دروس في مسائل علم الأصول - ج ٦

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8438-62-8
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٤٦

كما يظهر من شيخنا العلامة ـ أعلى الله مقامه ـ قال :

أما لو زاحم الترجيح بالصدور الترجيح من حيث جهة الصدور ، بأن كان الأرجح صدورا موافقا للعامة ، فالظاهر تقديمه على غيره وإن كان مخالفا للعامة ، بناء على تعليل الترجيح بمخالفة العامة باحتمال التقية في الموافق ، لأن هذا الترجيح ملحوظ في الخبرين بعد فرض صدورهما قطعا كما في المتواترين ، أو تعبدا كما في الخبرين بعد عدم إمكان التعبد بصدور أحدهما وترك التعبد بصدور الآخر ، وفيما نحن فيه يمكن ذلك بمقتضى أدلة الترجيح من حيث الصدور.

إن قلت : إن الأصل في الخبرين الصدور [١].

______________________________________________________

أوثق أو كان مشهورا بين أصحاب الحديث وكان الخبر الآخر مخالفا للعامّة ، فإنّه يؤخذ بالخبر الذي رواته أوثق أو كان مشهورا بين أصحاب الحديث ، ولا ينظر إلى الآخر الذي فيه مزيّة من حيث جهة الصدور ، فإنّه قدس‌سره قال : أمّا لو زاحم الترجيح بالصدور الترجيح من حيث جهة الصدور ، بأن كان الأرجح صدورا موافقا للعامّة ، والمرجوح صدورا مخالفا لهم فالظاهر تقديم الخبر الذي فيه ترجيح بحسب صدوره ، بناء على ما ورد من تعليل الترجيح بمخالفة العامّة باحتمال التقيّة في الموافق ، فإنه مقتضى هذا التعليل لحاظ الترجيح بمخالفة العامّة في فرض تساويهما صدورا ، كما في الخبرين المقطوع صدورهما أو في خبرين متساويين في التعبّد بالصدور مع عدم إمكان تعيين أحدهما بالتعبد بالصدور ، وهكذا الحال في ساير المرجّحات من مرجّحات غير الصدور ، وإذا كان لأحدهما بعينه مرجّحا من حيث صدوره أمكن بمقتضى أدلة الترجيح التعبّد بصدوره.

[١] هذا من تتمّة كلام الشيخ حيث إنّه قدس‌سره قد شرع في توجيه الاستدلال على ما اختاره الوحيد البهبهاني قدس‌سره ثمّ ردّ ذلك التوجيه ، حيث قال في توجيهه : إنّ الخبرين

٢٠١

فإذا تعبدنا بصدورهما اقتضى ذلك الحكم بصدور الموافق تقية ، كما يقتضي ذلك الحكم بإرادة خلاف الظاهر في أضعفهما ، فيكون هذا المرجح نظير الترجيح بحسب الدلالة مقدما على الترجيح بحسب الصدور.

قلت : لا معنى للتعبد بصدورهما مع وجوب حمل أحدهما المعين على التقية ، لأنه إلغاء لأحدهما في الحقيقة.

______________________________________________________

في مورد تعارضهما متساويان في التعبّد بالصدور ، بمعنى أنّ دليل الاعتبار للخبر سيّان بالإضافة إلى كلّ منهما ، وإذا حصل التعبّد بصدور كلّ منهما اقتضى ذلك الحكم بصدور الموافق للعامّة لرعاية التقيّة ، كما أنّه إذا شمل دليل الاعتبار لكلّ من خطابي العامّ والخاصّ اقتضى ذلك الحكم بإرادة خلاف الظاهر من العامّ ، فيكون الترجيح بمرجّح جهة الصدور نظير الترجيح بحسب الدلالة مقدّما على الترجيح بحسب الصدور ، وردّ هذا التوجيه بقوله : «قلت هذا التعبّد بالصدور غير معقول ولا يقاس بمسألة العامّ والخاصّ ، حيث يعمل بالعامّ في غير مورد دلالة الخاصّ ، فلا يكون التعبّد بصدوره لغوا بخلاف المقام ، وعلى ذلك فينحصر الترجيح بجهة الصدور بما إذا كان الخبران متساويين في الصدور وجدانا ، كما في القطعيين من حيث الصدور ، والمتكافئين من حيث الصدور ، وأمّا إذا كان لأحدهما مزيّة في صدوره يكون مقتضى أدلّة الترجيح التعبّد بصدوره دون الآخر ، ومعه لا تصل النوبة إلى ملاحظة المرجّح من جهة الصدور» انتهى.

وقد أورد بعض تلامذة الشيخ قدس‌سره على جوابه عن الوحيد البهبهاني قدس‌سره بأنّ الجواب غير صحيح وأنّ ما ذكره البهبهاني قدس‌سره هو الصحيح ، والإيراد هو أنّه إذا اعترف الشيخ قدس‌سره بعدم إمكان التعبّد بالخبرين مع حمل أحدهما على التقيّة في صورة الترجيح في الصدور ، فكيف يعقل التعبّد بهما في صورة تكافؤهما في الصدور

٢٠٢

وقال بعد جملة من الكلام :

فمورد هذا الترجيح تساوي الخبرين من حيث الصدور ، إما علما كما في المتواترين ، أو تعبدا كما في المتكافئين من الأخبار ، وأما ما وجب فيه التعبد بصدور أحدهما المعين دون الآخر فلا وجه لإعمال هذا المرجح فيه ، لأن جهة الصدور متفرع على أصل الصدور ، انتهى موضع الحاجة من كلامه ، (زيد في علو مقامه).

وفيه ـ مضافا إلى ما عرفت ـ أن حديث فرعيّة [١].

