دروس في مسائل علم الأصول - ج ٦

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8438-62-8
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٤٦

والخاص والمطلق والمقيد ، أو مثلهما مما كان أحدهما نصا أو أظهر ، حيث إن بناء العرف على كون النص أو الأظهر قرينة على التصرف في الآخر.

وبالجملة : الأدلة في هذه الصور وإن كانت متنافية بحسب مدلولاتها ، إلّا أنها غير متعارضة ، لعدم تنافيها في الدلالة وفي مقام الإثبات ، بحيث تبقى أبناء المحاورة متحيرة ، بل بملاحظة المجموع أو خصوص بعضها يتصرف في الجميع

______________________________________________________

فإنّه يقال : بما أن خطاب الخاصّ أو المقيّد يعدّ قرينة على العامّ أو المطلق ، لكونهما أظهر بالإضافة إلى خطابهما فلا تكون قرينيّة خطاب الخاصّ أو المقيّد مختصّة بمورد دون مورد ، بخلاف ما إذا كانت ملاحظة الخطابين قرينة على التصرف في الآخر ، فإنّه ليس كلّ مورد يكون أحد الخطابين الحكم فيه بالعنوان الأولي والآخر بالعنوان الثانوي يقدّم ما كان الحكم فيه بالعنوان الثانوي على ما كان فيه الحكم بالعنوان الأوّلي ، بل ربما يكون الأمر بالعكس ، فيقدّم ما كان الحكم فيه بالعنوان الأوّلي ، كما إذا ورد في أحد الخطابين : «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه» (١) وورد في خطاب آخر : «لا بأس بخرء الطائر وبوله» (٢) فمقتضى الخطاب الأوّل نجاسة بول الطائر غير المأكول لحمه وهذا بالعنوان الثانوي ، ومقتضى الخطاب الثاني طهارته ، ومع ذلك يقدّم ما دلّ على طهارة بول الطائر ولو كان بالعنوان الأوّلي ، للزوم اللغوية على تقدير تقديم خطاب نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه ، فملاحظة قرينيّة مجموع الخطاب على التصرف في أحدهما المعيّن غير كون أحدهما المعيّن قرينة على الآخر في كلّ مورد.

والمتحصّل أنّه يخرج عن التعارض ما إذا كان العامّ والخاصّ كلاهما ظنيّا من

__________________

(١) وسائل الشيعة ٣ : ٤٠٥ ، الباب ٨ من أبواب النجاسات ، الحديث ٢.

(٢) مستدرك الوسائل ٢ : ٥٦٠ ، الباب ٦ ، الحديث ٢٧٢٢.

١٠١

أو في البعض عرفا ، بما ترتفع به المنافاة التي تكون في البين ، ولا فرق فيها [١] بين أن يكون السند فيها قطعيا أو ظنيّا أو مختلفا.

فيقدم النص أو الأظهر ـ وإن كان بحسب السند ظنيا ـ على الظاهر ولو كان بحسبه قطعيا. وإنما يكون التعارض في غير هذه الصور مما كان التنافي فيه بين الأدلة بحسب الدلالة ومرحلة الإثبات ، وإنما يكون التعارض بحسب السند فيما إذا كان كل واحد منها قطعيا دلالة وجهة ، أو ظنيا فيما إذا لم يكن التوفيق بينها بالتصرف في البعض أو الكل ، فإنه حينئذ لا معنى للتعبد بالسند في الكل ، إما للعمل بكذب أحدهما ، أو لأجل أنه لا معنى للتعبد بصدورها مع إجمالها ، فيقع التعارض بين أدلة السند حينئذ ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

حيث الصدور أو كان الخاصّ أو العامّ قطعيّا بحسبه ، فعلى التقادير يتقدّم الخاصّ على العامّ ، وكذا الحال في المطلق والمقيّد وموارد ملاحظة المجموع قرينة على التصرف في أحدهما لأظهريّته ، فإنّ هذا أيضا خارج عن موضوع التعارض بين الخطابين.

[١] يعني لا فرق في موارد الجمع العرفي ، وما ذكر من عدم التعارض فيها بين الدليلين ، بين كون السند في كلا الدليلين قطعيّا أو كان السند فيهما ظنيّا أو كانا مختلفين ، فإنه على جميع التقادير يعمل بكلا الدليلين بالتصرف فيهما أو في أحدهما المعيّن ، ويجعل النص أو الأظهر قرينة على الظاهر ولو كان الظاهر قطعيّا سندا ، والنص أو الأظهر ظنيّا بحسبه.

فيكون التعارض في غير تلك الموارد ممّا كان التنافي بين الدليلين في مقام الإثبات وكشف كلّ منهما عن مقام الثبوت ، وإنّما يختصّ التعارض بحسب السند فيما إذا كان كلّ من الدليلين قطعيّا من حيث الدلالة وجهة الصدور على تقدير

١٠٢

.................................................................................................

______________________________________________________

صدوره أو ظنيّا من غير أن يكون بينهما جمع عرفي بحيث يكون لحاظهما معا قرينة على التصرف فيهما أو في أحدهما المعيّن أو كان أحدهما المعيّن قرينة على التصرف في الآخر على ما تقدّم ، ووجه معارضتهما في السند عدم شمول دليل اعتبار السند لكلّ منهما ، حيث إنّ التعبّد بصدور كلّ منهما لغو محض أو العلم بعدم صدور أحدهما وكونه كذبا ، وعلى ذلك فيقع التعارض بينهما في شمول دليل اعتبار السند لكلّ منهما.

