتبرة أبي خديجة سالم بن مكرم الجمال قال : قال أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام : «إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور ، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا ، فاجعلوه بينكم فإنّي قد جعلته قاضيا» (١).

ودعوى (٢) أنّ ذكر الرجل باعتبار العادة في الخارج في ذلك الزمان لعدم وجود من يعلم من قضاياهم من النساء ، وكذا الحال في معتبرة عمر بن حنظلة حيث ورد فيها : «ينظران إلى من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا» (٣) حيث إنّ ظاهرها أنّ المرجع في القضاء الرجل ، لا يمكن المساعدة عليه ، فإنّ القيد الغالبي إنّما لا يمنع عن الأخذ بالإطلاق إذا كان في البين إطلاق يعمّ مورد القيد وعدمه ، ولكن ليس في أدلة نفوذ القضاء إطلاق يعمّ النساء ، بل ورد فيه أنّ المرأة لا تتولّى القضاء ، وإذا لم يكن القضاء من غير الرجل نافذا فكيف يعتبر فتوى غير الرجل؟ فإنّ منصب القضاء ليس بأكثر من منصب الإفتاء ، بل ربّما يكون القضاء

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٣ ، الباب الأول من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٥.

(٢) التنقيح في شرح العروة ١ : ١٨٧.

(٣) وسائل الشيعة ١ : ٣٤ ، الباب ٢ من أبواب مقدمة العبادات ، الحديث ١٢.

٣٣٠

وكونه مجتهدا مطلقا فلا يجوز تقليد المتجّزئ [١] ، والحياة فلا يجوز تقليد

______________________________________________________

بتطبيق القاضي فتواه على مورد الترافع. أضف إلى ذلك أنّ الشارع لا يرضى بإمامة المرأة للرجال في صلاتهم فكيف يحتمل تجويزه كونها مفتية للناس المقتضي جعل نفسها عرضة للسؤال عنها من الرجال ، مع أنّ الوارد في حقّ المرأة : أنّ مسجدها بيتها (١) ، وخوطب الرجال بأنّ النساء عورات فاستروهن بالبيوت (٢) إلى غير ذلك.

وأمّا ما ذكره قدس‌سره من اعتبار الحريّة على قول فليس في البين ما يعتمد عليه في اعتبارها في المفتي وأن لا يجوز الرجوع إلى العبد الواجد لسائر الشرائط ، فإنّ ما ورد في القضاء يعمّ كونه حرّا أو عبدا وليس في تصدّي العبد لمقام الإفتاء أيّ منقصة فيه ، وما يقال من أنّ استغراق أوقات العبد بالجواب عما يسأل عنه في الأحكام الشرعيّة ينافي كون أعماله ملكا لمولاه حيث لا يجوز له صرفها في غير ما يأمر مولاه به من الأعمال فيه ما لا يخفى ، فإنّه لو اتّفق ذلك ووجب على العبد التصدّي للجواب عمن يسأله يكون ذلك كسائر وظائفه الشرعيّة التي لا يجوز لمولاه منعه عن مباشرتها.

[١] إذا أراد العاميّ التقليد في الوقائع التي يبتلى بها مع علمه إجمالا بمخالفة الأحياء فيها ولو كان علمه بنحو الإجمال فلا يجوز له التقليد من المتجزّي ولا المجتهد المطلق الذي لا يكون أعلم أو محتمل الأعلمية من السائرين ، كما أنّه لا دليل على كفاية التعلّم فيما إذا علم من أهل العلم مسألة أو مسألتين أو عدّة مسائل معيّنة من مداركها ؛ لعدم الدليل على اعتبار فتواه ، فإنّ عمدة ما اعتمدنا عليه في جواز التقليد الروايات المتقدّمة الوارد فيها الإرجاع إلى أشخاص خاصّة ، ولاحتمال

__________________

(١) وسائل الشيعة ٥ : ٢٣٦ ، الباب ٣٠ من أبواب أحكام المساجد.

(٢) وسائل الشيعة ٢٠ : ٦٦ ، الباب ٢٤ من أبواب مقدمات النكاح ، الحديث ٦.