______________________________________________________

ووجود المزيّة لأحدهما في جهة الصدور؟ ثمّ قال : لا مناص من الالتزام بما ذكر البهبهاني قدس‌سره ؛ لأنّ الخبر الموافق للعامّة لا يمكن الأخذ به قطعا في مقابل الخبر المخالف لهم ؛ لأنّ الموافق إمّا لم يصدر أو صدر لرعاية التقية ، وكيف خفي ذلك على الشيخ قدس‌سره الذي يقرب دقّة نظره من شقّ القمر؟

وأجاب صاحب «الكفاية» قدس‌سره عن الإيراد على الشيخ قدس‌سره بأن نظره أنّ المرجّح لأحد الخبرين في جهة صدوره يكون ملاكا للترجيح في المتكافئين في الصدور أي ما يكون دليل الاعتبار للخبر على حدّ سواء بالإضافة إلى كلّ منهما ، ولا يعمّ إلّا أحدهما ـ ما دلّ على ترجيح أحدهما لوجود مزيّة في صدوره ـ وليس مراده من المتكافئين أن يثبت التعبّد بالصدور في ناحية كلّ من الخبرين فعلا ، وأيضا لا يدور أمر الموافق للعامّة بين عدم الصدور أو صدوره تقيّة ، لإمكان صدوره وكون مضمونه هو الحكم الواقعيّ والآخر المخالف كان غير صادر أو كان المراد خلاف ظاهره ، وإنّما يكون الخبر الموافق لهم كما ذكر ، فيما كان المخالف قطعيّا صدورا ودلالة.

[١] هذا شروع منه قدس‌سره في الردّ على ما ذكره الشيخ قدس‌سره من أنّ الترجيح من جهة الصدور فرع تكافؤ الخبرين في ناحية صدورهما ، وقد ذكر في ردّه أمرين :

٢٠٣

جهة الصدور على أصله إنما يفيد إذا لم يكن المرجح الجهتي من مرجحات أصل الصدور بل من مرجحاتها ، وأما إذا كان من مرجحاته بأحد المناطين ، فأيّ فرق بينه وبين سائر المرجحات؟ ولم يقم دليل بعد في الخبرين المتعارضين على وجوب التعبد بصدور الراجح منهما من حيث غير الجهة ، مع كون الآخر راجحا بحسبها ، بل هو أول الكلام ، كما لا يخفى ، فلا محيص من ملاحظة الراجح من المرجحين بحسب أحد المناطين ، أو من دلالة أخبار العلاج ، على الترجيح بينهما مع المزاحمة ، ومع عدم الدلالة ولو لعدم التعرض لهذه الصورة فالمحكم هو إطلاق التخيير ، فلا تغفل.

وقد أورد بعض أعاظم تلاميذه عليه بانتقاضه بالمتكافئين من حيث الصدور ، فإنه لو لم يعقل التعبد بصدور المتخالفين من حيث الصدور ، مع حمل أحدهما على التقية ، لم يعقل التعبد بصدورهما مع حمل أحدهما عليها ، لأنه إلغاء لأحدهما أيضا في الحقيقة.

______________________________________________________

الأوّل : أنه بناء على التعدّي من المرجّحات المنصوصة إلى غيرها يكون المعيار في ترجيح أحد الخبرين على الآخر أقربيّة أحدهما إلى الواقع بالإضافة إلى الآخر ، أو كون أحدهما مظنون المطابقة ، وإذا كان لأحد الخبرين مزيّة مرجّح في صدوره وللآخر مزيّة في ناحية اخرى ، فلا بدّ من ملاحظة حصول أحد الملاكين للترجيح في أيّ منهما ، ومع عدم حصوله في أيّ منهما فالمتعيّن الرجوع إلى إطلاقات التخيير.

الثاني : ما تقدّم منه قدس‌سره من أنّ جميع المرجّحات على حدّ سواء في كونها موجبة للتعبّد بصدور ذي المزيّة ، وعليه إذا كان لأحد الخبرين مرجّح في ناحية صدوره وللآخر مرجّح في جهة صدوره أو متنه ودلالته ومضمونه يثبت لكلّ من

٢٠٤

وفيه ما لا يخفى من الغفلة ، وحسبان أنه التزم قدس‌سره في مورد الترجيح بحسب الجهة باعتبار تساويهما من حيث الصدور ، إما للعلم بصدورهما ، وإما للتعبد به فعلا ، مع بداهة أن غرضه من التساوي من حيث الصدور تعبدا تساويهما بحسب دليل التعبد بالصدور قطعا ، ضرورة أن دليل حجية الخبر لا يقتضي التعبد فعلا بالمتعارضين ، بل ولا بأحدهما ، وقضية دليل العلاج ليس إلّا التعبد بأحدهما تخييرا أو ترجيحا.

والعجب كل العجب أنه رحمه‌الله لم يكتف بما أورده من النقض ، حتى ادعى استحالة تقديم الترجيح بغير هذا المرجح على الترجيح به ، وبرهن عليه بما حاصله امتناع التعبد بصدور الموافق ، لدوران أمره بين عدم صدوره من أصله ، وبين صدوره تقية ، ولا يعقل التعبد به على التقديرين بداهة ، كما أنه لا يعقل التعبد بالقطعي الصدور الموافق ، بل الأمر في الظني الصدور أهون ، لاحتمال عدم صدوره ، بخلافه.

ثم قال : فاحتمال تقديم المرجّحات السندية على مخالفة العامة ، مع نص الإمام عليه‌السلام على طرح موافقهم ، من العجائب والغرائب التي لم يعهد صدورها من ذي مسكة ، فضلا عمن هو تالي العصمة علما وعملا.

