دروس في مسائل علم الأصول - ج ٦

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8438-62-8
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٤٦

لاعتبار إحراز بقاء الموضوع ولو عرفا ، فتأمل جيدا.

هذا كلّه مع إمكان دعوى أنه إذا لم يجز البقاء على التقليد بعد زوال الرأي ، بسبب الهرم أو المرض إجماعا ، لم يجز في حال الموت بنحو أولى قطعا ، فتأمل.

ومنها : إطلاق الآيات الدالة على التقليد.

______________________________________________________

وليس المدرك في شيء من ذلك الاستصحاب ، كلّ ذلك الالتزام لا للاستصحاب ليقال بأنّ المقام من الشبهة الحكميّة ولا اعتبار للاستصحاب فيها ، بل لإطلاق الروايات الواردة في جواز أخذ معالم الدين من الأحياء المتحمّلين لها على ما في الروايات المتعدّدة ، فإنّه لم يقيّد في شيء منها بأنّ المأخوذ من المعالم إذا كان بصورة الفتوى يعمل به ما دام المأخوذ منه حيّا ، والالتزام بعدم جواز التقليد من الميّت ابتداء ـ يعني التعلّم من الميّت للعمل بالرجوع إلى من يخبر بفتواه وما سمع منه ـ لاحتمال أنّ المقدار الممضى من السيرة العقلائيّة في الرجوع إلى أهل الخبرة في تعلّم الأحكام الشرعيّة للعمل هو الرجوع إلى الحيّ والتعلّم منه.

وبتعبير آخر الفقيه الذي تعلّم العاميّ منه وظيفته الشرعيّة في الوقائع التي يبتلي بها حال حياته يحسب كأحد الأحياء ، فإن كان أعلمهم يجب الأخذ بقوله ولو بعد موته كما هو مقتضى السيرة العقليّة ، وإن كان فيه احتمال الأعلميّة جاز البقاء على تقليده إن اختصّ به احتمالها لو لم نقل بتعيّن البقاء في الفرض أيضا ، بدعوى اختصاص احتمال الأعلميّة بواحد في الأحياء كان معيّنا ، لدوران الحجّة في ذلك الفرض بين التعيين والتخيير ، ولا يجري هذا الدوران فيما إذا كان الاحتمال في الميّت ؛ لأنّ جماعة من العلماء لم يجوّزوا التقليد من الميّت حتى بقاء وحتّى في فرض كونه أعلم من الحيّ فلا يتمّ دوران الأمر في تقليده بين التعيين والتخيير ، وما ذكرنا من جريان السيرة العقلائيّة من اتّباع قول من يختصّ باحتمال الأعلميّة ،

٣٠١

وفيه ـ مضافا إلى ما أشرنا إليه من عدم دلالتها عليه ـ منع إطلاقها على تقدير دلالتها ، وإنما هو مسوق لبيان أصل تشريعه كما لا يخفى. ومنه انقدح حال إطلاق ما دلّ من الروايات على التقليد ، مع إمكان دعوى الانسياق إلى حال الحياة فيها.

ومنها : دعوى أنه لا دليل على التقليد إلّا دليل الانسداد ، وقضيته جواز تقليد الميت كالحي بلا تفاوت بينهما أصلا ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

إحرازها فيما إذا كان المحتمل ميّتا لا يخلو عن المناقشة ، فالمتعيّن في الفرض الاحتياط بين قوله وقول أعلم الأحياء إلّا إذا ادّعى العلم أو الوثوق بأنّ الشارع لا يريد من العاميّ الاحتياط في الوقائع حتّى بين الأقوال ، ويكتفى بالموافقة الاحتماليّة الحاصلة بمطابقة عمله بقول أحدهما.

وقد يقال إنّما يجوز البقاء على تقليد الميّت أو يجب فيما إذا عمل العاميّ بفتواه حال حياته ، وما لم يعمل به يتعيّن رجوعه إلى الحيّ سواء كان الميّت أعلم أم لا ، ولعلّ هذا القائل يرى أنّ التقليد هو العمل المستند إلى الفتوى وما دام لم يعمل به حال حياة المفتي يكون اتّباع قوله بعد وفاته من التقليد الابتدائيّ من الميّت ، أو يقال إنّه يكون المجتهد نوعا في فتاواه مبتلى بالمعارض من مثله من الأحياء بحيث كان العاميّ مخيّرا بين تقليده وتقليد الميّت ، والتخيير في الحجّة مقتضاه أن يكون أحدهما حجة تعيينيّة بالأخذ بأحدهما المعيّن ، كما تقدّم ذلك في التخيير بين الخبرين المتعارضين على القول به ، ولكن لا يخفى أنّه إذا كان المجتهد حال حياته أعلم أو محتمل الأعلميّة كانت فتواه معتبرة ، فيكون تعلّم العاميّ الحكم في واقعة منه موجبا لعلمه بالحكم الشرعيّ في تلك الواقعة ، وقد تقدّم أنّه مع التعلّم من مجتهد حال حياته لا يعتبر العمل به حال حياته أيضا.

ومما ذكرنا يظهر أنّ ما ذكر في العروة ـ من أنّ التقليد هو الالتزام بالعمل بقول

٣٠٢

وفيه أنه لا يكاد تصل النوبة إليه ، لما عرفت من دليل العقل والنقل عليه.

ومنها : دعوى السيرة على البقاء ، فإن المعلوم من أصحاب الأئمة عليهم‌السلام عدم رجوعهم عما أخذوه تقليدا بعد موت المفتي.

وفيه منع السيرة فيما هو محل الكلام ، وأصحابهم عليهم‌السلام إنما لم يرجعوا عما أخذوه من الأحكام لأجل أنهم غالبا إنما كانوا يأخذونها ممن ينقلها عنهم عليهم‌السلام بلا واسطة أحد ، أو معها من دون دخل رأي الناقل فيه أصلا ، وهو ليس بتقليد كما لا يخفى ، ولم يعلم إلى الآن حال من تعبد بقول غيره ورأيه ، أنه كان قد رجع أو لم يرجع بعد موته.

