دروس في مسائل علم الأصول - ج ٦

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8438-62-8
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

المتعارضين والقضاء على مقتضى مفاده ، فترفع المخاصمة بين المترافعين ، ولكن لا يخفى ما فيه ، فإنّ المفروض في المقبولة تعدّد الحاكم والمخاصمة عندهما بتراضي المترافعين بحكمهما باختيار أحدهما من قبل أحدهما واختيار الآخر من قبل الآخر وأنّهما اختلفا في الحكم ولا مزيّة لأحد الحاكمين على الآخر في الصفات من العدالة والوثوق والفقاهة ، فأرجع الإمام عليه‌السلام المترافعين إلى النظر في مستند الحكمين والأخذ بالرواية التي لها مزيّة على الآخر بحسب ما ذكر فيها من المرجّحات ، وبعد تساوي الروايتين في المرجّحات فلا يفيد الحكم بالتخيير بين الروايتين حتّى بناء على التخيير في المسألة الاصوليّة. وعلى الجملة إنّما ترتفع المنازعة في غير صورة تعدّد الحاكم فيما كان التخيير في المسألة الاصوليّة ، وأمّا مع تعدّده كما في مفروض الرواية فلا ؛ لأنّ كلّا من الحاكمين أو من المترافعين يختار لما هو أصلح بالإضافة إليه ، أو من ترافع إليه ورضي بقضائه.

وقد ظهر ممّا ذكرناه أنّ المذكور في المقبولة أوّلا من مرجّحات أحد الحكمين على الحكم الآخر بصفات القاضي ، وبعد تساويهما في الصفات المذكور فيها من مرجّحات إحدى الروايتين على الاخرى في مقام المعارضة ، وحيث إنّ ظاهر المقبولة أنّ المنشأ بين المتخاصمين جهلهما بحكم الواقعة بالشبهة الحكميّة فلا يحتاج رفعها إلى القضاء بل يكفي المراجعة إلى من يعتبر فتواه أو يعتبر مستند فتواه إن أمكن للمراجع استفادة الحكم من ذلك المستند ، وعلى ذلك فلا يحتمل الفرق في الترجيح في الفتوى بين أن يكون في تلك الواقعة مرافعة أم لا ، وكذا في ترجيح المستند ، سواء قيل بعد فقد الترجيح في الخبرين بتساقطهما أو بالاحتياط أو بالتخيير ، فما عن الماتن قدس‌سره من احتمال اختصاص الترجيح في خصوص باب القضاء

١٤١

لقوة احتمال اختصاص الترجيح بها بمورد الحكومة لرفع المنازعة وفصل الخصومة كما هو موردهما ، ولا وجه معه للتعدي منه إلى غيره ، كما لا يخفى.

ولا وجه لدعوى تنقيح المناط ، مع ملاحظة أن رفع الخصومة بالحكومة في صورة تعارض الحكمين ، وتعارض ما استندا إليه من الروايتين لا يكاد يكون

______________________________________________________

والمرافعة لا يمكن المساعدة عليه ، هذا بالإضافة إلى المقبولة ، وقد ذكرنا في بحث القضاء عدم التوثيق لعمر بن حنظلة ، وأنّ دعوى انجبار ضعفها بعمل المشهور المنكشف عن فتواهم بحرمة ما يأخذه الشخص بالمحاكمة إلى قضاة الجور وإن كان حقّه ثابتا لا يمكن المساعدة عليها ، حيث لم يذكر هذا الحكم إلّا في كلام بعضهم وإن لم يرد هذا في غيرها من الروايات وسمّى بذلك الرواية مقبولة ، ولكن ذكرنا أخيرا أنّ عمر بن حنظلة من المعاريف الذين لم يرد فيهم قدح ، وهذا يوجب اعتبار خبره لكون ذلك يكشف عن حسن ظاهره في عصره.

ثمّ إنّ بعض (١) من التزم باعتبار المقبولة سندا اختار التعدّي من المرجّحات الواردة فيها لأحد الخبرين المتعارضين إلى غيرها ، حيث إنّ تعليل الأخذ بالخبر المشهور فيها بأنّ المجمع عليه لا ريب فيه يراد منه نفي الريب بالإضافة إلى الخبر الشاذ لا نفي الريب حقيقة ، وإلّا لم يكن وجه للأخذ بالشّاذ فيما كان راويه أو الحاكم به أفقه وأصدق من الآخر ؛ لأنّ اعتبار الحكم من الحاكم والفتوى من الفقيه طريقيّ ، لا يعتنى بحكمه وفتواه إذا علم بطلان مستنده ، وأيضا علّل الحكم بالرواية المخالفة للعامّة ؛ بأنّ الرشد في خلافهم ، ومن الظاهر أنّ الرشد والاهتداء بالحق فيه ليس إلّا إضافيّا ، فيلزم اعتبار الأقربيّة في كلّ خبرين متعارضين ولو بلحاظ الإضافة إلى الآخر وبلحاظ أمر آخر.

__________________

(١) فرائد الاصول ٤ : ٧٧.

١٤٢

إلّا بالترجيح ولذا أمر عليه‌السلام بإرجاء الواقعة إلى لقائه عليه‌السلام في صورة تساويهما فيما ذكر من المزايا ، بخلاف مقام الفتوى ومجرد مناسبة الترجيح لمقامها أيضا لا يوجب ظهور الرواية في وجوبه مطلقا ولو في غير مورد الحكومة ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

ولكن لا يخفى ما في التعدّي ، فإنّ الشهرة في إحدى الروايتين بين رواة الحديث بحسب النقل وطبقات النقل توجب الاطمينان بصدورها عن المعصوم فلا يمكن التعدّي إلى مزيّة لا توجب الاطمينان بالصدور ، بل قد يقال كون إحدى الروايتين المجمع عليها بين الرواة ومن حيث النقل يوجب دخولها في السنة ، فلا يكون الخبر الشاذ المخالف له حجّة في نفسه ، كما يفصح عن ذلك صحيحة أيوب بن الحرّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «كلّ شيء مردود إلى الكتاب والسنة ، وكلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف» (١).

