دروس في مسائل علم الأصول - ج ٦

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8438-62-8
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

ذلك عرفان لاستقامة الشخص في أعماله.

ثمّ إنّ الماتن قدس‌سره قد ذكر في فصل شرائط إمام الجماعة عدالته ، وفسّر العدالة بأنّها ملكة الاجتناب عن الكبائر وعن الإصرار على الصغائر وعن منافيات المروّة الدالّة على عدم مبالاة مرتكبها بالدين ، وذكر في المقام العدالة عبارة عن ملكة الإتيان بالواجبات وترك المحرّمات ، ولم يفصّل كما ترى بين الكبيرة والصغيرة ، ولم يذكر منافيات المروّة ، وأمّا التفرقة بين الكبائر والصغائر فيأتي الكلام فيها بعد ذلك.

ارتكاب خلاف المروة قادح في العدالة أو في حسن الظاهر أم لا؟

والكلام فعلا في اعتبار ملكة منافيات المروّة ، فنقول : فسروا المروّة بعدم خروج الشخص عن العادات مما يعدّ ارتكاب خلافها مهانة له وعلامة لخسّة النفس ومراعاتها كمالا لها وإن لم يكن من ترك الواجب أو فعل الحرام ، ويستدلّ على اعتبار ذلك بما ورد في صحيحة عبد الله بن أبي يعفور من كون الشخص : «ساترا لجميع عيوبه» (١) فإنّ جميع العيوب يشمل العيوب المشار إليها. والماتن قدس‌سره اعتبر الاجتناب عن منافيات المروّة أي الدالة على أنّ مرتكبها لا يبالي بالدين ، وظاهره أنّ الشخص إذا كان بين الناس بحيث لا يبالي بالإضافة إلى ما يعدّ عندهم عيبا وقبيحا بالإضافة إلى أمثاله ولا يراعيها أصلا يكشف ذلك عندهم أنّه لا يبالي أيضا بالإضافة إلى الوظائف الشرعيّة فلا تتحقق العدالة.

أقول : ظاهر ما ورد في صحيحة عبد الله بن أبي يعفور من كونه : «ساترا لجميع عيوبه» هو العيوب الشرعيّة ، وعلى تقدير الإغماض فارتكاب خلاف المروّة يوجب

__________________

(١) مرّ تخريجه قبل قليل.

٣٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

انتفاء حسن الظاهر الذي هو طريق إلى العدالة ، لا أنّه يوجب انتفاء العدالة حيث لا ملازمة بين كون الشخص غير مبال بعادات أمثاله وكونه مباليا تماما ومحافظا على رعاية الوظائف الشرعيّة ، فما ذكره الماتن قدس‌سره من دلالة ارتكاب المنافيات ولو بعضها على عدم المبالاة في الدين غير تامّ.

نعم إذا كان ارتكاب شيء مباح في نفسه في موارد موجبا لهتك المرتكب وإذلال نفسه عند الناس فلا يجوز ذلك الارتكاب ، ويخرج به الشخص عن العدالة ؛ لأنّ حرمة هتك المؤمن لا تختصّ بما إذا كان الهاتك شخصا والمهتوك شخصا آخر ، بل يعمّ هتك المؤمن نفسه ، كما إذا خرج المؤمن إلى الأسواق ومجتمعات الناس عاريا ساترا عورته بخرقة صغيرة بحيث لا يرى عورته فقط ، فإنّ هذا العمل حرام وإن كان في نفسه لا بأس به ، كما إذا فعل ذلك في مغتسل الحمام أو عند بعض أهله ، وأمّا إذا لم يكن ارتكاب خلاف عادة أمثاله كذلك بحيث رأى الناس في عمله قدحا فيه فغايته انتفاء حسن الظاهر ، لاحتمال الناس أنّ جرأته لخرق عادة أمثاله ناشئة من عدم اهتمامه بالوظائف الشرعيّة.

وقد تقدّم أنّ انتفاء الطريق إلى العدالة غير انتفاء العدالة فإذا علم أنّه متعبّد ومبال بالإضافة إلى الوظائف الدينيّة ولا ينحرف عنها يترتّب عليه ما يترتّب على العادل وعدالته ، ولا يبعد أن ينتفي حسن الظاهر بترك المستحب أو ارتكاب المكروه ، كما في عدم حضور الشخص لصلاة الجماعة في أوقات الصلوات أو خلف وعده إذا وعد مع أنّ خلفه ليس بحرام.

ثمّ إنّ المنسوب إلى المشهور قدح ارتكاب الكبيرة في العدالة ، وإذا تاب عنها رجع إلى العدالة ، والظاهر أنّ الإصرار على الصغيرة عندهم كذلك أيضا حيث وردت

٣٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

عدّة روايات معتبرة في أنه : «لا صغيرة بصغيرة مع الإصرار» (١) ولعلّ المستند عندهم لذلك أنّ ثبوت الملكة التي هي العدالة عندهم لا تنافي ارتكاب الذنب اتفاقا وإن لم يتب ، هذا بالإضافة إلى الصغيرة حيث إنّ تركه الكبائر وعدم إصراره على الصغيرة مكفّر لذنبه ، بخلاف ارتكابه الكبيرة أو إصراره على الصغائر ، فإنّ الشخص يدخل مع ارتكابهما في عنوان الفاسق ما لم يتب ، ولكن لا يمكننا المساعدة على المنسوب إليهم فإنّ العدالة ـ كما ذكرنا ـ هي الاستقامة من الشخص في وظائفه الدينيّة ، وعدم انحرافه عنها ، وإذا انحرف عنها ولو بارتكاب الصغيرة يكون داخلا في عنوان غير العادل إلّا إذا تاب ورجع إلى استمراره عليها حيث إنّ التائب عن ذنبه كمن لا ذنب له ، ولا فرق في الرجوع بالتوبة بين ارتكاب الكبيرة أو الصغيرة.

لا يقال : إذا لم يكن فرق في الخروج عن العدالة والعود إليها بالتوبة بين الكبيرة والصغيرة فما معنى تقسيم المعاصي إلى الكبائر والصغائر.