ثم قال : وليت شعري ، إن هذه الغفلة الواضحة كيف صدرت منه؟ مع أنه في جودة النظر يأتي بما يقرب من شق القمر.

______________________________________________________

الخبرين المرجّح للتعبّد بالصدور ، ولم يرد في أخبار الترجيح ما يدلّ على أنّ مع مزاحمة مرجّح الصدور مع المرجّح الآخر كجهة الصدور يتعبّد بما يكون في صدوره رجحان ؛ ولذلك يلزم في موارد ثبوت المرجّح لكلّ منهما في جهة من جهات الخبر ملاحظة حصول أحد الملاكين للترجيح من الظنّ بصدق ذي الترجيح أو الأقربيّة للواقع ، ومع عدم الحصول يرجع إلى إطلاقات التخيير.

٢٠٥

وأنت خبير بوضوح فساد برهانه ، ضرورة عدم دوران أمر الموافق بين الصدور تقية وعدم الصدور رأسا ، لاحتمال صدوره لبيان حكم الله واقعا ، وعدم صدور المخالف المعارض له أصلا ، ولا يكاد يحتاج في التعبد إلى أزيد من احتمال صدور الخبر لبيان ذلك بداهة ، وإنما دار احتمال الموافق بين الاثنين إذا كان المخالف قطعيا صدورا وجهة ودلالة ، ضرورة دوران معارضه حينئذ بين عدم صدوره وصدوره تقية ، وفي غير هذه الصورة كان دوران أمره بين الثلاثة لا محالة ، لاحتمال صدوره لبيان الحكم الواقعي حينئذ أيضا.

ومنه قد انقدح إمكان التعبد بصدور الموافق القطعي لبيان الحكم الواقعي أيضا ، وإنما لم يكن التعبد بصدوره لذلك إذا كان معارضه المخالف قطعيا بحسب السند والدلالة ، لتعيين حمله على التقية حينئذ لا محالة ، ولعمري إن ما ذكرنا أوضح من أن يخفى على مثله ، إلّا أن الخطأ والنسيان كالطبيعة الثانية للإنسان ، عصمنا الله من زلل الأقدام والأقلام في كل ورطة ومقام.

ثمّ إنّ هذا كلّه إنما هو بملاحظة أن هذا المرجح مرجح من حيث الجهة [١].

______________________________________________________

[١] وحاصل ما ذكره قدس‌سره أن ما تقدّم من تساوي المرجّح في ناحية الصدور مع المرجّح في ناحية جهة الصدور ـ في أنّه مع تحقّق أحدهما في أحد الخبرين وتحقّق الآخر في الخبر الآخر من ملاحظة حصول أحد المناطين وعدم حصوله في ناحية أحدهما ، فيرجّح مع حصوله ، ويتخيّر بينهما مع عدم حصوله ـ كان مبنيّا على أنّ مخالفة أحد الخبرين للعامّة مرجّح في مقام معارضة الخبرين كسائر المرجّحات ، وأمّا بناء على أن مخالفة مدلول أحد الخبرين للعامّة وموافقة الآخر لهم يوجب كون الخبر المخالف أظهر في الكشف عن الحكم في مقام الثبوت بالإضافة إلى الآخر ، حيث يحتمل التورية في الخبر الموافق دون الخبر المخالف ، فربّما يقال : إنّ هذه

٢٠٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الموارد خارجة من المتعارضين ، ويدخل الخبران في موارد تقديم الأظهر على الظاهر.

وبتعبير آخر في الخبر الموافق للعامّة يكون المراد منه ما يجتمع مع الخبر المخالف ، ولكن هذه الإرادة تكون بنحو التورية ، فاحتمال التورية فيه يكون موجبا لكون الخبر المخالف أظهر ؛ لعدم احتمال التورية فيه ، فيقدّم الأظهر ويحمل الظاهر عليه ، نظير حمل العامّ على الخاصّ والمطلق على المقيّد ، حيث لا يوجب هذا الحمل عدم التعبّد بصدور خطاب العامّ أو خطاب المطلق.

ولكن لا يخفى ما في هذا القول فإنّه مبني على لزوم التورية على الإمام عليه‌السلام في مقام التقيّة في بيان الحكم الشرعيّ ، وهذا أمر لم يثبت ، وأيضا مجرّد احتمال التورية في الخبر الموافق للعامّة لا يوجب كون الخبر الآخر أظهر ، فإنّه كما تقدّم أن الأظهريّة تحتاج إلى انس الأذهان بأنّه قرينة على المراد من الخطاب الآخر ، ككون الخاصّ قرينة على بيان المراد الجدّي من العامّ ، وكذا الحال في خطاب المقيّد بالإضافة إلى خطاب المطلق ، وليس الحال في الخبر المخالف للعامّة كذلك ، وقياس المقام بمقام خطابي العامّ والخاصّ أو المطلق والمقيّد بلا وجه ، أضف إلى ذلك أنّ التعبّد بصدور خبر ثمّ حمله على التورية لغو محض ، ولا يقاس بخطاب العامّ أو خطاب المطلق ، فإنّ التعبّد بصدور خطاب العامّ أو المطلق ليؤخذ به مع عدم ورود الخاصّ أو المقيّد على خلافه ، وموارد إجمال الخاصّ والمقيّد ودوران أمرهما بين الأقلّ والأكثر ، غرض صحيح على المتكلم بخطاب المطلق والمقيّد ؛ ولذا يمكن التعبّد بخطابهما في موارد عدم الثبوت الوجدانيّ. وبتعبير آخر التعبّد بخطاب كلّ من العامّ والخاصّ من قبيل التعبّد بالقرينة وذي القرينة.

