دروس في مسائل علم الأصول - ج ٤

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-94850-6-5
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٤٣

ولو قيل باعتبار الإجماع المنقول في الجملة ، فإن تحصيله في مثل هذه المسألة مما للعقل إليه سبيل ، ومن واضح النقل عليه دليل ، بعيد جدا.

وأما العقل : فإنه قد استقلّ بقبح العقوبة والمؤاخذة على مخالفة التكليف [١].

______________________________________________________

لا على الاتفاق ، وإلّا يكون المستند مقتضى الدليل والقاعدة ، وإذا كان هذا حال الإجماع المحصل فكيف بمنقوله.

[١] وقد يستدل على البراءة بحكم العقل فلا مجال للمناقشة في حكم العقل في قبح العقاب بلا بيان ، والكلام في المقام في حكم القاعدة في مقابل قاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل ، وفي مقابل ما ورد في الأخبار من الأمر بالاحتياط والتوقف في الشبهات.

وأما الكلام في الجهة الأولى فلا ينبغي التأمل في أنه إذا جرت قاعدة قبح العقاب بلا بيان في مورد لانتفى فيه احتمال الضرر ، أي استحقاق العقاب على الارتكاب كما أنه لو ثبت في مورد استحقاق على الارتكاب لا يكون فيه موضوع لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وبتعبير آخر قاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل لا يوجب بحكمها ، أي لزوم الدفع ، ارتفاع موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، بل حصول الموضوع لقاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل يلازم عدم حصول الموضوع لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، ولذا لو قيل بعدم استقلال العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل فلا يكون في مورد احتمال العقاب المحتمل موضوع لقاعدة قبح العقاب بلا بيان فوجوب دفع الضرر المحتمل لا يكون محققا للضرر المحتمل الذي يعد من البيان ، وعلى ذلك فإن لم يكن في المشتبه بيان بالإضافة إلى التكليف الواقعي على تقديره فمع حكم العقل بقبح العقاب على مخالفته مع الفحص التام عن موارد احتمال الطريق إليه واليأس من

٢٨١

.................................................................................................

______________________________________________________

الظفر به لا يكون في ارتكابه احتمال الضرر ، فحكم العقل بقبح العقاب يرفع في مورده احتمال العقاب ، وهذا معنى ورود قاعدة قبح العقاب بلا بيان على قاعدة احتمال الضرر ، وقد تقدم أن قاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل أي العقاب المحتمل لا يوجب ثبوت احتماله ، كما هو الحال في كل قضية حقيقة حيث إنها لا تثبت موضوعها.

ثم إنه قد ذكر الشيخ الأنصاري قدس‌سره أن دعوى أن قاعدة دفع الضرر المحتمل بيان للتكليف المحتمل في الشبهة الحكمية فلا يقبح بعده المؤاخذة على مخالفته على تقديره واقعا مدفوعة ، بأن لزوم دفع الضرر المحتمل على تقديره لا يكون بيانا للتكليف المجهول ، بل يكون بيانا لقاعدة كلية ظاهرية وإن لم يكن في موردها تكليف واقعا ، فلو تمت القاعدة يكون العقاب على مخالفتها وإن لم يكن تكليف واقعا في موردها لا على التكليف المحتمل على تقدير وجوده واقعا ، وأورد على ذلك المحقق النائيني قدس‌سره بأنا لم نكن نترقب مثل هذه الكلمات عن الشيخ قدس‌سره وذلك فإن لزوم دفع الضرر المحتمل لا يمكن أن يكون حكما مولويا شرعيا طريقيا ؛ لأنّ المفروض أن التكليف المشتبه على تقديره منجز لغرض احتمال العقاب مع قطع النظر عن وجوب دفعه كما في أطراف العلم الإجمالي والشبهة الحكمية قبل الفحص ، كما لا يمكن أن يكون مولويا نفسيا لاستقلال العقل ليس في دفع الضرر المحتمل غير عدم الابتلاء به فيكون لزوم دفعه كحكم الشارع بلزوم الإطاعة ارشاديا محضا ، وعلى ذلك فكيف يكون لزوم دفع الضرر حكما نفسيا ظاهريا مع أن الظاهرية لا تجتمع مع النفسية ، حيث إن الأحكام الظاهرية على تقدير كونها محرزة يكون العقاب على مخالفة التكليف الواقعي لو اتفق الواقع ، وعلى تقدير كونها غير محرزة

٢٨٢

.................................................................................................

______________________________________________________

يكون العقاب على تركها بشرط أدائها إلى مخالفة التكليف الواقعي ، ثم ذكر قدس‌سره في ضمن كلماته أن الوجه في عدم كون قاعدة لزوم الدفع بيانا للتكليف المشتبه أنه لا يرفع الشك والاشتباه فيه بأن تكون محرزة له.