ولا ينافي ذلك فرض الشهرة في كلتا الروايتين ، فإنّ الشهرة لغة الظهور ، ويمكن صدور كلا الخبرين ظاهرا مع تنافيهما في مدلولهما مع كون الخلل في أحدهما من جهة اخرى كصدوره تقية ونحوها.

وذكر بعض (٢) الأجلّة طاب ثراه أنّ المراد بالشهرة في المقبولة الشهرة من حيث الفتوى ، فإنّ الشهرة في الرواية مع عدم العمل بها إلّا من شاذ توجب كونها مما فيها ريب ، لا مما لا ريب فيه ، فإنّ إعراض المشهور عن رواية وعدم العمل بها يكشف عن الخلل فيها ، وإنّ صدورها لجهات اخرى غير بيان الواقع.

ولا يخفى ما فيه ، فإنّ الشهرة الواردة في المقبولة ظاهرها الشهرة في الرواية ؛

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١١١ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٤.

(٢) وسائل الشيعة ٢ : ٧٠.

١٤٣

وإن أبيت إلّا عن ظهورهما في الترجيح في كلا المقامين ، فلا مجال لتقييد إطلاقات التخيير في مثل زماننا مما لا يتمكن من لقاء الإمام عليه‌السلام بهما ، لقصور المرفوعة سندا وقصور المقبولة دلالة ، لاختصاصها بزمان التمكن من لقائه عليه‌السلام ، ولذا ما أرجع إلى التخيير بعد فقد الترجيح ، مع أن تقييد الإطلاقات الواردة في مقام

______________________________________________________

ولذا فرض الراوي تساوي الخبرين في الشهرة ب «رواهما الثقات عنكم» ولو كان المراد من الشهرة الشهرة الفتوائية في مقابل عمل الشاذ لا تتحقق الشهرة في كلّ من الخبرين.

والمتحصّل ممّا ذكرنا أنّ المستفاد من المقبولة أنّ الشهرة في الرواية مرجّح في تعارض الروايتين ، هذا بالإضافة إلى المقبولة.

وأمّا المرفوعة فمع الغض عن سندها فمدلولها مقطوع البطلان ، فهي إمّا لم تصدر عن الإمام عليه‌السلام أو وقع الغلط في نقلها ، فإنّ الوارد فيها الترجيح بصفات الراوي من الأعدليّة والأوثقيّة بعد فرض الشهرة في كلتا الروايتين ، ومن الظاهر أنّه مع فرض الشهرة في الروايتين بحسب الرواية لا قيمة لكون راوي إحداهما أعدل بالإضافة إلى راوي الاخرى ، فإنّه لا يمكن فرض وحدة الراوي في ناحية كلّ منهما ليرى أنّ أحدهما أعدل من راوي الاخرى أو أوثق ، وفرض فيها تساوي الروايتين في كونهما موافقين للاحتياط أو مخالفين له ، وعدّ فيها كون الاحتياط من المرجّحات.

وقد تلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ المقبولة على تقدير تمامية سندها لا تدلّ على الترجيح بصفات الراوي ، حيث إنّ الوارد فيها ترجيح أحد الحكمين أو الفتويين على الآخر في صورة الاختلاف في الحكم والفتوى بالأوثقيّة والأعدليّة والأفقهيّة ، وما ورد فيها من المرجّحات لأحد الخبرين على الآخر إنّما هو ملاحظة الشهرة في الرواية ثمّ ملاحظة موافقة الكتاب والسنة ومخالفة العامّة ، وليس في الالتزام في

١٤٤

الجواب عن سؤال حكم المتعارضين ـ بلا استفصال عن كونهما متعادلين أو متفاضلين ، مع ندرة كونهما متساويين جدا ـ بعيد قطعا ، بحيث لو لم يكن ظهور المقبولة في ذاك الاختصاص لوجب حملها عليه أو على ما لا ينافيها من الحمل على الاستحباب ، كما فعله بعض الأصحاب ، ويشهد به الاختلاف الكثير بين ما دل

______________________________________________________

الترجيح بها حمل إطلاقات التخيير على الفرد النادر ، مضافا إلى ما تقدّم من عدم الدليل على التخيير ، وليس فيها أيّ دلالة على الترجيح بكلّ مزية ، فإنّ المراد من قوله عليه‌السلام : «فإن المجمع عليه لا ريب فيه» نفي الريب بالإضافة إلى الخبر الآخر من حيث الصدور لا من جهة اخرى ، وعلى تقدير التعدّي يتعدّى إلى ما يوجب نفي الريب من جهة الصدور.

ثمّ إنّه قد ورد في صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال : قال الصادق عليه‌السلام : «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فأعرضوهما على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فردّوه ، فإن لم تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامّة فما وافق أخبارهم فذروه وما خالف أخبارهم فخذوه» (١) ومقتضى الترتيب بين المرجّحين لزوم رعايته ، وبها يرفع اليد عن إطلاق ما ورد فيه الأخذ بما خالف العامّة مطلقا ، فيقيّد ملاحظة الترجيح به بعد رعاية موافقة الكتاب وعدمه.

نعم هذا إذا لم يظهر من القرينة الخارجيّة أنّ الموافق لهم صدر تقيّة ولو بملاحظة المورد ، وإلّا فلا يعتبر ملاحظة الترجيح بموافقة إطلاق الكتاب أو عمومه حتّى لو كان بين الخبر الموافق لهم والمخالف جمع عرفيّ ، كما ذكرنا ذلك فيما ذكر بعض من استحباب الوضوء عقيب خروج المذي حيث حملنا ما ورد في ناقضيّته

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٩.

