دروس في مسائل علم الأصول - ج ٦

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8438-62-8
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

فلا يجوز له أن يرتّب آثار الصحيح عليها. وإذا لم يرتّب آثار الصحيح عليها شرعا فلا يمكن للآخر أيضا ترتيب آثار الصحة لعدم جواز إلزام الآخر لقيام الحجّة عنده على فسادها ؛ ولذا يحكم بفساد المعاملة بالمعنى الذي ذكرنا أي بالفساد بحسب الظاهر ، ولكن لا يخفى أنّه إن أمكن للمعتقد بصحة العقد وترتّب الأثر عليه من الفسخ واختاره فهو ، وإلّا فالمورد من موارد الترافع ، فينفذ حكم الحاكم الثالث في حقّهما.

لا يقال : الرجوع إلى قضاء الثالث لا يرفع المحذور ، مثلا إذا تزوّج بامرأة بالعقد الفارسيّ وكان مذهب المرأة بحسب تقليدها بطلان عقد النكاح بالفارسيّ مع التمكّن من العقد باللغة العربيّة ومذهب الزوج صحته وكان الزوج باذلا للمهر ، فإنّه إذا رجعا إلى الثالث الذي سيأتي أنّ اختيار الثالث بيد المدّعي وحكم بصحة الزواج فلا يجوز للمرأة التمكين ؛ لأنّها بحسب تقليدها أجنبيّة.

فإنّه يقال : القضاء وإن لا يوجب تغييرا في الحكم الواقعي لمورد الترافع كما يأتي في المسألة الآتية ، إلّا أنّ هذا فيما إذا أحرز الحكم الواقعيّ وجدانا ، ومع إحراز أحد المتنازعين الحكم بغير العلم الوجدانيّ بالتقليد أو الاجتهاد فمقتضى قضاء الثالث سقوط فتوى مجتهده ببطلان العقد الفارسيّ عن الاعتبار في الواقعة المرفوعة إلى الثالث حتّى فيما إذا اعتقدت المرأة أنّ من رجعت إليه في الفتاوى أعلم ، وهذا معنى انتقاض الفتوى بالقضاء ، وهذا فيما كان كلّ من الزوج والزوجة قائلا بصحة تقليده ، وأمّا مع تسالمهما أنّ الأعلم هو المعيّن الذي يرجع إليه أحدهما فعلى الآخر أيضا ولا تصل النوبة إلى الترافع.

٤٠١

(مسألة ٥٦) في المرافعات اختيار تعيين الحاكم بيد المدّعي ، إلّا إذا كان مختار المدّعى عليه أعلم ، بل مع وجود الأعلم وإمكان الترافع إليه الأحوط الرجوع إليه مطلقا [١].

______________________________________________________

[١] الكلام في المقام أنّ مع تعدّد القاضي كما إذا كان كلّ من المتعدّد فقيها منصوبا ولو بالنصب العامّ المستفاد من المقبولة والمعتبرة يكون اختيار القاضي بيد المدّعي أو بتعيين من سبق إليه أحد المترافعين برفع القضية إليه أو يرجع مع اختلاف الخصمين في تعينه إلى القرعة ، ومع اتّفاق الخصمين إذا لم يختلفا ، ذكر في المستند أنّه إذا كان هناك مجتهدان أو أكثر بحيث يجوز الرجوع إلى كلّ منهما أو منهم فمن اختاره المدّعي المرافعة عنده يكون له القضاء في الواقعة ، ويجب على خصمه الإجابة إلى القاضي الذي عيّنه المدّعي ، وعلى ذلك الإجماع ؛ ولأنّ المدّعي هو المطالب بالحقّ ولا حقّ للمنكر ابتداء. وأجاب عن ذلك في ملحقات «العروة» (١) بأنّ للمنكر أيضا حقّ الجواب بأن يسبق إلى الحاكم فيطالبه بتخليصه عن دعوى المدّعي ، ومقتضى القاعدة مع عدم أعلميّة أحدهما هو القرعة إلّا إذا ثبت الإجماع على تقديم مختار المدّعي ، وذكر قدس‌سره في المتن اختيار الحاكم بيد المدّعي إلّا إذا كان مختار المدّعى عليه أعلم ، بل الأحوط الرجوع إلى الأعلم مطلقا أي سواء كان هو مختار المدّعي أم لا ، اتّفقا في تعيّنه أم اختلفا.

أقول : ليس الملاك في كون شيء مدّعيا أن يكون مطالبا بحقّ بل يكفي في كونه مدّعيا أن تحتاج دعواه على الآخر إلى الإثبات سواء كان غرضه بثبوت حقّ له على الآخر أو سقوط حقّه عنه كما في دعواه سقوط دين للآخر عنه بأدائه أو بإبراء الدائن ،

__________________

(١) محلقات العروة ٣ : ١٤ و ١٥.

٤٠٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وحيث إنّ ما عليه الإثبات بطريق معتبر لا يكلّف في إثباته بطريق خاصّ يريد خصمه بل عليه الإثبات بأيّ طريق معتبر ، يكون تعيين القاضي الواجد للشرائط بيد المدعي سواء كان ما يعيّنه بنظره أعلم من الآخرين أم كان مساويا حيث ذكرنا في باب القضاء أنّ اعتبار الأعلميّة غير معتبر في نفوذ القضاء.

وما ذكر الماتن قدس‌سره في ملحقات «العروة» من ثبوت الجواب للمنكر أيضا لا يمكن المساعدة عليه ، فإنّه لا دليل على اعتبار الحقّ للمنكر قبل رجوع المدّعي إلى القاضي وسماع دعواه ، وإن اريد جواز الجواب أو وجوبه بالإقرار أو بالإنكار فهذا ليس من الحقّ على المدّعي ، بل هو حكم يترتّب على رجوع المدّعي إلى القاضي وطرح دعواه عنده ومطالبة القاضي الجواب منه ، وإن اريد أنّ للمنكر حقّ استخلاص نفسه من دعوى المدّعي فليس في البين ما يدلّ على ثبوت هذا الحقّ له قبل المراجعة إلى القاضي برفع الدعوى إليه من ناحية المدّعي وما دام لم يطالب المدّعي من القاضي تحليف المنكر حيث لا يكون للمدّعى عليه الحلف تبرّعا ليسقط دعوى الغير عليه.