أقول : قد تقدم أن الأمر بالاحتياط في شبهة لا يرفع الشك في التكليف الواقعي ومع ذلك يصير بيانا له ، فالوجه في عدم البيانية ما ذكرنا ، أن القاعدة لا توجب ثبوت احتمال العقاب في التكليف المشتبه ، بل المذكور فيها حكم على تقدير ثبوت احتمال العقاب في التكليف المشتبه ، وقاعدة قبح العقاب بلا بيان ترفع ثبوت احتماله فيه بعد الفحص واليأس عن الظفر بالدليل عليه ، نعم ما اورد على الشيخ قدس‌سره كلام صحيح وأنه لا يمكن لزوم دفع الضرر المحتمل إلّا ارشاديا حتى من العقل ، حيث إن العقل شأنه الإدراك لا الإلزام ، فالعقل يرشد إلى تحصيل الأمن من العقاب ولو كان محتملا له لا جازما به ، وأمّا ما ذكره من الفرق بين الأحكام الظاهرية المحرزة وغير المحرزة بأن العقاب في الثاني على مخالفتها بشرط أدائها إلى مخالفة التكليف الواقعي ، وفي المحرزة على نفس مخالفة التكليف الواقعي لو اتفق مجرد دعوى ، فإن المأخوذ على المكلف في كلا الموردين التكليف الواقعي ، كما هو مقتضى تتبع الاحتجاجات العقلائية في الموردين.

فالمتحصل من جميع ما ذكر أن ثبوت احتمال الضرر في مخالفة التكليف الواقعي إنما يكون بوصول ذلك التكليف إلى المكلف بالنحو المتعارف ، أو من حيث وظيفته في مراعاته بإيجاب الاحتياط عليه ولو مع احتماله وعدم زوال شكه ومع عدم وصوله بالنحو المتعارف كما هو فرض فحص المجتهد عن مدارك الأحكام وعدم وجدان طريق مثبت له ، وعدم ثبوت إيجاب الشارع الاحتياط فيه ، ترفع قاعدة

٢٨٣

المجهول ، بعد الفحص واليأس عن الظفر بما كان حجة عليه ، فإنهما بدونها عقاب بلا بيان ومؤاخذة بلا برهان ، وهما قبيحان بشهادة الوجدان.

ولا يخفى أنه مع استقلاله بذلك ، لا احتمال لضرر العقوبة في مخالفته ، فلا يكون مجال هاهنا لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ، كي يتوهم أنها تكون بيانا ، كما أنه مع احتماله لا حاجة إلى القاعدة ، بل في صورة المصادفة استحق العقوبة على المخالفة ولو قيل بعدم وجوب دفع الضرر المحتمل.

وأما ضرر غير العقوبة فهو وإن كان محتملا إلّا أن المتيقن منه فضلا عن محتمله ليس بواجب الدفع شرعا ولا عقلا [١].

______________________________________________________

قبح العقاب بلا بيان احتمال العقاب في ارتكاب الشبهة التحريمية ، واحتماله في الترك في الشبهة الوجوبية ، هذا مع عدم تمامية دعوى الأخباريين من الدليل على الأمر الوجوبي بالتوقف في الشبهات التحريمية أو بالاحتياط أيضا حتى في الشبهات الوجوبية ، وإلّا يثبت في الشبهات الحكمية احتمال العقاب ولا تجري فيها قاعدة قبح العقاب بلا بيان لثبوت البيان فيها ، وهذا الدليل العقلي على البراءة في الشبهات الحكمية ينفع في فرض عدم تمامية دعواهم ، إما لقيام القرينة على أن الأمر بالاحتياط والتوقف في الشبهات استحبابي ، كما ذكرنا في حديث الرفع وحديث الحجب وغيرهما ، أو أن الأخبار الواردة في التوقف قاصرة في نفسها عن إثبات وجوب التوقف كما يأتي.

[١] وقد يقرر عدم جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان في الشبهات التحريمية بدعوى استقلال العقل بالإقدام على ما فيه احتمال الضرر ، واحتمال الضرر متحقق في ارتكاب الشبهة الحكمية التحريمية ، فيكون حكم العقل بقبح الإقدام بيانا للتحريم المحتمل على تقديره واقعا فلا يكون العقاب على مخالفته من العقاب

٢٨٤

.................................................................................................

______________________________________________________

بلا بيان.