١٠٣
١٠٤

فصل

التعارض وإن كان لا يوجب إلّا سقوط أحد المتعارضين عن الحجية رأسا حيث لا يوجب إلّا العلم بكذب أحدهما فلا يكون هناك مانع [١] عن حجيّة الآخر.

______________________________________________________

في سقوط المتعارضين كليهما أو بقاء أحدهما لا بعينه على الاعتبار

[١] حاصل ما ذكره قدس‌سره أن الموجب للتعارض بين الدليلين العلم بكذب أحدهما أي عدم ثبوت مدلول أحدهما في الواقع ، ولكن ليس لهذا المعلوم بالإجمال عنوان واقعي عندنا بحيث يشار إليه بذلك العنوان مع احتمال كذبهما أيضا بأن لا يكون شيء منهما موافقا للواقع ، وعلى ذلك فأحد المتعارضين ليس فيه ملاك الطريقيّة ، وهو المعلوم بالإجمال كذبه ولكن أحدهما الآخر مع عدم تعيّنه واقعا كما ذكر فيه ملاكها فلا مانع عن اعتباره فيكون التعارض موجبا لسقوط أحدهما لا بعينه عن الاعتبار ، وأحدهما الآخر لا بعينه لاحتمال صدقه وإصابته الواقع مع عدم تعيّنه معتبر ، وعلى ذلك فيمكن للفقيه مع عدم إمكان أخذه بشيء منهما من مدلولهما المطابقيين لعدم المعيّن للمعتبر منهما الأخذ بأحدهما لا بعينه في نفي احتمال الحكم الثالث ، كما إذا قام خبر العدل بحرمة فعل ، وخبر عدل آخر بوجوبه فلا يمكن الإفتاء بوجوبه أو الإفتاء بحرمته ، لكن يمكن له الإفتاء بعدم استحبابه ، هذا بناء على مسلك الطريقيّة في الأمارات والالتزام بأنّ قيام الأمارة بحكم فعل لا يوجب حدوث ملاك في ذلك الفعل بل الفعل باق على ما هو عليه من الصلاح والفساد وعدمهما.

وأما بناء على مسلك السببيّة ، وأنّ قيام أمارة بحكم فعل يكون سببا لحدوث ملاك ذلك الحكم فيه فالأمر كذلك لو لم يكن لدليل الاعتبار إطلاق بحيث يعمّ المتعارضين ، كما هو الحال في اعتبار الظهورات حيث إنّ الدليل على اعتبارها بناء العقلاء ، ولا بناء

١٠٥

.................................................................................................

______________________________________________________

منهم إلّا على اعتبار ظهور ما لم يعلم كذبه ، وهو أحد المتعارضين لا بعينه ، وكذا الحال في اعتبار السند بناء على أن دليل اعتباره أيضا بناء العقلاء ، بل لو قيل بأن اعتباره للآية والروايات فالأمر أيضا كذلك لانصرافهما إلى اعتبار ما لم يعلم كذبه لو لم نقل بانصرافهما إلى خصوص خبر يحصل الظنّ أو الاطمينان به على الواقع.

نعم ، لو لم نقل بالانصراف بأن كان مدلول دليل الاعتبار اعتبار كلّ منهما لكان المتعارضان من المتزاحمين فيما كان مدلول كلّ منهما الحكم الإلزامي كوجوب الضدّين ، لا فيما إذا كان مدلول أحدهما الحكم الإلزامي والمدلول الآخر غير الإلزامي ، فإنّه يثبت في الفرض الحكم الإلزامي ؛ لأنّ الحكم غير الإلزامي لفقد الملاك فيه لا يزاحم ملاك الحكم الإلزامي ، اللهم إلّا أن يقال : إنّ مقتضى اعتبار الأمارة بنحو السببيّة أن يكون الحكم غير الإلزامي عن اقتضاء ، فيزاحم الحكم الإلزامي في ملاكه فيحكم فعلا بغير الإلزامي ؛ لأنّه يكفي في ثبوت الحكم غير الإلزامي عدم تمام ملاك الحكم الإلزامي ، كما إذا قام خبر بحرمة فعل والآخر بإباحته ، فيحكم بإباحته لعدم تمام ملاك الإلزام ، لا لثبوت الإباحة الاقتضائيّة.

أقول : عمدة الدليل على اعتبار الأمارات في الأحكام في اتّباع الظهورات والاعتناء بأخبار الثقات السيرة العقلائيّة حتى من المتشرعة ومقتضاها اعتبار الأمارة الخارجيّة ، وأمّا الجامع بين الأمارتين أو أحد الفردين من أمارة لا بعينه وبلا تعيين خارجي فهو خارج عن موضوع الاعتبار ، مثلا المعتبر من خبر الثقة أو العدل الخبر الخارجي المعيّن لا غير المعيّن حتى من حيث الواقع ، وعليه فلا يمكن نفي الثالث بالأخذ بالمدلول الالتزاميّ الذي يتفق فيه المتعارضان ، نعم نفي الثالث في موارد العلم بصدق أحدهما هو بالعلم ، لا باعتبار أحدهما لا بعينه منهما حتى بحسب الواقع.