هذا كلّه فيما إذا كان التنازع في الموضوع الخارجيّ ، وأمّا إذا كان منشأ الاختلاف الاختلاف في الحكم الشرعيّ الكليّ فإن كانا متسالمين في أنّ الأعلم أو محتمل الأعلميّة مجتهد معيّن خارجا فلا مورد للترافع أصلا بل عليهما أن يعملا على فتوى الأعلم المزبور أو محتمل الأعلميّة ، وأمّا إذا لم يكن بينهما تسالم على ذلك وتوقّف إنهاء المخاصمة على القضاء بينهما ، كما إذا كان الاختلاف بين مقلّدين لمجتهدين يختلفان في الفتوى ، فإن كان المورد من موارد الدعوى على الغير والإنكار ، فإن أرادا القضاء بالتحكيم فلا بد من تراضيهما إلى قاض ، وإن أراد أحدهما

٤٠٣

(مسألة ٥٧) حكم الحاكم الجامع للشرائط لا يجوز نقضه ولو لمجتهد آخر ، إلّا إذا تبيّن خطأه [١].

______________________________________________________

القاضي المنصوب فالتعيين بيد المدعي ، وحكمه نافذ على المدّعى عليه وإن كان مخالفا لفتوى مرجعه لما تقدّم ، بخلاف ما إذا كان المورد من موارد التداعي فيعيّن في الفرض القاضي المرفوع إليه الواقعة بالقرعة ، فإنّ المورد من الموارد المشكلة من حيث الظاهر أيضا.

[١] تبيّن الخطأ من القاضي إمّا بالعلم الوجدانيّ كما إذا علم أنّه استند في حكمه على شهادة رجلين فاسقين اشتباها أو أنّه اشتبه وطالب المنكر بالبيّنة ، وحيث لم يكن له بيّنة حكم للمدّعي باستحلافه أو اعتمد فيما كان منشأ الخلاف الاختلاف في الحكم الشرعي بوجه استحسانيّ مخالف للكتاب العزيز أو الخبر الصحيح على خلافه ونحو ذلك ، فإنّه في مثل هذه الموارد ينتقض القضاء بالقضاء الثاني أو بالفتوى حيث إنّه لم يكن على طبق الموازين المعلومة الظاهرة فيكون كالعدم ولا يجوز للمترافعين مع العلم بالحال ترتيب الأثر عليه ، فإنّ القضاء على طبق الموازين الشرعيّة طريق فلا يجوز ترتيب الأثر عليه إذا احرز أنّه ليس بطريق لعدم كونه على طبق الموازين بل هو خلاف تلك الموازين.

نعم ، إذا لم يحرز اشتباهه واحتمل أنّه على طبق الموازين عنده حتى مع التذكّر له فلا يجوز نقضه ولا ردّه حملا لقضائه على الصحة بعد إحراز أنّ له ولاية القضاء أخذا بما دلّ على نفوذ قضاء الواجد للشرائط حتّى بالإضافة إلى الحاكم الآخر إلّا إذا أحرز خطأه البيّن كما في المثالين وتمام الكلام موكول إلى بحث القضاء.

وبالجملة للقضاء جهتان :

إحداهما : إنهاء المخاصمة بحيث لا يكون للمتخاصمين بعد القضاء تجديد

٤٠٤

(مسألة ٥٨) إذا نقل ناقل فتوى المجتهد لغيره ثمّ تبدّل رأي المجتهد في تلك المسألة ، لا يجب على الناقل إعلام [١] من سمع منه الفتوى الاولى ، وإن كان أحوط. بخلاف ما إذا تبيّن له خطأه في النقل فإنه يجب عليه الإعلام.

______________________________________________________

المرافعة وسقوط حقّ الدعوى إثباتا أو نفيا.

والثانية : تعيين وظيفة المترافعين في الواقعة.

وللقضاء في الجهة الاولى موضوعيّة إلّا فيما ذكر في تبيّن الخطأ ؛ وذلك لعدم الدليل على مشروعيّة القضاء الثاني ونفوذه ، وأمّا القضاء بالإضافة إلى الوظيفة الواقعيّة يعتبر طريقا فمن أحرز أنّه على خلاف وظيفته الواقعيّة وإن كان القضاء على الموازين فعليه رعاية التكليف الواقعيّ ، كما يشهد لذلك ما في صحيحة هشام بن الحكم : «فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئا فإنّما قطعت له به قطعة من النار» (١) ولو كان اختلاف بين الرجل والمرأة في دوام الزوجيّة وانقطاعه فادّعى الزوج الدوام والزوجة الانقطاع وتمام مدّة المتعة وحكم القاضي الواجد للشرائط بالدوام بعد إحلاف الزوج بعدم الانقطاع فاللازم على المرأة التشبث في حليّة تمكينها من إرضاء الرجل بعقد آخر دواما ليتمكّن من تمكين الرجل من نفسها ، والله سبحانه هو العالم.

[١] والوجه في عدم وجوب الإعلام على الناقل هو أنّ ناقل الفتوى حين نقل فتوى المجتهد لم يتصدّ إلّا للخبر عن فتواه ، وأمّا بقاء المجتهد على فتواه أو عدوله عنه أو التردّد فيه مستقبلا فشيء من ذلك غير داخل في خبره ، فارتكاب المنقول إليه ما هو محرّم بحسب فتواه الثاني أو تركه ما هو واجب بحسبه مستند إلى نفس المنقول إليه من اعتقاده بقاءه على فتواه السابق أو للاستصحاب في ناحية بقائه

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٣٢ ، الباب ٢ من أبواب كيفية الحكم ، الحديث الأول.