٢٠٧

وأمّا بما هو موجب لأقوائية دلالة ذيه من معارضه ، لاحتمال التورية في المعارض المحتمل فيه التقية دونه ، فهو مقدم على جميع مرجحات الصدور ، بناء على ما هو المشهور من تقدم التوفيق ـ بحمل الظاهر على الأظهر ـ على

______________________________________________________

في المرجّحات المنصوصة ولزوم الترتيب بينها

ثمّ إنّه قد ظهر مما ذكرنا سابقا عدم ثبوت التخيير بين المتعارضين أصلا ، نعم يؤخذ من المتعارضين بالمشهور رواية منهما في المتعارضين ، كما ورد ذلك في مقبولة عمر بن حنظلة التي لا يبعد اعتبارها ، لكون عمر بن حنظلة من المشاهير الذين لم يرد في حقهم قدح ، ومع تساوي الخبرين في الصدور يؤخذ بما وافق الكتاب والسنة ، ومع عدم كون أحدهما كذلك يؤخذ بما خالف العامّة ، ويدلّ على الترجيح بموافقة الكتاب ثمّ بمخالفة العامة ما رواه القطب الراوندي بسنده عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن الصادق عليه‌السلام : «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فردّوه ، فإن لم تجدوهما في كتاب الله فأعرضوهما على أخبار العامّة ، فما وافق أخبارهم فذروه وما خالف أخبارهم فخذوه» (١) ويستفاد من مقبولة عمر بن حنظلة أن مع تساوي الخبرين في الشهرة يكون كلّ من موافقة الكتاب والسنة أو مخالفة العامة مرجّحا ، ولكن يحمل على أنّ كلّا منها مرجّح مستقل بقرينة معتبرة السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام الدالة على أنّ موافقة الكتاب بنفسها مرجّح ، ودلالة ذيل الموثّقة على أنّ مخالفة العامّة بنفسها مرجح إذا كان الخبر الآخر موافقا لهم ، وموافقة السنة أيضا تكون مرجّحة مستقلا ، وإلّا يكون ضمّها في المقبولة إلى موافقة الكتاب كضمّ

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٩.

٢٠٨

الترجيح بها ، اللهمّ إلّا أن يقال : أن باب احتمال التورية وإن كان مفتوحا فيما احتمل فيه التقية ، إلّا أنه حيث كان بالتأمل والنظر لم يوجب أن يكون معارضه أظهر ، بحيث يكون قرينة على التصرف عرفا في الآخر ، فتدبر.

______________________________________________________

الحجر إلى الإنسان.

وعلى ما ذكر يتعيّن الأخذ بما ورد في المقبولة ومعتبرة السكوني ، وما في رسالة القطب الراوندي وتقييد إطلاق المعتبرة بما في المقبولة من ملاحظة الشهرة وعدمها في المتعارضين أوّلا ثمّ ملاحظة موافقة الكتاب ، نعم كون المرجّح بعد موافقة الكتاب والسنة مخالفة العامّة ، بمعنى أنّه لا عبرة بمخالفة العامّة مع كون الخبر الآخر موافقا للكتاب يستفاد من رواية القطب الراوندي بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال : قال الصادق عليه‌السلام : «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله ، فما وافق الكتاب فخذوه ، وما خالف كتاب الله فردّوه ، فإن لم تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامّة ، فما وافق أخبارهم فذروه وما خالف أخبارهم فخذوه» (١) ولكنّ السند لا يخلو عن المناقشة ، وفي استفادة هذا النحو من الترتيب من مقبولة عمر بن حنظلة (٢) تأمّل ، لأنّ الترتيب فيها مفروض في كلام السائل.

وأمّا معتبرة السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ على كلّ حقّ حقيقة وعلى كلّ صواب نورا ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فدعوه» (٣) ، فالاستدلال بها مبني على كونها ناظرة إلى صورة المتعارضين أو إطلاقهما.

__________________

(١) مرّ تخريجه في الصفحة السابقة.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٦ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأول.

(٣) المصدر السابق : ١٠٩ ، الحديث ١٠.

٢٠٩
٢١٠

فصل

موافقة الخبر لما يوجب الظن بمضمونه ولو نوعا من المرجّحات في الجملة [١].

______________________________________________________

ترجيح أحد المتعارضين على الآخر بالظن غير المعتبر

[١] المرجّح لمضمون أحد المتعارضين بالإضافة إلى الآخر على ما ذكر الماتن قدس‌سره ثلاثة أنحاء : الأوّل ما يوجب الظن بمضمون الخبر بظن شخصيّ أو نوعيّ مع عدم الدليل على اعتبار ذلك الظن الشخصيّ أو النوعيّ ، كما إذا كان مضمون أحد الخبرين موافقا لفتوى المشهور ، وذكر أنّ هذا القسم من الظن يوجب الأخذ بأحد المتعارضين بناء على التعدّي من المرجّحات المنصوصة ، أو قيل بأنّ مع كون أحد الخبرين كذلك يدخل ذلك الخبر في أقوى الدليلين المجمع على الأخذ به عند الدوران ، ولكن شيء منهما غير تامّ ، فإنّه لم يتمّ ما يوجب التعدّي من المرجّحات المنصوصة إلى غيرها ، وإنّ الموافقة المزبورة غايتها الظن بصدق ذلك الخبر ، وليس الظن بالصدق موجبا لأقوائيّة أحد المتعارضين في الدلالة والكشف عن مقام الثبوت بحيث يكون ذلك الخبر أظهر دلالة ، ويحسب قرينة على التصرف في الآخر ، نظير ما تقدّم في موارد الجمع العرفيّ بين الخطابين.