وفيه أنه لا سبيل للعقل إلى الحكم بقبح الإقدام على ما فيه الضرر القطعي فضلا عن الإقدام على ما فيه احتماله ، بل ما يحكم به العقل بقبح الإقدام على ما فيه الضرر بمرتبة يكون ظلما وتعديا على النفس كجناية الإنسان على نفسه أو عرضه أو في ماله المؤدي إلى الجناية على أحدهما ، ويمكن أن يقال حكمه بذلك جار حتى في الاقتحام على ما لا يؤمن فيه هذه المرتبة من الضرر ، ومن الظاهر أن الملاك في حرمة المحرمات لا يكون الضرر في غالبها فضلا عن هذا الضرر ، فإن اللازم في المحرمات وجود المفسدة فيها ، والمفسدة لا تنحصر على الضرر ولا يكون حكم للعقل بقبح الإقدام على ما فيه المفسدة فضلا عن ما فيه احتمالها ، والشاهد لذلك إقدام العقلاء على ما لا يؤمن فيه المفسدة بل فيه احتمال الضرر ببعض مراتبه لبعض الدواعي ، كيف وقد أذن الشارع في الارتكاب في الشبهة الموضوعية التحريمية ولا يرخص الشارع في ارتكاب القبيح ، وما ذكر الشيخ الطوسي قدس‌سره في مسألة أن الأشياء على الحظر أو الإباحة من حكم العقل بقبح الإقدام على ما فيه احتمال المفسدة (١) لا يمكن المساعدة عليه كما أشرنا إليه من شهادة ديدن العقلاء وسيرتهم على خلافه.

ثم إنه قد يستدل على البراءة في الشبهات الحكمية باستصحاب البراءة وتقريره من وجهين ؛ لأنّ للأحكام المجعولة في الشريعة مرتبتين كما هو الحال في كل حكم مجعول بنحو القضية الفعلية ، مرتبة الجعل يعني الإنشاء ، ومرتبة الفعلية ،

__________________

(١) العدة في اصول الفقه ٢ : ٧٤٢ ، طبعة مؤسسة البعثة.

٢٨٥

.................................................................................................

______________________________________________________

ويقال بجريان الاستصحاب في عدم جعل الحرمة بنحو القضية الحقيقية ؛ لأنّ جعلها أمر حادث مسبوق بالعدم ، ويورد على هذا التقريب بإيرادين.

الأول : أن عدم جعل المتيقن سابقا أمر أزليّ غير منتسب إلى الشارع والمطلوب فعلا إثبات نسبة عدم الجعل إلى الشارع ، وهذا غير مسبوق بحالة سابقة محرزة ، وفيه أن عدم الفعل في زمان يمكن للفاعل الفعل فيه عين انتساب عدمه إليه ، فبقاء عدم جعل الحرمة لشرب التتن عند جعل الشريعة بعينه انتساب عدم جعل حرمته إلى الشارع فيستصحب عدم الجعل إلى آخر جعل أحكام الشريعة.

والإيراد الثاني : أن نفي الجعل بنحو القضية الحقيقية بالاستصحاب لا يثبت عدم حرمة شربه فعلا ، فإثبات عدم المرتبة الاولى بالإضافة إلى إثبات عدم المرتبة الفعلية مثبت.

وبتعبير آخر المطلوب وما يترتب عليه الانبعاث والانزجار هو إحراز التكليف الفعلي أو عدمه ، والاستصحاب في عدم الجعل بالإضافة إلى عدم الحرمة الفعلية من قبيل الأصل المثبت ، ولكن لا يخفى ما فيه أيضا فإن الحكم الفعلي عين الحكم المجعول بنحو القضية الحقيقية والفعليّة وعدمها في الحكم ناش عن الفعليّة ، والتقدير في ناحية موضوعه ؛ فإن الموضوع له في مقام الجعل تقديري وفي مقام الفعلية متحقق ، وهذا التحقق وجداني ولذا لا يكون الاستصحاب في عدم نسخ الحكم المجعول في الشريعة مثبتا بالإضافة إلى تحقق الحكم الفعلي.

لا يقال : كما يجري الاستصحاب في عدم جعل حرمة شربه على المكلفين بنحو القضيّة الحقيقيّة ، كذلك يجري الاستصحاب في ناحية عدم جعل إباحته لهم فلا يثبت بالاستصحاب المزبور الترخيص في الفعل ليترتب عليه نفي استحقاق

٢٨٦

.................................................................................................

______________________________________________________

العقوبة ، فلا بد في نفيه من الانتهاء إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان أو إلى حديث الرفع ونحوه ، فلا تثبت أصالة البراءة بالاستصحاب.

وبتعبير آخر المعلوم في شرب التتن مثلا تحقق أحد الجعلين ، ومعه لا يجري شيء من عدم جعل حرمته وعدم جعل إباحته لمعارضة كل منهما بالآخر ، واجيب عن المعارضة بجوابين.

الأول : أنه ليس لنا علم بأنه لو لم يجعل لفعل حرمة يجعل له إباحة وترخيصا بعنوانه الخاص ، ليقال بأن جريان الاستصحاب في عدم جعل الحرمة له معارض بالاستصحاب في عدم جريان الترخيص والإباحة فيه ، فإنه من المحتمل أن يجعل له الإباحة بعنوان عام يجري على جميع الأفعال التي لم تنشأ الحرمة لها بأن جعل الترخيص لكل ما لم يجعل فيه إلزام وجوبا أو حرمة ، وعليه يكون الاستصحاب في عدم جعل الحرمة له محققا لثبوت الترخيص فيه لا أنه تعارضه أصالة عدم جعل الإباحة له وفيه أنه لو فرض جعل الإباحة له بالعنوان العام يجري أيضا الاستصحاب في عدم جعل الإباحة له لكون ذلك العنوان انحلاليا ، والشك في ثبوت الإباحة له بعنوانه الخاص أو العام.

