دروس في مسائل علم الأصول - ج ٤

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-94850-6-5
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٤٣

أبي حنيفة وقتادة عن الفتوى به.

أو بدعوى أنه لأجل احتوائه على مضامين شامخة ومطالب غامضة عالية ، لا يكاد تصل إليها أيدي أفكار أولي الأنظار غير الراسخين العالمين بتأويله ، كيف؟ ولا يكاد يصل إلى فهم كلمات الأوائل إلّا الأوحدي من الأفاضل ، فما ظنك بكلامه تعالى مع اشتماله على علم ما كان وما يكون وحكم كل شيء.

أو بدعوى شمول المتشابه الممنوع عن اتباعه للظاهر ، لا أقل من احتمال شموله لتشابه المتشابه وإجماله.

أو بدعوى أنه وإن لم يكن منه ذاتا ، إلّا أنه صار منه عرضا ، للعلم الاجمالي بطروء التخصيص والتقييد والتجوز في غير واحد من ظواهره ، كما هو الظاهر.

أو بدعوى شمول الأخبار الناهية عن تفسير القرآن بالرأي ، لحمل الكلام الظاهر في معنى على إرادة هذا المعنى.

______________________________________________________

وإنّما يعلمها من خوطب بها ونزلت في بيوتهم هذا هو الوجه الأول الذي ذكره الماتن ، والوجه الثاني : أنّ ما في الكتاب المجيد من رموز وإشارات إلى المضامين العالية والمطالب الشامخة الخارجة عن إدراكنا وقد لا ينال ما في كلمات الأوائل إلّا الأوحدي من الناس ، فكيف ينال ما في الكتاب المجيد عامة الناس مع اشتماله على علم ما كان ويكون وما هو كائن.

والوجه الثالث : العلم الإجمالي بوجود القرائن المنفصلة على المدلولات التصديقية للآيات أو لجملة منها ، وهذا العلم الإجمالي يوجب طروّ الإجمال على آيات الأحكام ولو حكما كما أشار إلى ذلك الماتن قدس‌سره في ذيل الوجه الثالث من كلامه ، وهو ورود النهي عن اتباع متشابهات القرآن الشامل لظواهره ولو لم يكن شمولها للظواهر متيقنا فلا أقل من احتماله.

٨١

ولا يخفى أن النزاع يختلف صغرويا وكبرويا بحسب الوجوه ، فبحسب غير الوجه الأخير والثالث يكون صغرويا ، وأما بحسبهما فالظاهر أنه كبروي ، ويكون المنع عن الظاهر ، إما لأنه من المتشابه قطعا أو احتمالا ، أو لكون حمل الظاهر على ظاهره من التفسير بالرأي ، وكل هذه الدعاوى فاسدة [١].

______________________________________________________

والوجه الرابع ورود النهي عن تفسير القرآن بالرأي الشامل لحمل الكلام الظاهر في معنى على إرادة ذلك المعنى ، ومقتضى بعض هذه الوجوه أنّه لا يحرز ظهور للكتاب المجيد حتّى يدخل في كبرى حجية الظواهر كما هو مقتضى الوجه الأول ، والوجه الثاني والثالث بحسب ما ذكرنا ، وأما بحسب الوجهين الأخيرين وهو مقتضى النهي عن اتباع المتشابه الشامل للظواهر أو النهي عن تفسير القرآن بالرأي الشامل لحمل الكلام على إرادة ظاهره خروج ظواهر الكتاب عن كبرى حجية الظواهر.

[١] الوجوه المذكورة كلّها ضعيفة لا توجب سقوط ظواهر الكتاب المجيد عن الاعتبار ، فإنّ دعوى كون الكتاب كلّه مجملات ورموز وإشارات إلى مطالب خارجة عن إدراكنا يكذّبها الوجدان ، وما ورد في اختصاص فهم القرآن بأهله المراد فهمه بتمامه بمحكماته ومتشابهاته ، أو المراد الأخذ بتلك الظواهر قبل الفحص والسؤال عن القرينة المحتملة التي كانت عند أهل بيت العصمة والطهارة والأخبار المأثورة عنهم عليهم‌السلام ، كما كان عليه مثل أبي حنيفة كيف وقد امرنا بالأخذ بالكتاب والعمل به وعرض الأخبار المتعارضة عليه وتمييز الشروط الصحيحة عن الفاسدة بمخالفتها للكتاب ، مع أنّ المراد بالكتاب في هذه الموارد ظواهره والمنع عن اتباع المتشابه يختص بمجملاته بحملها على معنى يستحسنه الشخص بحسب نظره ورأيه ، وهذا المنع غير راجع إلى الأخذ بظواهر آيات الأحكام بعد الفحص وعدم الظفر بالقرينة على خلاف ظواهرها ، فإنّ الظاهر يسمى ظاهرا لوضوح مدلوله الاستعمالي وعدم

٨٢

أما الأولى ، فإنما المراد مما دل على اختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله اختصاص فهمه بتمامه بمتشابهاته ومحكماته ، بداهة أن فيه ما لا يختص به ، كما لا يخفى.