١٠٦

مقتضى الأصل في تعارض الأمارتين

ومما ذكر يظهر أنّه لا يصحّ في المقام القول بأنّ مقتضى الأصل في المتعارضين هو التخيير بينهما في الأخذ فيكون المأخوذ حجة ، ويمكن نفي الثالث به بدعوى أنّ مقتضى اعتبار كلّ أمارة خارجيّة اعتبارها مطلقا مع احتمال صدقها سواء اخذ بها أم لم يؤخذ بها ، وسواء اخذ بصاحبها أم لم يؤخذ ، وبما أنّه لا يمكن التحفظ على هذا الإطلاق في المتعارضين ؛ لأنّه تعبّد بكلتا الأمارتين مع العلم بعدم الملاك فيهما معا ، يقيّد إطلاق دليل الاعتبار في ناحية كلّ منهما بصورة الأخذ بها أو بصورة ترك الأخذ بالأمارة الاخرى ، فإنّ هذا المقدار هو المتيقّن في رفع اليد عن إطلاق دليل اعتبارها.

ووجه الظهور أنّه ليس في البين خطاب لفظي في ناحية كلّ من الأمارتين ليؤخذ في كلّ منهما بأصل الاعتبار ، ويرفع اليد عن إطلاقه ، بل عمدة الدليل السيرة العقلائية التي أشرنا إليها ، وهي مفقودة في مورد تعارض الأمارتين اللتين يكون اعتبار كلّ منهما في عرض الاخرى ، بل لو كان في البين خطاب لفظي يدلّ على اعتبار الأمارة مع الغمض عن السيرة المتقدمة كما في البيّنة في الموضوعات فالجمع المذكور غير صحيح أيضا ، لأنّ التخيير إنّما يكون مقتضى الأصل فيما إذا كان الملاك والتكليف في كلّ من الفردين أو الفعلين ووقوع التزاحم بينهما في الامتثال ، كما يأتي عند التعرض للفرق بين التزاحم والتعارض.

وأمّا الأمارات التي ملاكها الطريقيّة يعني : احتمال الإصابة للواقع والحكم فيها طريقي فلا يمكن ذلك ؛ لأنّه لا يحتمل أن يكون كلّ منهما مصيبا للواقع ولا يحتمل أن يكون الحكم الواقعي مدلول هذه الأمارة مشروطا بترك العمل بالاخرى أو مشروطا بالعمل بها ، بل الواقع إمّا على طبق هذه الأمارة اخذ بها أم لم يؤخذ ، ترك العمل

١٠٧

.................................................................................................

______________________________________________________

بالأخرى أو لم يترك ، أو أنّه على طبق الاخرى ، ويحتمل في غير موارد العلم بصدق أحدهما عدم كونه مطابقا لشيء منهما فلا يكون الالتزام بالتخيير المذكور جمعا عرفيّا بينهما ، وإنّما يكون التخيير جمعا عرفيّا إذا احتمل أنّ الحكم الواقعي النفسي تخييري ثبوتا ، كما في مسألة قيام الأمارة على وجوب صلاة الظهر يوم الجمعة وقيامها على وجوب الجمعة ، والوجه أنّ ذكر العدل لمتعلق الوجوب في خطاب الأمر بالشيء أو في خطاب آخر يكشف عن تعلّق الوجوب ثبوتا بالجامع بينهما ، وقد فرغنا أنّ مدلول دليل الاعتبار هو اعتبار أمارة خارجيّة بعينها لا بالجامع بينها وبين غيرها ، وذكرنا أنّه لو كانت الأمارة مصيبة بالواقع كانت طريقا إلى الواقع ، فالعمل بالاخرى أو تركها لا دخل في طريقيّتها ، وإن لم تصب الواقع فلا تكون طريقا اخذ بها أو لم يؤخذ.

وقد أورد (١) للجمع المذكور والالتزام بأنّ مقتضى القاعدة الأوّلية التخيير بين المتعارضين بوجه آخر ، وهو أنّ لازم تقييد اعتبار كلّ من الأمارتين بالأخذ بها عدم اعتبار شيء منهما عند ترك العمل بهما فيكون المرجع للتارك هو الرجوع إلى العامّ الفوق أو الإطلاق ، ومع عدمهما الأصل العملي في المسألة الفرعيّة.

وبتعبير آخر لا معنى لكون شيء حجة على تقدير العمل به ، فإنّ الحجة ما يؤخذ به المكلف على تقدير إصابتها الواقع عمل بها المكلف أم لا.

ولا يرد النقض بالتخيير بين الخبرين المتعارضين لو قيل باستفادة ذلك مما ورد في الأخبار الواردة في المتعارضين من الأخبار ـ المعروفة بالأخبار العلاجيّة ـ فإنّ مفادها هو تعيّن الأخذ بأحدهما ، بخلاف تقييد إطلاق دليل الاعتبار بصورة الأخذ به ، فإنّ تعيّن

__________________

(١) مصباح الاصول ٣ : ٣٦٦.

١٠٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الأخذ بأحدهما لا يستفاد من تقييد إطلاق الاعتبار.

ولكن لا يخفى ما فيه ، فإنّ الأصل العملي في الشبهات الحكميّة لا يعتبر مع التمكّن من الوصول إلى الدليل والحجّة على التكليف الواقعي ، وكذلك لا يكون عموم العامّ أو إطلاق المطلق حجة مع التمكّن من الوصول إلى المخصّص للعامّ والمقيّد للإطلاق ، والأخذ بأحد الخبرين وصول إلى الدليل والحجّة.