ومنها : غير ذلك مما لا يليق بأن يسطر أو يذكر.

______________________________________________________

مجتهد معيّن وإن لم يعمل به ، بل ولو لم يأخذ فتواه ، فإذا أخذ رسالته والتزم بالعمل بما فيها كفى في تحقق التقليد ـ غير تامّ ؛ لأنّ الالتزام غير داخل لا في مدلول أخبار وجوب طلب العلم وأخذ معالم الدين ، ولا في حكم العقل من لزوم رعاية التكاليف الواقعيّة وموافقتها وامتثالها وجدانا أو بالإحراز التعبديّ ، فإذا أخذ رسالة مجتهد والتزم للعمل بما فيها ولكن توفّي المجتهد قبل التعلم منها فضلا عن العمل يكون تقليده تقليدا من الميّت ابتداء ، لخروجها عن أخبار الأخذ والتعلّم التي أشرنا إليها وذكرنا إحراز الإمضاء في مقدار مدلولها من السيرة ولم يحرز الإمضاء في غير ذلك المقدار.

وكذا ظهر الحال فيما ذكره من أنّ الأقوى جواز البقاء على تقليد الميّت ولا يجوز تقليد الميّت ابتداء.

وقد تقدّم الوجه في عدم جواز تقليد الميت ابتداء ، وقد يقال (١) في وجه عدم

__________________

(١) مصباح الاصول ٣ : ٤٦٢.

٣٠٣

.................................................................................................

______________________________________________________

جوازه وجه آخر وهو أنّ المسائل الاختلافيّة بين الفقهاء في نفسها كثيرة جدّا ولو لم يعتبر في جواز التقليد الابتدائيّ حياة المفتي بأن جاز التقليد عن الميّت ابتداء لزم الرجوع في تلك المسائل الكثيرة إلى الأعلم من الأحياء والأموات ، فينحصر جواز التقليد في المذهب بواحد أو اثنين في جميع الأعصار لاعتبار الأعلميّة من الكلّ أو يحتاط بين اثنين وثلاث ، وهذا خلاف المعلوم من ضرورة المذهب حيث إنّ هذا النحو من التقليد يعدّ مذهبا للعامّة.

ولكن هذا الوجه فيه من المناقشة ؛ لأنّ الأعلم إلى بعض الأعصار لا يبقى بالإضافة إلى جميع الأعصار في وصف الأعلميّة ، بل يوجد في بعض العصور التالية من هو أعلم بالإضافة إلى الأعلم السابق ، وهذا ليس نظير مذهب العامّة حيث لا ينسدّ باب الاجتهاد في الأحكام وينفتح باب الاجتهاد في فهم الفتوى أو استخراج الفتوى من أقوال السابقين المعروفين بالأعلميّة لا يحتاج إلى تكلّفه بعد ما بيّنا الوجه في اعتبار الحياة في المفتي في التقليد الابتدائيّ من قصور أدلّة إمضاء السيرة العقلائيّة.

٣٠٤

مسائل في الاجتهاد والتقليد

ولا بأس بالتعرّض في المقام إلى جملة من المسائل التي ذكرها في العروة في الاجتهاد والتقليد ، منها ما ذكره قدس‌سره في :

(مسألة ١٠) إذا عدل عن الميّت إلى الحيّ لا يجوز له العود إلى الميّت [١].

(مسألة ١١) لا يجوز العدول عن الحيّ إلى الحيّ إلّا إذا كان الثاني أعلم [٢].

(مسألة ١٢) يجب تقليد الأعلم مع الإمكان على الأحوط [٣] ويجب الفحص عنه.

______________________________________________________

[١] وقد ظهر ممّا تقدّم إذا تعلّم الوظائف من مجتهد أعلم حال حياته ومات ذلك المجتهد فقلّد مجتهدا حيّا ، فإن كان الميّت أعلم بالإضافة إليه فرجوعه إلى الحيّ غير صحيح ، ووجب عليه العمل بما تعلّم من الميت حال حياته ، وإن كان في كلّ منهما احتمال الأعلميّة بالإضافة إلى الآخر فلا بأس فيما إذا لم يوجب القطع بمخالفة التكليف الواقعيّ إمّا في الواقعة السابقة أو اللاحقة وإن لم نقل بالاحتياط بين القولين والاكتفاء بالموافقة الاحتماليّة.

[٢] ولا يخفى أنّ الثاني إذا صار أعلم من السابق يجب الرجوع إليه ، وأمّا إذا علم أنّ الثاني كان أعلم من الحيّ الأوّل فيعلم بطلان تقليده الأوّل.

[٣] أقول : قد تقدّم لا يجب تقليد الأعلم في المسائل التي لا يعلم اختلاف المجتهدين فيها لا إجمالا ولا تفصيلا ، واتّباع الأعلم في المسائل التي يعلم العاميّ اختلاف العلماء فيها ولو إجمالا عندهم لعدم اعتبار قول غيره ، ويجب الفحص عن الأعلم فيها مع العلم بوجوده ، بل مع احتمال وجوده لإحراز الحجّة فالأخذ بقول أحدهم مع الشك في اعتبار قوله لا يكون مجزيا ، كما تقدّم في بيان حكم العقل في إحراز الامتثال والطاعة ، كما لا يحرز أن ما أخذه منه إحراز لمعالم دينه ووظيفته

٣٠٥

(مسألة ١٣) إذا كان هناك مجتهدان متساويان في الفضيلة يتخيّر بينهما إلّا إذا كان أحدهما أورع فيختار الأورع [١].

______________________________________________________

الشرعيّة في الواقعة. نعم لا بأس بتركه والاحتياط بالأخذ بأحوط القولين.