فإنّه يقال : المستفاد من الخطابات الشرعيّة أن تقسيم المعاصي إليها بلحاظ أمر آخر ، وهو أنّه إذا كان الشخص عند ذهابه من هذه الدنيا ممن ليس عليه كبيرة في أعماله قد وعد بغفران صغائره كما هو ظاهر الآية المباركة أيضا ، ولكن من في أعماله كبيرة لم يتب عنها فليس في حقّه وعد الغفران إلّا إذا تاب ، فتكون توبته مكفّرة عن سيئاته كبائرها وصغائرها. نعم غفران الربّ الجليل لسعة رحمته ولو ببركة شفاعة النبي وأوصيائه وأولياء الله وصلحاء عباد الله له مقام آخر ، فلاحظ الآيات والروايات الواردة في غفران الربّ الجليل والتوبة إليه والشفاعة وما يرتبط بها والله الهادي

__________________

(١) وسائل الشيعة ٥ : ١١١ ، الباب ٧٠ من أبواب أحكام الملابس ، الحديث ٢.

٣٤٣

وتعرف بحسن الظاهر الكاشف عنها علما أو ظنّا [١] وتثبت بشهادة العدلين ، وبالشياع المفيد للعلم.

______________________________________________________

ووليّ التوفيق.

[١] قد تقدّم تفسير حسن الظاهر بما ورد في صحيحة ابن أبي يعفور وما يرى من الاختلاف بينها وبين غيرها من الروايات يجمع بينهما إمّا بحمل الإطلاق على التقييد ، أو أنّ الوارد في غيرها أيضا فرد آخر من حسن الظاهر ، كصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام : «لو كان الأمر إلينا لأجزنا شهادة الرجل إذا علم منه خير مع يمين الخصم في حقوق الناس» (١) ، فإنّها تحمل على ما إذا كان ساترا لجميع عيوبه أيضا بالمعنى المتقدم ، كما يحمل على ذلك مثل رواية إبراهيم بن زياد الكرخي عن الصادق جعفر بن محمد عليه‌السلام : «من صلّى خمس صلوات في اليوم والليلة في جماعة فظنّوا به خيرا وأجيزوا شهادته» (٢).

كما يظهر الحال في صحيحة حريز عن أبي عبد الله عليه‌السلام في أربعة شهدوا على رجل محصن بالزنا فعدّل منهم اثنان ولم يعدّل الآخران فقال : «إذا كانوا أربعة من المسلمين ليس يعرفون بشهادة الزور اجيزت شهادتهم جميعا واقيم الحدّ على الذي شهدوا عليه ، إنّما عليهم أن يشهدوا بما أبصروا وعلموا ، وعلى الوالي أن يجيز شهادتهم إلّا أن يكونوا معروفين بالفسق» (٣) ، فإنّ مثل هذه يعارضها ما دلّ على اعتبار العدالة في الشهود ، فيحمل الجواب على الفرض الذي أحرز حسن ظاهرهم ، وإن لم يكن لهم حسن الظاهر وطريق إحراز عدالتهم تكون شهادتهم جائزة في سقوط حدّ

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ٣٩٤ ، الباب ٤١ من كتاب الشهادات ، الحديث ٨.

(٢) المصدر السابق : ٣٩٥ ، الحديث ١٢.

(٣) وسائل الشيعة ٢٧ : ٣٩٧ ، الباب ٤١ من كتاب الشهادات ، الحديث ١٨.

٣٤٤

(مسألة ٤٢) إذا عرض للمجتهد ما يوجب فقده للشرائط يجب على المقلّد العدول إلى غيره [١].

______________________________________________________

القذف عنهم إذا كانوا أربعة إلّا أن يكونوا معروفين بالفسق. وأمّا موثقة سماعة بن مهران عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «من عامل الناس فلم يظلمهم ، وحدّثهم فلم يكذبهم ، وواعدهم فلم يخلفهم كان ممن حرمت غيبته ، وكملت مروّته ، وظهر عدله ، ووجبت أخوّته» (١) ، فهو فرد آخر من حسن الظاهر يترتّب على من له ذلك آثار العدالة فيما إذا احتمل كونه عادلا في الواقع كما هو شأن كلّ طريق معتبر. ونحوها روايتا عبد الله بن سنان وعبد الله بن أحمد بن عامر الطائي عن أبيه عن الرضا عليه‌السلام عن آبائه.

وما في كلام المتن من تقييد اعتبار حسن الظاهر بما إذا كان مفيدا للعلم أو الظنّ لا يمكن المساعدة عليه ، فإنّ حسن الظاهر على الوجه المتقدم أمارة للعدالة فتتّبع مع احتمال الإصابة ولو لم يفد ظنّا.

وقد تقدّم اعتبار البيّنة في الموضوعات وأنّه لا يبعد ثبوت الإخبار بالموضوع بخبر الثقة العارف في غير موارد الترافع والموارد التي اعتبر الشارع في ثبوتها طريقا أو شهادة خاصّة ، ولا فرق في اعتبار البيّنة وخبر الثقة العارف بين إخبارهما بنفس عدالة الشخص أو بحسن ظاهره على النحو المتقدّم الذي هو طريق إلى إحراز نفس العدالة ، وكذا في اعتبار الشياع المفيد للعلم أو الاطمينان حيث إنّ العلم طريق بالذات أي بلا جعل جاعل ، والاطمينان كإخبار الثقة معتبر ببناء العقلاء إلّا في الموارد التي أشرنا إليها.

[١] هذا بالإضافة إلى الشرائط التي تعتبر في جواز التقليد حدوثا وبقاء ، وأمّا ما

__________________

(١) وسائل الشيعة ٨ : ٣١٥ ـ ٣١٦ ، الباب ١١ من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث ٩.

٣٤٥

(مسألة ٢٥) إذا قلّد من لم يكن جامعا [للشرائط] ومضى عليه برهة من الزمان كان كمن لم يقلّد أصلا ، فحاله حال الجاهل القاصر أو المقصّر [١].