نعم ، المحذور المذكور يجري في الأمارات القائمة في الموضوعات الخارجيّة مع تعارض الأمارتين ولكنّ الأمارات المتعارضة فيها خارجة عن البحث في المقام ، والالتزام فيها بالرجوع إلى الأصل العملي مع التعارض لا محذور فيه.

والمتحصّل من جميع ما ذكرنا أنّه بناء على مسلك الطريقيّة في المتعارضين من الأمارة حتى فيما فرض لاعتبارها خطاب لفظي أنّ ذلك الخطاب لا يعمّهما معا ، وشموله لأحدهما فقط لا معيّن له ، فلا يدخل شيء منهما تحت دليل اعتبار تلك الأمارة ، ولا يجري في الأمارات ما تقدّم في الاصول العمليّة من شمول دليل اعتبار الأصل لأطراف العلم الإجمالي فيما لا يلزم من شموله لها الترخيص القطعي في المخالفة للتكليف الواصل بالعلم الإجمالي ، وذلك لأنّ الأمارات الواقع فيها الكلام في المقام كالظواهر وأخبار الثقات لها مداليل مطابقيّة ومداليل التزاميّة ، مثلا إذا ورد في الخطاب : «العصير العنبي إذا غلى يحرم» فمدلوله المطابقي تعلّق الحرمة بالعصير بحدوث غليانه ، ومدلوله الالتزامي عدم تعلّق الحلية بالعصير من العنب عند غليانه ، وإذا ورد خبر عدل بأنّه : إذا ذهب أربع فراسخ ورجع أربعا فعليه القصر في الصلاة (١) فالمدلول الالتزامي له

__________________

(١) وسائل الشيعة ٨ : ٤٥٦ ، الباب ٢ من أبواب صلاة المسافر.

١٠٩

.................................................................................................

______________________________________________________

عدم وجوب التمام ، وأنّ المسافة الملفقة من الذهاب والإياب سفر. وإذا ورد في خبر أنّه : إذا ذهب أربعا ورجع أربعا فعليه التمام ، فمدلوله الالتزامي لذلك نفي المدلول المطابقي للأوّل.

وعلى ذلك فدليل اعتبار خبر العدل أو الثقة شموله لكلا المتعارضين غير ممكن لمناقضة المدلول المطابقي لأحدهما مع المدلول الالتزامي الآخر ، والتعبّد بالمتناقضين أمر غير ممكن ؛ لأنّه لغو محض ؛ ولذا ذكرنا في بحث الاصول العمليّة أنّ المناقضة في المفاد حتى بين أصلين توجب المعارضة بينهما وإن لم تستلزم المخالفة العمليّة ، كتعارض استصحاب عدم جعل الحكم بحيث يعمّ الحالة اللاحقة مع الاستصحاب في الحكم الفعلي السابق.

وإذا لم يمكن الاعتبار لكلا المتعارضين معا فإن ارجع الاعتبار إلى عنوان أحدهما لا بعينه ، كما تقدّم في كلام الماتن فقد تقدّم عدم تعلّق الاعتبار بالجامع ، وإن ارجع إلى اعتبار كلّ منهما على تقدير الأخذ به أو ترك الآخر فقد تقدّم أنّ أيّ أمارة إن كانت مصيبة للواقع لا يكون للأخذ بها أو ترك الآخر دخلا في طريقيّتها ، وكذا إذا كانت مخطئة غير مصيبة فالتقييد المزبور لا يعدّ جمعا عرفيّا بين دليل اعتبار هذه وبين اعتبار تلك إذا كانتا من سنخين مختلفين ، والأمر فيما كانتا من سنخ واحد أوضح ؛ لأنّ الخطاب في الحكم الطريقي والاعتبار لا يزيد على خطاب الحكم النفسي.

وكما لا يمكن الأخذ بخطاب الحكم النفسي فيما إذا لم يمكن ثبوته لكلا الفردين معا ـ كما إذا تزوّج بأمّ وبنتها بعقد واحد لا يمكن تقييد إمضاء نكاح كلّ منهما بالأخذ به والالتزام بأنّ نكاح أيّ منهما ممضى على تقدير الأخذ بنكاحها أو على تقدير ترك الاخرى ، بل ينحصر التخيير بموارد التزاحم بين التكليفين ـ كذلك الحال في الحكم

١١٠

.................................................................................................

______________________________________________________

الطريقي المستفاد من خطابات الاعتبار في موارد تعارض الدليلين.

نعم قد يقال في مسألة نكاح الأمّ والبنت إنّ شمول دليل إمضاء النكاح بالإضافة إلى نكاح البنت بلا محذور ؛ لأنّ البنت لا تحرم بمجرّد نكاح الأمّ بخلاف نكاح الامّ فإنّها تحرم بمجرّد نكاح البنت ، وهذا إن تمّ ، بيان معيّن لأحد الفردين ، فإنّه لو كان في البين معيّن ولو من الخارج ، كما إذا ادّعى ذلك في الأخبار العلاجيّة فلا بأس بالالتزام به.