وردع أبي حنيفة وقتادة عن الفتوى به إنما هو لأجل الاستقلال في الفتوى بالرجوع إليه من دون مراجعة أهله ، لا عن الاستدلال بظاهره مطلقا ولو مع الرجوع إلى رواياتهم والفحص عما ينافيه ، والفتوى به مع اليأس عن الظفر به ، كيف؟ وقد وقع في غير واحد من الروايات الإرجاع إلى الكتاب والاستدلال بغير واحد من آياته.

______________________________________________________

اشتباهه كما أنّه لا يكون الأخذ بمقتضى الظاهر بعد الفحص وعدم الظفر بخلافه من القرينة من التفسير بالرأي.

وأما دعوى العلم الإجمالي بطروّ التخصيص والتقييد والتجوز في غير واحد من ظواهر الكتاب ، فالجواب عنها بوجهين.

الأوّل : يحتمل أن يكون المقدار المعلوم بالتفصيل الذي يحصّله المجتهد بعد فحصه في الأخبار بمقدار المعلوم بالإجمال من التخصيصات والتقييدات والتجوزات ، وإن يحتمل زيادة المعلوم بالإجمال عنه ولكن لا أثر للعلم الإجمالي بعد احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل ، ونظير ذلك في الشبهات الموضوعية ما إذا علم بوجود شياه محرّمة في قطيع غنم ، ثم حصل العلم التفصيلي بحرمة مقدار منها واحتمال انحصار المعلوم بالإجمال بالمقدار المعلوم بالتفصيل وهذا هو المراد من جواب الماتن أولا.

الثاني : أن وجود القرائن فيما بأيدينا من الأخبار المأثورة عن الأئمة عليهم‌السلام على خلاف ظواهر الكتاب المجيد معلوم ، وأما العلم بعدم إرادة الظواهر من الكتاب في

٨٣

وأما الثانية ، فلأن احتواءه على المضامين العالية الغامضة لا يمنع عن فهم ظواهره المتضمنة للأحكام وحجيتها ، كما هو محل الكلام.

وأما الثالثة ، فللمنع عن كون الظاهر من المتشابه ، فإن الظاهر كون المتشابه هو خصوص المجمل ، وليس بمتشابه ومجمل.

وأما الرابعة ، فلأن العلم إجمالا بطروء إرادة خلاف الظاهر ، إنما يوجب الإجمال فيما إذا لم ينحل بالظفر في الروايات بموارد إرادة خلاف الظاهر بمقدار المعلوم بالإجمال.

مع أن دعوى اختصاص أطرافه بما إذا تفحص عما يخالفه لظفر به ، غير بعيدة ، فتأمل جيدا.

وأما الخامسة ، فيمنع كون حمل الظاهر على ظاهره من التفسير ، فإنه كشف

______________________________________________________

غير ما يكون بأيدينا من الأخبار فغير موجود من الأول ، غايته أنه محتمل وإذا أحرز بعد الفحص فيما بأيدينا من الأخبار عدم قرينة فيها على خلاف مورد ظاهر الخطاب أخذنا فيه بظاهره لخروجه بالفحص عن أطراف العلم الإجمالي ، وهذا نظير ما علم أن في الشياه السود من قطيع الغنم محرّما ، وأما وجود الحرام في البيض منها غير معلوم بل محتمل ، وإذا لم يتميّز السود من البيض يجب الاجتناب عن الجميع كما في الظلمة ونحوها ، وإذا امتازت لم يجب الاجتناب عن البيض وهذا توضيح ما أفاد الماتن في الجواب ثانيا.

ولعل وجه العدول عن الأول إلى الثاني ما يقال : من أن حدوث العلم التفصيلي في عدة أطراف معينة من العلم الإجمالي لا يوجب انحلاله وإن احتمل أن المعلوم بالإجمال كان في تلك العدة من الأطراف من الأول ، كما إذا علم بنجاسة بعض الآنية الموجودة في البين ، وبعد ذلك وقعت النجاسة في جملة معينة منها وعلمنا ذلك

٨٤

القناع ولا قناع للظاهر ، ولو سلم ، فليس من التفسير بالرأي ، إذ الظاهر أن المراد بالرأي هو الاعتبار الظني الذي لا اعتبار به ، وإنما كان منه حمل اللفظ على خلاف ظاهره ، لرجحانه بنظره ، أو حمل المجمل على محتمله بمجرد مساعدته ذاك الاعتبار ، من دون السؤال عن الأوصياء ، وفي بعض الأخبار (إنما هلك الناس في المتشابه ، لأنهم لم يقفوا على معناه ، ولم يعرفوا حقيقته ، فوضعوا له تأويلا من عند أنفسهم بآرائهم واستغنوا بذلك عن مسألة الأوصياء فيعرفونهم).

______________________________________________________

تفصيلا ، فإنّ احتمال وجود المعلوم بالإجمال في تلك الجملة من الأول لا يوجب جواز ارتكاب البقية بدعوى احتمال كونها خالية عن التكليف من الأول فيرجع فيها إلى أصالة الطهارة أو الحلية أو غيرها من الاصول النافية.