والجواب الثاني : عدم المعارضة بينهما ؛ لأنّ الملاك في تعارض الاصول ليس العلم الإجمالي بعدم مطابقة أحدهما الواقع ، فإن ذلك يوجب التعارض في الطرق والأمارات ، وأمّا الاصول فالموجب للتعارض بين الأصلين أحد الأمرين ، إما لكونهما من التعبد بالمتناقضين أو لكون التعبد بهما من الترخيص القطعي في مخالفة التكليف المعلوم بالإجمال من حيث العمل ، وشيء منهما غير لازم في المقام ، فإن مقتضى الأصلين عدم جعل الحرمة له ولا جعل الإباحة له فيجوز ارتكابه ؛ لأنّ المانع

٢٨٧

.................................................................................................

______________________________________________________

عن الارتكاب هو ثبوت المنع ، نعم لو فرض في مورد أثر شرعي لإباحة الفعل شرعا لا يترتب ذلك الأثر في مورد الاستصحاب في عدم جعل الإباحة له ، وأما نفي استحقاق العقاب على ارتكابه فهو يترتب على عدم ثبوت الحرمة له.

الاستدلال على البراءة في الشبهات الموضوعية بالاستصحاب

ومما ذكر يظهر الحال في وجه جريان الاستصحاب في عدم جعل الحرمة أو الوجوب في الشبهات الموضوعيّة ، لأنّ جعل الحرمة لشرب الخمر مثلا بعنوان القضية الحقيقية انحلالي يثبت جعلها في الأفراد المحرزة أنها خمر ، وأما جعل الحرمة لما يشك في كونه خمرا مشكوك مسبوق بعدم الجعل ، ومقتضى الاستصحاب بقاء عدم الجعل في المشكوك على عدمه ؛ لاحتمال عدم كونه من أفراد الخمر ، هذا مع قطع النظر عن الاستصحاب الموضوعي ولو بنحو العدم الأزلي فإنه مع الاستصحاب في عدم كونه خمرا لا تصل النوبة إلى الأصل الحكمي.

الوجه الثاني : في الاستدلال على البراءة بالاستصحاب جريانه في عدم الحرمة الفعلية بالإضافة إلى كل مكلف قبل بلوغه فيجري في عدم هذه الحرمة بعد بلوغه أيضا ، وقد اورد على هذا الاستصحاب أيضا بوجوه :

منها ما تقدم من أن عدم الحرمة الفعلية أمر أزليّ ، وأن عدم التكليف الفعلي غير مجعول شرعا وليس له أثر شرعي مجعول مع أنه يعتبر أن يكون المستصحب بنفسه مجعولا شرعيا أو يكون له أثر شرعي مجعول ، وعدم استحقاق العقاب مع عدم حرمة الفعل من اللوازم العقلية لعدم التكليف قد نسب الماتن قدس‌سره في بحث الاستصحاب هذا الإيراد إلى الشيخ قدس‌سره. وردّه بأنه لا يعتبر في جريان الاستصحاب

٢٨٨

ضرورة عدم القبح في تحمل بعض المضار ببعض الدواعي عقلا وجوازه شرعا ، مع أن احتمال الحرمة أو الوجوب لا يلازم احتمال المضرة ، وإن كان ملازما لاحتمال المفسدة أو ترك المصلحة ، لوضوح أن المصالح والمفاسد التي تكون

______________________________________________________

في عدم التكليف أن يكون له أثر شرعي فإن عدم التكليف كوجوده بنفسه قابل للتعبد ، ولا يعتبر في جريان الاستصحاب في شيء أن يكون ذلك الشيء بنفسه الأثر الشرعي أو أن يكون له أثر شرعي ، بل المعتبر أن يكون قابلا للتعبد بنفسه أو بأثره ، ونفي التكليف كثبوته بيد الشارع ويقبل التعبد ، وبما أن عدم استحقاق العقاب أثر عقلي لمطلق نفي التكليف سواء كان النفي واقعيا أو تعبديا يترتب عليه لا محالة.

أقول : ظاهر كلام الشيخ قدس‌سره أن استصحاب براءة الذمة عن التكليف وعدم المنع عن الفعل لا يفيد في المقام ؛ لأنّ المطلوب في المقام الجزم بعدم استحقاق العقاب على الارتكاب وإذا لم يترتب هذا المطلوب على الاستصحاب فيما ذكر احتمل العقاب في الارتكاب ، فيحتاج في نفيه إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، ومعها لا حاجة إلى الاستصحاب ، وترتب نفي الاستحقاق على الاستصحاب فيما ذكر موقوف على اعتبار الاستصحاب من باب الظن النوعي المثبت للوازمه ، حيث إنّه مع الاستصحاب في نفي التكليف يثبت الترخيص فيه ومع ثبوت الترخيص ينتفي احتمال العقاب ، وأما بناء على اعتباره من باب الاخبار فلا يترتب عليه ثبوت الترخيص.