١٤٥

على الترجيح من الأخبار.

ومنه قد انقدح حال سائر أخباره ، مع أنّ في كون أخبار موافقة الكتاب أو مخالفة القوم من أخبار الباب نظرا [١].

______________________________________________________

وفي الأمر بالوضوء عقيب خروجه على التقيّة ، كما يرفع اليد عن إطلاق الصحيحة بما ورد في المقبولة من تقديم ملاحظة الشهرة على رعاية موافقة الكتاب.

وقيل : ورد في بعض الأخبار الترجيح بتأخّر صدور أحد الخبرين بالإضافة إلى الآخر ، كما إذا روى أحد الخبرين عن إمام سابق عليه‌السلام والآخر عن الإمام من بعده ، أو رواه شخص عن الإمام عليه‌السلام سابقا وسمع الحديث الآخر عنه لا حقا ، وفي صحيحة هشام بن سالم عن أبي عمرو الكناني قال : «قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : «يا أبا عمرو أرأيت لو حدثتك بحديث أو أفتيتك بفتيا ثمّ جئتني بعد ذلك فسألتني عنه فأخبرتك بخلاف ما كنت أخبرتك أو أفتيتك بأيّهما كنت تأخذ؟ قلت : بأحدثهما وأدع الآخر ، فقال : قد أصبت يا عمرو ، أبى الله إلّا أن يعبد سرّا ، أما والله لئن فعلتم ذلك إنّه لخير لي ولكم ، أبى الله عزوجل لنا في دينه إلّا التقيّة» (١) وقريب منها غيرها.

ولكن لا يخفى أنّ مدلولها غير مربوط بالترجيح بين المتعارضين ، فإنّ تعيّن العمل بالثاني لكون وظيفته الفعلية إمّا لكونه هو الحكم الواقعيّ ، أو الوظيفة عند التقيّة التي لاحظها الإمام عليه‌السلام في حقّه ، ومنه يعلم الحال في غيرها مما يقرب مضمونه منها.

[١] قد ذكر قدس‌سره أنّ ما ورد في ترك الخبر المخالف للكتاب والموافق للعامّة ، والأخذ بما وافق الكتاب وخالف العامة ليس في مقام ترجيح المتعارضين ، بل في

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١١٢ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٧.

١٤٦

وجهه قوة احتمال أن يكون الخبر المخالف للكتاب في نفسه غير حجة ، بشهادة ما ورد في أنه زخرف ، وباطل ، وليس بشيء ، أو أنه لم نقله ، أو أمر بطرحه على الجدار ، وكذا الخبر الموافق للقوم ، ضرورة أن أصالة عدم صدوره تقية ـ بملاحظة الخبر المخالف لهم مع الوثوق بصدوره لو لا القطع به ـ غير جارية ، للوثوق حينئذ بصدوره كذلك ، وكذا الصدور أو الظهور في الخبر المخالف للكتاب

______________________________________________________

مقام تمييز الحجّة عن اللاحجّة ؛ وذلك فإنّ ما ورد في أنّ مخالف الكتاب «زخرف» أو «باطل» أو «لم نقله» أو «إنّا لا نخالف قول ربّنا» أو الأمر بطرح الخبر المخالف على الجدار ، ظاهره عدم حجيّة الخبر المخالف للكتاب في نفسه ، وكذا الخبر الموافق للعامّة ، فإنّ أصالة عدم صدوره تقيّة مع وجود الخبر المخالف لهم والوثوق بصدوره عنهم عليهم‌السلام غير جارية ، فإنّه حينئذ يحصل الوثوق بصدور الموافق على تقديره لرعاية التقية.

وعلى الجملة ما ورد في الخبر المخالف للكتاب أصالة الظهور بل الصدور غير جارية في ناحيته ، وإلّا لزم التقييد والتخصيص في الأخبار المشار إليها بما إذا لم يكن في ناحية الخبر الآخر مرجّح آخر ، مع أنها آبية عن التقييد والتخصيص ، وأصالة الصدور لبيان الحكم الواقعي في ناحية الخبر الموافق للعامّة غير جارية للوثوق بصدورها كذلك.

ولكن لا يخفى ما فيه ، فإنّ ظاهر المقبولة بل صريحها وكذا صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله أنّه لو لا المعارضة كان الخبر المخالف للكتاب حجّة ، وإنّما تسقط عن الاعتبار بالمعارضة وترجيح الموافق عليه ، والمراد بالمخالف في الأخبار المشار إليها في المتن المباين للكتاب فإنّه لا يصدر عنهم عليهم‌السلام ، لا المخالف لإطلاق الكتاب أو عمومه ، فصدور المخالف عنهم بهذا المعنى قطعيّ ، كيف وقد تسالموا على تقييد إطلاق الكتاب أو تخصيص عمومه بالخبر الواحد المعتبر ،

١٤٧

يكون موهونا بحيث لا يعمه أدلة اعتبار السند ولا الظهور ، كما لا يخفى ، فتكون هذه الأخبار في مقام تميز الحجة عن اللاحجة لا ترجيح الحجة على الحجة ، فافهم.

وإن أبيت عن ذلك ، فلا محيص عن حملها توفيقا بينها وبين الإطلاقات ، إما على ذلك أو على الاستحباب كما أشرنا إليه آنفا ، هذا ثم إنه لو لا التوفيق بذلك

______________________________________________________

والترجيح بين المتعارضين بموافقة الكتاب يلاحظ بهذا المعنى ، وكذلك الترجيح بمخالفة العامّة يلاحظ فيما لم يكن علم واطمينان بصدور الموافق تقيّة ، وإلّا يترك حتى في موارد الجمع العرفي بين المتعارضين كما تقدّم ، والمفروض في المقبولة والصحيحة وغيرهما أيضا هذا المعنى ، وإلّا لم يكن وجه لتقديم موافقة الكتاب على لحاظ مخالفة العامّة ، ولا لترجيح أحد الحكمين على الآخر قبل ملاحظة موافقة الكتاب ، ولا لتقديم ملاحظة الشهرة في أحد الخبرين قبل ملاحظة موافقة الكتاب ومخالفته.