لا يقال : الظن بصدق أحد الخبرين بعينه لازمه الظن بالخلل في الآخر من حيث صدوره أو جهة صدوره أو ظهوره.

فإنه يقال : لا يعتبر في اعتبار الخبر إلّا احتمال كونه مطابقا للواقع في صدوره وجهة صدوره وظهوره ، فلا يوجب الظن بصدق أحد الخبرين سقوط الآخر عن ملاك الاعتبار.

وربّما يقال : إذا كان أحد المتعارضين من الخبر مطابقا لفتوى المشهور يتعيّن

٢١١

بناء على لزوم الترجيح لو قيل بالتعدي من المرجحات المنصوصة ، أو قيل بدخوله في القاعدة المجمع عليها كما ادعي ، وهي لزوم العمل بأقوى الدليلين ، وقد عرفت أن التعدي محل نظر بل منع ، وأن الظاهر من القاعدة هو ما كان الأقوائية من حيث الدليلية والكشفية ، ومضمون أحدهما مظنونا ، لأجل مساعدة أمارة ظنية عليه ، لا يوجب قوة فيه من هذه الحيثية ، بل هو على ما هو عليه من القوة لو لا مساعدتها ، كما لا يخفى ، ومطابقة أحد الخبرين لها لا يكون لازمه الظن

______________________________________________________

الأخذ به وترك الآخر ؛ لأنّ قوله عليه‌السلام في مقبولة عمر بن حنظلة : «خذ بما اشتهر بين أصحابك» يعمّ الشهرة في نقل الخبر والعمل بمفاده ومدلوله.

ولكن قد تقدّم أنّ فرض الشهرة في كلا الخبرين فيها قرينة على إرادة الشهرة في النقل فقط ، بل ظاهر الرواية المشهورة هو الشهرة في نقلها فقط ، فلا مجال لدعوى أنّ فرض الشهرة في كلا المتعارضين ينافي اختصاص ما ورد في المقبولة بالشهرة الفتوائيّة ، ولا ينافي عمومها لها.

وأمّا ما يقال من أنّ إعراض المشهور عن أحد المتعارضين وترك العمل به يكشف عن الخلل فيه والمراد من المشهور عمدة قدماء الأصحاب حيث إنّ ثبوت القرينة في عصرهم على صحة خبر محتمل ، لقرب عصرهم من زمان صدور الأخبار ، بل لا يعتبر خبر أعرضوا عنه وإن لم يكن له معارض ، لا يمكن المساعدة عليه ؛ لما ورد في كلمات بعضهم من عدّ بعض الامور قرينة على صحة الخبر لكون مضمونه موافقا للاحتياط أو الأصل أو نحوهما ، ومع ذلك لا يمكن الوثوق والاطمينان بعثورهم على خلل في الخبر الآخر ، وأنّ ذلك الخلل لم يصل إلينا ، نعم لو فرض في مورد حصول الوثوق والاطمينان بذلك يتّبع ، ولكن ليس هذا أمرا كلّيا بالإضافة إلى جميع موارد الإعراض أو أمرا غالبيّا فيها.

٢١٢

بوجود خلل في الآخر ، إما من حيث الصدور ، أو من حيث جهته ، كيف؟ وقد اجتمع مع القطع بوجود جميع ما اعتبر في حجية المخالف لو لا معارضة الموافق ، والصدق واقعا لا يكاد يعتبر في الحجية ، كما لا يكاد يضرّ بها الكذب كذلك ، فافهم. هذا حال الامارة الغير المعتبرة لعدم الدليل على اعتبارها.

أمّا ما ليس بمعتبر بالخصوص لأجل الدليل على عدم اعتباره بالخصوص كالقياس ، فهو وإن كان كالغير المعتبر لعدم الدليل [١].

______________________________________________________

موافقة أحد الخبرين بما قام الدليل على عدم اعتباره

[١] وحاصله جريان ما تقدّم في المرجّح الذي لم يتمّ دليل اعتباره مستقلّا فيما قام الدليل على عدم اعتباره خصوصا ، كما في القياس فإنّ المرجّح السابق إن كان موجبا لدخول أحد الخبرين في أقوى الدليلين أو كونه أقرب إلى الواقع بالإضافة إلى الآخر كان الأمر كذلك فيما قام الدليل الخاصّ على عدم اعتباره ، ولكن مع ذلك لا يمكن جعل القياس مرجّحا لأحد الخبرين ؛ لأنّ الأخبار الناهية عن استعمال القياس في الدين تمنع عن ذلك ، حيث إنّ ترجيح أحد الخبرين بالقياس تعيين الحجّة به ، فيكون استعمالا له في المسألة الاصوليّة ، وخطره ليس بأقلّ من استعماله في المسألة الفرعيّة أي تعيين الحكم الشرعي الفرعيّ بالقياس ، ولا يقاس استعمال القياس وتعيين الحجّة من الخبرين به بالقياس في إحراز الموضوع للمسألة الفرعيّة التي يكون الموضوع لها من الموضوعات الصرفة أي الخارجيّة التي لا ترتبط بالمجعولات الشرعية ، بدعوى أنّه كما لا يعيّن بالقياس في موضوع المسألة الفرعيّة نفس الحكم الشرعي الفرعيّ الكلّي كذلك بالقياس في ترجيح أحد الخبرين ، يتعيّن الموضوع للمسألة الاصوليّة ، لا أنّه يتعيّن به نفس الحكم الشرعيّ الاصوليّ ، والوجه في عدم القياس أنّ تعيين الحجّة على الحكم الشرعيّ الفرعيّ الكلّي نحو استعمال

٢١٣

بحسب ما يقتضي الترجيح به من الأخبار بناء على التعدي ، والقاعدة بناء على دخول مظنون المضمون في أقوى الدليلين ، إلّا أن الأخبار الناهية عن القياس وأن السنة إذا قيست محق الدين ، مانعة عن الترجيح به ، ضرورة أن استعماله في ترجيح أحد الخبرين استعمال له في المسألة الشرعية الأصولية ، وخطره ليس بأقل من استعماله في المسألة الفرعية.