والحاصل تأمل الشيخ في عدم جريان الاستصحاب لا لكونه في الأعدام الأزلية حتى فيما كان لها أثر شرعي ، والصحيح في الجواب عن كلام الشيخ قدس‌سره بأن الاستصحاب في عدم التكليف كاف في نفي الاستحقاق في الارتكاب ، فإن استحقاقه يترتب على ثبوت التكليف ويرتفع مع عدم ثبوته ولا يحتاج إلى إثبات

٢٨٩

مناطات الأحكام ، وقد استقل العقل بحسن الأفعال التي تكون ذات المصالح وقبح ما كان ذات المفاسد ، ليست براجعة إلى المنافع والمضار ، وكثيرا ما يكون محتمل التكليف مأمون الضرر ، نعم ربما تكون المنفعة أو المضرة مناطا للحكم شرعا وعقلا.

______________________________________________________

الترخيص ، وإلّا فلو قيل باعتبار الاستصحاب من باب الظن فلا يفيد في نفي احتمال العقاب ؛ لأنّ الاستصحاب في عدم التكليف يثبت الترخيص ، والاستصحاب في عدم الترخيص الشرعي يثبت المنع فيتعارضان ، فإن مفاد حديث : «رفع القلم عن الصبي» عدم ثبوت التكليف عليه في مورد ثبوته للبالغين ، لا ثبوت الترخيص الشرعي في حقه ، وإلّا لم يكن في البين حاجة إلى إثباته بالاستصحاب في عدم التكليف.

وقد يورد على الوجه الثاني : بأنه لا يجري الاستصحاب إلّا فيما كان الأثر المهم مترتبا على الواقع ، وأما إذا كان مترتبا على الجهل به كما في حرمة التشريع والفتوى بغير علم فلا مورد له ؛ لأنه بمجرد الشك يحرز موضوع الحرمة فلا معنى للتعبد بعدم الواقع بالأصل ، والأثر المرغوب في المقام وهو نفي استحقاق العقاب على مخالفة التكليف الواقعي يترتب على الجهل به.

وفيه أن نفي الاستحقاق لما يترتب على الجهل بالتكليف الواقعي بعد الفحص وعدم الظفر بالدليل عليه كذلك يترتب على بيان عدم التكليف الواقعي ، فإن قبح العقاب كما يترتب على عدم البيان للتكليف الواقعي كذلك يترتب على بيان عدمه على ما تقدم من أن العقاب بعد بيان العدم من خلف الوعد وهو قبيح من المولى الحكيم ، ولا بأس للشارع أن يبدل الحكم الثابت لموضوع بالحكم الثابت مثله لموضوع آخر ، كما في جريان الاستصحاب في طهارة الماء مع كون طهارته مفاد القاعدة.

٢٩٠

إن قلت : نعم ، ولكن العقل يستقل بقبح الإقدام على ما لا تؤمن مفسدته ، وأنه كالإقدام على ما علم مفسدته ، كما استدل به شيخ الطائفة قدس‌سره ، على أن الأشياء على الحظر أو الوقف.

قلت : استقلاله بذلك ممنوع ، والسند شهادة الوجدان ومراجعة ديدن العقلاء من أهل الملل والأديان ، حيث إنهم لا يحترزون مما لا تؤمن مفسدته ، ولا يعاملون معه معاملة ما علم مفسدته ، كيف؟ وقد أذن الشارع بالإقدام عليه ، ولا يكاد يأذن بارتكاب القبيح ، فتأمل.

______________________________________________________

ومما يورد على الوجه الثاني ، أنه لا يجري الاستصحاب في عدم المنع السابق لكون الموضوع له الصبي والمجنون ، حيث إنّ الشارع قد رفع القلم عن الصبي والمجنون ولو جرى عدم المنع بعد كون المكلف بالغا لكان من إسراء الحكم من موضوع إلى آخر.