المدلول الالتزامي كما أنه تابع للدلالة المطابقيّة في التحقّق كذلك يتبعه في الاعتبار

وقد ذكر المحقّق النائيني قدس‌سره (١) لنفي الحكم الثالث بالمتعارضين وجها آخر ، وهو أنّ لكلّ من المتعارضين مدلولا التزاميا يتفقان فيه ، والدلالة الالتزاميّة وإن كانت تابعة للدلالة المطابقيّة في الوجود إلّا أنّها غير تابعة للدلالة المطابقيّة في الاعتبار والحجيّة ، وبتعبير آخر كما أن كلّا من المتعارضين خبر عدل بالإضافة إلى المدلول المطابقي ، كذلك هما خبر عدل بالإضافة إلى المدلول الالتزامي ، والتعارض بتنافي مدلولي الدليلين غير متحقّق بالإضافة إلى المدلول الالتزامي لهما فيؤخذ بهما في ذلك المدلول ، وهذا عبارة اخرى عن نفي الثالث بالمتعارضين ، وإن شئت قلت : لا تتبع الدلالة الالتزامية الدلالة المطابقية في الاعتبار ؛ ولذا لو كان الخطاب بحسب مدلوله المطابقي مجملا ولكن كان له مدلول التزامي مبيّن يؤخذ بذلك المدلول الالتزامي ، كما هو الحال بالإضافة إلى المدلول التضمّني للخطاب ، فإنّه إذا سقط عن الاعتبار بالإضافة إلى تمام مدلوله المطابقي فلا يسقط بالإضافة إلى مدلوله

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٧٥٥ فما بعد.

١١١

.................................................................................................

______________________________________________________

التضمّني ، كما هو الحال في التبعيض في الخبر بحسب مدلوله في الاعتبار وعدمه.

ولكن لا يخفى ما فيه ، فإنّ الإخبار عن المدلول الالتزامي إنّما هو بفرض ثبوت المدلول المطابقي لا مطلقا ؛ ولذا لو سئل من المخبر لو اتفق في الواقع عدم ثبوت للمدلول المطابقي في خبرك فهل تخبر مع ذلك بثبوت المدلول الالتزامي؟ يكون جوابه النفي ، فالمعارضة المفروضة بين الخبرين المتعارضين في مدلولهما المطابقي تجري في مدلوليهما الالتزاميين أيضا ؛ ولذا لو أخبر شخص بإصابة البول لمائع فهو إخبار بنجاسته المترتّبة على إصابته ، فإن أخبر شخص آخر أنه أصابه الخمر دون البول فهو أيضا إخبار بنجاسته المترتّبة على إصابة الخمر فلا تثبت نجاسته ؛ لأنّ النجاسة المترتّبة على ذلك المائع نجاسة خاصّة ينفيها من يخبر بإصابة الخمر إيّاه لا البول ، وأيضا لا يؤخذ المال من ذي اليد إذا أخبر عدل بأنّ ذلك المال لعمرو ، وأخبر عدل آخر أنّه ليس لعمرو بل هو لبكر ، فلا يقال إنّ خبرهما في مورد يعتبر بيّنة على أنّ المال ليس لذي اليد إلى غير ذلك.

ومما ذكر ظهر أنّه لا مجال لقياس المتعارضين بما إذا كان المدلول المطابقي لخطاب مجملا وكان له مدلول التزامي مبيّن ، فإنّه يؤخذ به في ذلك المدلول الالتزامي ، كما إذا ورد النهي عن صوم يوم العيد وتردّد النهي بين أن يكون النهي من التحريم الذاتي أو الوضعي ، فإنّه يحكم بذلك الخطاب ببطلان صوم يوم العيد سواء كان النهي تحريما أو إرشادا إلى عدم المشروعيّة ، فإنّ البطلان لازم أعمّ لحرمة العبادة أو عدم مشروعيّتها ، وكذلك الحال في موارد التبعيض في الرواية ، وكون بعض مدلوله ثبوتا غير مرتبط لثبوت بعضه الآخر ، وقد تقدّم أنّه لا فرق في ذلك كلّه بين الالتزام باعتبار الأمارة من باب الطريقيّة أو السببيّة فلا تفيد.

١١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

ثمّ إنّ الموضوع للاعتبار ظاهر الخطاب سواء كان الظهور وضعيّا أو بالقرينة العامّة كالظهور الإطلاقي أو بالقرينة الخاصّة ، ورفع اليد عن الظهور وحمل الخطاب على إرادة غيره من غير قرينة عرفيّة ، بأن كان الحمل على غير ظاهره لمجرّد انتفاء المعارضة والتنافي بين الخطابين لا دليل عليه ، وعلى ذلك فإن كان صدور الخطابين وجدانيّا فمع تعارض ظهور كلّ منهما مع الآخر وعدم القرينة على الجمع بينهما لا يكون ظهور شيء منهما معتبرا ، أو إن كان صدور كلّ منهما غير محرز وجدانا فلا يمكن أن يعمّهما دليل اعتبار الصدور ؛ لأنّ التعبّد بصدورهما مع تعارض ظهورهما وتنافي مدلولهما لغو محض ، والتعبّد بصدور أحدهما دون الآخر بلا معيّن غير ممكن بالنظر إلى دليل الاعتبار كما تقدّم ، والتعبّد بالجامع بينهما أيضا كذلك لما ذكرنا من انحلال دليل الاعتبار بالإضافة إلى أفراد الأمارة لا الجامع لا بعينه ، ولو كان صدور أحدهما وجدانيّا دون الآخر فمع فرض المعارضة وعدم الجمع العرفي بينهما لا يعتبر غير الوجداني ، فإنّ دليل اعتبار غير الوجداني قاصر عن شموله لفرض معارضته مع الوجدانيّ كما هو الحال في معارضة الخبر مع ظهور الكتاب.

فتحصّل أنّ ما ذكر من أنّ الجمع بين الدليلين مهما أمكن أولى من الطرح غير تامّ إلّا أن يراد موارد الجمع العرفيّ فتكون الأولويّة تعيينيّة نظير الأولويّة في ميراث اولي الأرحام.