٣٣١

الميّت ابتداء نعم يجوز البقاء كما مرّ ، وأن يكون أعلم [١]. فلا يجوز على الأحوط تقليد المفضول مع التمكّن من الأفضل ، وأن لا يكون متولّدا من الزنا [٢].

______________________________________________________

اقتصار الشارع في الإمضاء على أمثالهم لا يجوز التعدّي إلى مثل الشخص المفروض ، بل يتعدّى إلى ما ورد في معتبرة عمر بن حنظلة ، ويلتزم بأن يصدق على من يرجع إليه رجل يعرف حلالهم وحرامهم وينظر فيهما كما ورد فيها.

وأمّا ما ورد في معتبرة أبي خديجة سالم بن مكرم : «انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا ، فاجعلوه حكما» (١) فمضافا إلى أنّه في القضاء وفصل الخصومة ، ونفوذ قضائه لا يلازم جواز الرجوع إليه في الفتوى ، أنّ قوله عليه‌السلام : «يعلم شيئا من قضايانا» لا يعمّ عرفان مسألة أو مسائل معدودة ، فإنّ إطلاق الشيء على علمه في مقابل علمهم عليه‌السلام كإطلاق شيء من الماء على ماء النهر العريض الجاري في مقابل ماء البحر كما لا يخفى.

[١] قد تقدّم الكلام في ذلك عند التكلم في اشتراط الحياة في المفتي ، وذكرنا الوجه في عدم جواز تقليد الميّت ابتداء ، كما ذكرنا الوجه في جواز البقاء على تقليد الميّت على التفصيل المتقدّم ، وتقدّم أيضا الوجه في لزوم تقليد الأعلم في المسائل التي يعلم اختلاف الأحياء فيها ولو بنحو الإجمال إذا كانت تلك المسائل محلّ الابتلاء للعاميّ.

[٢] لا يجوز أخذ الفتوى من ولد الزنا وإن كان عادلا لما تقدّم من كون شخص ولد الزنا غير مناف لكونه مجتهدا وعادلا ، إلّا أن تصدّيه لمقام المرجعيّة والإفتاء

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٣ ، الباب الأول من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٥.

٣٣٢

وأن لا يكون مقبلا على الدنيا وطالبا لها مكبّا عليها ، مجدّا في تحصيلها [١] ففي الخبر : «من كان من الفقهاء صائنا لنفسه ، حافظا لدينه ، مخالفا لهواه ، مطيعا لأمر مولاه ، فللعوام أن يقلّدوه.

______________________________________________________

مهانة للمذهب ، فيعلم أنّ الشارع لا يرضى به ، كيف وأنّ الشارع لم يجوّز إمامته وتصدّيه كونه إمام الجماعة؟ فكيف يحتمل أن يجوّز تصدّيه لمنصب يتلو منصب الإمامة؟ وممّا ذكرنا يظهر أن طروّ بعض الامور التي لا يحسب طروّها منقصة للشخص ولا المنصب لا يمنع من جواز التقليد حدوثا أو بقاء ، كعروض الإغماء لمرض وإن استمرّ ، بخلاف عروض الجنون ولا سمح الله الفسق ، فإنّ عروضهما منقصة للشخص ويمنع من جواز التقليد بقاء فضلا عن التقليد عنهما ابتداء.

[١] ظاهر كلامه قدس‌سره حيث ذكر اشتراط العدالة في المفتي قبل ذلك أنّ هذا الاشتراط زائد على اشتراط العدالة لا أنّه تكرار ؛ ولذا يقع الكلام في الدليل على اعتبار الزائد من العدالة ، فإن كان المستند في ذلك الخبر المروي في تفسير العسكري عليه‌السلام على ما هو المعروف فلا دلالة له على أزيد من العدالة ، فإنّ المكبّ على الدنيا بجمع المال حتّى من الحرام ينافي العدالة ، وأمّا جمعه من الحلال بعد أداء ما عليه من الحقوق إلى أهلها فلم يثبت كراهته فضلا عن كونه منافيا للعدالة ، والورع ومخالفة الهوى ظاهره الإمساك عمّا تشتهيه النفس من ارتكاب ما حرّم الله سبحانه ، وأمّا ما أباحه سبحانه فلا ينافي الورع.