______________________________________________________

للقياس في الدين ، بخلاف تعيين الموضوع للحكم الشرعيّ الفرعيّ بمعنى إحراز حصوله خارجا ، فإنّه ليس من استعمال القياس في الدين ، فإن الدين نفس الحكم الشرعيّ الفرعيّ الكلّي لا حصول الموضوع له خارجا.

أقول : قد ذكرنا في مبحث اعتبار الظنّ أنّ النهي عن اتّباع القياس في الدين نهي طريقيّ ، بمعنى أنّ القياس لا يكون علما بالواقع اعتبارا ، ليكون منجّزا عند الإصابة أو عذرا في مخالفة الواقع عند خطئه ، وأمّا كونه موجبا لدخول أمر آخر في عنوان يكون ذلك الأمر بذلك العنوان منجّزا أو معذّرا فلا تعرّض لذلك في الأخبار الناهية عن العمل بالقياس ، مثلا إذا فرض أنّ الشارع اعتبر أقرب الخبرين المتعارضين أو أقوى الدليلين ، وكانت موافقة القياس موجبة لكون أحد الخبرين كذلك ، فلا بأس بالأخذ بذلك الخبر إلّا أنّ الصغرى ممنوعة ، حيث إنّ القياس بملاحظة ما ورد فيه من قصور إدراك العقل عن الإحاطة بملاكات الأحكام لا يوجب قرب مضمون أحد الخبرين إلى الواقع فضلا عن إدخاله في أقوى الدليلين.

وبهذا يظهر الحال في الاعتماد على القياس في صغرى المسألة الفرعيّة أي إحراز فعليّة الموضوع لها خارجا ، فإنّ القياس في الفرض لم يكن في تحصيل ملاك الحكم الشرعي الفعليّ ، فلا بأس بالاعتماد عليه فيما اكتفى الشارع في إحراز ذلك الموضوع بالظنّ ، كما في باب الصلاة بالإضافة إلى إحراز القبلة ، حيث ورد في

٢١٤

وتوهم أن حال القياس هاهنا ليس في تحقق الأقوائية به إلّا كحاله فيما ينقح به موضوع آخر ذو حكم ، من دون اعتماد عليه في مسألة أصولية ولا فرعية ، قياس مع الفارق ، لوضوح الفرق بين المقام والقياس في الموضوعات الخارجية الصرفة ، فإن القياس المعمول فيها ليس في الدين ، فيكون إفساده أكثر من إصلاحه ، وهذا بخلاف المعمول في المقام ، فإنه نحو إعمال له في الدين ، ضرورة أنه لو لاه لما تعين الخبر الموافق له للحجية بعد سقوطه عن الحجيّة بمقتضى أدلة الاعتبار ، والتخيير بينه وبين معارضه بمقتضى أدلّة العلاج ، فتأمل جيدا.

وأمّا ما إذا اعتضد بما كان دليلا مستقلا [١].

______________________________________________________

الصحيح كفاية التحرّي إذا لم يعلم وجه القبلة ، ولا يعمّه النهي عن القياس في الدين ، فإنّ النهي راجع إلى تحصيل ملاكات الأحكام الشرعية بالقياس لينقل منها إلى نفس الأحكام الشرعيّة.

ثمّ إنّه لا يكاد ينقضي التعجّب مما ذكر الماتن قدس‌سره من أنّ خطر استعمال القياس في تعيين الحجّة ليس بأقلّ من استعماله في نفس الأحكام الشرعيّة ، مع أنّه قدس‌سره بنى على التخيير بين المتعارضين من الخبرين ، ومعنى التخيير صيرورة المأخوذ منهما حجّة بالأخذ ، فالمأخوذ المطابق للقياس حجّة سواء كان القياس مرجّحا أم لا ، فأيّ خطر في ذلك؟

[١] وحاصل ما ذكره قدس‌سره أنه إذا كان أحد الخبرين المتعارضين متعاضدا بما يكون دليلا مستقلّا كموافقته الكتاب والسنة ، فلا ينبغي التأمّل في عدم اعتبار الخبر الآخر وأنّه غير حجة ، بل لو كان الخبر الآخر منافيا للكتاب والسنة بالتباين فلا يكون حجّة حتّى فيما إذا لم يكن في البين الخبر الموافق ، كما يقتضي ذلك مثل قوله عليه‌السلام في صحيحة هشام وغيره عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بمنى فقال :

٢١٥

.................................................................................................

______________________________________________________

أيّها الناس ، ما جاءكم عنّي يوافق كتاب الله فأنا قلته ، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله» (١) وقوله عليه‌السلام في صحيحة أيوب بن الحرّ قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «كلّ شيء مردود إلى كتاب الله والسنة ، وكلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف» (٢) إلى غير ذلك.