(مسألة ٢٦) إذا قلّد من يحرّم البقاء على تقليد الميت فمات وقلّد من يجوّز البقاء ، له أن يبقى على تقليد الأوّل في جميع المسائل إلّا مسألة حرمة البقاء [٢].

(مسألة ٢٧) يجب على المكلّف العلم بأجزاء العبادات وشرائطها وموانعها ومقدّماتها [٣] ولو لم يعلمها لكن علم إجمالا أنّ عمله واجد لجميع الأجزاء والشرائط وفاقد للموانع صحّ وإن لم يعلمها تفصيلا.

______________________________________________________

يعتبر في جواز التقليد ابتداء كحياة المفتي فيجوز البقاء على تقليده إذا كان الحيّ الفعليّ يجوّز البقاء على تقليد الميّت على ما مرّ الكلام فيه.

[١] إذا كانت فتوى من رجع إليه غير معتبرة ، كفقد شرط الرجوع إليه يكون عمله بلا تقليد ، فيجري فيه ما ذكرنا في المسألة السادسة عشرة.

[٢] قد ذكر سابقا أنّ المجتهد الذي قلّده في الوقائع التي يبتلي بها أو يحتمل ابتلاءه بها إذا أفتى بعدم جواز البقاء على تقليد الميت لا تكون هذه الفتوى منه بعد موته معتبرة ، بلا فرق بين ما أفتى الحيّ الفعلي بجواز البقاء على تقليد الميّت أو أفتى بوجوب البقاء ، والسرّ في ذلك أنه لا يمكن أن تكون فتواه في مسألة البقاء معتبرة.

[٣] ولعلّ ذكر مقدّمات العبادات عطف تفسيريّ للشرائط والموانع ، وإلّا فلا نعرف مقدّمة تتوقّف عليها صحّة العمل ولم يكن من الشرائط والموانع الداخل فيها عدم القاطع ، وكيف كان بما أنّ المكلف في موارد التكليف بالعبادة عليه الامتثال فلا يفرّق بين الامتثال التفصيليّ الحاصل ولو باتّباع طريق معتبر في معرفتها وإحراز الإتيان بها والامتثال الإجمالي الحاصل بالاحتياط ولو لم يعلم تفصيلا أجزاءها وشرائطها وموانعها المعتبرة فيها.

٣٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

والحاصل إذا أمكن للمكلّف الإتيان بالواجب الواقعي بتمام ما يعتبر فيه من غير علمه تفصيلا بأجزائه وشرائطه وموانعه يكون الامتثال مجزيا ، كما تقدّم في مسألة جواز الاحتياط مع التمكّن من الاجتهاد الفعليّ أو التقليد بلا فرق بين موارد استلزام الاحتياط التكرار ، كما في مورد دوران أمر الصلاة بين القصر والتمام ، أم لا ، كما في دوران الصلاة بين الأقلّ كالاكتفاء بقراءة الحمد خاصّة في الركعتين الأوّلتين ، أو الأكثر كلزوم قراءة السورة بعد قراءتها ، هذا كلّه في صورة إحراز الامتثال بالإتيان بالواجب الواقعي إمّا بالتفصيل أو الإجمال.

وأمّا تعلّم أجزاء العبادة وشرائطها وموانعها فيما لو لم يتعلّمها لم يتمكن من الامتثال أو لم يتمكّن من إحراز الامتثال فيفرض الكلام في الواجب المشروط والموقّت ، وأنّ المكلّف لو لم يتعلّم الواجب قبل حصول شرط الوجوب أو دخول الوقت يمكن له التعلّم بعد حصول الوجوب بحصول شرطه أو دخول وقته ، كما هو الحال فعلا في واجبات الحج وشرائطه وموانعه ، ففي هذا الفرض حيث المكلّف يتمكّن من المعرفة والامتثال في ظرف التكليف فلا موجب لوجوب التعلّم عليه قبل فعليّة التكليف وقبل حصول الاستطاعة.

واخرى لو لم يتعلّم أجزاء العمل وشرائطه وموانعه لم يتمكّن من إحراز الامتثال في ظرف التكليف أو لا يمكن له الامتثال أصلا ، كما في الصلاة حيث من لم يكن من أهل اللسان لو لم يتعلّم كيفية الصلاة والقراءة وغير ذلك مما يعتبر فيها قبل دخول وقتها لا يتمكّن من الصلاة في وقتها أو لا يتمكن من إحراز الامتثال ، وفي هاتين الصورتين عليه التعلّم قبل حصول شرط الوجوب ودخول الوقت ؛ وذلك فإنّ الأخبار الواردة في وجوب التعلّم وأنّ الجهل لا يكون عذرا مسوّغا لترك الواجب وأنّ

٣٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

المكلّف يؤخذ به ولو فيما إذا كان منشؤه ترك التعلّم قبل حصول الشرط ودخول الوقت ، بل لا ينحصر وجوب التعلّم فيما إذا كان العلم بابتلائه بذلك الواجب فيما بعد ، ويجرى فيما إذا احتمل الابتلاء ولم يتمكّن بعده من التعلّم وأنّه لا يكون جهله في تركه عذرا فيما إذا انجرّ ترك تعلّمه إلى مخالفة التكليف باتّفاق الابتلاء.

وقد يقال (١) : إنما يحتاج إلى أخبار وجوب التعلّم قبل الوقت أو حصول شرط الوجوب فيما إذا توقف التمكّن من إتيان الواجب بعد حصول شرط وجوبه على التعلّم قبله ، وأمّا إذا توقف إحراز الامتثال على التعلّم قبل أحدهما فالعقل يستقلّ بلزوم التعلّم ؛ لأنّ في تركه احتمال ترك الواجب كما هو فرض القدرة على الإتيان بعد حصول شرط وجوبه.

فإنّه يقال : المستفاد من أخبار وجوب التعلّم أنّ القدرة على الإتيان بالواجب من ناحية التعلّم شرط لاستيفاء الملاك الملزم ، ولا يكون تركه حتى مع عدم القدرة عليه وعدم التكليف به خطابا بعد حصول شرط وجوبه عذرا إذا كان العجز ناشئا من ترك التعلّم سواء كان تركه محرزا أو محتملا ، وأنّه لا مجال للاصول النافية في هذه الموارد أو دعوى جواز الاكتفاء بالموافقة الاحتماليّة فيما إذا كان بعد حصول شرط الوجوب لم يتمكّن إلّا منها.