وعلى الجملة ففي مثل المقبولة والصحيحة يكون المراد بموافقة الكتاب ومخالفته موافقة عمومه أو إطلاقه ، بأن يكون أحد المتعارضين موافقا لعمومه أو إطلاقه والآخر مخالفا لهما.

لا يقال : إذا كان أحد الخبرين المتعارضين موافقا لعموم الكتاب أو إطلاقه ففي الحقيقة يعمل بعموم الكتاب وإطلاقه لا بالخبر الموافق له ، وبتعبير آخر يكون الكتاب مرجعا ، لا مرجّحا لأحد الخبرين على الآخر.

فإنّه يقال : ظاهر المقبولة والصحيحة ومثلهما كون موافقة الكتاب مرجّحة لأحد المتعارضين على الآخر ، لا أنّ الكتاب مرجع.

وتظهر الثمرة ما إذا تضمّن الخبر الموافق لخصوصيّة لا تستفاد تلك الخصوصيّة

١٤٨

للزم التقييد أيضا في أخبار المرجحات ، وهي آبية عنه ، كيف يمكن تقييد مثل : (ما خالف قول ربنا لم أقله ، أو زخرف ، أو باطل)؟ كما لا يخفى.

فتلخص ـ مما ذكرنا ـ أن اطلاقات التخيير محكمة ، وليس في الأخبار ما يصلح لتقييدها.

نعم قد استدلّ على تقييدها ، ووجوب الترجيح في المتفاضلين بوجوه أخر :

منها : دعوى الإجماع على الأخذ بأقوى الدليلين.

وفيه أن دعوى الإجماع ـ مع مصير مثل الكليني إلى التخيير ، وهو في عهد الغيبة الصغرى ويخالط النواب والسفراء ، قال في ديباجة الكافي : ولا نجد شيئا أوسع ولا أحوط من التخيير ـ مجازفة.

ومنها : أنه لو لم يجب ترجيح ذي المزية ، لزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو قبيح عقلا ، بل ممتنع قطعا. وفيه أنه إنما يجب الترجيح لو كانت المزية موجبة لتأكد ملاك الحجية في نظر الشارع ، ضرورة إمكان أن تكون تلك المزية بالإضافة

______________________________________________________

من الكتاب ، فبناء على المرجّحية يؤخذ بها ، كصحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قلت ما بال أقوام يروون عن فلان وفلان عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يتهمون بالكذب فيجيء منكم خلافه؟ قال : الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن» (١) والنسخ في هذه الرواية بمعنى التخصيص والتقييد ، فإنّ النسخ بمعنى إبطال الحكم السابق رأسا لا يصحّ بالخبر الواحد كما هو الحال في نسخ عموم القرآن وتقييد إطلاقه ، وإلّا فالحكم الوارد في القرآن لا ينسخ باتفاق من المسلمين بالخبر الواحد ، فقوله عليه‌السلام : «كما ينسخ القرآن» قرينة على هذا المعنى ، وفي هذه الصحيحة التعبير عن التخصيص والتقييد بالنسخ ، لعلّه للإشارة إلى إجزاء العمل السابق على طبق

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤.

١٤٩

إلى ملاكها من قبيل الحجر في جنب الإنسان ، وكان الترجيح بها بلا مرجح ، وهو قبيح كما هو واضح ، هذا مضافا إلى ما هو في الإضراب من الحكم بالقبح إلى الامتناع ، من أن الترجيح بلا مرجح في الأفعال الاختيارية ومنها الأحكام الشرعية ، لا يكون إلّا قبيحا ، ولا يستحيل وقوعه إلّا على الحكيم تعالى ، وإلّا فهو بمكان من الإمكان ، لكفاية إرادة المختار علة لفعله ، وإنما الممتنع هو وجود الممكن بلا علة ، فلا استحالة في ترجيحه تعالى للمرجوح ، إلّا من باب امتناع صدوره منه تعالى ، وأما غيره فلا استحالة في ترجيحه لما هو المرجوح مما باختياره.

______________________________________________________

الحديث كما هو الحال في موارد النسخ فتدبّر.

وتظهر الثمرة أيضا فيما إذا كان في البين خبر يكون بالإضافة إلى المتعارضين عامّا أو مطلقا ، ولكن كان بالإضافة إلى عموم الكتاب أو إطلاقه خاصّا ، بأن كان ما في الكتاب من العامّ أو المطلق من قبيل العامّ الفوق بالإضافة إلى المتعارضين ، فبناء على مرجعيّة الكتاب يسقط المتعارضان فيؤخذ بالإطلاق أو العموم من الخبر الذي من قبيل العامّ والمطلق من المتعارضين ، وبناء على مرجّحية الكتاب يؤخذ بالخبر الموافق له فيخصّص أو يقيّد الخبر الذي يكون عامّا أو مطلقا بالإضافة إلى المتعارضين ، وقد مثّلنا في الدورة السابقة بالآية المباركة الآمرة بالوضوء عند القيام إلى الصلاة ، وبالروايات الحاصرة لنواقض الوضوء مثل قوله عليه‌السلام : «لا ينقض الوضوء إلّا البول والريح والنوم والغائط والجنابة» (١) فإنّ مدلوله عدم انتقاض الوضوء بشيء من غيرها ، وإذا ورد في شيء من غيرها كالمذي كونه ناقضا ، ولكن كان له معارض يدلّ على عدم ناقضيّة المذي ، فبناء على مرجعيّة الكتاب يرجع إلى عموم عدم ناقضيّته في الروايات الحاصرة ، وبناء على المرجّحية يثبت كونه ناقضا أيضا ، فترفع اليد عن إطلاق نفي الناقضيّة في غير

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ : ٣٩٧ ، الباب ١٥ من أبواب الوضوء ، الحديث ١٨.