ولكن لا يخفى أنّه لا موجب لهذا التوهم فإنّ الموجب للانحلال هو أن يصير المعلوم بالإجمال الأولي معلوما تفصيلا في أطراف معينة ثانيا لا حصول موضوع التكليف في جملة معينة ثانيا ولو لم يكن حاصلا فيها من قبل ، فإنّ هذا لا يوجب انحلال المعلوم بالإجمال ؛ لأن الأصل النافي الجاري في البقية قد سقط بالأصل الجاري في الأطراف المعينة قبل وقوع المنجس فيها المعلوم تفصيلا على الفرض ، بخلاف ما إذا علم أن جملة من الأطراف كان التكليف فيها من السابق ، فإن هذا يوجب حدوث تكليف المعلوم بالإجمال في البقية من الأول ، هذا وفي البين احتمال آخر لوجه عدول الماتن قدس‌سره عن الأول إلى الثاني بأن لازم الوجه الأول كون العمل بالظواهر بعد الفحص عن جملة منها والظفر بما يحتمل انطباق المعلوم بالإجمال عليها غير محتاج إلى الفحص عن الظواهر الباقية لانحلال العلم الإجمالي بخلاف الوجه الثاني ، فإنّه ما دام لم يفحص عن القرينة عن ظاهر من ظواهر القرآن في الأخبار المأثورة عنهم عليهم‌السلام لم يخرج ذلك الظاهر عن دائرة المعلوم بالإجمال كما

٨٥

هذا مع أنه لا محيص عن حمل هذه الروايات الناهية عن التفسير به على ذلك ، ولو سلم شمولها لحمل اللفظ على ظاهره ، ضرورة أنه قضية التوفيق بينها وبين ما دل على جواز التمسك بالقرآن ، مثل خبر الثقلين ، وما دل على التمسك به ، والعمل بما فيه ، وعرض الأخبار المتعارضة عليه ، ورد الشروط المخالفة له ، وغير ذلك ، مما لا محيص عن إرادة الإرجاع إلى ظواهره لا خصوص نصوصه ، ضرورة أن الآيات التي يمكن أن تكون مرجعا في باب تعارض الروايات أو الشروط ، أو يمكن أن يتمسك بها ويعمل بما فيها ، ليست إلّا ظاهرة في معانيها ، ليس فيها ما كان نصا ، كما لا يخفى.

ودعوى العلم الإجمالي بوقوع التحريف فيه بنحو : إمّا باسقاط ، أو تصحيف ، وإن كانت غير بعيدة [١] كما يشهد به بعض الأخبار ويساعده الاعتبار.

______________________________________________________

يظهر ذلك بالتأمل في المثال الذي ذكرناه.

دعوى عدم اعتبار ظواهر الكتاب المجيد لوقوع التحريف فيه

[١] قيل بعدم جواز العمل بظاهر الكتاب المجيد لوقوع التحريف فيه والتحريف المدعى وقوعه فيه إما بإسقاط كلمة أو آية أو بتصحيف أي استبدال كلمة باخرى كما في استبدال أئمة بامة على ما روي في قوله تعالى (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ)(١) ، وعلى الجملة التحريف بالزيادة نفيه في الكتاب المجيد أمر متسالم عليه ، فإنّ المنشأ لوقوع التحريف فيه بعض الروايات الوارد فيها الاستبدال والإسقاط ، وذكر الماتن قدس‌سره أن التحريف فيه بإسقاط أو تصحيف وإن لم تكن دعواه بعيدة لشهادة بعض الأخبار به ويناسبه بعض الاعتبارات ، ولعلّ منها عدم مناسبة بعض آية مع بعضها الآخر

__________________

(١) سورة آل عمران : الآية ١١٠.

٨٦

.................................................................................................

______________________________________________________

كقوله سبحانه (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ)(١) لعدم مناسبة ظاهرة بين الجزاء والشرط أو أن ما جرى بعد النبي الأكرم في مسألة الخلافة كان مناسبا للتحريف فيه ، إلّا أنّ هذا العلم لا يضرّ باعتبار آيات الأحكام لخروج غيرها من الآيات عن الابتلاء بمعنى اختصاص الحجيّة أي المنجزية والمعذريّة بظواهر آيات الأحكام ولا اعتبار بالعلم الإجمالي فيما إذا لم يكن للمعلوم بالإجمال أثر في بعض الأطراف ، وتكون الشبهة في أنّه كانت قرينة أو قرائن على خلاف ظواهر الكتاب من آيات الأحكام من الشبهة البدوية ، وهذا فيما إذا لم يكن الساقط متصلا بآيات الأحكام بحيث يحتمل كونه قرينة متصلة لها فينعقد معها ظهور على خلاف الظهور الأولي ، وإلّا فمع اتصاله بها واحتمال كونه موجبا لغلبة ظهوره الأولي فيسقط عن الاعتبار لرجوع الشك إلى قرينية الموجود ولم تقم سيرة من العقلاء على اتباع الظهورات الاقتضائية في موارد الشك في قرينية الموجود وصيرورته بالإضافة إلى ظهوره الفعلي مجملا.

أقول : لا يبعد عدم اعتبار الخطابات حتى فيما إذا احتمل أنّ الساقط كان من القرينة المنفصلة لأنّ مسألة عدم تنجز العلم الإجمالي بخروج بعض أطرافه عن الابتلاء خارجة عن مسألة حجية الظهورات بل اعتبارها مستفاد من سيرة العقلاء ولم يحرز اتباع الظهورات في مثل الفرض ، ألا ترى أنّه لو وصل كتاب المولى إلى عبده ورأى أنّ بعض الكتاب ممزق قبل الوصول إليه واحتمل أنّ في المقدار الممزق قرينة على المراد الجدّي لما في صدر الكتاب يصحّ له الاعتذار في ترك العمل بما فيه

__________________

(١) سورة النساء : الآية ٣.