وبتعبير آخر عنوان الصبي بالإضافة إلى عدم الحرمة الفعلية عنوان مقوّم أو لا أقل من احتمال كونه من العنوان المقوّم ، وفيه أن معنى رفع القلم عن الصبي عدم جعل الإلزام لأفعاله التي تكون موردا للإلزام في البالغين ، وأما أفعاله التي لا تكون موردا للإلزام في البالغين فلا موضوع للرفع بالإضافة إليها ، وعليه فالصبي حال صباوته لم تكن في حقه حرمة شرب التتن ، ويحتمل بقاء عدم الحرمة بحاله ، ولا يعتبر في جريان الاستصحاب إلّا اتحاد القضية المتيقنة والقضية المشكوكة ، بأن يحتمل بقاء القضية المتيقنة بعينها ، نظير ما إذا علم عدم نجاسة مائع كر سواء كان ماء أو غيره من المضاف ، فإذا لاقته النجاسة فإن كان ماء فعدم نجاسته باقية على حالها ، وإذا لم يكن ماء فقد انفعل فلا بأس بالاستصحاب في عدم نجاسته إذا لم يكن في البين أصل حاكم عليه فتدبر جيدا.

٢٩١

واحتجّ للقول بوجوب الاحتياط فيما لم يقم فيه حجة بالأدلة الثلاثة [١].

أما الكتاب : فبالآيات الناهية عن القول بغير العلم ، وعن الإلقاء في التهلكة ، والآمرة بالتقوى.

والجواب : إن القول بالإباحة شرعا وبالأمن من العقوبة عقلا ، ليس قولا بغير

______________________________________________________

الاستدلال على وجوب الاحتياط في الشبهات الحكميّة

[١] يستدل على لزوم التوقف والاحتياط في الشبهة الحكمية التحريمية بل الوجوبية أيضا بالأدلة الثلاثة يعني الكتاب والأخبار وحكم العقل ، أما الكتاب فبالآيات الناهية عن القول بغير العلم (١) والناهية عن إلقاء النفس في التهلكة (٢) والآمرة بالتقوى (٣) ، ولكن لا يخفى أنه مع ثبوت الإباحة الظاهرية الطريقية في الشبهة الحكمية لا يحتمل العقاب في مخالفة الحرمة الواقعية على تقديرها التي لم يظفر بالبيان لها بعد الفحص ، ولا يكون القول بتلك الإباحة قولا بغير علم ، ولا يكون الارتكاب مع هذا الترخيص منافيا للتقوى اللازم على المكلف ، وأما التقوى في الاجتناب عن المفاسد الواقعية وعدم فوت المصالح فيما إذا كان المكلف معذورا وغير مأخوذ بالتكليف الواقعي في مواردهما فهو غير واجب على المكلف حتى باعتراف الأخباريين بالالتزام بالبراءة في الشبهات الموضوعية بل الحكمية الوجوبية ، ومما ذكر يظهر أنه لو كان المراد بالتهلكة في آية النهي عن إلقاء النفس فيها الهلاكة الدنيوية ، فلا يقتضى لزوم الاجتناب عن الشبهات الحكمية التحريمية لما تقدم من أن المفاسد التي تلاحظ في المحرمات ملاكاتها لا تكون من قبيل الهلاكة الدنيوية.

__________________

(١) كقوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) سورة الاسراء : الآية ٣٦.

(٢) كقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) سورة البقرة : الآية ١٩٥.

(٣) كقوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) سورة البقرة : الآية ١٩٤.

٢٩٢

علم ، لما دلّ على الإباحة من النقل وعلى البراءة من حكم العقل ، ومعهما لا مهلكة في اقتحام الشبهة أصلا ، ولا فيه مخالفة التقوى ، كما لا يخفى.

وأما الأخبار فبما دلّ على وجوب التوقف عند الشبهة معللا في بعضها بأن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في المهلكة [١].

______________________________________________________

[١] يستدل على لزوم الاجتناب عن المشتبه بالشبهة الحكمية التحريمية بالأخبار وهي على طائفتين ، إحداهما : ما ورد فيها من الأمر بالتوقف عند الشبهة ، ويدخل في هذه الطائفة أخبار التثليث كقوله عليه‌السلام : «إنما الامور ثلاثة : أمر تبين لك رشده فاتبعه ، وأمر تبين لك غيّه فاجتنبه ، وأمر اختلف فيه فردّه إلى الله عزوجل» (١) ، وفي خبر عمر بن حنظلة : «إنما الامور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتّبع وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يرد علمه إلى الله وإلى رسوله ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله «حلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك فمن ترك الشبهات نجا من المحرّمات ، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات ، وهلك من حيث لا يعلم ، [إلى أن قال] فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات» (٢) ، وقد أجاب الماتن قدس‌سره عن هذه الطائفة بأن الأمر بالوقوف عند الشبهة إرشاد إلى التحرز عن الهلاكة المحتملة في المشتبهات ، فيختص الإرشاد بالشبهة التي يكون فيها احتمال الهلاكة أي العقاب الاخروي ، ومع حكم العقل في الشبهة الحكمية ـ بعد الفحص وعدم العثور على البيان ـ بقبح العقاب بلا بيان ، وحكم الشرع برفع الحرمة المجهولة على تقديرها واقعا ما دام الجهل لا يحتمل الهلاكة في الشبهة البدوية التي فحص المجتهد عن الدليل على الحكم الواقعي فيها ولم يظفر بمثبت للحرمة فيها.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٦٢ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٨.