هذا مع ضعف الخبر وعدم صلاحه للاعتماد عليه ، مع ظهور المكبّ يعني المكبّ على الدنيا تحصيلها بحلال وحرام ، وكذا اتّباع الهوى الإتيان بما تشتهيه نفسه ولو بتهيئة المقدّمات من حلال وحرام.

٣٣٣

(مسألة ٢٣) العدالة عبارة عن ملكة إتيان الواجبات وترك المحرمات [١].

______________________________________________________

العدالة وحقيقتها

[١] قد وقعت العدالة قيدا لموضوع الحكم في جملة من الموارد ، كالعدالة في المفتي حيث إنّها قيد لاعتبار فتواه ، وعدالة القاضي فإنّها قيد لنفوذ قضائه ، وعدالة الشاهد في قبول شهادته والاستماع إلى الطلاق ، وعدالة إمام الجماعة والجمعة في صحّة الاقتداء وإجزاء صلاة الجمعة وغير ذلك ؛ ولذا يقع البحث في المراد منها والمعروف بينهم أنّها ملكة الاجتناب عن الكبائر وترك الإصرار على الصغائر كما ذكر ذلك الماتن قدس‌سره أيضا في عدالة إمام الجماعة ، ولكن أطلق فيما نحن فيه بذكر أنّها ملكة الإتيان بالواجبات وترك المحرّمات. ومقتضاه عدم الفرق بين واجب وواجب آخر وعدم الفرق بين حرام وحرام آخر في أنّ ملكة الإتيان بالأوّل وترك الثاني هي العدالة.

وعبّر في كلمات البعض عن الملكة بأنّها حالة راسخة للنفس أو في النفس تدعو إلى الاجتناب عن المحرّمات والإتيان بالواجبات ، فيكون اتّصاف الشخص بالعدالة من قبيل وصفه بصفات نفسانية ، ويظهر من بعض الكلمات أنّ اتّصاف الشخص بالعدالة من قبيل وصفه بصفات الفعل ، فالعدل هو كون الشخص مستمرّا في أفعاله وأعماله على الوظيفة الشرعيّة بأن يستمرّ على الإتيان بالواجبات وترك المحرّمات ، وكونه كذلك في أعماله فعلا أو تركا ناشئا عن حالته النفسانيّة المستقرّة ، فالعدالة هي المسبّب عن الملكة لا أنّها بنفسها هي الملكة.

وقد يقال : إنّ العدالة ثبوت حسن الظاهر للشخص بحيث لو سئل عن معاشريه والمطّلعين على أحواله قالوا علمنا منه الاستمرار على الوظائف الشرعيّة ولم نر منه سوءا ، كما أنّه قيل أيضا بأنّها ظهور إيمان الشخص وأنّه مؤمن مع عدم ظهور الفسق

٣٣٤

.................................................................................................

______________________________________________________

منه ، ولكن لا يخفى أنّه لو كان لظهور إيمان الشخص وعدم إحراز فسقه اعتبار فهو بمعنى كونه طريقا إلى عدالته واقعا ، لا أنّ العدالة تجتمع مع الفسق الواقعيّ ، فإنّ المضادّة بين الفسق والعدالة لا تحتاج إلى إقامة الدليل ، وكذا الأمر في حسن الظاهر فإنّ إخبار من يعاشره أو أشخاص يعاشرونه بحسن ظاهره ، وأنّهم لم يروا منه إلّا الخير والمواظبة على الطاعات ، ذلك من إحراز الطريق إلى عدالته لا أنّ نفس حسن الظاهر بنفسه هو العدالة ؛ لأنّ الفسق المستور عن الناس لا يجتمع مع العدالة الواقعيّة.

وعلى ذلك يبقى الكلام في أنّ العدالة هي استقامة الشخص في أعماله على طبق الوظائف الشرعيّة وعدم انحرافه عنها في العمل بأنّه يطيع الله ولا يعصيه ، ولو انحرف اتفاقا في عمل من باب : الجواد قد يكبو ، وأنّ الغريق قد ينجو بذكر الله تداركه بالتوبة والاستغفار ، أو أنّ العدالة من صفات النفس لا وصف له بحسب أعماله وأفعاله وسلوكه الدينيّ.