لا مجال للاستصحاب لإحراز عدم الابتلاء بالواقعة التي ترك تعلّم حكمها

لا يقال : إذا لم يجب على المكلّف التعلّم بالإضافة إلى الوقائع التي يعلم بعدم ابتلائه بها ولو مستقبلا فيمكن له إحراز عدم الابتلاء عند الشك بالاستصحاب ، حيث

__________________

(١) التنقيح في شرح العروة ١ : ٢٤٧.

٣٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

يتمسّك به ويحرز عدم ابتلائه ولو مستقبلا فينتفي الموضوع لوجوب التعلّم ، والاستصحاب كما يجري في أمر يكون نفس ذلك الأمر موضوع الحكم أو نفيه كذلك يجري فيما إذا كان إحراز ذلك الأمر هو الموضوع للحكم ، فيثبت أو ينفى على ما تقدّم من قيام الاستصحاب مقام العلم المأخوذ في الموضوع بنحو الطريقيّة والكشف لا بنحو الوصف والصفتيّة ، وأيضا تقدّم في بحث الاستصحاب أنّه كما يجري في الامور الماضيّة كذلك يجري في الامور الاستقباليّة ، فلا وجه لما يقال بعدم جريان الاستصحاب في الابتلاء وعدمه لعدم كونه حكما ولا موضوعا له.

فإنّه يقال : قد تقدّم أنّ وجوب التعلّم حكم طريقي قد جعل لإسقاط الجهل بالحكم التكليفى والوضعي وغيره من العذريّة في مخالفة التكليف ـ سواء كان للجهل بالحكم أو المتعلّق ـ وعليه فعدم وجوب التعلّم في موارد العلم الوجدانيّ بعدم الابتلاء لكون التعلّم الواجب النفسيّ الطريقيّ على كلّ مكلّف لغوا بالإضافة إلى موارد علمه بعدم الابتلاء ، لا لأنّ لخطابات وجوب التعلّم الطريقيّ ورد تقييد خارجيّ بعدم وجوبه في موارد عدم ابتلائه ، ليتوهّم أنّ الاستصحاب في عدم الابتلاء مستقبلا عند الشكّ محرز لذلك القيد ، والاستصحاب بعدم الابتلاء مستقبلا لا يثبت اللغويّة مع إطلاق خطابات وجوب التعلّم وشمولها لموارد إحراز الابتلاء واحتماله.

وعلى الجملة بمجرّد الاحتمال يحرز موضوع وجوب التعلّم ، والاستصحاب إنما يكون تعبّدا بالعلم فيما إذا لم يعلم الحكم الواقعيّ في الواقعة ولو كان المعلوم حكما طريقيّا واقعيّا.

٣٤٩

(مسألة ٢٨) يجب تعلّم مسائل الشكّ والسهو بالمقدار الذي هو محلّ الابتلاء غالبا ، نعم لو اطمأنّ من نفسه أنّه لا يبتلي بالشكّ والسهو صحّ عمله وإن لم يحصل العلم بأحكامهما [١].

______________________________________________________

[١] إن قيل بحرمة قطع الصلاة الواجبة كاليوميّة يجب على المكلّف تحصيل العلم بأحكام الشكّ والسهو في الصلاة فيما إذا احتمل ابتلاءه بهما أثناء الصلاة مع عدم إمكان تعلّم حكمهما ؛ لأنّ مع عدم تعلّم حكمهما من قبل وإن يمكن له الإتيان بالوظيفة المقرّرة للشاكّ والساهي في صلاته اتّفاقا إلّا أنه يحتمل أن يكون ما أتى به حالهما مبطلا ، كما يكون رفع يده عن تلك الصلاة باستينافها قطعا للفريضة ، كما إذا شكّ حال القيام في أنّه رفع رأسه من الركوع أو أنّه بعد لم يركع ، فإنّه إذا سجد يكون هذا إبطالا لصلاته لو كان تركه الركوع مطابقا للواقع ، فإحراز أنّه لا يرتكب الحرام بقطع تلك الصلاة وترك الركوع أو تدارك الركوع يتوقّف على تعلّم أحكام الشك والسهو ولو قبل مجيء الوقت.

نعم لو التزم بعدم حرمة قطع الصلاة الواجبة أو إبطالها وأنّ ما ذكر في أحكام الشكّ والسهو تعيين علاج السهو والشكّ في تلك الصلاة فلا موجب للقول بوجوب التعلّم ، لإمكان إحراز الامتثال بالاستيناف بعد الإبطال من غير ارتكاب محذور.

ثمّ إنه لا وجه لتقييد الماتن قدس‌سره وجوب التعلّم بما هو محلّ الابتلاء غالبا ، إلّا أن يراد منه عدم وجوب التعلّم بالإضافة إلى الموارد التي يطمئنّ بعدم الابتلاء بها.

وأيضا ما ذكر قدس‌سره من أنّ المكلّف إذا لم يتعلّم أحكام الشكّ والسهو بالإضافة إلى الموارد التي يعمّ الابتلاء بها نوعا وأتى المكلف بالصلاة مع اطمئنانه بأنّه لا يبتلى بها يصحّ عمله ، ولازم ذلك أن لا يحكم بالصحة مع عدم الاطمينان بابتلائه ، أو ابتلى بها وأتى بوظيفة الشاك والساهي اتّفاقا بعنوان الرجاء ، لا يمكن المساعدة عليه ، كما إذا

٣٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

أتى في المثال السابق بالركوع برجاء أنّ ذلك وظيفته وأتمّها ثمّ ظهر أنّ ما فعله فتوى العلماء ، ولعلّه قدس‌سره يرى أنّه لا يتحقق في الصورتين قصد التقرّب المعتبر ، حيث إنّه لا يتحقّق ممّن يحتمل ارتكاب الحرام بصلاته نظير ما يقال بأنّه لو توضّأ بأحد الماءين يعلم بغصبيّة أحدهما يبطل وضوؤه حتّى ما إذا ظهر بعد الوضوء به أنّه كان المباح منهما ، أو إذا توضّأ بكلّ منهما يحكم ببطلان وضوئه لعدم تحقق قصد التقرّب عند التوضؤ بكلّ منهما.