[١] أقول : يقع الكلام تارة فيما إذا لم يعلم العاميّ اختلاف أحدهما مع الآخر في المسائل التي يبتلى بها أو يحتمل ابتلاءه بها ، واخرى فيما إذا علم اختلافهما تفصيلا أو إجمالا ، أمّا الفرض الأوّل فالظاهر جواز تعلّم الحكم من كلّ منهما ، وبعد تعلّمه يجب عليه العمل بما تعلّمه ، وقد تقدّم أنّ هذا مقتضى الإطلاق فيما دلّ على جواز المراجعة إلى من يثق به في تعلّم الأحكام من يونس بن عبد الرحمن والحارث بن المغيرة وأمثالهما بلا حاجة إلى إحراز عدم المخالفة بينهما بالأصل ، ولا أثر لأورعيّة أحدهما في الفرض ؛ لأنّ ما يمكن أن يستند إليه في الالتزام بالرجوع إلى الأورع من مقبولة عمر بن حنظلة ورواية داود بن الحصين التي في سندها الحكم بن مسكين عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «في رجلين اتفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف فرضيا بالعدلين فاختلف العدلان بينهما ، عن قول أيّهما يمضي الحكم؟ قال : ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما ، فينفذ حكمه ولا يلتفت إلى الآخر» (١) وهما ظاهرتان في فرض ظهور اختلافهما.

وأمّا إذا كان الاختلاف بينهما محرزا فالمتعيّن سقوط اعتبار كلّ من الفتاوى المختلفة بينهما عن الاعتبار ، فإنّ دليل جواز التقليد بمعنى تعلّم الحكم من الفقيه لا يعمّ صورة العلم بالاختلاف ، إلّا فيما إذا كان أحدهما أعلم كما هو خلاف الفرض في المسألة ، فيدور أمر العامي في المسألة بين الاحتياط في الواقعة إذا لم يمكن الاحتياط فيها بالأخذ بأحد القولين ، وإذا أحرز أنّ الشارع لا يريد منها الاحتياط في

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١١٣ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٠.

٣٠٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الوقائع فتصل النوبة إلى الموافقة الاحتماليّة التي تحصل بمطابقة عمله لفتوى أحدهما في المسائل ، حيث إنّه إذا لم يجب الموافقة القطعيّة في الوقائع يكتفى بالموافقة الاحتماليّة في الوقائع ، وهذه الموافقة الاحتماليّة مقدّمة على الموافقة القطعيّة في بعض الموارد مع العلم بالمخالفة في بعضها الآخر.

ولا دلالة في المقبولة ولا لرواية داود على خلاف ذلك ، فإنّ موردهما القضاء وفصل الخصومة ، ولا يمكن ذلك ـ يعني فصلها ـ إلّا بنفوذ حكم أحدهما المعيّن ، ولو ادّعى استفادة حكم الرجوع إلى الفقيه في تعلّم الحكم الشرعي أي الفتوى منهما لزم الالتزام بأنّه إذا كان أحد الفقيهين أعلم من الآخر ، والآخر أورع من الأعلم يكون المكلّف على التخيير بينهما مع أنّ صاحب العروة أو غيره لم يلتزم بذلك ، ووجه اللزوم ظهور المقبولة والرواية كون كلّ من الأوصاف مرجّحا لقضاء صاحبه ، لا أنّ المرجّح مجموع تلك الأوصاف ؛ ولذا كرّر في المقبولة السؤال عمّا إذا كان كلّ من الحكمين مساويا فيها وليس لأحدهما فضل على الآخر فيها.

ثمّ إنّه كما تقدّم لا تصل النوبة في مفروض المسألة بقاعدة احتمال التعيّن في الحجّة عند دوران أمرها ، بأن يقال فتوى الأورع حجّة يقينا والشكّ في فتوى الآخر وذلك فإنّ التخيير الذي ذكرنا للالتزام بعدم وجوب الاحتياط وكفاية الموافقة الاحتماليّة ، لا لاعتبار كلا الفتويين على نحو التخيير أو اعتبار فتوى الأورع تعيّنا ، ليقال يؤخذ بالتعيين عند دوران الحجّة بين التعيين والتخيير.

وقد يقال (١) : لا يكون المقام من دوران الحجّة بين التعيين والتخيير حتّى بناء

__________________

(١) بحوث في الاصول (الاجتهاد والتّقليد) : ٦٥. (للأصفهاني).

٣٠٧

(مسألة ١٤) إذا لم يكن للأعلم فتوى في مسألة من المسائل يجوز [١] في تلك المسألة الأخذ من غير الأعلم وإن أمكن الاحتياط.

______________________________________________________

على الالتزام بأنّ الحجة عند دوران الأمر بين مجتهدين متساويين تخييريّة ؛ لأنّ ما في أحد المجتهدين من المزيّة غير دخيل في ملاك طريقيّة فتواه ، كما إذا دار الأمر بين مجتهدين متساويين في العلم ولكن أحدهما يواظب على نافلة الليل دون الآخر.

ولكن لا يمكن المساعدة عليه ، فإنّه إذا احتمل أنّ ما في أحدهما من المزيّة وإن لم يكن ذلك دخيلا في مطابقة فتاويه للواقع اعتبره الشارع بملاحظة منصب المرجعيّة والقضاء ، دخل المقام مع الالتزام بالتخيير في الحجّة في صورة التساوي في دوران الأمر بين التعيين والتخيير فيها.