تنبيه

وقبل التكلّم في الاحتمالين بل القولين ينبغي التنبيه لأمر ، وهو أنّ تعويد الإنسان نفسه بترك الحرام والإتيان بالواجب بحيث يشمئز من تصوّر الحرام ولحاظ وقوعه منه ، ويشتاق إلى فعل الواجب والإتيان به غير معتبر في تحقّق العدالة ، سواء قيل بأنّها ملكة فعل الواجبات وترك المحرمات أو كونها الاستقامة على الوظائف الشرعيّة وعدم الانحراف عنها ، فإنّه يوصف الشخص بأنّه عادل بدون ذلك ، فإنّه إذا خاف من سوء الحساب والابتلاء بالعقاب يوم الحساب وأوجب ذلك أي دعاه إلى ترك الحرام مع كمال ميل نفسه إليه ، والإتيان بالواجب مع صعوبته عليه ويستمرّ

٣٣٥

.................................................................................................

______________________________________________________

على ذلك ، وإذا اتّفق الانحراف والارتكاب أحيانا تندم بعده واستغفر ربّه فهو عادل ومأمون في دينه ، وينطبق عليه بعض العناوين الواردة في موارد اعتبار العدالة من كونه خيّرا ومرضيّا وصالحا وثقة في دينه إلى غير ذلك.

وعلى ذلك فنقول : ينظر في ارتكاز المتشرعة في عدالة الشخص وفسقه إلى أعماله ، فإن لم يخرج في أعماله عن وظائفه الدينيّة فهو رجل عادل ، بخلاف ما إذا لم يكن مباليا فيها فيرتكب الحرام إذا دعاه غرضه إلى ارتكابه للوصول إليه أو إذا هوت إليه نفسه ، ويترك الواجب ولا يبالي به إذا كان تركه يساعده على الوصول إلى غرضه الدنيويّ أو هوى نفسه ، فإنّه يقال إنّه ليس بعادل. وبتعبير آخر استمرار الشخص في أعماله على وظائفه الشرعيّة وإن ينشأ من أمر نفسانيّ من خوفه من سوء الحساب والابتلاء بالعقاب أو اشتياقه إلى نيل الثواب والوصول إلى الجنة أو غير ذلك من تحصيل رضى ربّه ، إلّا أنّ كون العدالة هي الأمر النفسانيّ خصوصا في تعيينها في الملكة دون الخوف من الله والاشتياق إلى نجاة نفسه من العقاب ونيل الشفاعة أمر لا يساعده ارتكاز المتشرعة ولا معنى العدالة عرفا في استعمالاته في مقابل الفسق والغير المبالي.

لا يقال : إذا كان المراد من العدالة استقامة الشخص في أعماله بحسب وظائفه الشرعيّة ، وانحرافه عنها موجبا لفسقه وعدم عدالته فلا يمكن إحراز العدالة إلّا بالإضافة إلى النوادر من الأشخاص ؛ إذا العلم الإجماليّ بأنّ نوع الإنسان يرتكب ولو في بعض الأحيان بعض الصغائر حاصل ، فكيف يحرز توبته ليترتّب عليه آثار العدالة من جواز الاقتداء به وقبول شهادته وصحة الطلاق عنده إلى غير ذلك؟ وكيف يمكن للمدعي إقامة شهادة عدلين لدعواه؟

٣٣٦

.................................................................................................

______________________________________________________

فإنّه يقال : قد ذكرنا أنّ الانحراف الاتفاقيّ لا يضرّ بالعدالة إذا تداركه بالتوبة أي الندم والاستغفار ، فإنّ التائب بتوبته واستمراره في أعماله على طبق الوظائف الشرعيّة عادل في دينه كما يشهد لذلك ما ورد في التوبة ، غاية الأمر دعوى أنّ التوبة من المرتكب ولو اتفاقا لا تحرز غالبا ، ولكن هذا الأمر سهل مع جعل الشارع الطريق إلى إحراز عدالة الشخص وهو ثبوت حسن الظاهر له ، وإذا احرز ثبوت هذا الحسن في حقه واحتمل عدالته واقعا يكون ذلك إحرازا لعدالته ، كما هو الحال في إحراز سائر الامور بالطريق المعتبر فيه.