في التزاحم بين التكليفين

وحيث قد يذكر في المقام التزاحم فينبغي التعرّض للفرق بين التعارض والتزاحم لئلا يشتبه أحدهما بالآخر ، فنقول : قد يكون التزاحم في ملاكات الأحكام والتكاليف ، كما إذا كان في فعل جهة صلاح ملزم وجهة فساد كذلك ، فيلاحظ الملاك

١١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

الغالب منهما ويجعل الحكم على طبق ذلك الملاك ، وهذا من وظيفة الحاكم وليس للمكلّف دخالة في تعيين ذلك الحكم وملاكه ، بل وظيفته موافقة الحكم المجعول حتى ما لو فرض عدم اعتقاده بتشخيص الحاكم بل اعتقاده خطأ المولى في تشخيصه ، ولو لم يكن أحد الملاكين راجحا على الآخر رجحانا لزوميّا يجعل المولى الحكم الترخيصي لذلك الفعل ، وقد يكون التزاحم في مقام الامتثال دون جعل التكليفين ، بأن يكون كلّ من التكليفين مجعولا بنحو القضية الحقيقيّة وفعليّا عند تحقّق موضوعهما وتمكّن المكلّف على موافقة كلّ منهما ، ولكن قد يتفق للمكلّف عدم تمكّنه من الجمع بين امتثالهما ، بأن يكون صرف قدرته على امتثال أحدهما موجبا لارتفاع قدرته على الآخر سواء كان التكليفان مستفادين من خطاب واحد لانحلاليّة مدلوله ، كما في خطاب إنقاذ الغريق وتطهير المسجد أو مستفادا من خطابين ، كما في إنقاذ الغريق مع النهي عن التصرف في ملك الغير بلا رضاه ، فيكون ملاك التزاحم بين التكليفين في الامتثال عدم تمكّنه من الجمع بينهما في الامتثال بعد الفراغ من جعل كلّ منهما بنحو القضية الحقيقيّة على المتمكّن على المتعلّق ، بخلاف التعارض فإنّ الملاك فيه العلم بعدم جعل كلا الحكمين المدلول على كلّ منهما بخطاب أو أمارة ولو مع قدرة المكلّف من الجمع بين متعلّقهما ، وعلى ذلك فافتراق التعارض بين الدليلين والخطابين وبين التزاحم بين التكليفين ظاهر لا يشتبه أحدهما بالآخر.

نعم ذكر المحقّق (١) النائيني للتزاحم بين التكليفين موردا آخر وهو أن يكون

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٥٠٤.

١١٤

.................................................................................................

______________________________________________________

التزاحم بينهما من غير ناحية عدم تمكّن المكلّف من الجمع بينهما في الامتثال ، ومثّل للمورد ما إذا قام دليل على وجوب شاة في كلّ خمس من الإبل إلى أن تبلغ ستّا وعشرين إبلا ، وقام الدليل على وجوب بنت مخاض في ستّ وعشرين من الإبل وإذا ملك المكلّف خمسا وعشرين من الإبل إلى نصف الحول ثمّ ملك إبلا اخرى أثناء الحول فيجب عليه خمس شياه كما هو مقتضى الدليل الأوّل بعد حولان الحول ، ومقتضى ما دلّ على وجوب بنت مخاض في ستّ وعشرين وجوبه عند حولان الحول عليها ، فيلزم أن يكون المال الواحد مزكّى في الحول أزيد من المرّة مع قيام الدليل على أن المال الواحد لا يزكى في حول واحد أزيد من مرّة ، فيقع التزاحم بين ما دلّ على وجوب خمس شياه وما دلّ على وجوب بنت مخاض بحولان الحول على ستّ وعشرين من الإبل.

وقد يقال (١) : في الجواب عن ما ذكر بأنّ مثل المورد المذكور ليس من باب التزاحم بل من باب التعارض بعينه ، فإنّ مقتضى الخطابين وجوب خمس شياه بعد حلول الشهر السادس بعد تملك الإبل السادس والعشرين ووجوب بنت مخاض بعد كمال الحول بعد تملّكه مع قيام الدليل على عدم وجوب إحدى الزكاتين ، فيكون نظير ما دلّ على وجوب صلاة الجمعة مع ما دلّ على وجوب صلاة الظهر مع العلم بعدم وجوبهما معا ، ويكون مقتضى الجمع العرفي بينهما التخيير بين الزكاتين نظير التخيير بين صلاتي الظهر والجمعة.

ولكن لا يخفى أنّه لا منافاة بين ما دلّ على وجوب خمس شياه بعد حولان

__________________

(١) مصباح الاصول ٣ : ٣٥٩.

١١٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الحول عليها وبين ما دلّ على عدم تعلّق الزكاة بالمال في حول واحد مرّتين ، بل التنافي بين ما دلّ على وجوب بنت مخاض بعد حولان الحول على تملك ستّ وعشرين ، وبين ما دلّ على أنّ المال الواحد لا يزكّى في الحول مرّتين ، وبما أنّ خطاب هذا الحكم ناظر إلى موارد تداخل الحولين يكون مقيّدا لإطلاق ما دلّ على الوجوب في ستّ وعشرين بعد انقضاء الحول على تملّكها ، وأنّ الحول لها يكون بعد انقضاء الحول على خمس وعشرين.