[١] قد يفصّل (١) في المقام بين ما إذا لم يفت الأعلم في مسألة لعدم إكمال فحصه عن مقتضى مدارك الحكم فيها أو أنّه لم يفحص عنها في تلك المسألة أصلا ، كما ربّما يتّفق ذلك في مقام الاستفتاء عنه في مسألة فيجيب فيها بالاحتياط ، ففي مثل ذلك ممّا يحتمل الأعلم أنّه لو أكمل فحصه أو فحص عن المدرك فيها لأفتى بما أفتى فيه غير الأعلم ، وكذا فيما لا يريد الأعلم أن يفتي فيها ببعض الملاحظات ، كأن لا يريد أن يخالف المشهور في إفتائهم وإن كان مقتضى ملاحظة المدارك للأحكام هو ما أفتى به غير الأعلم ، فإنّه يجوز في ذلك أيضا الرجوع إلى فتوى غير الأعلم ، فإنّه عالم بحكم المسألة كما هو فرض كونه مجتهدا عارفا بطريق الاستنباط وتعيين الأحكام من أدلّتها ، وكان المانع عن اعتبار فتاواه في ساير الموارد معارضتها وإحراز مخالفتها مع فتوى الأعلم ولو إجمالا ، وهذا المانع غير موجود بالإضافة إلى مفروض الكلام فيعمّه ما دلّ على الرجوع بالعارف بالأحكام ، ويؤيّده السيرة العقلائيّة ، ويلحق

__________________

(١) التنقيح في شرح العروة ١ : ١٤٥.

٣٠٨

.................................................................................................

______________________________________________________

بذلك ما إذا كانت المسألة مما لم يتعرّض الأعلم لحكمها أصلا ويحتمل العاميّ أنّه لو كان متعرّضا لحكمها لأفتى بما أفتى به غير الأعلم.

وأمّا إذا كان عدم إفتاء الأعلم بالإضافة إلى نفس الحكم الواقعيّ لا بالإضافة إلى مدركه ، بل كان المستفاد من قوله أنّ مقتضى رعاية المدارك هو الحكم بالتكليف أو ما هو الموضوع له من الوضع ، كما لو عبّر بقوله : الأحوط لو لم يكن أقوى هو الترك أو الإتيان ، في مقابل من أفتى بجواز الارتكاب أو جواز الترك أو رأى الأعلم أنّ مقتضى العلم الإجماليّ الموجود بالتكليف في المسألة هو الاحتياط والجمع بين الفعلين ، كما قال بالاحتياط في مسألة من سافر أربعة فراسخ غير قاصد الرجوع من يومه ، وإذا رأى المجتهد أنّ ما دلّ على وجوب القصر فيه معارض بما دلّ على التمام فيه وليس في البين معيّن آخر لوجوب خصوص أحدهما ، فقال لا مجال في المسألة إلّا الاحتياط بالجمع بين القصر والتمام ، فلا يجوز للعاميّ في مثل ذلك الرجوع إلى فتوى غير الأعلم الذي ينفي التكليف في الفرض الأوّل أو يعيّن التكليف في ناحية أحد الفعلين.

وعلى الجملة إذا كان ما ذكره الأعلم في المسألة من الاحتياط متضمّنا لتخطئة من ينفي التكليف أو الاحتياط فلا مجال فيها للرجوع إلى قول غير الأعلم.

وقد ذكرنا في جواب هذا التفصيل في الدورات السابقة أنّ ما هو معتبر بالإضافة إلى العامّي هو الفتوى بالحكم الشرعي ، ومع عدم الافتاء به فلا موضوع لوجوب التعلّم منه والمفروض في المقام أنّه ليس للأعلم فتوى بالإضافة إلى الحكم الشرعي في المسألة ليعارض فتوى الآخر ، ويبقى ما يتضمّن قول الأعلم من تخطئة غيره ، وأنّه ليس بمقتضى المدارك ولا دليل على اعتبار قول الأعلم في نفس هذا

٣٠٩

(مسألة ١٥) إذا قلّد مجتهدا كان يجوّز البقاء على تقليد الميّت فمات ذلك المجتهد ، لا يجوز البقاء على تقليده في هذه المسألة ، بل يجب الرجوع إلى الحيّ الأعلم في جواز البقاء وعدمه [١].

______________________________________________________

القول ، ولكن لا يبعد بأن يقال الدليل على اعتبار قول الأعلم في فرض المعارضة السيرة العقلائيّة ، والعقلاء لا يعتنون بقول غير الأعلم إذا كان القول المزبور موضع اتّهام من الأعلم مع إمكان رعاية الواقع ولو بالاحتياط ، والمفروض أنّ الأعلم عيّن الوظيفة الظاهريّة فيه.

ثمّ إذا جاز العدول إلى غير الأعلم في موارد عدم الفتوى من الأعلم يجب رعاية الرجوع إلى الأعلم فالأعلم مع اختلافهما لعين ما تقدّم.

اختلاف الحيّ والميّت في مسألة جواز البقاء

[١] يقع الكلام تارة في فتوى المجتهد الميّت في مسألة البقاء على تقليد الميّت سواء أفتى فيها بجواز البقاء أو بعدم جوازه أو بوجوب البقاء ، واخرى في فتوى الحيّ الأعلم سواء أفتى بجواز البقاء أو بعدم جوازه.

فنقول : إذا أفتى الميّت بجواز البقاء على تقليد الميّت فلا يجوز الاستناد إليه والاعتماد عليه في مقام العمل بسائر فتاواه ؛ لأنّ الاستناد في العمل بفتاواه اعتمادا على فتواه بجواز البقاء دوريّ ، فلا بدّ من الرجوع إلى الحيّ الأعلم في مسألة جواز البقاء على تقليد الميّت ، فيكون المقام نظير ما إذا لم يكن للأعلم فتوى في المسائل التي ابتلى بها المكلّف ، حتّى فيما إذا فرض أنّ الميّت كان أعلم من الحيّ الموجود فعلا ، إذ لا يعتبر قوله في مسألة البقاء على تقليد الميّت سواء كان فتواه بجواز البقاء أو وجوبه أو عدم جواز البقاء ، وكذا يكون نظير ما إذا كان الأعلم الحيّ غير واجد لسائر شرائط التقليد حيث يرجع إلى فتوى الحيّ الواجد لشرائط جواز التقليد ،

٣١٠

.................................................................................................

______________________________________________________

حيث إنّ فتوى الأعلم الحيّ هو المتيقّن في الاعتبار بالإضافة إلى العاميّ بعد سقوط فتوى الميّت عن الاعتبار في مسألة البقاء على تقليد الميت.