٨٧

.................................................................................................

______________________________________________________

حتى يستفسر الحال هذا أوّلا :

وثانيا : أنّ خروج غير آيات الأحكام عن الابتلاء مبني على كون اعتبار الأمارة ومنها الظواهر هي عبارة عن جعل المنجزية والمعذرية لها ، وأمّا بناء على اعتبارها علما بالواقع فيدخل كل ظواهره في الابتلاء لجواز إسناد مقتضى ظواهره إلى الله سبحانه وأنّها مراداته ، ومع فرض العلم الإجمالي بسقوط شيء من بعض الآيات وكون الساقط قرينة منفصلة لبعضها لا يمكن الإسناد المزبور ، ولكن الصحيح عدم الإخلال في ظواهر الكتاب المجيد بعد الفحص عن القرينة في الآيات الاخرى والروايات المأثورة عن المعصومين عليهم‌السلام وذلك لوجهين.

أولهما : أنه لو كان في بعض الآيات قرينة متصلة أو قرينة منفصلة على المراد في بعض الآيات الاخرى وقد سقطت لتعرض المعصومين عليهم‌السلام إلى بيان المراد وموضع التحريف من تلك الآيات أو لا أقل من بيان الحكم المراد من الآية فعدم تعرضهم لذلك يكشف عن عدم الخلل في ذلك الظاهر.

وعلى الجملة لو فرض سقوط شيء من القرائن لبعض الآيات الراجعة إلى الأحكام لكانت تلك القرائن موجودة في كلامهم فإنّهم مبيّنون للكتاب المجيد والراسخون في العلم بحيث كان كلامهم جبرانا لما فات من الكتاب ، ومما ذكر يظهر الفرق بين الكتاب المجيد على القول بالتحريف فيه وبين الكتاب الممزق بعضه قبل وصوله إلى العبد إذا لم يعلم به المولى ، وأمّا إذا علم وقال اعمل به يعلم أنّه لم يكن في الممزق قرينة على الخلاف.

والثاني : إنّ القرآن الموجود في أيدي الناس في زمانهم صلوات الله عليهم

٨٨

.................................................................................................

______________________________________________________

بعينه الكتاب المجيد الموجود بأيدينا ، وقد أمروا الناس بالأخذ بالقرآن والعمل به في الشروط في المعاملات برد الشروط المخالفة له وعرض الأخبار المتعارضة عليه والأخذ بما يوافق الكتاب ، فإنّ تلك الأخبار شاهدة على عدم وقوع الخلل في آيات الأحكام ، بل لا يبعد دلالتها على عدم التحريف فيها ، حيث إنّه لو وقع التحريف فيها بحيث يقتضي طرح الخبر المأثور عنهم عليهم‌السلام لمنافاته مع الكتاب المجيد وردّ الأمر منهم أن مورده من الكتاب محرّف مع أنّهم جعلوا سلام الله عليهم الكتاب المجيد ميزانا في الأخذ بالخبر المأثور عنهم وردّه وضربه على الجدار.

لا يقال : على ما ذكر يشكل الاعتماد على ظواهر الأخبار المروية عنهم عليهم‌السلام في الوقائع ولو كان النقل بطريق معتبر ، وذلك للقطع بأنّ بعض الأخبار المأثورة عنهم عليهم‌السلام لم تصل إلينا ، ولعل فيما لم يصل إلينا كان قرينة على المراد الجدّي من بعض الواصل ، وكذا يحتمل في الأخبار الواصلة إلينا منهم أنّ بعضها كان مقترنا بكلام يعد قرينة متصلة على خلاف الظهور الفعلي وقد سقطت عن الكلام عند وسائط النقل.

ولكن لا يخفى أنّ الأخبار المأثورة عنهم عليهم‌السلام لا تسقط عن الاعتبار بما ذكرنا ، فإنّ ضياع قرينة متّصلة من كلامهم المنقول إمّا بالدس في الخبر أو ينشأ من غفلة بعض الرواة لاعتقاده أنّه لا دخل له في الحكم المنقول بنقل كلامهم مع كونه في الواقع قرينة متّصلة ، والأول مدفوع بإحراز أوصاف الرواة من كونهم ثقات أو عدول وطريق النقل معهود ومألوف بين أصحاب الحديث ، والاحتمال الثاني : مدفوع بأصالة عدم الغفلة ، وأمّا بالنسبة إلى الأخبار التي لم تصل إلينا وكان بين تلك الأخبار بعض الأخبار التي تعد قرينة على المراد الجدّي لبعض الأخبار الواصلة إلينا فلا يضر

٨٩

إلّا أنّه لا يمنع عن حجية ظواهره ، لعدم العلم بوقوع خلل فيها بذلك أصلا.