أقول : حرمة إبطال الصلاة الفريضة أو عبادة اخرى أثناءها موقوفة على كون الدخول في الصلاة أو نحوها دخولا صحيحا ، وإذا فرض من الأوّل بطلان ذلك العمل لجهة ما فلا يكون قطعه محرّما ، فلا بدّ من الالتزام بأنّ عدم تعلّم حكم الشكّ والسهو والدخول في الصلاة مع احتمال عدم ابتلائه بهما أثناءهما لا ينافي قصد التقرّب إذا اتّفق عدم ابتلائه بهما ، نظير من صام في نهار شهر رمضان مع عدم تعلّمه المفطرات الموجبة ارتكابها بطلان الصوم برجاء أنّه لا يرتكب شيئا منها ، حيث لا يحكم ببطلان صومه مع إمساكه عنها طرّا ، وكذا فيما إذا دخل في الصلاة مع احتماله إتمامها صحيحا حتّى فيما إذا اتّفق الشك والسهو ولكن بنى عند طروّ أحدهما على شيء باحتمال أنّه وظيفة الشاكّ والساهي ثمّ تبيّن أنّ البناء الذي عمل عليه كان وظيفة الشاكّ أو الساهي ، كما إذا ركع في فرض الشكّ في الركوع حال قيامه.

وممّا ذكرنا يظهر الفرق بين التوضّؤ بأحد الماءين الذي يعلم بكون أحدهما مغصوبا وبين الدخول في الصلاة مع احتمال إتمامها صحيحا لعدم ابتلائه بالشكّ أو السهو ، أو مع بنائه بما يحتمل كونه وظيفة الشاكّ أو الساهي ، بخلاف التوضّؤ بأحدهما حيث يحتمل أنّ الغسل به ارتكاب الحرام المنجّز المعلوم بالإجمال ،

٣٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

حيث إنّ ما يبنى عليه عند عروض الشكّ والسهو من أحد الطرفين رجاء لدوران الأمر بين المحذورين ، بخلاف الوضوء فإنّه يتركه ويتيمّم كما هو وظيفته.

بقي في المقام أمر وهو أنّ المنقول عن الشيخ الأنصاري قدس‌سره أنّ من ترك تعلّم أحكام الشكّ والسهو في الصلاة يحكم عليه بالفسق ، وهذه الفتوى منه قدس‌سره لا يمكن أن تبتنى على حرمة التجرّي شرعا ، فإنّه قدس‌سره لم يلتزم لا بحرمة التجرّي ولا بقبحه الفعليّ ، وهو قدس‌سره يرى أنّ العدالة هي ملكة الاجتناب عن المحرّمات والإتيان بالواجبات ، ولو قيل بأنّ هذا التجرّي يكشف عن عدم ملكة الاجتناب والإتيان بالواجب ، فلوجود الواسطة بين عدم الملكة والفسق لا يحكم بكونه فاسقا ، وقد تقدّم أنّ العدالة ليست بمعنى ملكتهما ، بل هي استقامة الشخص على وظائفه الشرعيّة وعدم خروجه عنها ، وهذا الشخص لم يخرج بترك تعلّمه عن وظائفه الشرعيّة ، بل المفروض أنّه أتى بصلاته صحيحة.

والتعلّم لم يكن وجوبه نفسيّا بل كان وجوبه طريقيّا ، والغرض من موافقته الخروج عن عهدة التكاليف النفسيّة وعدم مخالفتها ، والظاهر أنّ حكمه بالفسق مبنيّ على ما تقدّم من بطلان الصلاة من تارك التعلّم لأحكام الشكّ والسهو حتّى ما إذا صلّى ولم يبتل فيها بالشكّ والسهو ، فيكون محكوما بالفسق.

ودعوى (١) أنّ الحكم بالفسق فيما إذا استلزم ترك التعلّم عدم تمكّنه من إحراز الامتثال بالإضافة إلى التكليف المنجّز في موطنه ، فإنّ عدم إحراز امتثاله خروج عن الوظيفة الدينيّة فيكون فاسقا ، لا يمكن المساعدة عليها ، فإنّ انطباق عنوان الفاسق

__________________

(١) التنقيح في شرح العروة ١ : ٢٥٤.

٣٥٢

(مسألة ٢٩) كما يجب التقليد في الواجبات والمحرّمات يجب في المستحبّات والمكروهات والمباحات [١] بل يجب تعلّم حكم كلّ فعل يصدر منه سواء كان من العبادات أو المعاملات أو العاديّات.

(مسألة ٣٠) إذا علم أنّ الفعل الفلاني ليس حراما ولم يعلم أنّه واجب أو مباح أو مستحبّ أو مكروه يجوز له أن يأتي به ، لاحتمال كونه مطلوبا [٢] وبرجاء الثواب. وإذا علم أنّه ليس بواجب ولم يعلم أنّه حرام أو مكروه أو مباح له أن يتركه لاحتمال كونه مبغوضا.

______________________________________________________

فيما إذا ترتب الأثر الشرعيّ عليه مشكل جدّا وإن لا يبعد نفي بعض العناوين المنطبقة على العادل عنه ، كالمأمون بدينه أو أنّه يواظب على وظائفه الشرعيّة فتدبّر.