وعلى ذلك فإن أفتى الحيّ الأعلم بعدم جواز البقاء على تقليد الميت فلا يترتّب على رأي الميّت في المسائل أيّ أثر حتّى إذا فرض أنّ فتواه كانت وجوب البقاء على تقليد الميّت فضلا عن فتواه بجواز البقاء أو حرمته ، وأمّا إذا أفتى الحيّ الأعلم بجواز البقاء فهل يمكن الالتزام بأنّ للعاميّ أن يعتمد في مسألة البقاء على تقليد الميّت على فتوى الميّت بفتوى الحيّ فيها بجواز البقاء؟ بأن يبقى على تقليد الميّت في خصوص هذه المسألة بحيث صار ما يفتي الميّت حال حياته من جواز البقاء على تقليد الميّت حجّة بعد وفاته أيضا بفتوى الحيّ ، أو أنّ فتاوى الميّت في ساير المسائل معتبرة بفتوى الحيّ بجواز البقاء ولا تعتبر فتوى الميّت في مسألة جواز البقاء حتّى مع حكم الحيّ بجواز البقاء على تقليد الميّت.

الصحيح أن يقال : إن لم يختلف فتوى الحيّ الأعلم مع فتوى الميّت في مسألة جواز البقاء على تقليد الميّت ـ بأن يكون ما أجازه الحيّ من البقاء كان هو الجائز على فتوى الميّت ـ فلا يصير قول الميّت في مسألة جواز البقاء مع تقليد العاميّ عن الحيّ الأعلم حجّة معتبرة في تلك المسألة ، فإنّ فتوى الأعلم الحيّ بجواز البقاء معناه أنّ الفتاوى من الميّت في المسائل إذا قلّد العاميّ إيّاه فيها حال حياته هي الوظائف الشرعيّة بالإضافة إليه بعد مماته ، ومع فرض رجوع العاميّ إلى الحيّ الأعلم في ذلك وصيرورته عالما بوظائفه الشرعيّة لا معنى لاعتبار فتاوى الميّت علما في حقّ العامي ثانيا بفتوى نفس الميّت حال حياته بجواز البقاء ، لأنّ هذا الاعتبار يصير لغوا محضا ، وكذا الحال فيما إذا اختلفت فتوى الحيّ الأعلم مع فتوى الميّت وكانت

٣١١

.................................................................................................

______________________________________________________

فتوى الحيّ أوسع من فتوى الميّت في الجواز ، كما إذا كان الميّت يعتبر في جواز البقاء العمل بفتوى الميّت حال حياته ، ولكنّ الحيّ الأعلم يجوّز البقاء مطلقا سواء عمل بفتوى الميت حال حياته أم لم يعمل ، فإنّه في هذا الفرض أيضا يكون العاميّ بالرجوع إلى الحيّ عالما بالوظائف الشرعيّة في الوقائع التي قلّد فيها المجتهد الميّت ، فلا أثر للضيق في فتوى الميّت في مسألة جواز البقاء.

وبتعبير آخر إذا صارت فتاوى الميّت في الوقائع في المسائل التي تعلم حكمها من الميت حال حياته حجة في حق العاميّ بفتوى الحيّ فلا يمكن شمول اعتبار فتوى الحيّ بالإضافة إلى فتوى الميّت في مسألة البقاء ، حيث إنّه لغو محض.

وأمّا إذا كان الأمر بالعكس ، بأن كان الميّت يجوّز البقاء على تقليد الميّت في المسائل التي فيها قلّد في حياة المجتهد ، سواء عمل بها في حال حياته أم لا ، ولكن الحيّ الموجود فعلا يجوز له البقاء على تقليد الميّت في خصوص المسائل التي قلّد فيها المجتهد ، وعمل بها في حال حياته ، ففي هذا الفرض لو عمل العاميّ بفتوى الميّت في مسألة البقاء حال حياته ، كما إذا بقي على تقليد مجتهد برهة من الزمان بعد موته اعتمادا على فتوى حيّ أجاز البقاء على تقليد الميّت ولو لم يعمل بفتواه حال حياته ، وبعد موت هذا الحيّ إذا رجع إلى الحيّ الذي يعتبر العمل في حال حياة الميّت يبقى على تقليد الثاني في مسألة البقاء الذي عمل بفتواه حال حياته في البقاء على تقليد الميّت الأوّل ، وبذلك يمكن القول باعتبار فتوى الميّت الثاني بفتوى الحيّ الفعليّ في البقاء على تقليد الميّت الأوّل حتّى في المسائل التي لم يعمل بفتواه فيها زمان حياته ، فيكون هذا نظير ما أقمنا الدليل على حجّية خبر العدل في الأحكام الشرعيّة وقام خبر عدل على حجّية خبر مطلق الثقة في الأحكام الشرعيّة ، فتكون النتيجة حجّية خبر مطلق

٣١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

الثقة في الأحكام الشرعيّة.

لا يقال : إذا أفتى الحيّ الفعليّ بجواز البقاء على تقليد الميّت في خصوص المسائل التي عمل بها العاميّ حال حياة مجتهده ، ومنع عن البقاء على تقليده فيما لم يعمل به حال حياته ؛ لقيام الدليل عند الحيّ على الاختصاص ، فكيف يجوز للعاميّ الذي عمل بفتوى الميّت في مسألة جواز البقاء حال حياته البقاء على فتاوى الميّت الأوّل مع عدم عمله بتلك الفتاوى زمان حياة الميّت الأوّل؟ حيث إنّ الحيّ الفعليّ يمنع عن مثل هذا البقاء.

فإنّه يقال : العاميّ لم يستند في البقاء على تلك الفتاوى إلى فتوى الحيّ في مسألة جواز البقاء ليتناقض هذا النحو من البقاء مع فتواه ، بل يستند في جواز البقاء عليها إلى فتوى الميّت الثاني في مسألة جواز البقاء ، والمفروض أنّه عمل بهذه الفتوى في زمان حياته ويستند في البقاء في هذا الجواز إلى فتوى الحيّ الفعلي.