٤٠٥

(مسألة ٥٩) إذا تعارض الناقلان في نقل الفتوى تساقطا [١] ، وكذا البيّنتان. وإذا تعارض النقل مع السماع عن المجتهد شفاها قدّم السماع ، وكذا إذا تعارض ما في الرسالة مع السماع ، وفي تعارض النقل مع ما في الرسالة قدّم ما في الرسالة مع الأمن من الغلط.

______________________________________________________

لا بتسبيب الناقل ، بخلاف ما إذا كان نقله فتوى المجتهد بعدم حرمة الفعل أو عدم وجوبه على نحو الاشتباه والخطأ ، فإنّ ارتكاب المنقول إليه المحرّم أو تركه الواجب يكون مستندا إلى الناقل الذي وقع نقله اشتباها.

وأمّا التفرقة بأنّ التسبيب إلى ارتكاب الحرام أو ترك الواجب في الفرض مستند إلى الناقل بخلاف مورد عدول المجتهد ، فإنّ ارتكاب الحرام أو ترك الواجب مستند إلى فعل الشارع حيث اعتبر الشارع فتوى المجتهد حجّة شرعيّة ، فإن كان المراد ما ذكرناه من الفرق فهو ، وإلّا فاعتبار الشارع نقل الناقل الثقة أيضا أوجب ارتكاب المنقول إليه ما هو حرام أو تركه ما هو واجب.

وعلى الجملة بقاء فتوى المجتهد أو زواله مستقبلا خارج عن مدلول خبر ناقل الفتوى ، بخلاف صورة نقل الفتوى اشتباها ، فإنّ الناقل بخطئه في نقل الفتوى أوجب وقوع المخبر إليه في خلاف وظيفته ، وقد تقدّم تمام الكلام في المقام في المسألة الثامنة والأربعين من المسائل المتقدّمة.

الاختلاف في نقل الفتوى

[١] إذا كان مستند الناقلين السماع من المجتهد بأن يخبر كلّ منهما بأنّه سمع المجتهد أنّه يفتي بكذا ، فتارة يكون تاريخ أحد السماعين بحسب نقل أحدهما متقدّما على زمان سماع الآخر بحسب نقلهما ، فيؤخذ بالنقل الذي سماعه متأخّر عن سماع الآخر مع احتمال العدول ، حيث إنّه تقدّم أنّ ناقل الفتوى لا يتكفّل نقله

٤٠٦

.................................................................................................

______________________________________________________

بعدول المجتهد عن الفتوى الذي ينقله عنه مستقبلا أو لا يعدل عنه ، وأمّا إذا كان في البين اطمينان بعدم عدوله عن فتواه كما إذا كان تاريخ سماع أحدهما عن سماع الآخر قريبا جدا بحيث يطمئنّ المنقول إليه أنّه لم يكن في البين عدول فيتعارضان ويتساقطان ، وكذلك فيما إذا لم يذكرا تاريخ سماعهما عند نقل الفتوى عنه أو ذكر أحدهما دون الآخر ، فإنّه لا يعمل بشيء منهما إلّا إذا كان المنقول عن المجتهد بحسب أحد النقلين مطابقا للاحتياط حيث إنّه لو كانت فتواه الترخيص فتلك الفتوى لا تمنع عن الاحتياط في المسألة.

وبالجملة مع اختلاف تاريخي السماع من الناقلين واحتمال العدول يؤخذ بالنقل المتأخّر حيث لا يجري الاستصحاب في الفتوى السابق مع النقل القائم بالفتوى المتأخّر.

ومما ذكرنا يظهر الحال فيما إذا كان النقل في كلّ من الفتويين بنحو البيّنة حيث إنّه يؤخذ بالبيّنة المتأخّرة فيما إذا احتمل عدول المجتهد عن فتواه السابق ، ومع الاطمينان بعدم عدوله تقع بينهما المعارضة فتسقطان عن الاعتبار ، بل وكذا الحال فيما إذا كان الاختلاف بين النقل المعتبر والبيّنة ، فإن دعوى أنّ مع البيّنة لا يعتنى بالنقل على خلافها ، لا يمكن المساعدة عليها ، فإنّ هذا في الموارد التي يعتبر في ثبوتها خصوص البيّنة أو كان الدليل على اعتبار النقل في مورد عدم قيام البيّنة ، وأمّا إذا لم يكن شيء من الأمرين ـ كما هو الحال في مورد الكلام ـ تقع المعارضة بينهما على قرار ما تقدّم ، فإنّ اعتبار البيّنة في المقام بما هو خبر عدل أو ثقة ، فتكون المعارضة كما في صورة النقل عن الإمام عليه‌السلام بأن يخبر العدلان أنّهما سمعا عنه عليه‌السلام يقول كذا وقام خبر عدل عنه عليه‌السلام أو خبر ثقة على خلاف خبرهما ، حيث إنّ الإخبار

٤٠٧

(مسألة ٦٠) إذا عرضت مسألة لا يعلم حكمها ولم يكن الأعلم حاضرا ، فإن

______________________________________________________

عن الفتوى بالاضافة إلى العاميّ كالإخبار عن قول الإمام عليه‌السلام بالإضافة إلى أهل الاجتهاد.

ولو كان مستند إخبارهما رسالة المجتهد ، فإن كان مستند أحدهما الرسالة المطبوعة سابقا ومستند الآخر الرسالة المطبوعة جديدا مع أمنهما من الخطأ يؤخذ بالمطبوعة الجديدة مع احتمال العدول كما تقدّم ، وإذا كان المستند لكلّ منهما الرسالة الواحدة وكان اختلافهما ناشئا عن كيفية الاستظهار من تلك الرسالة فيؤخذ بالنقل الذي ناقله أكثر خبرة في فهم الرسالة على ما أشرنا إليه من جريان السيرة العقلائيّة حتّى عند المتشرّعة بالأخذ بما يقوله الأكثر خبرة والأقوى فهما فيما إذا علم الخلاف بينه وبين غيره ، وهذا فيما لم يمكن الرجوع إلى نفس المجتهد ولو بتأخير الواقعة وإلّا فالمجتهد أقوى خبرة بما كتبه بالإضافة إلى غيره كما لا يخفى.