[١] لا ينبغي التأمّل في أنّ على العاميّ تعلّم الواجبات الشرعيّة بأجزائها وشرائطها وموانعها بالتقليد أو الاحتياط فيها على ما تقدّم ، وكذلك الأمر في المحرّمات حيث إنّ القيود المعتبرة في المحرّم إمّا أن تحرز بالتقليد أو عليه الاحتياط ، وأمّا لزوم التقليد في المستحبات والمكروهات والمباحات ففيما إذا احتمل الإلزام فيها ، حيث إنّ عليه رعاية احتمال الإلزام أو التقليد في إحراز عدم الإلزام في الفعل سواء كان إحرازه نفي الإلزام بفتوى الفقيه بالاستحباب أو الإباحة أو الكراهة. وأمّا إذا علم العاميّ بعدم الإلزام وتردّد في استحبابه الشرعيّ فإنّه وإن يجوز الإتيان به برجاء كونه مستحبّا إلّا أنّ قصد الاستحباب الجزميّ فيه يتوقّف على إحراز الاستحباب بالتقليد ، وكذلك ترك الفعل فيما إذا احتمل كراهته مع إحرازه عدم الحرمة فيه ، ويجري لزوم التقليد في الأجزاء والشرائط في العبادات المستحبة ، بل في المعاملة في إحراز صحتها إن ترك الاحتياط فيها أو لم يعرف كيفيّة الاحتياط فيها.

[٢] إذا ترك التقليد في الصورة الاولى ولم يحرز عدم وجوبه فعليه الاحتياط

٣٥٣

(مسألة ٣١) إذا تبدّل رأي المجتهد لا يجوز للمقلّد البقاء على رأيه الأوّل [١].

(مسألة ٣٢) إذا عدل المجتهد عن الفتوى إلى التوقّف والتردّد يجب على المقلّد الاحتياط أو العدول إلى الأعلم بعد ذلك المجتهد [٢].

______________________________________________________

بالإتيان به برجاء الوجوب ، فإنّ الاحتياط على العاميّ قبل الفحص لازم في موارد احتمال التكليف ، وكذا الحال في الصورة الثانية إذا لم يحرز عدم حرمته عليه الاحتياط في تركه.

نعم إذا أحرز عدم الوجوب والحرمة في الصورتين يجوز له الاحتياط بما ذكره ، فإنّ إحراز عدم التكليف بالطريق المعتبر لا يمنع عن الاحتياط بل هو حسن ومستحب كما قرّر في محلّه.

[١] قد تقدّم أنّ الفتوى السابقة بعد رجوع المجتهد عنها إلى فتوى اخرى لا تبقى الفتوى الاولى على الاعتبار ، والفتوى إخبار عن حكم الواقعة وتعيين للوظيفة المجعولة فيها من أوّل تأسيس الشريعة على طبق ما استفاده من مدارك الأحكام ؛ ولذا قلنا إنه لو لم يكن دليل على إجزاء الأعمال السابقة التي كانت على طبق الفتوى السابقة كان على المكلّف تداركها على طبق الفتوى الجديدة ؛ لأنّ ما دلّ على اعتبار الفتوى للعاميّ من الروايات والسيرة العقلائية لا يعمّ شيء منهما صورة عدول المجتهد من فتواه السابقة ، ولا فرق في ذلك سواء كان عدوله من فتواه السابقة إلى الفتوى الاخرى أو كان إلى التوقّف والتردّد في حكم الواقعة.

هذا فيما إذا أحرز العامي العدول إلى الفتوى الاخرى أو إلى التوقّف والاحتياط ، وأمّا إذا شكّ في العدول فله أن يبقى على تلك الفتوى ، فإنّه مقتضى الاستصحاب في بقاء تلك الفتوى وعدم العدول عنها.

[٢] فإنّه برجوع المجتهد إلى التوقّف والفتوى فلا يكون له في الواقعة فتوى فعلا ،

٣٥٤

(مسألة ٣٣) إذا كان هناك مجتهدان متساويان في العلم كان للمقلّد تقليد أيّهما شاء [١] ويجوز التبعيض في المسائل. وإذا كان أحدهما أرجح من الآخر في العدالة أو الورع أو نحو ذلك فالأولى بل الأحوط اختياره.

______________________________________________________

ويكون على العاميّ فعلا إما الاحتياط في الواقعة أو الرجوع إلى الأعلم بعد ذلك المجتهد على ما تقدّم سابقا من تخيير العاميّ بين الاحتياط والرجوع إلى فتوى المجتهد الواجد للشرائط.

التبعيض في التقليد

[١] هذا مبنيّ على ثبوت التخيير للعاميّ بين تقليد أيّ من المجتهدين المتساويين في العلم مطلقا سواء لم يعلم المخالفة بين فتاويهما في الوقائع أصلا أو علم ذلك ولو بالإجمال ، وقد ذكر هذا التخيير الماتن قدس‌سره سابقا ولكن قيّده بما إذا لم يكن أحدهما أورع من الآخر واحتاط في تقليد الأورع. وفي المقام أجاز التبعيض بينهما في المسائل وقال : إذا كان أحدهما أرجح من الآخر في العدالة أو الورع أو نحو ذلك فالأولى بل الأحوط اختياره ، وكما ترى لا يكون كلامه في المقام ظاهرا في الاحتياط الوجوبيّ ، بخلاف ما تقدّم في مسألة تخيير العاميّ بين تقليد أحد من المجتهدين المتساويين في العلم.

أقول : لو قلنا بالتخيير وبجواز التبعيض فهذا القول فيما لم يعلم ولو إجمالا اختلافهما في المسائل التي يبتلي بها المكلف صحيح لا غبار فيه ، وأمّا في المسائل التي يعلم العاميّ باختلافهما فيها إجمالا فثبوت التخيير محلّ إشكال إلّا بناء على ما ذكرنا سابقا من إحراز أنّ الشارع لا يريد العسر ، وأن يعمل العاميّ بالاحتياط في المسائل المشار إليها ، لا بالإضافة إلى الاحتمالات في الواقعة ، ولا الاحتياط بالإضافة إلى فتوى كلّ من المتساويين في الواقعة ، فإنّ الاحتياط في الأول عسر وينافي ما عليه

٣٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الشريعة السهلة السمحة ، والثاني لا وجه له فإنّ مع سقوط فتوى المجتهدين في واقعة للمعارضة لا يمكن نفي الاحتمال الثالث لما تقرّر في الاصول من أنّه لا يمكن نفي الثالث بالدلالة الالتزاميّة بعد سقوط المدلول المطابقيّ عن الاعتبار ، فلا وجه لما يقال في وجه الاحتياط بين القولين بأنّه لا اعتبار بفتوى الآخرين ؛ لأنّ المفروض أنّهما بالإضافة إلى الآخرين أفضلان أو أنّ فتواهما تتضمّن الفتوى بأنّ الحكم الثالث غير ثابت في الواقعة فتدبّر.