ولو سلّم ، فلا علم بوقوعه فى آيات الأحكام ، والعلم بوقوعه فيها أو فى غيرها من الآيات غير ضائر بحجية آياتها ، لعدم حجية ظاهر سائر الآيات ، والعلم الإجمالي بوقوع الخلل فى الظواهر إنما يمنع عن حجيتها إذا كانت كلها حجة ،

______________________________________________________

باعتبار الظهور ، فإنّ الظهور الاستعمالي حجة ما لم تثبت القرينة على خلافها ، ومن المحتمل أنّ تلك الأخبار التي لم تصل إلينا لم يكن شيء منها قرينة على المراد الجدّي من الأخبار الواصلة ، بل كانت تلك الأخبار مطابقة مع الواصل إلينا أو راجعة إلى امور كانت واردة في موارد لا ترتبط بموارد مدلولات الأخبار الواصلة بأن كان مدلولها بيان الحكم في الموارد التى ترجع فيها بالاصول العملية من غير أن يتضمّن تكليفا لموارد الاصول النافية ، وهذا لا يقاس بكتاب كل ما ورد فيه يكون موردا للإبتلاء ولو بالنحو الذي ذكرنا ، وقد علمنا بسقوط بعضه بالتمزيق ونحوه على ما قيل على القول بالتحريف في الكتاب المجيد خصوصا مع احتمال كون الساقط قرينة متّصلة مع قطع النظر عما ذكرنا في الجواب عنه.

هذا كله في التحريف بمعنى الإسقاط والتبديل ، وأمّا التحريف بمعنى تأويل الآيات إلى غير موارد نزولها أو تأويل ظواهره فهذا واقع قطعا ، وقد عبّر في بعض الروايات بتضييع الكتاب وتحريفه وكذا على ما قيل من التغيير في ترتيب السور وكذا في الحروف والإعراب في كتابتها بالزيادة والنقيصة بما لا ينافي حفظ أصل الكلمة القرآنية ، وكذا في قراءته من الحركات وبعض الحروف كما يشهد بذلك عدم ثبوت تواتر القراءات أو التحريف بمعنى عدم الاعتناء ببعض مقتضى موارد نزول بعض

٩٠

وإلّا لا يكاد ينفك ظاهر عن ذلك ، كما لا يخفى ، فافهم.

نعم لو كان الخلل المحتمل فيه أو في غيره بما اتصل به ، لأخلّ بحجيته ، لعدم انعقاد ظهور له حينئذ ، وإن انعقد له الظهور لو لا اتصاله.

ثم إنّ التحقيق أنّ الاختلاف في القراءة بما يوجب الاختلاف في الظهور مثل (يَطْهُرْنَ) بالتشديد والتخفيف يوجب الإخلال بجواز التمسك [١].

______________________________________________________

آياته أو ظهور نفس آياته ، وما بيّنه الرسول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو بيان ما كان في جملة من الآيات على ما جمعه علي عليه‌السلام في المصحف الذي جمعه ، فإنّ هذا كلّه خارج عن التحريف الذي حكيت دعواه عن بعض ، حيث ورد فيه بعض روايات غير صالحة للاعتماد عليها لضعفها سندا ، بل عدم دلالة بعضها على التحريف الذي أنكرنا وقوعه كما يظهر ذلك للمتضلّع في كيفية جمع القرآن وحفظه وكتابته واهتمام المسلمين في حفظه وعدم قبول دعوى وجود آية أو أكثر في القرآن نسخت تلاوتها.

[١] إذا وقع الاختلاف في القراءة فمع العلم الإجمالي بكون إحدى القراءات مطابقة لقراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يكون المورد مع اختلاف الظهور باختلافها من اشتباه الحجة بغير الحجة فلا يكون شيء منها معتبرا في ظهوره حتى فيما كان بين ظهوراتها جمع عرفي ، وذلك لعدم إحراز واحد منها بخصوصها هو القرآن المنزل ليؤخذ بظهوره ، نعم لو كان الظهور على بعضها أخصّ من سائرها يؤخذ بذلك الأخص لثبوت الحكم الوارد في الآية فيه على كل تقدير ويرجع في غيره بمقتضى الحجة الاخرى من خطاب شرعي أو أصل عملي ، ولكن تجوز القراءة في الصلاة وغيرها بأي من تلك القراءات لثبوت جوازها بإحداها وجواز القراءة كذلك لا يلازم جواز العمل ولو فرض ثبوت تواتر خبر كل من القراءات عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كما ادّعي لكان كل منها حجة إذا كان بين مداليلها جمع عرفي ، وأمّا مع عدم الجمع العرفي لا يكون شيء منها حجة كما

٩١

والاستدلال ، لعدم إحراز ما هو القرآن ، ولم يثبت تواتر القراءات ، ولا جواز الاستدلال بها ، وإن نسب إلى المشهور تواترها ، لكنه مما لا أصل له ، وإنما الثابت جواز القراءة بها ، ولا ملازمة بينهما ، كما لا يخفى.

ولو فرض جواز الاستدلال بها ، فلا وجه لملاحظة الترجيح بينها بعد كون الأصل في تعارض الأمارات هو سقوطها عن الحجية في خصوص المؤدى ، بناء على اعتبارها من باب الطريقية ، والتخيير بينها بناء على السببية ، مع عدم دليل على الترجيح في غير الروايات من سائر الأمارات ، فلا بد من الرجوع حينئذ إلى الأصل أو العموم حسب اختلاف المقامات [١].