وإذا تعارض النقل مع السماع من المجتهد شفاها قدّم السماع ؛ لأنّ ما سمعه من المجتهد شفاها هو فتواه ، ولا عبرة بالنقل مع العلم بفتوى المجتهد.

وقد يقال (١) بتقديم الرسالة على السماع منه ، وكذا في صورة اختلاف ما في الرسالة مع النقل عن المجتهد فيما كانت الرسالة مأمونة في الفرضين ، كما إذا كانت بخطّ المجتهد أو لاحظها بنفسه بعد كتابتها ، بدعوى أنّ المجتهد حين الكتابة أو ملاحظتها عنايته بالمسألة وخصوصيّاتها أكثر ممّا أجاب عن حكم المسألة عند السؤال منه شفاها.

أقول : على العاميّ في مثل هذه الموارد الأخذ بالاحتياط حتى يتحقّق الحال ،

__________________

(١) التنقيح في شرح العروة ١ : ٣٣٩.

٤٠٨

أمكن تأخير الواقعة إلى السؤال [١] يجب ذلك ، وإلّا فإن أمكن الاحتياط تعيّن ، وإن لم يمكن يجوز الرجوع إلى مجتهد آخر الأعلم فالأعلم ، وإن لم يكن هناك مجتهد آخر ولا رسالته يجوز العمل بقول المشهور بين العلماء إذا كان هناك من يقدر على

______________________________________________________

فإنّه كما يحتمل أن يكون ما سمع الناقل من المجتهد أو نفس العاميّ عند السؤال عن مجتهده رجوعا عما في الرسالة المأمونة من الغلط ، كذلك يحتمل أن يكون المجتهد ناسيا لما ذكره في رسالته فأجاب عند السؤال بما اعتقد أنّه هو المذكور في رسالته. وعلى الجملة إطلاق تقديم السماع مشكل جدّا.

[١] لزوم تأخير الواقعة ينحصر بما إذا لم يتمكّن من الاحتياط ، وإلّا جاز الأخذ بالاحتياط ولم يؤخّر الواقعة إلى السؤال ، فإنّ العمل بفتوى المجتهد لزومه طريقيّ ومع الاحتياط وإحراز امتثال الوظيفة الواقعيّة لا يكون موضوع لإحرازه بالطريق ، وإذا لم يمكن تأخير الواقعة ولم يمكن الاحتياط يجوز الرجوع إلى مجتهد آخر مع رعاية الأعلم فالأعلم ؛ لأنّ السيرة العقلائيّة الجارية على الرجوع إلى الأعلم من الأحياء فيما أحرز الاختلاف بينهم في فتاويهم ، في صورة إمكان الرجوع إلى ذلك الأعلم ، وإلّا مقتضى سيرتهم الرجوع إلى غيره غاية الأمر مع رعاية الأعلم أو محتمل الأعلميّة بالإضافة إلى ساير الأحياء ، بل يمكن أن يقال بجواز الرجوع إلى غير الأعلم في الفرض حيث لا يعلم مخالفة فتوى غير الأعلم فيها مع الأعلم وإن علم الاختلاف بين فتاويهما ولو إجمالا في سائر المسائل.

وإذا لم يمكن الرجوع إلى غير الأعلم منهم أيضا لعدم حضورهم وعدم إمكان تأخير الواقعة وعدم إمكان الاحتياط في الواقعة فقد ذكر الماتن أنّه يعمل بقول المشهور بين العلماء إذا كان في البين من يتمكّن من تشخيص قول المشهور في حكم الواقعة ، وإن لم يمكن ذلك يرجع إلى قول أوثق الأموات إذا أمكن ، فإن لم يمكن

٤٠٩

تعيين قول المشهور ، وإذا عمل بقول المشهور ثمّ تبيّن له بعد ذلك مخالفته لفتوى مجتهده فعليه الإعادة أو القضاء. وإذا لم يقدر على تعيين قول المشهور يرجع إلى أوثق الأموات ، وإن لم يمكن ذلك أيضا يعمل بظنّه ، وإن لم يكن له ظنّ بأحد الطرفين يبنى على أحدهما ، وعلى التقادير بعد الاطلاع على فتوى المجتهد إن كان عمله مخالفا لفتواه فعليه الإعادة أو القضاء.

______________________________________________________

ذلك أيضا يعمل في الواقعة على الظنّ ، فإن لم يكن ظنّ يعمل بأحد الاحتمالين ثمّ إذا علم بعد ذلك قول المجتهد الذي يتعيّن الرجوع إليه فإن وافقه ما عمله فهو وإلّا يلزم تداركه بالإعادة والقضاء ، وينحصر هذا التدارك بناء على إجزاء التقليد في موارد العمل بقول المشهور أو أوثق الأموات أو العمل بالظنّ والأخذ بأحد الاحتمالين وبناء على القول بعدم الإجزاء يجرى التدارك مع إمكانه في جميع الصور.

ويستدلّ (١) على ما ذكره قدس‌سره بتماميّة مقدّمات الانسداد في حقّ العامي المفروض ووصول النوبة إلى الامتثال غير العلميّ ، وحيث إنّ مقتضاها التنزّل إلى الامتثال الظنّي مع مراعاة مراتب الظنّ حيث إنّ أقواها قول المشهور ، ومع عدم التمكّن منه عليه موافقة أعلم الأموات ، ومع عدم تمكّنه منه أيضا عليه بمطلق الامتثال الظنّي ، ومع عدم الظنّي أيضا عليه الامتثال الاحتماليّ ، وبما أنّ هذا بحكم العقل في مقام الامتثال بعد تماميّة مقدّمات الانسداد يجب عليه مع التمكّن من قول الأعلم بعد ذلك فإن وافق عمله السابق قوله فهو وإلّا لزم تداركه.

أقول : لم يظهر ما في قول الماتن قدس‌سره من الرجوع : «إلى أوثق الأموات» ما المراد منه؟ فإن كان المراد منه أعلم الأموات فكيف يتنزّل مع عدم التمكّن منه إلى ظنّ

__________________

(١) التنقيح في شرح العروة ١ : ٣٤١.