(٢) المصدر السابق : ١٥٧ ، الحديث ٩.

٢٩٣

من الأخبار الكثيرة الدالّة عليه مطابقة أو التزاما ، وبما دلّ على وجوب الاحتياط من الأخبار الواردة بألسنة مختلفة.

والجواب : إنه لا مهلكة في الشبهة البدوية ، مع دلالة النقل على الإباحة وحكم العقل بالبراءة كما عرفت.

وما دلّ على وجوب الاحتياط لو سلم ، وإن كان واردا على حكم العقل ، فإنه كفى بيانا على العقوبة على مخالفة التكليف المجهول.

______________________________________________________

الاستدلال على وجوب الاحتياط بالأخبار

وثانيتهما : الأخبار الواردة في الأمر بالاحتياط في الشبهات وقد أجاب قدس‌سره عنها بأنه لو تمت دلالة هذه الطائفة على وجوب الاحتياط لكانت واردة على حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، حيث إن الأمر به طريقيا بيان ومصحح للعقاب على مخالفة التكليف في المشتبه ، وما عن الشيخ قدس‌سره من عدم كون الأمر بالاحتياط مصححا للعقاب ، فإن وجوبه إذا كان غيريا مقدمة للاحتراز عن عقاب مخالفة التكليف الواقعي المجهول ، فالمفروض أن العقاب على مخالفته قبيح ، وإن كان وجوبه نفسيا فالعقاب يترتب على مخالفته لا على مخالفة التكليف الواقعي المجهول كما يدعيه الخصم ، فيتعين حمل الأمر به على الاستحباب أو على الإرشاد لا يمكن المساعدة عليه ؛ لما تقدم من أن إيجابه طريقي ومعه يخرج العقاب على مخالفة التكليف الواقعي لو اتفق عن كونه عقابا بلا بيان ، ولكن دلالتها على إيجاب الاحتياط طريقيا لا يتم لكونها معارضة بما هو أخص منها وأظهر في الترخيص في ارتكاب المشتبه ، فإن ما ورد في حلية المشتبه الحرمة أخص من تلك الأخبار الشاملة للشبهات الوجوبية أيضا ، وبمثل ذلك كالصراحة في الترخيص في الارتكاب يخصص الأخبار الآمرة بالاحتياط بغير الشبهة البدوية التحريمية ، فإن الأمر به غايته الظهور في

٢٩٤

ولا يصغى إلى ما قيل : من أن إيجاب الاحتياط إن كان مقدمة للتحرز عن عقاب الواقع المجهول فهو قبيح ، وإن كان نفسيا فالعقاب على مخالفته لا على مخالفة الواقع ، وذلك لما عرفت من أن إيجابه يكون طريقيا ، وهو عقلا مما يصح أن يحتج به على المؤاخذة في مخالفة الشبهة ، كما هو الحال في أوامر الطرق والأمارات والأصول العملية.

إلّا أنها تعارض بما هو أخص وأظهر ، ضرورة أن ما دل على حليّة المشتبه أخص ، بل هو في الدلالة على الحليّة نص ، وما دل على الاحتياط غايته أنه ظاهر في وجوب الاحتياط ، مع أن هناك قرائن دالة على أنه للإرشاد [١] فيختلف إيجابا واستحبابا حسب اختلاف ما يرشد إليه.

______________________________________________________

الإيجاب في كل شبهة ومنها الشبهة التحريمية فيرفع اليد عنه بالخاص الوارد في الشبهة التحريمية.

[١] ذكر قدس‌سره بعد بيان أنه لا بد من رفع اليد عن الأمر الطريقي الإيجابي بالاحتياط في المشتبهات في الشبهة الحكمية التحريمية بأخبار الحل ، حمل الأمر به الوارد في الأخبار على الإرشاد إلى حكم العقل ، بدعوى أن فيها قرائن على الإرشاد وايّد الحمل المزبور بأنه لو كان الأمر به وجوبا طريقيا لزم تخصيص إيجاب الاحتياط الوارد ببعض الموارد لا محالة ، مع أن الاحتياط في الدين والمشتبهات آب عن التخصيص ، ولعل مراده قدس‌سره أن الإيجاب المولوي الطريقي لا يمكن في أطراف العلم الإجمالي بالتكليف في الشبهة الموضوعية والحكمية لتنجز التكليف في أطرافه مع قطع النظر عن الأمر الطريقي بالاحتياط ، وكذا في المشتبهات بالشبهة الحكمية قبل الفحص ، لأن أخبار وجوب التعلم بل وغيرها توجب تنجز التكاليف التي يصل إليها المكلف بالفحص في غير ذلك ما يستفاد منه البراءة من حديث الرفع وغيره مما

٢٩٥

.................................................................................................