______________________________________________________

هو الحال في سائر المتعارضين : إلّا أن يقوم دليل على جواز الاستدلال بكل قراءة كما تجوز القراءة بكل منها فإنّه مع قيام الدليل كذلك لكان المتعيّن التخيير لا الترجيح بلا فرق في ذلك بين مسلكي الطريقية والسببية على ما نذكره في بحث التعارض أنّ الأصل في الأمارتين المتعارضتين مع التعارض التساقط حتى بناء على مسلك السببية ، والترجيح بإحدى المرجّحات والتخيير مع عدمه على تقدير تمام الدليل عليه يختصّ بالروايات ولا يعمّ غيرها ، وما ذكرنا من تواتر القراءات أو قيام الدليل على العمل بكل منها مجرد فرض وإلّا فليس تواتر فيها ولا دليل على جواز العمل بأي قراءة. وما يظهر عن الشيخ قدس‌سره من احتمال الترجيح بمرجّحات المتعارضين في فرض عدم ثبوت جواز العمل بكل من القراءات لا يمكن المساعدة عليه ، فإنّ المورد مع عدم ثبوت جواز العمل كذلك من اشتباه الحجة بغير الحجة ومورد الترجيح هو الأخبار والروايات في فرض التعارض.

[١] إن كان المراد من (حينئذ) من المضاف بالظرف صورة قيام الدليل على جواز الاستدلال بكل قراءة كان مقتضاه جواز الاستدلال بكل من القراءتين سواء قيل

٩٢

.................................................................................................

______________________________________________________

بمسلك الطريقية أو السببية ، فإنّ الدليل على جواز القراءة بكل قراءة كما يقتضي التخيير بين القراءات عند اختلافها كذلك الدليل على جواز الاستدلال بكل منهما ، ولا يضر بذلك كون الأصل في المتعارضين التساقط على الطريقية ، والتخيير على مسلك السببية ، وإن كان المراد صورة عدم قيام الدليل على جواز الاستدلال بكل قراءة فالمناسب أن يقول : فلا بد في صورة اختلاف القراءات الرجوع إلى الأصل أو العموم والإطلاق حسب اختلاف المقامات من غير حاجة إلى إضافته.

قد يقال : إنّ الاختلاف في القراءة في آية (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ)(١) أو يتطهّرن لا يضر بالاستدلال بها ، فإنّ اختلاف القراءة أو اشتباه الحجة باللّاحجة فيها يرتفع في مقام الاستدلال بما ورد فيها (فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ)(٢) فإنّ قوله سبحانه (فَإِذا تَطَهَّرْنَ) يعيّن الغاية في الأمر باعتزالهن وعدم جواز الدخول بهن.

ولكن لا يخفى أنّ هذا وهم ، فإنّ قوله سبحانه (فَإِذا تَطَهَّرْنَ) تفريع على الغاية فإن كانت الغاية (حَتَّى يَطْهُرْنَ) الظاهر في حصول النقاء يكون التفريع للتصريح ببعض المفهوم ، وإن كان يتطهّرن يكون التفريع بيان تمام مفهوم الغاية ، وعلى الجملة التفريع لا يرفع الاشتباه والترديد في الغاية ، نعم لو كان قوله سبحانه (فَإِذا تَطَهَّرْنَ) بلا تفريع كان ذلك موجبا لارتفاعهما.

__________________

(١ و ٢) سورة البقرة : الآية ٢٢٢.

٩٣
٩٤

فصل

قد عرفت حجية ظهور الكلام في تعيين المرام [١]. فإن أحرز بالقطع وأن المفهوم منه جزما ـ بحسب متفاهم أهل العرف ـ هو ذا فلا كلام ، وإلّا فإن كان لأجل احتمال وجود قرينة فلا خلاف في أن الأصل عدمها ، لكن الظاهر أنه معه يبنى على المعنى الذي لولاها كان اللفظ ظاهرا فيه ابتداء ، لا أنه يبنى عليه بعد البناء على عدمها ، كما لا يخفى ، فافهم.

______________________________________________________

في احتمال وجود القرينة

[١] قد تقدم أنّ للكلام ظهورين ، أحدهما : المدلول الاستعمالي.

وثانيهما : المدلول التصديقي بمعنى كون المدلول الاستعمالي مطابقا للمراد الجدّي للمتكلّم ، وإذا احرز المدلول الاستعمالي ببركة العلم بالوضع أو بالقرينة وعدم ثبوت قرينة على تخالفهما يؤخذ بمقتضى الموافقة المعبّر عن ذلك بحجيّة الظهور الاستعمالي على المراد الجدّي بلا فرق بين أن يكون احتمال تخالفهما ناشئا عن اتكال المتكلّم على قرينة منفصلة متقدمة أو متأخرة لم يظفر بها بعد الفحص واليأس عن الظفر بها ، أو عدم ذكر القرينة على التخالف لمصلحة في إخفائها أو أنّ كلام المتكلّم وصل إلينا بطريق النقل ولم ينقل الراوي تلك القرينة الدالّة على مراده الجدّي ، ففي جميع ذلك يؤخذ بالظهور الاستعمالي المحرز لكونه حجة على المراد الجدّي ، والتعبير بأصالة العموم أو الإطلاق بعد عدم الظفر بالمخصص والمقيّد والقرينة على ارادة التخلف مما جرت عليه سيرة العقلاء ، وأمّا الاصول التي يحرز بها المدلول الاستعمالي للكلام فنقول : الشك في المدلول الاستعمالي له صور :

الأولى : ما إذا علم أوضاع الألفاظ والهيئات الواردة في الخطاب ومع ذلك

٩٥

وإن كان لاحتمال قرينية الموجود فهو ، وإن لم يكن بخال عن الإشكال ـ بناء على حجية أصالة الحقيقة من باب التعبد ـ إلّا أن الظاهر أن يعامل معه معاملة المجمل ، وإن كان لأجل الشك فيما هو الموضوع له لغة أو المفهوم منه عرفا ، فالأصل يقتضي عدم حجية الظن فيه ، فإنه ظن في أنه ظاهر ، ولا دليل إلّا على حجية الظواهر.