٤١٠

(مسألة ٦١) إذا قلّد مجتهدا ثمّ مات فقلّد غيره ثمّ مات فقلّد من يقول بوجوب البقاء على تقليد الميّت أو جوازه ، فهل يبقى على تقليد المجتهد الأوّل ، أو الثاني؟ الأظهر الثاني [١] والأحوط مراعاة الاحتياط.

______________________________________________________

العاميّ بالوظيفة الواقعيّة مع أنّه لا قيمة لظنّه في الحكم الواقعيّ الكلّي الذي لا يخرج عن التخمين ، وكيف يقدّم ظنّه على قول المجتهد الذي لم يعلم كونه أعلم الأموات أو علم بعدم كونه أعلمهم؟ وكيف تجرى مقدّمات الانسداد في الحكم الواقعيّ الكلّي ولو في مسألة أو مسألتين؟ وكيف لا يجوز له الاكتفاء بالامتثال الاحتماليّ فيهما مع عدم إمكان التأخير وعدم إمكان الاحتياط فيها ولو كان له ظنّ بخلافه حيث إنّ المفروض أنّ الشارع لا يطالبه بالموافقة القطعيّة ، ولم يقم دليل على أزيد من الموافقة الاحتماليّة كما هو مقتضى عدم اعتبار فتوى الميّت وعدم اعتبار ظنّ العاميّ.

وإنّما لا يجوز الاكتفاء بالامتثال الاحتماليّ بالإضافة إلى معظم الفقه في حقّ المجتهد الانسداديّ للعلم بأنّ الشارع لا يرضى بالاكتفاء بمجرد احتمال الموافقة في معظم الوقائع لاستلزام ذلك بقاء التكاليف الواقعيّة بلا امتثال في جملة تلك الوقائع ، ولا يجري ذلك في مفروض الكلام في المقام من جهل العاميّ بالحكم والتكليف الواقعيّ في مسألة أو مسائل لعدم تمكّنه فيها من الرجوع إلى فتوى المعتبر في حقّه وعدم تمكّنه من الاحتياط فيها.

[١] ذكر قدس‌سره فيما إذا قلّد مجتهدا ومات ذلك المجتهد فقلّد مجتهدا آخر في الوقائع التي يبتلى بها ثمّ مات هذا المجتهد فقلّد مجتهدا يفتي بجواز البقاء على تقليد الميّت أو بوجوبه ، فهل على تقدير البقاء يبقى على تقليد المجتهد الأوّل أو يبقى على تقليد الثاني؟ فاختار قدس‌سره البقاء على التقليد الثاني واحتاط استحبابا في

٤١١

(مسألة ٦٢) يكفي في تحقّق التقليد أخذ الرسالة والالتزام بالعمل بما فيها [١] وإن لم يعلم ما فيها ولم يعمل ، فلو مات مجتهده يجوز له البقاء وإن كان الأحوط مع عدم العلم ، بل مع عدم العمل ولو كان بعد العلم عدم البقاء والعدول إلى الحيّ ، بل الأحوط استحبابا ـ على وجه ـ عدم البقاء مطلقا ، ولو كان بعد العلم والعمل.

______________________________________________________

مراعاة الاحتياط بالأخذ بأحوط القولين في المسائل أو الجمع بين فتواهما.

ولكن لا يخفى ما فيه ، فإنّ المجتهد الحيّ إذا أفتى بجواز البقاء مطلقا أو فيما إذا كان الميّت أعلم ، فهذا التخيير بين البقاء والعدول أوجب سقوط فتاوى المجتهد الأول عن الاعتبار ، وصارت فتاوى المجتهد الثاني حجّة تعيينيّة في حقّه زمان حياته ، وإذا أفتى المجتهد الحيّ بعد موت الثاني بجواز البقاء معناه أنّ ما كان حجّة للعاميّ زمان حياة مجتهده فهو حجّة بعد موته أيضا ، والمفروض أنّه بعدوله عن المجتهد الأوّل كانت الحجّة في حقّه فتاوى الثاني ما لم يعدل عن فتاواه.

وعلى الجملة التخيير في البقاء والعدول معناه تعيّن الفتوى في الحجّية بالأخذ والاستناد إليه فيكون التخيير بدويّا ، ومع صيرورة الفتاوى من المجتهد الثاني حجّة على العاميّ بعدوله عن فتاوى الأوّل يتخيّر بين البقاء على فتاوى المجتهد الثاني وبين الرجوع إلى الحيّ. نعم إذا أفتى المجتهد الحيّ بوجوب البقاء مطلقا أو ما إذا كان الميّت أعلم فاللازم البقاء على فتاوى الأوّل مطلقا أو ما إذا كان أعلم ؛ لأنّ تقليده من المجتهد الثاني لم يكن صحيحا على فتوى المجتهد الحيّ الفعليّ وإن التزم الحيّ بمعذوريّة العامّي في أعماله في تلك الفترة بل وإن التزم بالإجزاء أيضا.

التقليد

[١] قد تقدّم في مسألة وجوب التقليد على العاميّ من أنّ التقليد تعلّم العاميّ

٤١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

حكم الواقعة للعمل به ، وإحراز التكليف وجودا وعدما في الواقعة التي يبتلي بها ، حيث إنّ وجوب طلب العلم وتعلّم التكاليف في الوقائع التي يحتمل المكلّف الابتلاء بها طريقيّ يوجب عدم كون مخالفة التكاليف فيها على تقدير ثبوتها عذرا ، كما هو مفاد الروايات الواردة في وجوب طلب العلم وتعلّم الأحكام ، وهذا التعلّم لا يكون بمجرد أخذ رسالة مجتهد والالتزام بالعمل فيها. وأمّا التقليد بمعنى تحصيل الأمن على العاميّ في مقام الامتثال فيكون بالاستناد في عمله في الواقعة إلى إحرازه الوجدانيّ كما في الاحتياط أو بطريق معتبر وهو فتوى المفتي الواجد للشرائط ، وهذا المعنى من التقليد لازم بحكم العقل بعد قيام الدليل على اعتبار فتوى المفتي.