١٥٠

وبالجملة : الترجيح بلا مرجح بمعنى بلا علة محال ، وبمعنى بلا داع عقلائي قبيح ليس بمحال ، فلا تشتبه.

ومنها : غير ذلك مما لا يكاد يفيد الظن ، فالصفح عنه أولى وأحسن.

ثمّ إنّه لا إشكال في الإفتاء بما اختاره من الخبرين في عمل نفسه وعمل مقلّديه ولا وجه للإفتاء بالتخيير في المسألة الفرعيّة لعدم الدليل عليه فيها [١].

______________________________________________________

ما ورد فيها.

هل التخيير بين المتعارضين على تقديره استمراريّ أو بدويّ

[١] يقع الكلام في المقام أنّ ما دلّ على التخيير بين الخبرين المتعارضين على تقدير تماميّته ناظر إلى التخيير في تعيين الحجّة والطريق إلى الواقع ، بحيث يكون ما اختاره بمدلوله علما وحجّة وطريقا إلى الواقع ، وبما أنّ مدلول أحد المتعارضين الذي يختاره المجتهد حكم كلّي فرعيّ ، فله الإفتاء بذلك الحكم الكلّي ، ومع الإفتاء به لا يمكن له الإفتاء بمدلول الآخر من الخبرين ؛ لعدم كونه حجّة وعلما وطريقا في حقّه ، كما إذا قام خبر على وجوب القصر على من ذهب أربعة فراسخ ورجع قبل إقامة عشرة أيام ، وخبر آخر على وجوب التمام عليه ، فلا يمكن له الإفتاء بوجوب الصلاتين على المسافر المفروض على نحو التخيير.

نعم له الإفتاء بالتخيير في المسألة الاصوليّة يعني بالأخذ بأحد الخبرين المتعارضين ، وإذا تمكّن المكلف المقلّد له في المسألة الاصوليّة من إحراز الخبرين ومدلولهما فيمكن له أن يختار لنفسه غير ما اختاره مجتهده ، وهذا غير الإفتاء للمجتهد على المستفتي بوجوب الصلاتين على نحو التخيير.

وعلى الجملة التخيير في المسألة الفرعيّة حكم ظاهريّ وليس من الحكم الواقعيّ في واقعة السفر المفروض ، بخلاف التخيير في المسألة الاصولية فإنّه على تقديره حكم

١٥١

نعم له الإفتاء به في المسألة الأصولية ، فلا بأس حينئذ باختيار المقلد غير ما اختاره المفتي ، فيعمل بما يفهم منه بصريحه أو بظهوره الذي لا شبهة فيه.

وهل التخيير بدويّ أم استمراريّ؟ قضية الاستصحاب لو لم نقل بأنه قضية الإطلاقات أيضا كونه استمراريا. وتوهم أن المتحير كان محكوما بالتخيير ، ولا تحير له بعد الاختيار ، فلا يكون الإطلاق ولا الاستصحاب مقتضيا للاستمرار ، لاختلاف الموضوع فيهما ، فاسد ، فإن التحير بمعنى تعارض الخبرين باق على حاله ، وبمعنى آخر لم يقع في خطاب موضوعا للتخيير أصلا ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

واقعيّ للخبرين مطلقا أو مع عدم ثبوت الترجيح لأحدهما.

ويقع الكلام في المقام أنّ هذا التخيير في المسألة الاصوليّة بدويّ أو أنّه استمراريّ بحيث يمكن للمجتهد ـ بعد الأخذ بأحد الخبرين في زمان ـ تركه والأخذ بالخبر الآخر ، فظاهر كلام الماتن قدس‌سره جواز ذلك ، فإنّه مقتضى الاستصحاب الجاري في ناحية التخيير الثابت قبل الأخذ بأحدهما ، ودعوى عدم جريان هذا الاستصحاب ؛ لأنّ الموضوع للتخيير المتحيّر بقيام الخبرين في الواقعة ، وبعد الأخذ بأحدهما لا تحيّر له في الواقعة لا يمكن المساعدة عليها ؛ لأنّ التحيّر بقيام خبرين متعارضين في الواقعة باق على حاله ، وبمعنى آخر غير مأخوذ في ناحية الموضوع في شيء من الأدلّة مع أنّه لا حاجة إلى الاستصحاب ، ولا تصل النوبة إليه لكفاية الإطلاق في بعض روايات التخيير كقوله عليه‌السلام على ما في خبر الحسن بن الجهم في الجواب عن قول السائل : «يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا نعلم أيّهما الحق ، قال : إذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت» (١).

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢١ ـ ١٢٢ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٠.

١٥٢

فصل

هل على القول بالترجيح ، يقتصر فيه على المرجحات المخصوصة المنصوصة ، أو يتعدى إلى غيرها؟ قيل بالتعدي ، لما في الترجيح بمثل الأصدقية والأوثقية ونحوهما ، ممّا فيه [١] من الدلالة على أن المناط في الترجيح بها هو كونها موجبة للأقربية إلى الواقع ، ولما في التعليل بأن المشهور ممّا لا ريب فيه ، من استظهار أن العلّة هو عدم الريب فيه بالإضافة إلى الخبر الآخر ولو كان فيه ألف ريب ،

______________________________________________________

أقول : الظاهر عدم صحة الأخذ بالاستصحاب وعدم تمام الإطلاق.

أمّا الأوّل فلأنّ التخيير الثابت سابقا هو جعل أحد الخبرين حجّة في حقّه بالأخذ به ، وبعد الأخذ بأحدهما وصيرورته حجّة يكون التخيير بمعنى إخراج ذلك المأخوذ سابقا عن الاعتبار وجعل الآخر حجّة ، وهذا لم يكن ثابتا في السابق ليستصحب ، هذا مع الغض عما ذكرنا سابقا من عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة.