اختصاص التزاحم بالتكاليف النفسيّة وعدم جريانه في التكاليف الضمنيّة

ثمّ إنّ التزاحم بين التكليفين لا يتحقّق في نفس التكاليف الضمنيّة بل مورده نفس التكاليف النفسيّة ، كما إذا لم يتمكّن المكلّف من الركوع والسجود الاختياريين في كلّ من صلاة الظهر والعصر وتمكّن من رعايتهما في إحدى الصلاتين ، أو لا يتمكّن من صيام تمام شهر رمضان وتمكّن من صيام بعضه كالنصف الأوّل من الشهر أو النصف الأخير منه ، فإنّ هذا يدخل في باب التزاحم بناء على وجوب صوم شهر رمضان بنحو الانحلال بالإضافة إلى أيامه بدخول الشهر ، كما هو الحال في وجوب صلاتي الظهر والعصر بتحقّق الزوال ، ويأتي أنّه لا بدّ من صرف قدرته على امتثال التكليف الذي ظرف امتثاله أسبق ، حيث إنّ تقدّم ظرف الامتثال في المتزاحمين مرجّح ، فإنّ ترك الصوم مثلا في النصف الأوّل ترك لموافقة التكاليف المتعلّقة بصيام أيّامه مع التمكّن من الصوم ، بخلاف ترك الصيام في النصف الأخير فإنه ترك للصوم مع عدم التمكّن منه فلا يكون تكليف بالإضافة إلى النصف الأخير لارتفاع الموضوع بالإضافة إليه ، وكذا ترك الظهر بالركوع والسجود الاختياريين ترك لها مع التمكّن منها فلا يجوز ، بخلاف الإتيان بصلاة العصر مع الركوع والسجود

١١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الاضطراريين بعد الإتيان بالظهر فإنّه ترك لصلاة العصر الاختياريّ مع عدم التمكّن منها.

وهذا التزاحم لا يجرى فيما إذا لم يتمكّن المكلّف في صلاة واحدة من الركوع والسجود الاختياريين إلّا في ركعتين منها إمّا الأوّلتين أو الأخيرتين ، وذلك فإنّ التكليف الاختياري تعلّق بالصلاة مع الركوع والسجود الاختياريين في تمام ركعاتها ، وهذا التكليف تكليف واحد ثبوتا يسقط عن المكلّف في الفرض لعدم تمكّنه منها ، غاية الأمر قد علم من الأدلّة عدم سقوط التكليف بالصلاة رأسا مع عدم تمكّنه من بعض أجزائها وشرائطها ، وهذا العلم قد يحصل من الخارج ، وقد يحصل من جعل البدل للمأمور به الاختياريّ ، وعلى ذلك فتعيين أنّ اللازم في الفرض هو الصلاة مع الركوع والسجود الاختياريين في الركعة الاولى والثانية أو مخيّر بين الأوّلتين والأخيرتين يحتاج إلى دليل ، ومع عدمه مقتضى أصالة البراءة عن التعيين هو التخيير ، وإذا قام الدليل على رعاية الاختياريّ أوّل الصلاة يؤخذ به أو على التخيير فكذلك ، ولا تصل النوبة إلى جريان أصالة البراءة عن التعيين ، كما في القيام المعتبر في الصلاة وأنّه إذا دار أمر المكلّف بين القيام في الركعتين الأولتين أو الأخيرتين تعيّن رعايته في الأولتين أخذا بظاهر قوله عليه‌السلام (١) : «إذا قوى فليقم».

هذا بالإضافة إلى أمرين يعتبر كلّ منهما في عمل مع كونهما عن سنخ واحد.

وأمّا إذا كان الأمران المعتبران فيه سنخين ولم يتمكّن المكلف من الجمع بينهما في ذلك العمل ، فمع العلم بعدم سقوط العمل عن المكلّف ، فإن كان لدليل

__________________

(١) وسائل الشيعة ٥ : ٤٩٥ ، الباب ٦ من أبواب القيام ، الحديث ٣.

١١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

اعتبار أحدهما في ذلك العمل إطلاق يقتضي اعتباره فيه مطلقا ، ولم يكن لدليل اعتبار الآخر إطلاق كذلك كما إذا دار أمر المكلف بين الصلاة قائما بلا استقرار وبين الصلاة جالسا مع الاستقرار ، فيقدّم ما كان لدليل اعتباره إطلاق فيصلّي قائما بلا استقرار ، حيث إنّ الدليل في اعتبار القيام في الصلاة لفظي يقتضي عدم تحقّق الصلاة بدونه ، بخلاف دليل اعتبار الاستقرار ، فإنّ الدليل على اعتباره في القيام الإجماع ، ولا يعمّ الفرض لعدم الاتفاق على اعتباره في الفرض ، فيؤخذ بما دلّ على اعتباره دليل لفظي من غير معارض ، وكذا ما إذا كان الدليل على اعتبار أحدهما في العمل في جميع الأحوال دالّا وضعيّا ودلالة الدليل على اعتبار الآخر بالإطلاق فيؤخذ بما قام على اعتباره حتى في الحال دالّ وضعيّ كالعموم الوضعيّ بناء على عدم تماميّة الإطلاق في مقابل الدلالة الوضعيّة كما يأتي ، وإذا كان الدالّ على اعتبار كلّ منهما الدالّ الوضعي أو الإطلاق فيتساقطان ويرجع إلى الأصل العملي ، ومقتضاه البراءة عن خصوصيّة كلّ منهما فيما إذا احتمل التخيير واقعا أو من باب لزوم الموافقة الاحتماليّة إذا علم عدم التخيير وتعيين أحدهما واقعا.