وما ذكره قدس‌سره من أخذ رسالة المجتهد والالتزام بالعمل بما فيها فلم يدلّ شيء على وجوبه لا تعيينا ولا تخييرا لا شرعا ولا عقلا ، ودعوى أنّ مجرّد أخذ رسالة مجتهد حال حياته مع الالتزام بالعمل فيه يكفي في جواز العمل بما في تلك الرسالة ولو مات ذلك المجتهد بعد أخذها مع الالتزام المذكور وإن لم يعلم بما فيها حال حياته ولم يعمل ؛ لأنّ الدليل على عدم جواز تقليد الميّت ابتداء هو الإجماع ، والإجماع مفقود في الفرض لالتزام جماعة بل المشهور بأنّ التقليد هو الالتزام ، لا يمكن المساعدة عليها ؛ لما ذكرنا سابقا من أنّ الأدلّة التي اقيمت على مشروعيّة التقليد عمدتها الروايات الواردة في إرجاعهم عليهم‌السلام إلى من يعرف معالم الدين وأحكامه ، وتلك الروايات لا تعمّ إلّا التعلّم من الحيّ ، ومقتضى إطلاقها العمل بما تعلم ، ولو كان العمل بعد موت من تعلّم منه ، فعدم جواز تقليد الميّت أي التعلّم بعد موته لخروجه عن مدلول تلك الروايات المستفاد منها إمضاء السيرة العقلائية في الرجوع إلى أهل الخبرة بالإضافة إلى تعلّم العاميّ الوظائف الشرعيّة لاحتمال انحصار

٤١٣

(مسألة ٦٣) في احتياطات الأعلم إذا لم يكن له فتوى يتخيّر المقلّد بين العمل بها وبين الرجوع إلى غيره الأعلم فالأعلم [١].

______________________________________________________

إمضائها في مقدار مدلول تلك الروايات.

نعم التقليد من الأعلم أي اعتبار التعلّم منه في موارد العلم ولو إجمالا باختلاف الفقهاء الأحياء وإن كان خارجا عن مدلولها ؛ لعدم شمولها لصورة الاختلاف والمعارضة إلّا أنه لا يحتمل الفرق بين التقليد المعتبر في جواز البقاء وعدمه في الصورتين.

ثمّ إنّه إذا علم الاختلاف بين الميّت الذي أخذ الحكم منه حال حياته وبين المجتهد الحيّ الفعليّ فقد ذكرنا أنّه يتعيّن على العاميّ في الفرض البقاء على تقليد الميّت مع فرض كونه أعلم من الحيّ الفعليّ ، ولا يجوز له الرجوع إلى الحيّ الفعليّ إلّا في مسألة جواز البقاء حيث على المجتهد الحيّ الفعليّ أن يفتي بوجوب البقاء على هذا التقدير ، وفي فرض كون الحيّ الفعلي أعلم منه أن يفتي بلزوم العدول على ما تقدّم الكلام في ذلك في مسألة جواز البقاء وعدمه فراجع.

[١] مراده قدس‌سره أنّ احتياطات الأعلم التي يذكرها في رسالته أو في الجواب عن الاستفتاءات إن كان له فتوى فيها كما إذا ذكر الاحتياط بعد فتواه في المسألة أو قبل فتواه يكون الاحتياط فيها استحبابيا فيأخذ العاميّ بفتواه أو بالاحتياط المذكور ، وأمّا لو لم يكن فيها فتواه ويسمّى بالاحتياط المطلق أو الاحتياط الوجوبي ، ففي هذه الموارد يجوز للعاميّ الأخذ فيها بالاحتياط الذي ذكره أو الرجوع إلى فتوى غيره مع رعاية الأعلم فالأعلم. والوجه في ذلك أنّ الاحتياط المذكور حكم لعمل العاميّ في المسألة التي يحتمل فيها التكليف الواقعيّ ، وحيث إنّ المسألة قبل الفحص بالإضافة إلى العاميّ فيكون التكليف الواقعيّ على تقديره منجّزا بالإضافة إليه فيكون

٤١٤

.................................................................................................

______________________________________________________

الاحتياط لرعاية تنجّز التكليف على تقديره ، وحيث إنّ الأعلم لم يفت في المسألة فتكون فتوى غيره معتبرة في المسألة بالإضافة إلى العاميّ ؛ لأنّ الموجب لسقوط فتواه عن الاعتبار فتوى الأعلم ، والمفروض أنّ الأعلم لم يفت في المسألة.

والحاصل يجوز لمقلّد الأعلم في الاحتياطات الوجوبيّة الرجوع إلى فتوى غيره ، ورعاية الأعلم فالأعلم في الرجوع إلى غيره ينحصر على موارد العلم بالمخالفة في فتاوى الباقين ولو كان العلم إجماليّا.

وربّما (١) يقال إنّ جواز الرجوع في احتياطات الأعلم إلى غيره ممّن يفتي بعدم التكليف يجوز فيما لم يتضمّن احتياطه تخطئة غيره ، كما إذا لم يفحص الأعلم عن مدارك الحكم في المسألة بالفحص المعتبر فاحتاط فيها ، وأمّا إذا تضمّن تخطئة غيره كما ذكر في المسألة أنّ رعاية الوجوب أو رعاية الحرمة لو لم يكن أقوى فلا أقلّ من كونه أحوط ، فإنّه في هذه الصورة لا يجوز لمقلّد الأعلم أن يستريح في المسألة بالرجوع إلى فتوى غيره بفتواه بعدم الوجوب أو بعدم الحرمة لسقوط فتوى غيره عن الاعتبار لإحراز خطئه بقول الأعلم ، اللهم إلّا أن يقال ذكر الأعلم الاحتياط في هذه الصورة كالصورة السابقة حكم إرشاديّ عقليّ منوط باحتمال الضرر أي العقاب المحتمل ، وإذا أحرز العاميّ عدم احتمال الضرر بفتوى غير الأعلم بعدم التكليف وعدم معارضته بقول الأعلم وفتواه ـ كما هو الفرض ـ فلا بأس بتركه الاحتياط ، ودعوى عدم شمول السيرة على الأخذ بقول غير الأعلم في صورة تخطئة الأعلم غيره في الإفتاء بعدم التكليف لا يمكن المساعدة عليها ، وإن كان الأحوط عدم ترك

__________________

(١) التنقيح في شرح العروة ١ : ٣٤٦.