وبتعبير آخر إنّما منع الحيّ في الاستناد في تلك الفتوى بأن يعمل العاميّ بها مستندا إلى الحيّ الفعليّ وأنّه جوّز هذا الاستناد فيها ولم يمنع عنه ، ولكن لم يمنع عن العمل بها مستندا إلى فتوى الميّت الثاني.

ولا يخفى أنّ المراد بجواز البقاء في كلّ من فتوى الحيّ والميّت الثاني عدم تعيّن البقاء ، وعليه يكون فتاوى الميت الأوّل وفتاوى الحيّ الفعليّ من قبيل الحجّة التخييريّة بالمعنى المتقدّم ، بمعنى أنّ للعاميّ اختيار إحداهما في مقام العمل.

وأمّا إذا أفتى الميّت بجواز البقاء على تقليد الميّت ، وأفتى الحيّ بوجوب البقاء فهل يمكن أن يعمّ فتوى الحيّ لمسألة جواز البقاء على تقليد الميّت التي أفتى فيها

٣١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

الميّت بالجواز؟ بحيث جاز للعاميّ العدول في غيرها من المسائل إلى الحيّ استنادا إلى فتوى الميّت بجواز العدول والبقاء ، أو أنّه لا يمكن أن تعمّ فتوى الحيّ تلك المسألة ، بل يختصّ اعتبار فتوى الحيّ لسائر فتاوى الميّت في المسائل.

قد يقال بالاختصاص حيث إنّ شمول اعتبار فتوى الحيّ بوجوب البقاء لنفس مسألة ما أفتاه الميّت في مسألة جواز البقاء يوجب أن يكون فتوى الميّت في ساير المسائل حجّة تعيينيّة وتخييريّة حيث إنّ شمول فتوى الحيّ لما أفتى به في ساير المسائل مقتضاه أنّ فتوى الميّت فيها حجّة تعيينيّة ، وشمول فتواه لنفس مسألة جواز البقاء الذي هو فتوى الميّت يوجب كونها حجّة تخييريّة ، ولا يمكن أن يكون فتوى أيّ مفت في مسألة من المسائل أن تكون حجّة تعيينيّة وتخييريّة.

أقول : إنّما لا يكون قول الميّت حجّة في مسألة البقاء على تقليد الميّت ولا في سائر المسائل إذا كان الاستناد بنفس قوله ، وإذا أفتى الحيّ بوجوب البقاء على تقليد الميّت ، وكان قوله حجّة فيها يكون العاميّ برجوعه إلى هذا الحيّ عالما بوظائفه في سائر المسائل التي تعلّم حكمها من الميّت حال حياته كما هو مقتضى الحجّة التعيينيّة ، ولا يعتبر قول الميّت في مسألة جواز البقاء وإن تعلّمه العاميّ من الميّت حال حياته ؛ لأنّ مرجع قول الميّت أنّ العاميّ جاهل بعد موت مجتهده بالوظائف في المسائل ما لم يختر البقاء والرجوع إلى الحيّ ، والمفروض أنّ الحيّ الذي قوله معتبر في البقاء نفى ذلك وأفتى بأنّ العاميّ بعد موت مجتهده عالم بالوظائف وأنّ وظائفه هي التي كانت عليها حال حياة مجتهده.

وبتعبير آخر اختيار البقاء أو الرجوع في المسائل إلى الحيّ وفتوى الميّت في مسألة البقاء موضوعها العاميّ والجاهل بالوظيفة ، وبفتوى الحيّ بوجوب البقاء

٣١٤

.................................................................................................

______________________________________________________

واعتباره كما هو المفروض يخرج العاميّ عن الموضوع الذي ذكر الميّت الحكم له ، فيكون فتوى الحيّ حاكما على فتوى الميّت فتدبّر.

وأمّا إذا كان الأمر بالعكس ، بأن كان فتوى الميّت في مسألة البقاء الوجوب وفتوى الحيّ الجواز ، حيث لا اعتبار بفتوى الميّت في المسائل ومنها مسألة البقاء على التقليد بعد موت المجتهد فيجوز للعاميّ البقاء على فتاوى الميّت أو الرجوع فيها إلى الحيّ.

وبتعبير آخر لا يمكن أن تكون فتاوى مجتهد بالإضافة إلى العاميّ حجة تعيينية وتخييريّة وحيث إنّ قول المجتهد الثاني ليس بحجّة يكون المتّبع قول الحيّ.

نعم إذا كان لفتوى الحيّ في الجواز خصوصيّة ولم تكن تلك الخصوصيّة في فتوى الميّت ، بأن أجاز الحيّ البقاء في خصوص المسائل التي عمل المكلف بها زمان حياة مجتهده ، وفرض أنّ العاميّ قد عمل بفتوى الميّت بوجوب البقاء في حياة المجتهد جاز له البقاء على تقليد المجتهد الثاني في هذه المسألة ، وبذلك تكون فتاوى المجتهد الميّت الأول حجّة في حقّه وإن لم يكن عاملا بها زمان المجتهد الأوّل الذي مات قبل المجتهد الثاني.

وأمّا إذا كان كلّ من الميّت والحيّ الفعليّ قائلا بوجوب البقاء على تقليد الميّت فإن لم يكن بينهما اختلاف في الخصوصيّات أصلا أو كانت الخصوصيّة في فتوى الميّت فقط فلا يعتبر قول الميّت في مسألة البقاء أصلا لعين الوجه المذكور فيما تقدّم في المسألة في صورة تجويز كلّ منهما البقاء على تقليد الميت ، وأمّا إذا كانت الخصوصيّة في فتوى الحيّ فقط ، كما إذا أفتى الحيّ بوجوب البقاء في خصوص المسائل التي عمل العاميّ بها زمان حياة المفتي ، وكان فتوى الميّت وجوب البقاء

٣١٥

(مسألة ١٦) عمل الجاهل المقصّر الملتفت باطل [١] وإن كان مطابقا للواقع ، وأمّا الجاهل القاصر أو المقصّر الذي كان غافلا حين العمل وحصل منه قصد القربة ، فإن كان مطابقا لفتوى المجتهد الذي قلّده بعد ذلك كان صحيحا ، والأحوط مع ذلك مطابقته لفتوى المجتهد الذي كان يجب عليه تقليده حين العمل.