وربّما (١) يقال : إنّه على تقدير التبعيض في التقليد فاللازم رعاية عدم استلزامه الإتيان بعمل بنحو يكون باطلا عند كليهما ، كما إذا أفتى أحدهما بعدم وجوب السورة بعد قراءة الحمد في الركعتين الأوّلتين وبلزوم الإتيان في الأخيرتين بالإتيان بالتسبيحات الأربعة ثلاث مرات ، وأفتى الثاني بلزوم قراءة السورة وكفاية التسبيحات مرّة ، فإنّ العامي إذا قلّد في مسألة قراءة السورة بالأوّل وفي التسبيحات بالثاني فالصلاة التي يأتي بها بلا سورة وبالتسبيحات بالمرّة لا تصحّ عند كليهما فهذا التخيير غير جائز ، وكذا التبعيض في الموارد التي يكون العمل متعدّدا وفي واقعتين ولكن بينهما تلازم في الحكمين وأوجب التبعيض التفكيك بين المسألتين ، كما إذا أفتى أحدهما بوجوب التمام والصوم في سفر وأفتى الآخر فيه بالقصر والإفطار فقلّد العامي الأوّل في وجوب التمام ، والثاني في لزوم الإفطار ، وهكذا فإنّ العلم الإجمالي إمّا ببطلان صلاته أو عدم جواز إفطاره منجّز.

وقد أجبنا عن ذلك وقلنا بجواز التبعيض حتى بالإضافة إلى العمل الواحد في

__________________

(١) التنقيح في شرح العروة ١ : ٢٥٧ ـ ٢٥٨.

٣٥٦

.................................................................................................

______________________________________________________

مسألة (٦٥) الآتية حيث قال الماتن قدس‌سره فيها : في صورة تساوي المجتهدين يتخيّر بين تقليد أيّهما شاء كما يجوز له التبعيض حتى في أحكام العمل الواحد حتّى أنّه لو كان مثلا فتوى أحدهما وجوب جلسة الاستراحة ، واستحباب التثليث في التسبيحات الأربع وفتوى الآخر بالعكس يجوز أن يقلّد الأوّل في استحباب التثليث ، والثاني في استحباب الجلسة.

وما قيل من أنّ صلاته بتقليد الأول في استحباب التثليث ، والثاني في استحباب جلسة الاستراحة تكون باطلة عند كلا المجتهدين غير صحيح ، فإنّ من يقول ببطلان الصلاة من المجتهدين بترك التثليث في التسبيحات الأربع يقول بالبطلان مع عدم العذر في تركها ، وكذلك من يقول ببطلانها بترك جلسة الاستراحة يقول ببطلانها في صورة عدم العذر في تركها كما هو مقتضى حديث : «لا تعاد» وليس من يفتي بعدم وجوب جلسة الاستراحة يقيّد عدم وجوبها بصورة الإتيان بالتسبيحات الأربع ثلاثا ، كما أنّه ليس فتوى من يفتي بكفاية الواحدة يقيّد كفايتها بصورة الإتيان بجلسة الاستراحة بحيث لو لم يأت بالتسبيحات إلّا مرّة يكون عليه الإتيان بجلسة الاستراحة ، وليس على العاميّ إلّا التقليد عمّن يرى عدم وجوب جلسة الاستراحة والتقليد عمّن يرى عدم وجوب التثليث في التسبيحات الأربع ، كما هو مقتضى جواز التبعيض في تقليده لتساوي المجتهدين.

نعم ، فيما إذا كان الجزء أو القيد ركنا بحيث لا يعذر فيه الجاهل بأن يبطل عمله بالإخلال به على قولي المجتهدين ، فمع الإخلال بالركن في ذلك العمل لم يجز التبعيض ، وهذا لا يفرض في الصلاة لعدم الاختلاف في أركانها ، ويتصوّر في مثل الحجّ ، كما إذا أفتى أحد المجتهدين بإجزاء درك الوقوف الاضطراريّ المزدلفة يوم

٣٥٧

(مسألة ٣٤) إذا قلّد من يقول بحرمة العدول حتى إلى الأعلم ثم وجد أعلم من ذلك المجتهد [١] فالأحوط العدول إلى ذلك الأعلم وإن قال الأول بعدم جوازه.

______________________________________________________

العيد وإن لم يدرك الوقوف الاختياريّ والاضطراريّ بعرفة ، ولكن كان فتواه عدم كفاية الغسل المستحب في الطهارة من المحدث بالأصغر ، ويرى المجتهد الآخر العكس وأنّ الغسل الاستحبابي يجزي ولا يجزي الوقوف الاضطراريّ من غير درك الاضطراريّ بعرفة والمكلّف أدرك الاضطراري بالمشعر خاصّة ، وعليه فإن أدرك المكلّف الوقوف الاضطراري بالمشعر خاصّة وأتى بطواف حجه وعمرته بالغسل المستحب من وضوء يكون حجّة باطلا عند كلا المجتهدين ، وفي جواز التبعيض كذلك إشكال لعدم إحراز العاميّ صحة عمله على فتوى واحد منهما.

وأمّا مسألة القصر والصوم فلا تكون من هذا القبيل ؛ لأن من يوجب القصر من المجتهدين والإفطار فصلاته قصرا وظيفته عنده والآخر يقول إنّ الصوم وظيفته الواقعيّة ، والقائل بالإفطار يقول بصحّة صومه لكونه صائما جهلا بوجوب الإفطار عليه.