وأمّا التمسّك بالإطلاق فلأنّ الخطاب بالتخيير متوجه إلى من لم يأخذ بشيء من المتعارضين ، لعدم علمه بما هو الحجّة والوظيفة بحسب الواقع في الواقعة ، ولا يتوجّه هذا الخطاب إلى من تعيّن أحدهما للحجية له وصيرورته وظيفة في الواقعة ، ولو لم يكن هذا ظاهر ما تقدّم من خبر الحسن بن الجهم ، فلا أقلّ من عدم ظهوره في الإطلاق.

إمكان التعدّي من المرجّحات المنصوصة

[١] قد تقدّم أنّ الصفات المشار إليها لم ترد في رواية معتبرة كونها مرجّحة لأحد المتعارضين من الخبرين على الآخر ، وما ورد في مقبولة عمر بن حنظلة أنّها مرجّحة لأحد الحكمين أو الفتويين على الآخر ، نعم لو كانت الصفات المشار إليها واردة في ترجيح أحد الخبرين المتعارضين لم يمكن التعدي منها إلى غيرها وإن

١٥٣

ولما في التعليل بأن الرشد في خلافهم.

ولا يخفى ما في الاستدلال بها :

أما الأول : فإن جعل خصوص شيء فيه جهة الإراءة والطريقية حجة أو مرجحا لا دلالة فيه على أن الملاك فيه بتمامه جهة إراءته ، بل لا إشعار فيه كما لا يخفى ، لاحتمال دخل خصوصيته في مرجحيته أو حجيته ، لا سيما قد ذكر فيها ما لا يحتمل الترجيح به إلّا تعبدا ، فافهم.

وأما الثاني : فلتوقفه على عدم كون الرواية المشهورة في نفسها مما لا ريب فيها ، مع أن الشهرة في الصدر الأول بين الرواة وأصحاب الأئمة عليهم‌السلام موجبة لكون الرواية مما يطمأن بصدورها ، بحيث يصح أن يقال عرفا : إنها ممّا لا ريب فيها ، كما لا يخفى. ولا بأس بالتعدي منه إلى مثله مما يوجب الوثوق والاطمئنان بالصدور ، لا إلى كل مزية ولو لم يوجب إلّا أقربية ذي المزية إلى الواقع ، من المعارض الفاقد لها.

وأما الثالث : فلاحتمال أن يكون الرشد في نفس المخالفة ، لحسنها ، ولو سلم أنه لغلبة الحق في طرف الخبر المخالف ، فلا شبهة في حصول الوثوق بأن الخبر الموافق المعارض بالمخالف لا يخلو من الخلل صدورا أو جهة ، ولا بأس بالتعدي منه إلى مثله ، كما مر آنفا.

______________________________________________________

كانت الأوصاف موجبة لأقربيّة أحدهما على الآخر ؛ لأن كون مجرّد الأقربيّة تمام الملاك في الترجيح بها غير ظاهر ، نظير اعتبار خبر الثقة فإنّ الملاك في اعتباره كون خبره كاشفا عن الواقع نوعا ، ولكن لا يمكن التعدّي منه إلى كلّ ما يكون كاشفا عن الواقع نوعا ولو لم يكن من سنخ خبر الثقة ، وذكرنا أيضا أنّ قوله عليه‌السلام في المقبولة بعد الأمر بأخذ المشهور من الخبرين بالشهرة الروائيّة من : «أنّ المجمع عليه لا ريب فيه» وإن كان لا ريب فيه بالإضافة إلى الخبر الآخر ، ولكن نفي الريب بالإضافة إلى أصل

١٥٤

ومنه انقدح حال ما إذا كان التعليل لأجل انفتاح باب التقية فيه ، ضرورة كمال الوثوق بصدوره كذلك ، مع الوثوق بصدورهما ، لو لا القطع به في الصدر الأول ، لقلّة الوسائط ومعرفتها ، هذا مع ما في عدم بيان الإمام عليه‌السلام للكليّة كي لا يحتاج السائل إلى إعادة السؤال مرارا ، وما في أمره عليه‌السلام بالإرجاء بعد فرض التساوي فيما ذكره من المزايا المنصوصة ، من الظهور في أن المدار في الترجيح على المزايا المخصوصة ، كما لا يخفى.

ثم إنه بناء على التعدي حيث كان في المزايا المنصوصة ما لا يوجب الظن بذي المزية ولا أقربيته ، كبعض صفات الراوي مثل الأورعية أو الأفقهية ، إذا كان موجبهما مما لا يوجب الظن أو الأقربية ، كالتورع من الشبهات ، والجهد في العبادات ، وكثرة التتبع في المسائل الفقهية أو المهارة في القواعد الأصولية ، فلا وجه للاقتصار على التعدي إلى خصوص ما يوجب الظن أو الأقربية ، بل إلى كل مزية ، ولو لم تكن بموجبة لأحدهما ، كما لا يخفى.

وتوهم أن ما يوجب الظن بصدق أحد الخبرين لا يكون بمرجح ، بل موجب لسقوط الآخر عن الحجية للظن بكذبه حينئذ ، فاسد. فإن الظن بالكذب لا يضر بحجية ما اعتبر من باب الظن نوعا ، وإنما يضر فيما أخذ في اعتباره عدم الظن بخلافه ، ولم يؤخذ في اعتبار الأخبار صدورا ولا ظهورا ولا جهة ذلك ، هذا مضافا إلى اختصاص حصول الظن بالكذب بما إذا علم بكذب أحدهما صدورا ، وإلّا فلا يوجبه الظن بصدور أحدهما لإمكان صدورهما مع عدم إرادة الظهور في أحدهما أو فيهما ، أو إرادته تقية ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

صدوره إلى جهات اخرى ، ولا يمكن التعدّي إلى ما يوجب كون الخبر مما لا ريب فيه من جهة اخرى غير الصدور ، وكذا الحال في الترجيح بمخالفة العامّة وأخبارهم.