نعم نسب إلى المشهور حجية قول اللغوي بالخصوص في تعيين الأوضاع ، واستدل لهم باتفاق العلماء بل العقلاء على ذلك ، حيث لا يزالون يستشهدون بقوله في مقام الاحتجاج بلا إنكار من أحد ، ولو مع المخاصمة واللجاج ، وعن بعض

______________________________________________________

يشك فيه لاحتمال وجود قرينة حالية أو مقالية متصلة بالخطاب ولم تصل تلك القرينة إلى من وصل إليه ذلك الخطاب لغفلة الناقل أو سامع الخطاب ، وفي مثل ذلك لا ينبغي التأمل في عدم الاعتناء باحتمالها ، والظاهر أن المعتبر في الفرض نفس الظهور الاستعمالي الاقتضائي لا أصالة عدم القرينة كما يظهر من بعض كلمات الشيخ قدس‌سره وتبعه غيره ، بدعوى أنّ الظهور الفعلي هو المعتبر ولو كان إحرازه بأصالة عدم القرينة أو أصالة عدم الغفلة من المتكلم أو السامعين والناقلين بعد السماع ؛ ولذا لا يعملون بكتاب بعضه ممزق مع احتمال قرينة صارفة عن الظاهر في الجزء التالف ، وكذا الحال فيما إذا عرض للسامع نوم حين تكلّم المتكلّم.

أقول : قد عرفت سابقا حال الكتاب الممزق وغيره وأن العمل بالظهورات كانت فعلية أو اقتضائية بسيرة العقلاء ولا اعتبار عندهم بالظهور الاقتضائي في موارد العلم بغفلة السامع ، واحتمال ذكر المتكلّم قرينة في فترة غفلته وعدم تحقق الظهور الفعلي مع احتمال القرينة المتصلة وعدم اعتباره مع احتمال القرينة المنفصلة في تلك الفترة.

الثانية : ما إذا شك في المدلول الاستعمالي لاحتمال قرينية الموجود كما في

٩٦

دعوى الاجماع على ذلك.

وفيه : أن الاتفاق ـ لو سلم اتفاقه ـ فغير مفيد ، مع أن المتيقن منه هو الرجوع إليه مع اجتماع شرائط الشهادة من العدد والعدالة.

والإجماع المحصل غير حاصل ، والمنقول منه غير مقبول ، خصوصا في مثل المسألة مما احتمل قريبا أن يكون وجه ذهاب الجل لو لا الكل ، هو اعتقاد أنه مما اتفق عليه العقلاء من الرجوع إلى أهل الخبرة من كل صنعة فيما اختص بها.

والمتيقن من ذلك إنما هو فيما إذا كان الرجوع يوجب الوثوق والاطمئنان ، ولا يكاد يحصل من قول اللغوي وثوق بالأوضاع ، بل لا يكون اللغوي من أهل خبرة ذلك ، بل إنما هو من أهل خبرة موارد الاستعمال ، بداهة أن همه ضبط موارده ،

______________________________________________________

الأمر الواقع عقيب توهم الحظر أو الحظر حيث يحتمل أن يكون الحظر السابق أو توهّمه مما اعتمد عليه المتكلّم في إرادته الترخيص من الأمر ، وفي مثل ذلك لا اعتبار بأصالة عدم القرينية ولا بالظهور الاقتضائي.

الثالثة : أنّ الشك في المدلول الاستعمالي لعدم العلم بوضع اللفظ الوارد في خطاب المولى ولا ينبغي التأمل في أنّ الظن بالمدلول الاستعمالي لا اعتبار به ، كما لا اعتبار بالظن في سائر المقامات على ما تقدم ، ولكن المشهور على ما حكي عنهم على اعتبار قول اللغوي في تشخيص المدلول الاستعمالي وتعيين المعنى الظاهر من اللفظ وأنّ قوله من الظن الخاصّ ، ويقال : في وجه ذلك امور ؛ الأول : مراجعة اللغوي من أهل الخبرة في معاني الألفاظ وأوضاعها ، قد جرت سيرة العقلاء على المراجعة في كلّ امر إلى أهل خبرة ذلك الأمر والأخذ بقوله فيه مع عدم المعارضة بل معها إذا كان أحدهم أكثر خبرة من الباقي من غير اعتبار التعدد والعدالة ، واعتبار العدالة في الفقيه المعتبر قوله لكونه من أهل الخبرة في استنباط الأحكام واستخراجها من

٩٧

لا تعيين أن أيّا منها كان اللفظ فيه حقيقة أو مجازا ، وإلّا لوضعوا لذلك علامة ، وليس ذكره أولا علامة كون اللفظ حقيقة فيه ، للانتقاض بالمشترك.