نعم لو علم العاميّ أنّ وجوب القصر في الصلاة في سفر لا يجتمع مع وجوب الصوم فيه يلزم عليه الجمع بين القصر والتمام والصوم فيه والقضاء بعده أو ترك التبعيض ؛ لأنّ علمه الإجماليّ بعدم اجتماع وجوب القصر مع وجوب الصوم في السفر المفروض يوجب علمه ببطلان أحد الأمرين من صلاته أو صومه.

[١] حيث إنّه قدس‌سره احتاط في تقليد الأعلم ـ كما تقدّم سابقا ـ احتاط في المقام أيضا في العدول.

ولكن لا يخفى أنّه لو كان تقليد الأعلم من الأوّل احتياطا واجبا لا يكون العدول إلى الأعلم في الفرض من الاحتياط ؛ لأنّ ظاهر الفرض وقوع التقليد الأوّل صحيحا

٣٥٨

(مسألة ٣٥) إذا قلّد شخصا بتخيّل أنّه زيد فبان عمروا ، فإن كانا متساويين في الفضيلة ولم يكن على وجه التقييد صحّ ، وإلّا فمشكل [١].

______________________________________________________

وكان يقول بحرمة العدول حتى إلى الأعلم ، وبعد وجدان الأعلم منه متأخّرا يحتمل تعيّن تقليد ما قلّده ، كما تقدّم في مسألة عدم جواز العدول عن الحيّ ؛ وذلك لا لفتوى ذلك المجتهد بعدم جواز العدول حتّى إلى الأعلم ، بل لاحتمال تعيّن الحجّة في فتاويه في الوقائع كما أنّ تعيّن الرجوع إلى الأعلم منجّز لوجوب تقليد الأعلم الفعليّ فعليه الجمع في المسائل بين فتوى الأعلم السابق والأعلم الفعليّ فيها.

هذا بناء على ما ذكره من وجوب الاحتياط في تقليد الأعلم من المجتهدين ، وأمّا بناء على ما ذكرنا من عدم اعتبار فتوى غير الأعلم مع الأعلم يتعيّن الرجوع في المسائل التي يعلم اختلافهما فيها ولو إجمالا.

[١] حاصل ما ذكره في المقام أنّه إذا كان في البين مجتهدان متساويان في الفضيلة بحيث يجوز للعاميّ تقليد أيّ منهما وقلّد أحدهما باعتقاد أنّه زيد ثمّ بان أنّه عمرو أي المجتهد الآخر ، فإن كان العاميّ بحيث لو علم من الأوّل أنّه عمرو كان أيضا يقلّده ففي الفرض حكم بصحة التقليد ، وأمّا إذا كان عالما بأنه عمرو لم يكن يقلّده فإنّه مشكل في تحقّق التقليد.

وعبّر في الصورة الاولى بأنّ قصد التقليد عن الشخص المزبور في الفرض الأوّل لم يكن بنحو التقييد بخلاف الفرض الثاني ، وهذا نظير ما ذكر في الاقتداء وأنّ المكلف إذا قصد الائتمام بالإمام باعتقاد أنّه زيد ثمّ ظهر بعد الصلاة أنّه عمرو ، فإن كان قصده الائتمام بزيد لا على نحو التقييد بحيث لو كان عالما من الأوّل أنّ الإمام عمرو كان أيضا يأتمّ به تصحّ صلاته جماعة ، وأمّا إذا كان عالما بأنّ الإمام عمرو لما كان يأتمّ به فصلاته أو جماعته باطلة.

ولكن لا يخفى أنّ القابل للتقييد حقيقة هو الكلّي أي ما كان الفعل كليّا ولو مع

٣٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

عدم كليّة متعلّقه ، كما في متعلّقات الأوامر والنواهي وغيرهما من الأحكام التكليفيّة والوضعيّة حيث يمكن لجاعل الحكم أن يجعل متعلّق حكمه واعتباره مطلقا أو مقيّدا ، وأمّا ما صار فعليّا في الخارج بأن تحقّق فيه فلا يتّصف بالإطلاق والتقييد ، بل هو موجود جزئيّ خارجيّ لا محالة.

فإن كان ذلك الموجود الخارجيّ من الفعل عنوانه من العناوين غير القصديّة ينطبق عنوانه عليه لا محالة ، غاية الأمر إذا كان الفاعل الصادر عنه الفعل ملتفتا إلى عنوانه حين صدوره منه يكون الفعل عمديّا ، وإن كان غير ملتفت إليه بحيث لو كان ملتفتا لم يصدر عنه ولم يفعل يكون خطأ ، وكذلك إذا كان ملتفتا إلى عنوان الفعل ولكن لم يلتفت إلى ما وقع ذلك الفعل عليه من المتعلّق له ، فلو كان ملتفتا إليه كان الفعل المقصود والملتفت إلى عنوانه عمديّا وإلّا كان خطأ ، كما إذا قتل شخصا بزعم أنّه زيد ولكن ظهر بعد ذلك أنّه عمرو بحيث لو احتمل أنّه كان عمرا لم يكن يقتله.

وأمّا إذا كان عنوان الفعل من العناوين القصديّة ولم يقصد ذلك العنوان بفعله لا يكون ذلك الفعل مصداقا لذلك العنوان ، من غير فرق بين العبادات والمعاملات ، وكذا إذا قصد العنوان القصديّ ولكن انتفى عما ينطبق عليه العنوان القصديّ ما يعدّ قيدا مقوّما في انطباق ذلك العنوان ، كما إذا قصد إنشاء الطلاق لامرأة بتخيّل أنّها زوجته ولكن أخطأ ولم تكن المرأة زوجته بل أجنبية له ، وهذا بخلاف ما إذا تحقّق ذلك القيد ، فإنّه يكون ذلك الفعل الذي هو عنوان قصديّ محقّقا لا محالة ، والمفروض في المقام كذلك ، فإنّ المفروض أنّ الذي قلّده بتخيّل أنّه زيد فبان أنّه عمرو واجد لتمام الشرائط المعتبرة في المجتهد ، وقد تعلم منه الفتوى وعمل على طبقه فيكون تقليدا مجزيا ، ولو كان عالما بأنّه عمرو لما قلّده من قبيل تخلّف الداعي ،

٣٦٠