وأمّا إذا كانت مخالفة الخبر للكتاب والسنة في العموم والإطلاق ، بأن كان أحد الخبرين مخالفا لعمومهما أو إطلاقهما والخبر الآخر موافقا ، كما إذا ورد في رواية : لا بأس بالربا بين الزوج والزوجة (٣) ، وورد في خبر آخر : أنّ آكل الربا ومعطيه في النار وإن كانا زوجا وزوجة ، فمقتضى القاعدة الأوّلية ـ أي مع قطع النظر عن الأخبار الواردة في الأخذ من المتعارضين بما يوافق كتاب الله ـ هو ملاحظة ساير المرجّحات بين الخبرين المتعارضين ، فإن كان في مخالف عموم الكتاب أو إطلاقه ونحو ذلك شيء من تلك المرجّحات يؤخذ به ، ويرفع اليد به عن عموم الكتاب أو إطلاقه ، بناء على ما هو الصحيح من جواز تخصيص عموم الكتاب أو تقييد إطلاقه بالخبر الواحد ، وإن لم يكن لأحد الخبرين ترجيح بالإضافة إلى الآخر يؤخذ بأحدهما تخييرا ، فإن اخذ بالمخالف يقع التخصيص والتقييد في الكتاب. وأمّا بالنظر إلى ما ورد في المتعارضين من الخبرين فمقتضى ذلك أن يؤخذ في الفرض بالخبر الموافق للكتاب والسنة بناء على أنّ ما ورد ، في مقام ترجيح أحد الخبرين المتعارضين على

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١١١ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٥.

(٢) المصدر السابق : الحديث ١٤.

(٣) وسائل الشيعة ١٨ : ١٣٥ ـ ١٣٦ ، الباب ٧ من أبواب الربا ، الحديث ٣ و ٥.

٢١٦

في نفسه ، كالكتاب والسنة القطعية ، فالمعارض المخالف لأحدهما إن كانت مخالفته بالمباينة الكلية ، فهذه الصورة خارجة عن مورد الترجيح ، لعدم حجية الخبر المخالف كذلك من أصله ، ولو مع عدم المعارض ، فإنه المتيقن من الأخبار الدالة على أنه زخرف أو باطل ، أو أنّه : لم نقله ، أو غير ذلك.

______________________________________________________

الآخر.

نعم بناء على أنّ هذه الطائفة كالطائفة الدالّة على عرض مطلق الخبر على كتاب الله فإن وافقه فهو ، وإلّا فهو باطل أو زخرف في مقام تعيين الحجّة عن اللاحجّة ، فلا تكون موافقة الكتاب مرجّحا ، ويؤيّد كون الأخبار الدالّة على الأخذ بموافق الكتاب من المتعارضين في مقام تعيين الحجّة عن اللاحجة ، لا في مقام ترجيح أحد الخبرين المتعارضين ، أنّ الطائفتين لسانهما واحد ، فلا وجه لحمل المخالفة في أحدهما على غير المخالفة في الاخرى ، بأن يقال إنّ ما ورد في بيان الترجيح ، المراد من المخالفة فيه المخالفة لعموم الكتاب أو إطلاقه ونحو ذلك ، وما ورد في تعيين الحجّة عن اللاحجّة المراد من المخالفة فيه هو تباين مدلول الخبر للكتاب أو كون النسبة العموم من وجه.

اللهم إلّا أن يقال التفرقة في المراد للقطع بأنّ الأخبار الدالّة على أنّ مخالف القرآن زخرف باطل لم نقله لا يمكن أن يعمّ الخاصّ الذي يخالف عموم القرآن أو المقيّد الدّال على تقييد إطلاق الكتاب ، لصدور هذا القسم من الأخبار عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام يقينا في موارد عديدة ، وإباء مثل تلك الأخبار عن التخصيص ، فلا محالة يتعيّن أن يكون المراد من المخالفة للكتاب فيها المخالفة بنحو التباين ، وعلى ذلك تنقسم الأخبار المشار إليها إلى طائفتين ، فالطائفة الاولى تختصّ بما خالف الكتاب بالتباين ، والطائفة الثانية لا تعمّ صورة التباين بل لا تعمّ ما إذا كان بين

٢١٧

وإن كانت مخالفته بالعموم والخصوص المطلق ، فقضية القاعدة فيها ، وإن كانت ملاحظة المرجحات بينه وبين الموافق وتخصيص الكتاب به تعيينا أو تخييرا ، لو لم يكن الترجيح في الموافق ، بناء على جواز تخصيص الكتاب

______________________________________________________

مدلول الخبر ومدلول الكتاب العموم من وجه ، فيلحق هذا القسم من الخبر بالطائفة الاولى ، بالإضافة إلى مورد اجتماعهما.

أقول : ما ورد في المقبولة من الأمر بالأخذ بما يوافق الكتاب بعد فرض السائل تساوي الحكمين في الصفات وتساوي الخبرين في الشهرة شاهد قطعي على أنّ المراد من مخالفة الكتاب ليس الخبر المخالف له بالتباين ؛ لعدم اعتبار هذا النحو من الخبر أصلا ، ولو كان هذا هو المراد ينبغي للإمام عليه‌السلام التعرض لذلك قبل ترجيح الحكمين في الصفات والخبرين بالشهرة وعدمها ، فالمتعيّن في المقبولة أن يكون المراد بالخبر المخالف للكتاب هو المخالف لعمومه أو إطلاقه ونحو ذلك.

الفرق بين كون موافقة الكتاب مرجّحا أو مرجعا

لا يقال : لا مجال لجعل موافقة أحد الخبرين المتعارضين للكتاب أو السنة مرجّحا ، فإنّ المتعارضين إذا لم يكن بينهما ترجيح من ساير الجهات يتعيّن العمل بعموم الكتاب أو إطلاقه بناء على سقوط المتعارضين عن الاعتبار عند التعارض وفقد المرجّح ، فلا أثر لجعل موافقة أحد الخبرين مرجّحا بالإضافة إلى معارضه.