وكون موارد الحاجة إلى قول اللغوي أكثر من أن يحصى ، لانسداد باب العلم بتفاصيل المعاني غالبا ، بحيث يعلم بدخول الفرد المشكوك أو خروجه ، وإن كان المعنى معلوما في الجملة لا يوجب اعتبار قوله ، ما دام انفتاح باب العلم بالأحكام ، كما لا يخفى ، ومع الانسداد كان قوله معتبرا إذا أفاد الظن ، من باب حجية مطلق

______________________________________________________

مداركها ، وكذا في القاضي ثبت بدليل خاصّ لا لاعتبارها في سماع قول أهل الخبرة.

الثاني : دعوى الإجماع وأن الرجوع إلى أهل اللغة وكتبهم مما عليه دأب العلماء في كل عصر وفيه أنه ليس في البين اجتماع تعبّدي حيث كان الرجوع إلى كتب أهل اللغة لكون الرجوع إليها مع خصوصية مورد الخطاب قد يوجب العلم والاطمئنان بالمراد ، وأمّا دعوى كونهم من أهل الخبرة ففيها أنّه يعتبر في أهل الخبرة كون الأمر المزبور مما للحدس دخل فيه بحيث يختصّ ببعض الأشخاص ، كما في تشخيص المرض والقيمة السوقية لمثل الدور والجواهر لا في الامور التي يمكن الاطلاع عليها بالحس من كلّ شخص كالاستماع إلى خطابات أهل المحاورة ، ورؤية الهلال ، والنظر إلى الافق في إحراز الغروب وطلوع الشمس ، فإنّ المخبر بهذه الامور ونحوها يعتبر قوله من جهة الشهادة أو الخبر هذا أولا ، وثانيا : على تقدير كون اللغوي من أهل الخبرة فهو بالإضافة إلى معاني الألفاظ أي المستعمل فيه لها ، وأمّا أن استعماله في أي منها بالوضع وظاهر فيه عند الإطلاق وفي الباقي بالعناية والمجاز ، فليس تعيين ذلك من عهدته ، ولذا لا يذكرون في كتبهم للحقيقة والمجاز علامة وذكر معنى من المعاني أولا لا يكون علامة لكون استعماله فيه بالوضع كما يشهد بذلك ذكرهم المعاني للمشترك.

٩٨

الظن ، وإن فرض انفتاح باب العلم باللغات بتفاصيلها فيما عدا المورد.

نعم لو كان هناك دليل على اعتباره ، لا يبعد أن يكون انسداد باب العلم بتفاصيل اللغات موجبا له على نحو الحكمة لا العلة.

لا يقال : على هذا لا فائدة في الرجوع إلى اللغة.

فإنه يقال : مع هذا لا تكاد تخفى الفائدة في المراجعة إليها ، فإنه ربما يوجب القطع بالمعنى ، وربما يوجب القطع بأن اللفظ في المورد ظاهر في معنى ـ بعد الظفر به وبغيره في اللغة ـ وإن لم يقطع بأنه حقيقة فيه أو مجاز ، كما اتفق كثيرا ، وهو يكفي في الفتوى.

______________________________________________________

وأمّا الأمر الثالث الذي ذكره البعض دليلا على اعتبار قول اللغوي دعوى انسداد باب العلم في معاني الألفاظ المستعملة في اللغات ولو من حيث سعة معنى اللفظ وضيقه ، فإن مثل معنى لفظ الماء من أوضح الألفاظ من حيث المعنى مع أن معناه من حيث السعة بحيث يصدق على الماء الصناعي أو السيل الغليط ونحو ذلك مجهول ، فيكون قول اللغوي معتبرا لكونه القدر المتيقّن من الظنّ ، وأجاب الماتن قدس‌سره عن ذلك بأنه لو أن باب العلم والعلمي في الأحكام الشرعية في الوقائع مفتوحا بحيث لا يلزم في الوقائع الخالية عن العلم والعلمي محذور من الرجوع إلى الأصل العملي فلا يفيد فيها قول اللغوي ، وإن كان باب العلم باللغات منسدا وإن لم يكن باب العلم والعلمي في الأحكام الشرعية مفتوحا فالمتعين العمل بالظنّ فيها ولو كان حاصلا من قول اللغوي حتّى مع فرض انفتاح باب العلم باللغات.

أقول : الظاهر دعوى المستدل الانسداد الصغير وهو ثبوت بعض التكاليف في الوقائع التي لا يحرز فيها ظاهر الخطابات الشرعية بحيث يلزم من العمل فيها بالاصول العملية المخالفة في ذلك البعض ، لذا يتعيّن فيها العمل بالظنّ الحاصل من

٩٩

.................................................................................................

______________________________________________________

قول اللغوي ، والجواب كون الرجوع إلى الأصل العملي موجبا للمخالفة غير محرز ، وعلى تقدير لزومها يلتزم بالاحتياط فيها ، وهذا الاحتياط لا يوجب الحرج فضلا عن اختلال النظام كما كان ذلك مفروضا في انسداد باب العلم في معظم الأحكام الشرعية.

١٠٠