وعلى الجملة عدالة الشخص استقامته في أعماله وعدم الانحراف فيها عن وظائفه الشرعية.

نعم الاستقامة يوما أو يومين ونحو ذلك لا تكون مصداقا للاستقامة فيها ما لم يحرز استمرارها ودوامها بحسب الحالات وطروّ التغيّرات الزمانيّة.

ما يستدلّ به على كون العدالة هي الملكة

ويستدلّ على كون العدالة بمعنى ملكة الاجتناب عن الكبائر وترك الإصرار على الصغائر أو ملكة الإتيان بالواجبات وترك المحرّمات بوجهين :

الأوّل : أنّ الأحكام المترتّبة على العدالة وعنوان العادل ثبوتها في حق الفاقد للملكة لو لم يكن عدم ترتّبها محرزا فلا أقلّ من الشكّ في ترتّبها على فقدها وفاقدها ؛ لأنّ العدالة لو لم يكن ظاهرها ما ذكر من الملكة فلا أقلّ من إجمالها واحتمالها في تحقّقها ، فيدور ترتّبها على القليل أو الكثير فيؤخذ بالقدر المتيقّن ، فإنّه لو لم يكن فاقد الملكة من الفاسق احتمالا فلا يحرز كونه عادلا.

٣٣٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وفيه قد ذكرنا أنّ ظاهر العدالة أنّها وصف للشخص بحسب أعماله وأفعاله وعدم الخروج فيها عن وظائفه الشرعيّة سواء كان منشأ الاستقامة في أعماله وعدم انحرافه فيها عن وظائفه الشرعيّة الملكة المذكورة ، أو مجرّد الخوف من الله وسوء الحساب والابتلاء بجزاء أعماله يوم الجزاء ، هذا أوّلا. وثانيا : ليس كلّ مورد يترتّب فيه الأثر أخذ عنوان العدالة قيدا في خطاب ذلك الأثر ، فإنّ الموضوع لأخذ الفتوى ونفوذ القضاء من يعلم معالم الدين وحلال الشرع وحرامه ، غاية الأمر علمنا بما تقدّم ذكره أنّ الشارع لا يرضى بالاعتماد على من هو غير مستقيم في دينه وغير أمين في قوله ، ويبقى في الموضوع من هو مستقيم ومأمون في قوله ، واحتمال اعتبار الملكة يدفع بالإطلاق ، وكذا الحال في الايتمام فإنّ المقدار الثابت في إمام الجماعة اعتبار كونه ثقة في دينه ومأمونا في الاقتداء به.

والوجه الثاني : استظهار اعتبار الملكة في العدالة من بعض الروايات كصحيحة عبد الله بن أبي يعفور التي رواها الصدوق وفي سندها أحمد بن يحيى لا يضرّ بصحّتها ؛ لأنّه من المعاريف الذين لم يرد فيهم قدح ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام بم تعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتى يقبل شهادته لهم وعليهم فقال : «أن تعرفوه بالستر والعفاف وكفّ البطن والفرج واليد واللسان ، ويعرف باجتناب الكبائر التي أوعد الله عليها النار من شرب الخمر والزنا والربا ، وعقوق الوالدين ، والفرار من الزحف وغير ذلك ، والدلالة على ذلك كلّه أن يكون ساترا لجميع عيوبه حتى يحرم على المسلمين وراء ذلك من عثراته وعيوبه وتفتيش ما وراء ذلك ، ويجب عليهم تزكيته وإظهار عدالته في الناس ، ويكون منه التعاهد للصلوات الخمس إذا واظب عليهن ، وحفظ مواقيتهن بحضور جماعة من المسلمين ، وأن لا يتخلّف عن

٣٣٨

.................................................................................................

______________________________________________________

جماعتهم في مصلّاهم إلّا من علّة ، فإذا كان كذلك لازما لمصلّاه عند حضور الصلوات الخمس ، فإذا سئل عن قبيلته ومحلّته قالوا : ما رأينا منه إلّا خيرا ، مواظبا على الصلوات متعاهدا لأوقاتها في مصلّاه ، فإنّ ذلك يجيز شهادته وعدالته بين المسلمين ، وذلك أنّ الصلاة ستر وكفارة للذنوب» (١) الحديث.