فإنّه يقال : تظهر الثمرة بين كون موافقة الكتاب مرجّحا لأحد الخبرين أو مرجعا بعد تساقطهما عن الاعتبار فيما إذا كان في البين خبر عامّ يكون خاصّا بالإضافة إلى عموم الكتاب أو إطلاقه ، بحيث يرفع اليد به عن عموم الكتاب وإطلاقه ، وكان في البين خبران متعارضان كلّ منهما أخصّ بالإضافة إلى الخبر العامّ المفروض ، وكان أحد الخبرين موافقا لعموم الكتاب أو إطلاقه ، كما إذا ورد في خبر : أن الخفقة

٢١٨

بخبر الواحد ، إلّا أن الأخبار الدالة على أخذ الموافق من المتعارضين غير قاصرة عن العموم لهذه الصورة ، لو قيل بأنها في مقام ترجيح أحدهما لا تعيين الحجة عن اللاحجة ، كما نزلناها عليه ، ويؤيده أخبار العرض على الكتاب الدالة على عدم حجية المخالف من أصله ، فإنهما تفرغان عن لسان واحد ، فلا وجه لحمل

______________________________________________________

والخفقتين لا توجب الوضوء (١) ، وورد في خبر آخر أنّهما توجبانه ، فالدالّ على كونهما موجبتين له موافق لإطلاق الآية المباركة ، فعلى تقدير كون موافقة الكتاب مرجّحا يؤخذ بالخبر الدّال على وجوب الوضوء بهما ، ويرفع اليد به عن إطلاق المستثنى منه في قوله عليه‌السلام : لا ينقض الوضوء إلّا البول والغائط والريح والجنابة والنوم (٢) ، فإنّ مدلوله أنّ غير الخمسة لا ينقض الوضوء ولا يوجبه إلّا الخفقة ، بخلاف ما إذا قيل بتساقط الخبرين وكون الكتاب مرجعا ، فإنّه على ذلك لا تصل النوبة إلى الأخذ بعموم الكتاب وإطلاقه ، بل يرجع إلى إطلاق المستثنى منه في الخبر الدّال على حصر النواقض ، فإنّ هذا الخبر بالإضافة إلى الكتاب أخصّ كما لا يخفى ، فتكون النتيجة عدم كونهما موجبتين للوضوء ، ولا بدّ من الالتزام بكون موافقة الكتاب مرجّحة لأحد الخبرين لا مرجعا ، كما هو ظاهر مقبولة عمر بن حنظلة بل وغيرها ، حيث أمر سلام الله عليه فيها بالأخذ بالخبر الموافق.

بقي في المقام أمر وهو ما قيل من أنّ المرجّح لأحد المتعارضين في الخبر موافقة العموم الوضعيّ للكتاب ولا تفيد موافقة إطلاقه ؛ لأنّ الإطلاق غير داخل في مدلول الكتاب أي مدلول ألفاظه ، بل هو حكم عقليّ يترتّب عقلا على تماميّة مقدمات الحكمة في ناحية المطلق ، وما هو من الكتاب المدلول عليه لذات المطلق

__________________

(١) انظر وسائل الشيعة ١ : ٢٥٤ ، الباب ٣ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ٨.

(٢) المصدر السابق : ٢٥١ ، الباب ٢ ، الحديث ٨.

٢١٩

المخالفة في أحدهما على خلاف المخالفة في الأخرى ، كما لا يخفى.

اللهمّ إلّا أن يقال : نعم ، إلّا أن دعوى اختصاص هذه الطائفة بما إذا كانت المخالفة بالمباينة ـ بقرينة القطع بصدور المخالف الغير المباين عنهم عليهم‌السلام كثيرا ، وإباء مثل : ما خالف قول ربنا لم أقله ، أو زخرف أو باطل عن التخصيص ـ غير بعيدة ، وإن كانت المخالفة بالعموم والخصوص من وجه ، فالظاهر أنها كالمخالفة في الصورة الاولى كما لا يخفى [١].

______________________________________________________

لا إطلاقه ، ولا يخفى أنّه قد تقدّم في بحث المطلق والمقيّد أنّ مقدّمات الحكمة تحسب قرينة للمدلول الاستعماليّ ويتمّ بها هذا الظهور ، بحيث يصحّ أن ينسب مقتضى تلك القرينة إلى بيان المولى كما يصحّ ذلك في القرينة الحاليّة والعقليّة الخاصّة مثل قوله سبحانه : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(١).

في الخبر إذا كانت النسبة بينه وبين الكتاب العموم من وجه

[١] إذا كانت مخالفة الخبر للكتاب المجيد بالعموم من وجه فيسقط الخبر عن الاعتبار في مورد الاجتماع ولو لم يكن للخبر معارض من الأخبار ، فإنّه بالإضافة إلى مورد اجتماعه مع الكتاب زخرف وباطل إلى غير ذلك من الأخبار المتواترة إجمالا ، ولا ينافي عدم اعتباره بالإضافة إلى مورد الاجتماع دخوله في أدلّة اعتبار الخبر بالإضافة إلى مورد افتراقه كما بيّنا سابقا ، وعلى ذلك فإن كان للخبر المفروض معارض آخر من الخبر ، بأن كانت النسبة بين الخبرين التباين ، كما إذا ورد في خبر : أنّ الربيبة حرام (٢) ، وفي الخبر الآخر لا تحرم الربيبة ، وحيث إنّ إطلاق عدم حرمة

__________________

(١) سورة يوسف : الآية ٨٢.

(٢) انظر وسائل الشيعة ٢٠ : ٤٥٨ ، الباب ١٨ من أبواب ما يحرم ، الحديث ٣ و ٤ و ٦.

٢٢٠