٤١٥

(مسألة ٦٤) الاحتياط المذكور في الرسالة إمّا استحبابيّ وهو ما إذا كان مسبوقا أو ملحوقا بالفتوى ، وإمّا وجوبيّ وهو ما لم يكن معه فتوى ويسمّى بالاحتياط المطلق ، وفيه يتخيّر المقلّد بين العمل به والرجوع إلى مجتهد آخر ، وأمّا القسم الأوّل فلا يجب العمل به ولا يجوز الرجوع إلى الغير ، بل يتخيّر بين العمل بمقتضى الفتوى وبين العمل به [١].

(مسألة ٦٥) في صورة تساوي المجتهدين يتخيّر بين تقليد أيّهما شاء ، كما يجوز له التبعيض [٢] حتّى في أحكام العمل الواحد ، حتى أنّه لو كان مثلا فتوى

______________________________________________________

الاحتياط في الفرض مهما أمكن.

[١] قد ظهر ما ذكره قدس‌سره في هذه المسألة ممّا ذكرناه في المسألة السابقة فلا حاجة إلى الإعادة.

[٢] بناء على ثبوت التخيير بين تقليد أيّ من المجتهدين في فرض تساويهما يجوز التبعيض حتّى بالإضافة إلى عمل واحد على ما تقدّم.

ولكن قد يقال (١) التبعيض في التقليد بحسب قيود العمل الواحد وأجزائه غير جائز كما في المثال ، حيث إنّه لو صلّى بترك الجلسة مع الاكتفاء بمرّة واحدة في التسبيحات الأربع كانت صلاته باطلة بحسب فتوى أيّ من المجتهدين ، حيث من يفتي بجواز ترك الجلسة وصحة الصلاة مع تركها يقول ذلك فيما إذا أتى في تلك الصلاة بالتسبيحات الأربع ثلاث مرّات ، ومن يفتي بجواز الاكتفاء بالمرّة الواحدة وصحة الصلاة يقول ذلك في صلاة روعي فيها الجلسة.

وفيه ما تقدّم من الجواب وأنّ القائل منهما بعدم وجوب الجلسة والتسبيحات

__________________

(١) التنقيح في شرح العروة ١ : ٣١٢ و ٣١٣.

٤١٦

أحدهما وجوب جلسة الاستراحة واستحباب التثليث في التسبيحات الأربع ، وفتوى الآخر بالعكس ، يجوز أن يقلّد الأول في استحباب التثليث والثاني في استحباب الجلسة.

______________________________________________________

ثلاث مرّات يقول ذلك فيما إذا لم يكن للمكلّف عذر في ترك الثلاث ؛ ولذا لو سئل المجتهد المفروض عمّن ترك التسبيحات ثلاثا لعذر وترك الجلسة أيضا في صلاته يفتي بصحة تلك الصلاة أخذا بحديث «لا تعاد» وكذلك الأمر في ناحية من يكتفي بالمرّة ولكن يلتزم بوجوب الجلسة.

وبتعبير آخر من يفتي بعدم وجوب الجلسة لا يقيّد عدم وجوبها بصورة الإتيان بالتسبيحات ثلاثا بحيث لو لم يأت بها ثلاثا فالجلسة واجبة بل فتواه عدم وجوب الجلسة مطلقا ، كما أنّ فتوى من يقول بعدم وجوب التثليث لم يعلّق عدم وجوبه على صورة الإتيان بالجلسة ، ولا يلزم على العاميّ على الفرض إلّا تعلّم الأجزاء والشرائط والموانع للصلاة بالتقليد ، وليست الصحة أمرا زائدا على الإتيان بالصلاة بالأجزاء والشرائط التي على طبق الفتوى المعتبر في حقّه.

وقد يقال إذا كان الاختلاف بينهما في الجزء الركنيّ أو القيد الركنيّ بحيث لو أتى بالعمل الواحد على تقليدهما على نحو التبعيض لكان ذلك العمل باطلا عندهما فلا مورد للتبعيض ، كما إذا كانت فتوى أحد المجتهدين صحة الحج إذا أدرك الحاج الوقوف الاضطراريّ بالمشعر يوم العيد ، وكان أيضا فتواه أنّ المستحاضة الكثيرة عليها الغسل والوضوء لطوافه ، والمجتهد الآخر يرى عدم إجزاء ذلك الوقوف بمجرّده بل لا بدّ من درك الوقوف الاضطراريّ بعرفة أيضا ليلة العيد ، ولكن التزم باكتفاء الوضوء لطواف المستحاضة حتى فيما إذا كانت الاستحاضة كثيرة ، فالمرأة المستحاضة كذلك إذا أدركت الوقوف بالمشعر يوم العيد قبل الزوال

٤١٧

(مسألة ٦٦) لا يخفى أنّ تشخيص موارد الاحتياط عسر على العاميّ ؛ إذ لا بد فيه من الاطّلاع التامّ [١] ، ومع ذلك قد يتعارض الاحتياطان فلا بدّ من الترجيح ، وقد لا يلتفت إلى إشكال المسألة حتى يحتاط ، وقد يكون الاحتياط في ترك الاحتياط ، مثلا : الأحوط ترك الوضوء بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر لكن إذا فرض انحصار الماء فيه الأحوط التوضؤ به ، بل يجب ذلك بناء على كون احتياط الترك

______________________________________________________

وتوضّأت لطوافها فقط أخذا في الوقوف بفتوى المجتهد الأوّل ، وفي اعتبار الطهارة لطوافها بفتوى الآخر ، فإنّ الحج كذلك يبطل عند كلا المجتهدين ، اللهم إلّا أن يلتزم بالإجزاء حتّى في هذه الصورة لاحتمال الصحة الواقعيّة حيث يمكن أن يكون حجّها واقعا صحيحا ، وقد أتت ببعضه بفتوى المجتهد الأوّل والبعض الآخر بفتوى المجتهد الثاني ، ولكن في دعوى الإجماع على التخيير بين المجتهدين المتساويين على تقدير ثبوتها بالإضافة إلى العمل الواحد إشكال خصوصا إذا كان الاختلاف في القيود الركنيّة.