______________________________________________________

سواء عمل بها زمان حياة مجتهده أم لا ، فيمكن أن تصير فتوى الميّت حجّة في مسألة وجوب البقاء على النحو الذي فرضنا في اختلاف الحيّ مع الميّت في فتواهما في خصوصيّة جواز البقاء.

بقي في المقام ما إذا أفتى الحيّ بعدم جواز البقاء على تقليد الميّت بعد موته ، وقد أشرنا في أوّل البحث أنّ فتواه بعدم جواز البقاء على تقليد الميت يوجب الرجوع في تمام المسائل إليه ولا يعتبر شيء من فتاوى الميّت لا في مسألة البقاء على تقليد الميت ، ولا في سائرها ؛ لأنّ معنى عدم جواز البقاء أنّ فتاوى الميّت لا تكون شيء منها حجّة في حقّ العاميّ ، والمفروض أنّ على العاميّ الرجوع في الوقائع التي يبتلي بها إلى أعلم الأحياء ، فإنّ قوله القدر اليقين في الاعتبار بالإضافة إليه ، والله العالم.

حكم الجاهل القاصر والمقصّر

[١] يقع الكلام في المقام تارة في استحقاق الجاهل العقاب على مخالفة الواقع والتكليف الثابت فيه ، بل وفي استحقاقه العقاب على احتمال مخالفته الواقع وإن لم يخالفه اتّفاقا ، واخرى في الحكم بصحة أعماله الصادرة عنه حين الجهل فيما إذا صادفت الواقع.

أمّا الكلام في الجهة الاولى فلا ينبغي التأمّل في أنّ الجهل قصورا لا يوجب استحقاق العقاب على مخالفة الواقع فضلا عمّا إذا لم يخالفه ولو اتّفاقا ، والمراد من

٣١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الجاهل القاصر في المقام من لم يستند في عمله إلى الحجّة الشرعيّة ، كالعاميّ إذا لم يستند في عمله إلى الحجة الشرعيّة ، ولم يكن متمكّنا من الاحتياط ، وأمّا إذا كان مقصّرا بأن لم يستند في عمله إلى الحجة الشرعية من فتوى المجتهد مع تمكّنه منه وترك الاحتياط أيضا كذلك فلا كلام في استحقاقه العقاب على مخالفة الواقع فيما لو تعلّم الفتوى أو أخذ بالاحتياط لم يكن يخالف الواقع ، بل يمكن الالتزام باستحقاق الجاهل العقاب فيما ترك التعلّم وترك الاحتياط ولكن لم يخالف التكليف الواقعيّ اتفاقا حيث إنّ احتمال مخالفة التكليف الواقعي حين ارتكاب العمل من غير حجّة شرعيّة على جواز الارتكاب لا يقصر عن التجرّي ، كمن شرب العصير الزبيبيّ بعد غليانه مع جهله بحليّته ، واحتماله الحرمة حين الارتكاب يعدّ من التجرّي ولو كان في الواقع حلالا.

وأمّا الحكم بصحة أعمال الجاهل فيما إذا أحرز بعد ذلك بطريق معتبر تمام العمل ولو اتّفاقا ، فإن كان العمل المزبور من قبيل المعاملات بالمعنى الأعمّ كالذبيحة التي ذبحها مع الجهل بكيفية الذبح فلا ينبغي التأمّل في ترتيب آثار الصحة عليها ؛ لأنّ المفروض تمامها وعدم اعتبار قصد التقرّب فيها حال العمل ، وكذا إذا ظهر نقصها ولكن كان نقصه قابلا للتدارك كمن غسل ثوبه المتنجس بالبول في الكر مرّة ، فإنّه إذا غسله مرّة ثانية يترتّب عليه طهارته وتذكر أنّ الطريق إلى إحراز صحّتها حين العمل بالإضافة إلى العاميّ فتوى المجتهد الذي يتعيّن عليه فعلا الرجوع إليه ، ولا عبرة بفتوى من كان عليه التعلّم منه حال العمل من غير فرق في ذلك بين الجاهل القاصر والمقصّر.

وأمّا إذا كان العمل السابق من العبادات فقد فصّل الماتن قدس‌سره بين الجاهل القاصر

٣١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

والمقصّر فيما إذا انكشف تمام العمل حينه وأنّ ما أتى به الجاهل كان مطابقا للواقع ، فإنّه حكم بالصحة فيما كان قاصرا أو مقصّرا ولكن كان حين العمل غافلا بحيث حصل منه قصد التقرّب حال العمل ، بخلاف ما إذا كان حين العمل ملتفتا إلى كونه مقصّرا ، فإنّه حكم ببطلان عمله ولو مع انكشاف أنّه كان مطابقا للواقع بعد ذلك ، وكان الوجه في الحكم بالبطلان التفاته حين العمل بكونه مقصّرا فلا يحصل معه قصد التقرب.

ولكن لا يخفى ما فيه ، فإنّ التجرّي يكون بتركه الاحتياط ، كما إذا لم يعلم أنّ وظيفته في الواقع القصر أو التمام ، فإنّ التجري في الفرض يكون بترك صلاة التمام لا بالإتيان بالقصر ، وإنّما أتى بالقصر لرجاء أن تكون وظيفته في الواقع القصر ، وكذا في مورد كون الاحتياط غير مستلزم للتكرار ، كما إذا اقتصر في صلاته على قراءة سورة الحمد خاصة مع احتماله وجوب السورة بعد قراءتها ، فإنّ تجرّيه يكون بترك الاحتياط أي بعدم إعادة الصلاة بعد تلك الصلاة بقراءة السورة بعد الحمد ، لا في الإتيان بالصلاة المأتيّ بها لاحتمال كونها هي الواجب.