وهذه الصحيحة تتضمّن لفقرات ثلاث :

الاولى : قوله عليه‌السلام : أن تعرفوه بالستر والعفاف وكفّ البطن والفرج واليد واللسان.

الثانية : قوله عليه‌السلام : ويعرف باجتناب الكبائر التي أوعد الله عليها النار.

الثالثة : قوله عليه‌السلام : والدلالة على ذلك كلّه أن يكون ساترا لجميع عيوبه.

ولا ينبغي التأمّل في أنّ ما في الفقرة الثالثة بيان لحسن ظاهر الشخص الذي يعتبر طريقا إلى عدالته الواقعيّة عند الجهل بها ، كما هو الشأن في ساير الطرق المعتبرة ، وأمّا الفقرة الاولى فقد قيل إنّ الستر والعفاف وكفّ البطن والفرج واليد واللسان بمجموعها وقع معرّفا للعدالة وبما أنّ الستر والعفاف من صفات النفس تكون العدالة مساوية للملكة الداعية إلى الكفّ وعدم انتشار أعضاء الشخص إلى المعاصي.

وبتعبير آخر ثبوت الستر والعفاف للشخص ظاهره أن له الاستحياء من ربّه في المعاصي ونحو امتناع النفس له في ارتكابه فيلزم الكفّ وعدم انتشار جوارحه إليها ، وعليه فالمذكور في الفقرة الاولى تعريف لنفس العدالة ، والعرفان المذكور مأخوذ فيها بما هو طريق لا وصف دخيل في العدالة ، ولا يمكن أن يكون نفس الستر

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ٣٩١ ، الباب ٤١ من أبواب كتاب الشهادات ، الحديث الأول.

٣٣٩

.................................................................................................

______________________________________________________

والعفاف طريقا إلى العدالة لا نفسها ، ويؤيّد ذلك أنّه لو كان المذكور فيها طريقا إلى العدالة لا بيانا لنفس العدالة لما كان وجه لما ذكره في الفقرة الثالثة حيث إنّه مع إحراز ما ذكر في الفقرة الثالثة لا يحتاج إلى إحراز ما ذكر في الفقرة الاولى.

وحمل ما ذكر في الفقرة الثالثة على اعتبار الطريق إلى الطريق الوارد في الفقرة الاولى ينافيه قوله عليه‌السلام في الفقرة الثالثة : «ويجب عليهم تزكيته وإظهار عدالته» حيث إنّ ظاهرها كون ما ذكر في الفقرة الثالثة طريقا إلى نفس العدالة لا أنّها طريق إلى طريقها.

أقول : كون الفقرة الثالثة طريقا معتبرا إلى عدالة الشخص المعبّر عن الطريق بحسن الظاهر مما لا كلام فيه ، ولكن لا دلالة فيها ولا في الفقرة الاولى على كون العدالة هي الملكة ، وذلك فإنّ المذكور في الفقرة الاولى : «أن تعرفوه بالستر والعفاف وكفّ البطن ... إلخ» ولا ينبغي التأمّل في أنّ الكفّ من أفعال النفس ، وكون المراد من العفاف غير الكفّ غير ظاهر ، فإن عفّة الشخص عن المعاصي امتناعه عن ارتكابها ، وأمّا الستر فهو إمّا بمعنى الستر عن الناس أو الستر عن الله بمعنى ثبوت الحاجز بينه وبين معصية الله ، والحاجب والمانع يكون الخوف من الله أو غيره ، فيكون المفاد إذا عرف الشخص بالستر والعفاف والكفّ واجتناب المعاصي فعدالته تحرز ، ولكن لا تدلّ على أنّ العدالة هي الستر والعفاف والكفّ ، ولعلّ العدالة هي الاستقامة في العمل الناشئ من ستر الشخص وعفافه وكفّه ، هذا إذا كان المراد بالستر والعفاف صفة النفس ، وأمّا إذا كان المراد بهما ما هو من أفعالها بأن يكون المراد من العفّة الامتناع عن العصيان ، والستر الامتناع عن الظهور على تقدير الاتفاق واستمرّ له الكفّ عن المعاصي يكون الشخص ممن عرفت عدالته ، ولا بأس بالالتزام بأنّ عرفان

٣٤٠