١٥٥

نعم لو كان وجه التعدي اندراج ذي المزية في أقوى الدليلين لوجب الاقتصار على ما يوجب القوة في دليليته وفي جهة إثباته وطريقيته ، من دون التعدي إلى ما لا يوجب ذلك ، وإن كان موجبا لقوة مضمون ذيه ثبوتا ، كالشهرة الفتوائية أو الأولوية الظنية ونحوهما ، فإن المنساق من قاعدة أقوى الدليلين أو المتيقن منها ، إنما هو الأقوى دلالة ، كما لا يخفى ، فافهم.

فصل

قد عرفت سابقا أنه لا تعارض في موارد الجمع والتوفيق العرفي ، ولا يعمها ما يقتضيه الأصل في المتعارضين ، من سقوط أحدهما رأسا وسقوط كل منهما في خصوص مضمونه ، كما إذا لم يكونا في البين ، فهل التخيير أو الترجيح [١] يختص أيضا بغير مواردها أو يعمها؟

______________________________________________________

اختصاص التخيير والترجيح بغير موارد الجمع العرفيّ

[١] قد ذكر الماتن اختصاص التخيير والترجيح بين الخبرين المتعارضين عند المشهور بغير موارد الجمع العرفي قدس‌سره بدعوى أنّ الظاهر من الأخبار العلاجيّة سؤالا وجوابا أنّها ناظرة إلى علاج التحيّر ممن وصل إليه الخبران المتعارضان ، ولكن ناقش قدس‌سره في هذا الاستدلال بأنّ اختصاص التحيّر الاستمراري بغير موارد الجمع العرفي لا يوجب اختصاصهما سؤالا وجوابا بتلك الموارد ، فإنّ التحيّر البدويّ متحقّق في موارد الجمع العرفيّ أيضا لأجل ما يكون بين الخطابين من الاختلاف ، مع أنّ التحيّر بالإضافة إلى الحكم الواقعي موجود وإن لم يكن بحسب الوظيفة الظاهريّة استمرار في التحيّر ، مع أنّه يمكن أن يحتمل ردع الشارع عن الطريقة المألوفة من الجمع في موارد الاختلاف بين الخاصّ والعامّ والمقيّد والمطلق

١٥٦

قولان : أولهما المشهور ، وقصارى ما يقال في وجهه : إن الظاهر من الأخبار العلاجية ـ سؤالا وجوابا ـ هو التخيير أو الترجيح في موارد التحيّر ، مما لا يكاد يستفاد المراد هناك عرفا ، لا فيما يستفاد ولو بالتوفيق ، فإنه من أنحاء طرق الاستفادة عند أبناء المحاورة.

ويشكل بأن مساعدة العرف على الجمع والتوفيق وارتكازه في أذهانهم على وجه وثيق ، لا يوجب اختصاص السؤالات بغير موارد الجمع ، لصحة السؤال بملاحظة التحيّر في الحال لأجل ما يتراءى من المعارضة وإن كان يزول عرفا

______________________________________________________

ونحوهما.

وعلى الجملة العناوين المأخوذة في الأخبار العلاجيّة تعمّ الحديثين حتى في موارد الجمع العرفي.

أقول : لا يخفى ما في المناقشة ، فإنّه لا يصحّ السؤال عن اختلاف الحديثين في موارد الجمع العرفيّ ، إلّا مع احتمال أنّ الشارع قد ألغى الطريقة المألوفة في المحاورات من كون أحد الخطابين قرينة على المراد الجدي من الآخر ، أو كون مجموعهما قرينة على ذلك أو يحتمل في مورد خاصّ عدم صدور الخبرين أو أحدهما بخصوصه ، واحتمال أن يكون نظر السائل إلى احتمال إلغاء الطريقة المألوفة في مطلق الحديثين المختلفين في جميع الموارد التي فيها جمع عرفيّ ، وعن الموارد التي لا يكون فيها هذا الجمع كموارد التباين بين الحديثين موهوم جدّا ، وإلّا كان عليه أن يسأل عن اختلاف الحديث العامّ وخبر الخاصّ وخبر المطلق والمقيّد وعن الأخبار التي تكون خاصّة بالإضافة إلى عموم الكتاب والسنّة أو إطلاقهما مستقلّة وعن صورة.

تعارض الخبرين كذلك ؛ لأنّ منشأ السؤال والاحتمال في الصورة الاولى إلغاء

١٥٧

بحسب المآل ، أو للتحير في الحكم واقعا وإن لم يتحير فيه ظاهرا ، وهو كاف في صحته قطعا ، مع إمكان أن يكون لاحتمال الردع شرعا عن هذه الطريقة المتعارفة بين أبناء المحاورة ، وجل العناوين المأخوذة في الأسئلة لو لا كلها يعمها ، كما لا يخفى.

ودعوى أن المتيقن منها غيرها مجازفة ، غايته أنه كان كذلك خارجا لا بحسب مقام التخاطب ، وبذلك ينقدح وجه القول الثاني ، اللهم إلّا أن يقال : إن التوفيق في مثل الخاص والعام والمقيد والمطلق ، كان عليه السيرة القطعية من لدن زمان الأئمة عليهم‌السلام ، وهي كاشفة إجمالا عما يوجب تخصيص أخبار العلاج بغير موارد التوفيق العرفي ، لو لا دعوى اختصاصها به ، وأنها سؤالا وجوابا بصدد الاستعلاج والعلاج في موارد التحيّر والاحتياج ، أو دعوى الإجمال وتساوي احتمال العموم مع احتمال الاختصاص ، ولا ينافيها مجرد صحة السؤال لما لا ينافي العموم ما لم يكن هناك ظهور أنه لذلك ، فلم يثبت بأخبار العلاج ردع عما هو عليه بناء العقلاء وسيرة العلماء ، من التوفيق وحمل الظاهر على الأظهر ، والتصرف فيما يكون صدورهما قرينة عليه ، فتأمل.