والمتحصّل ممّا ذكرنا أنّ عدم تمكّن المكلّف من الجمع بين جزءين أو شرطين أو جزء وشرط من عمل واحد يوجب سقوط التكليف بذلك العمل الكلّ أو المشروط ، ومع العلم بعدم سقوط العمل عن عهدة المكلّف رأسا يثبت التكليف الآخر بالناقص ، وإذا أمكن تعيين ذلك الناقص بالدليل على ما تقدّم فهو ، ومع عدمه ولو للمعارضة في أدلّة اعتبار الجزئيّة والشرطيّة تصل النوبة إلى الأصل العملي ، ولا يكون دليل اعتبار الجزء مع الجزء الآخر أو مع دليل اعتبار الشرط أو الشرط مع الشرط الآخر من المتزاحمين.

١١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وممّا ذكرنا يظهر الحال في مسألة دوران أمر المكلّف بين الوضوء لصلاته التي يصلّيها بصرف الماء فيه أو في تطهير ثوبه أو بدنه ، فإنّ هذا لا يدخل في باب التزاحم بين التكليفين ليجري فيه حكم المتزاحمين ، بل يدور أمر الصلاة المأمور بها بين أن تجب الصلاة مع الوضوء ولو مع نجاسة الثوب أو البدن وبين تطهير المتنجس منهما والصلاة مع التيمّم حيث إنّ كلّا من الصلاتين بدل اضطراري للصلاة الاختياريّة ، ومع احتمال التخيير واقعا أو احتمال التعين في ناحية كلّ منهما يتخيّر بين الأمرين كما تقدّم.

مرجّحات باب التزاحم

ويقع الكلام في ذيل باب التزاحم بين التكليفين في المرجّحات التي ذكروها في هذا الباب :

فمن المرجحات إحراز الأهمية واحتمالها في ناحية أحد التكليفين فيقدّم في الامتثال ، بخلاف ما إذا احرز تساويهما أو احتمل الأهمية في ناحية كلّ منهما حيث إنه يتخيّر في الامتثال بينهما ، ولو حصل الكسوف في آخر وقت الظهرين ولم يتمكّن المكلّف من الجمع بين فريضة الوقت وصلاة الآيات يقدّم صلاة الوقت لأهميّتها ولا أقلّ من احتمالها من غير عكس ، ولا يكون الفرض من تعارض الخطابين والدليلين على ما مرّ.

لا يقال : كيف لا تقع المعارضة بينهما مع أن مقتضى إطلاق خطاب فريضة الوقت الإتيان بها في فرض التمكّن منها ، سواء تمكّن في ذلك الوقت من صلاة الآيات أم لا ، كما أن مقتضى خطاب الأمر بصلاة الآيات بالكسوف لزوم الإتيان بها عنده ، سواء تمكّن معها من فريضة الوقت أم لا ، فيقع التكاذب بين الإطلاقين.

١١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

فإنّه يقال : لا يقع التكاذب والتنافي في دلالة الخطابين أصلا حتّى تقع المعارضة بين الإطلاقين ، وذلك فإنّ المقيّد لموضوع التكليفين بالتمكّن هو العقل الحاكم بقبح التكليف بما لا يطاق ، فلا بدّ من أن يكون تقييده موضوع التكليف بالقدرة على متعلّقه بحيث لا يلزم منه المحذور المذكور بأن لا يكون في ناحية الأمر بالمهم إطلاق كما ذكر ، فإنّ الفعل في ناحية الأمر بالمهمّ يستقلّ باعتبار التمكن من متعلّقه في ظرف عدم صرفه على امتثال التكليف بالأهمّ أو مثله ، وفي فرض العجز الحاصل عن هذا الصرف لا تكليف بالإضافة إلى المهم ، ولو كان التكليفان في الأهميّة سواء أو كان كلّ منهما محتمل الأهميّة فهذا النحو من التقييد حاصل في ناحية كلّ من التكليفين ، بخلاف ما إذا كان أحد التكليفين أهمّ أو محتمل الأهميّة بالإضافة إلى الآخر فلا يكون تقييد في ناحية التكليف الأهمّ أو لم يحرز التقييد في ناحيته ويؤخذ بإطلاق خطاب وجوبه بخلاف الخطاب الآخر فإن الإطلاق في ناحية خطاب وجوبه غير باق قطعا.

ومن المرجّحات في باب التزاحم ما إذا كان ظرف امتثال أحد التكليفين مع فرض فعليّتهما معا أسبق من الآخر ، حيث يتعيّن صرف القدرة على ما يكون ظرف امتثاله أسبق ؛ لأنّ تركه في ظرف امتثاله ترك للواجب مع التمكّن من امتثاله ، وهذا الامتثال وإن يوجب عدم بقاء القدرة على امتثال التكليف الآخر إلّا أنّ التكليف الآخر يرتفع بانتفاء الموضوع له والعقل لا يمنع عنه ، فإنّه من ارتفاع التكليف بانتفاء القدرة عليه لا بسوء الاختيار. نعم ، لو احرز أهميّة التكليف الآخر بحيث يتعيّن على المكلّف تحصيل القدرة عليه وحفظها لزم رعاية التكليف اللاحق حتّى في بعض موارد احتماله ، كما إذا كان للمكلف ماء ودار أمره بين صرفه على اغتساله من الجنابة قبل

١٢٠