[١] لا يخفى أنّه يكفي في الاحتياط المبرئ للذمّة الاحتياط في فتاوى العلماء الذين يحتمل وجود الأعلم بينهم في عصره أو أحرز ذلك ، وأمّا فتاوى الآخرين الذين احرز أنّهم لا يبلغون في الفضل العلماء المذكورين فلا موجب للاحتياط برعاية فتاويهم ، وهذا النحو من الاحتياط داخل في المسألة المتقدّمة في أوائل مسائل التقليد من لزوم كون المكلّف في عباداته ومعاملاته أن يكون مجتهدا أو مقلّدا أو محتاطا حيث إنّ رعاية أحوط الأقوال من المجتهدين المذكورين لا يدخل في التقليد على ما تقدّم من أنّ التقليد المعتبر شرعا هو الأخذ بالفتوى للعمل بها بحيث يكون العاميّ بعد الأخذ عالما بالحكم الشرعيّ في الواقعة.

والآخذ بالاحتياط بحسب فتاويهم يراعي فتوى ذلك المجتهد ، لاحتمال أنّ ما

٤١٨

استحبابيّا ، والأحوط الجمع بين التوضّؤ به والتيمّم. وأيضا الأحوط التثليث في التسبيحات الأربع ، لكن إذا كان في ضيق الوقت ، ويلزم من التثليث وقوع بعض الصلاة خارج الوقت فالأحوط ترك هذا الاحتياط ، أو يلزم تركه ، وكذا التيمّم بالجصّ خلاف الاحتياط ، لكن إذا لم يكن معه إلّا هذا فالأحوط التيمّم به ، وإن كان عنده الطين مثلا فالأحوط الجمع وهكذا.

(مسألة ٦٧) محلّ التقليد ومورده هو الأحكام الفرعيّة العمليّة فلا يجري في اصول الدّين [١].

______________________________________________________

أفتى به من التكليف ثابت في الواقع ليكون قصده رجاء بإصابة الواقع المعبّر عن ذلك بالاحتياط.

وعلى الجملة لا يتعيّن على العاميّ التارك للتقليد رعاية الاحتياط في الوقائع على ما ذكره الماتن قدس‌سره.

ثمّ إنّ الاحتياط حتى بهذا النحو أيضا قد لا يتيسّر على العاميّ فلا بدّ في بعض الموارد من التقليد مثلا إذا كان عند المكلّف الجصّ والطين فقط فإن جمع بين التيمّم بكلّ منهما تقع بعض صلاته خارج الوقت ، وفي مثل ذلك لا مناص إلّا من التقليد ممّن توفّرت فيه الشروط المعتبرة في جواز التقليد ، وإذا لم يتيسّر له التقليد منه فلا بدّ من التيمّم بأحدهما وقضاء تلك الصلاة في خارج الوقت بالطهارة المائيّة إذا لم يحرز بعد العمل أنّ عمله كان مطابقا لفتوى من يكون واجدا لشرائط التقليد. والوجه في وجوب القضاء جريان الأصل بعد التيمّم بأحدهما في ناحية عدم كونه طهورا فتدبّر.

[١] قد تقدّم أن ما يستفاد منه مشروعيّة التقليد من الروايات مقتضاها تعلّم العاميّ معالم دينه ممّن يعلمها على ما تقدّم من الامور المعتبرة في العالم بها من حلال الشريعة وحرامها في الوقائع التي يبتلى بها أو يحتمل ابتلاءه بها ، وكذا ما يكون

٤١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

من الأحكام الفرعيّة العمليّة أو ملحقا بها ممّا يأتي بيانها ، وأمّا ما يكون من اصول الدين والمذهب مما يكون المطلوب فيها تحصيل العلم والمعرفة والاعتقاد والإيمان بها فلا يكون التقليد فيها مشروعا ، بمعنى أن قول الغير فيها لا يحسب علما وعرفا واعتقادا وإيمانا.

نعم إذا كانت أقوال الصالحين من العلماء العاملين المتّقين في طول الأعصار وكذا الشهداء والزهاد موجبا للإنسان اليقين والاعتقاد باصول الدين والمذهب بحيث صار الإنسان على معرفة ويقين واعتقاد بأنّه لو لم يكن ما ذكروه في اصول الدين والمذهب حقّا لما كان هؤلاء في دار الدنيا متعبين في طريق الدين والمذهب فأيقن أو اعتقد بها ، كفى ذلك ممّا يجب على المكلّف بالإضافة إلى اصول دينه ومذهبه ، وليس هذا من التقليد فيهما ، فإنّ التقليد كما تقدّم الأخذ بقول الغير تعبّدا أي من غير يقين ودليل عنده على صحّة ذلك القول وكونه حقّا مطابقا للواقع ، وإنّما يكون الأخذ بقوله للدليل عنده على اعتباره في حقّه وإن لم يكن حقّا واقعا.

وبتعبير آخر الدليل عند العاميّ إنّما على الأخذ بقوله لا على نفس قول الغير في مورد مشروعيّة التقليد ، ودعوى أنّه لا يكفي اليقين والاعتقاد الناشئ من قول الغير في الاعتقاديّات من اصول الدين والمذهب استظهارا من الكتاب المجيد : (قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ)(١)(بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)(٢) ، لا يمكن المساعدة عليها ، فإنّه قد تقدّم أنّه لا يستفاد منهما عدم اعتبار العلم واليقين والاعتقاد الحاصل مما ذكرنا ،

__________________

(١) سورة الزخرف : الآية ٢٢.

(٢) سورة البقرة : الآية ١٧٠.

٤٢٠