______________________________________________________

الطريقة المألوفة ، وفي الصورة الثانية التحيّر في العمل وتشخيص الوظيفة في الواقعة ، كما أنّ الإطلاق في الجواب لا يمكن أن يعمّ الصورتين ، لما تقرر في محلّه واعترف به الماتن من أنّ الإطلاق والعموم لا يمكن أن يكون رادعا عن السيرة القائمة على خلافه في بعض أفراده ، مثلا : النهي عن اتّباع غير العلم أو الظنّ لا يكون رادعا عن السيرة الجارية على الاعتماد على خبر الثقة والعدل.

ثمّ إنّه قد أجاب الماتن قدس‌سره عن مناقشته بقوله : «اللهم إلّا أن يقال ...» ومراده قدس‌سره أنّ السيرة الجارية من زمان المعصومين من رفع اليد عن العمومات والمطلقات

١٥٨

فصل

قد عرفت حكم تعارض الظاهر والأظهر وحمل الأوّل على الآخر فلا إشكال فيما إذا ظهر أنّ أيّهما ظاهر وأيّهما أظهر ، وقد ذكر فيما اشتبه الحال لتمييز ذلك ما لا عبرة به أصلا ، فلا بأس بالإشارة إلى جملة منها وبيان ضعفها :

منها : ما قيل في ترجيح ظهور العموم على الإطلاق [١].

______________________________________________________

بخطابات الخصوصات والمقيّدات كاشفة عن عدم الردع فتوجب تخصيص الأخبار العلاجيّة من التخيير والترجيح بعدم إرادة موارد الجمع العرفيّ منها.

والالتزام بكون السيرة المشار إليها بالإضافة إلى الأخبار العلاجيّة إنّما إذا لم تتم دعوى انصراف تلك الأخبار إلى غير موارد الجمع العرفيّ ، بأن يقال بأنّها سؤالا وجوابا ظاهرة في الاستعلاج والعلاج في موارد تحيّر من وصل إليه الخبران واحتياجه فيها إلى رفع تحيّره ، أو لم تتمّ دعوى إجمال تلك الأخبار وعدم إحراز ظهورها سؤالا وجوابا حتى بالإضافة إلى موارد الجمع العرفي ، ولا ينافي دعوى الانصراف أو الإجمال لما تقدّم من صحة السؤال عن موارد الجمع العرفيّ أيضا ، وذلك فإنّ صحة السؤال لا تنافي الأخذ بالعموم لا أنّه يوجب انعقاد الظهور لها في العموم ، وبتعبير آخر صحة السؤال لا تنافي العموم لو لم يكن في المقام ظهور في أنّ السؤال والجواب لعلاج التحيّر في موارد اختلاف الأخبار.

أقول : دعوى الانصراف والإجمال تنافي ما تقدّم منه قدس‌سره من عدم أخذ التحيّر في الموضوع للتخيير بين المتعارضين.

تقديم العام الوضعيّ على الإطلاقيّ

[١] قد تقدّم أنّ المعيار في تقديم أحد الخطابين على الآخر في بعض موارد الجمع العرفي كون أحدهما قرينة على المراد الجدّي من الآخر ، كما أنّه يكون

١٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

اجتماع الخطابين قرينة عرفيّة على المراد الجدي من كلّ منهما ، وعلى الجملة الملاك في موارد الجمع العرفيّ هو القرينة على المراد الجدّي من كلا الخطابين أو من أحدهما ، سواء كانت القرينة وجدانيّة أو تعبّديّة ، لا مجرّد كون أحدهما في الدلالة على مدلوله أظهر من دلالة الآخر على مدلوله مع ثبوت التنافي بينهما ، كما إذا كان في أحد الخطابين تأكيد ، وكما ذكرنا أنّ المدلول الاستعمالي للخاصّ مثلا وإن يكن منافيا للمدلول الاستعمالي للعامّ فيما إذا كان لكلّ منهما خطاب خاصّ إلّا أنه لا تنافي بينهما في كشفهما عن مقام الثبوت ، حيث إنّ الخطاب الخاصّ مع ثبوته واعتبار ظهوره يحسب عرفا قرينة على المراد الجدّي من خطاب العام المنافي لحكمه بمعنى يكون الخاصّ قرينة على أنّ حكم العامّ ثبوتا لا يعمّ موارد انطباق عنوان الخاصّ عليها ؛ ولذا لا يكون مورد دلالة الخاصّ موردا لأصالة التطابق في ناحية خطاب العامّ.

وعلى الجملة لا تعارض في مثل موارد العامّ والخاصّ المخالفين في حكمهما ويقدّم الخاصّ على خطاب العامّ لأقوائيّة دلالته ، بل يقدّم الخاصّ على خطاب العامّ لعدم الدلالة في ناحية خطاب العامّ بالإضافة إلى موارد دلالة الخاصّ حيث إنّه إذا كان خطاب الخاصّ قطعيّا صدورا يرتفع الموضوع لأصالة التطابق في ناحية العامّ بالإضافة إلى موارد دلالة الخاصّ حقيقة ، بخلاف ما إذا كان صدور خطاب الخاصّ بالتعبّد ، حيث يكون ارتفاع الموضوع لأصالة التطابق في ناحية العام تعبّديا ، فإنّ دليل اعتبار صدور خطاب الخاصّ تعبّد بثبوت القرينة على خلاف العامّ ، وهذا يجري في كلّ خطابين يعدّ أحدهما قرينة عرفية على المراد الجدّي من الخطاب الآخر في المحاورات ، كالاختلاف بين الخطاب المطلق والمقيّد ونحوهما ، وقد وقع

١٦٠