وعلى الجملة الإتيان بالعمل لرجاء كونه الواجب يحقّق قصد التقرّب.

ثمّ إحراز العاميّ بالعلم الوجدانيّ بأن ما أتى به في السابق من الأعمال كانت مطابقة للوظائف الواقعية أمر لا يتحقّق ، ويكون إحرازه ذلك بفتوى المجتهد الذي تكون وظيفته الرجوع إليه فعلا ؛ لأنّ رجوعه إلى المجتهد الذي مات بتعلّم فتواه من تقليد الميّت ابتداء ولأنّ تدارك الأعمال أو عدم تداركها بالقضاء أو الإعادة من الوقائع الفعليّة التي ابتلى بها ، والمعتبر فيها قول المجتهد الحيّ فعلا.

نعم ربّما يكون استناد العاميّ في أعماله السابقة إلى فتوى المجتهد السابق ،

٣١٨

(مسألة ١٧) المراد من الأعلم من يكون أعرف بالقواعد والمدارك للمسألة ، وأكثر اطّلاعا لنظائرها وللأخبار ، وأجود فهما للأخبار. واجود فهما للأخبار والحاصل أن يكون أجود استنباطا ، والمرجع في تعيينه أهل الخبرة والاستنباط [١].

(مسألة ١٨) الأحوط عدم تقليد المفضول حتّى في المسألة التي توافق فتواه فتوى الأفضل [٢].

______________________________________________________

بأن كانت تلك الأعمال عن تقليد موجبا لحكم المجتهد الفعليّ بإجزائها على ما تقدّم ، وهذا خارج عن مفروض الكلام في المقام.

لا يقال : إذا فرض كون فتوى المجتهد السابق حجّة كان العمل المطابق له مجزيا سواء استند في العمل إلى فتواه في زمان العمل أو لم يستند إليه كما هو شأن سائر الطرق المعتبرة.

فإنه يقال : قد تقدّم أنّ مقتضى أدلّة إمضاء السيرة في الرجوع إلى أهل الخبرة في الوظائف الشرعيّة كون التعلم في حياة من يرجع إليه مجزيا ـ سواء كان العمل بما تعلّمه منه حال حياته أو بعد مماته ـ وفي غير ذلك لا سبيل إلى كشف الإمضاء.

وعلى الجملة ما يعتبر في حقّ العاميّ بالإضافة إلى صحة أعماله السابقة فتوى المجتهد الذي يتعيّن عليه الرجوع إليه فعلا. نعم رعاية موافقتها لفتوى المجتهد السابق أيضا أحوط.

مسائل التقليد

[١] قد تقدّم في بحث وجوب تقليد الأعلم بيان المراد من الأعلم فراجع.

[٢] قد ذكرنا سابقا أنّ مقتضى ما ورد في جواز تعلّم الحكم ممن يعلمه وأخذ من يؤخذ منه معالم الدين جواز التعلّم من كلّ من الفاضل والمفضول مع عدم العلم ولو إجمالا بمخالفتهما في الفتوى ، وإذا أحرز العاميّ توافقهما في مسائل مما يبتلى بها

٣١٩

(مسألة ١٩) لا يجوز تقليد غير المجتهد وإن كان من أهل العلم ، كما أنّه يجب على غير المجتهد التقليد وإن كان من أهل العلم [١].

______________________________________________________

يجوز له الاستناد فيها إلى كلّ منهما ، فإنّه كما أنّ للمجتهد الاستناد في فتواه إلى كلّ من الخبرين المعتبرين أي للجميع ، كذلك الأمر في العاميّ إذا تعلّم منهما الحكم في تلك المسائل.

نعم إذا لم يحرز توافق الفاضل والمفضول واحتمل مخالفتهما في تلك المسائل فيجوز الأخذ والعمل بالفتوى من كلّ منهما كما هو مقتضى السيرة العقلائيّة في الرجوع إلى أهل الخبرة على ما بيّنا سابقا ، وكذا إطلاق أدلّة الإمضاء بأمر الإمام عليه‌السلام فيها بالرجوع إلى بعض أصحابه في أخذ معالم الدين ، وكذا في الرجوع إلى بعض أصحاب أبيه إلّا أنّه ما لم يحرز الاتفاق لا يجوز الاستناد في عمله إليهما ، بل له أن يختار أحدهما في التعلّم والاستناد في عمله إلى قوله ، وهذا ظاهر.

[١] عدم جواز التقليد من غير المجتهد فلأنّ غير المجتهد ليس من أهل الخبرة في الوقائع بالإضافة إلى الوظائف الشرعيّة المقرّرة فيها بالإضافة إلى المكلّفين ، وما ورد في تعلّم الأحكام والأخذ بمعالم الدين ممن يعلمها هو الرجوع إلى من يعرفها بالطريق المألوف المتعارف في ذلك الزمان من عرفانها بنحو الاجتهاد والاستظهار من الخطابات المأثورة وأقوال المعصومين عليهم‌السلام ولو كان ذلك الاجتهاد قد تطوّر بمرور الزمان لكثرة الوسائط والمناقشات في المقدّمات اللازمة للاجتهاد الموجبة للحاجة إلى تنقيح تلك المقدّمات ، وهذا غير الاعتماد على قول بعض أهل العلم في نقل الفتوى ممن يرجع الناس إليه ويأخذون الفتوى بواسطته ، فإنّ الاعتماد المذكور من باب حجّية خبر الثقة والعدل بالفتوى حيث يجب على مثل هذا العالم التقليد عن المجتهد كالعامي.

٣٢٠