______________________________________________________

تقدم محكم ، والعقل يستقل بلزوم رعاية التكليف في المشتبهات التي فيها منجز للتكليف الواقعي من أطراف العلم وفي الوقائع قبل الفحص وحسن رعاية احتماله في موارد ثبوت الترخيص في الارتكاب والترك ، ويناسب ما ذكر أن تحمل الأخبار الواردة في الاحتياط في الدين والمشتبهات للإرشاد إلى حكمه ، ومع الحمل عليه لا يكون فيها تخصيص بخلاف ما التزم بأن مفادها الوجوب المولوي الطريقي ، فإنه يلزم من رفع اليد عن هذا الوجوب في بعض المشتبهات حتى على مسلك الأخباريين مع أن لسانها آب عن التخصيص ، فإن حسن الاحتياط لا يختص بمورد دون مورد ، بل لا يمكن غير الحمل على الإرشاد في بعض الأخبار ، كقوله عليه‌السلام : «وقفوا عند الشبهة فإن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» (١) فإن ظاهر الهلاكة ، الهلاكة الاخروية يعني العقاب وقد فرض ثبوت الهلاكة في ارتكاب المشتبه قبل الأمر بالوقوف فيه ، ومن الظاهر انه لا يكون مع قطع النظر عن الأمر بالوقوف والاحتياط ثبوت العقاب في الارتكاب ، إلّا إذا كان الأمر به إرشاديا ولا يمكن كونه أمرا مولويا طريقيا بأن يكون في المشتبه منجز للتكليف مع قطع النظر عن هذا الأمر.

لا يقال : تعليل الأمر بالوقوف عند الشبهة بقوله عليه‌السلام «فإن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» ، يستكشف بنحو الإن عن وجوب الاحتياط طريقيا ، حيث إنّه مع إيجابه طريقيا من قبل يوجب احتمال الهلاكة فيها.

وبتعبير آخر الأمر بالوقوف عند الشبهة في الرواية إرشاد إلى ذلك الوجوب الطريقي الموجب لثبوت الهلاكة في المشتبهات التي فيها تكليف واقعا ، فإنه يقال :

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٥٩ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٥.

٢٩٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الإيجاب الطريقي مع عدم وصول بيانه إلى المكلف لا يكون رافعا لقبح العقاب بلا بيان ، ولا يكون موجبا لاحتمال العقاب في ارتكاب الشبهة ، فكيف يعلّل بيانه والإرشاد إليه بثبوت احتمال الهلاكة مع قطع النظر عن بيانه كما هو ظاهر الرواية ، حيث لا يصح هذا التعليل إلّا إذا كان احتمال العقاب منجزا مع قطع النظر عن الأمر بالوقوف إرشادا كما هو الحال في أطراف العلم الإجمالي ، أو كون الشبهة الحكمية قبل الفحص.

لا يقال : هذا كله إذا كان المراد من الهلاكة العقاب الاخروي ، وأما إذا كان المراد المفسدة فلا محذور في كون الأمر بالوقوف وجوبا طريقيا لئلا يقع في تلك المفسدة.

فإنه يقال : لا يحتمل ذلك من الهلاكة فإن لسان الرواية آب عن التخصيص ، فلو صحّ إطلاق الهلاكة على مطلق المفسدة وكثيرا ما لا يرجع إلى نفس الفاعل كما ذكرنا سابقا ، فلا بد من إخراج الشبهات الموضوعية التحريمية بالتخصيص ولسانه آب عنه كما هو ظاهر.

وقد تلخص مما ذكر أن ثبوت الحكم العقلي في موارد المشتبهات ولو بملاحظة الترخيص الشرعي في ارتكاب جملة منها بلزوم رعاية احتمال التكليف في بعضها ، وكون رعايته حسن في مقام الانقياد في بعضها الآخر قرينة على كون الأمر بالاحتياط في الدين والمشتبهات إرشاد إلى حكم العقل فيها ، وليس من الأمر المولوي الطريقي ، بل الأمر المولوي الطريقي الإيجابي أو غير الإيجابي بحسب الموارد غير ممكن ؛ لأنه في موارد تنجيز التكليف الواقعي بالعلم الإجمالي أو بكون الشبهة قبل الفحص لا يكون الأمر بالاحتياط إيجابيا طريقيا ؛ لأنّ تنجيز الواقع ثابت مع قطع النظر عن الأمر بالاحتياط ، ولا يمكن الالتزام بالإيجاب الطريقي في غير تلك الموارد لثبوت الترخيص في الارتكاب والترك ، والطريقي الاستحبابي فيها أيضا غير

٢٩٧

.................................................................................................

______________________________________________________

ممكن ؛ لثبوت حكم العقل فيها بحسن الاحتياط انقيادا ، فلا يكون ترتب الثواب فيها إذا صادف التكليف الواقعي بالأمر الطريقي الاستحبابي ، بل بحكم العقل فيكون الأمر بالاحتياط فيها إرشاديا لا محالة.

وبتعبير آخر ليس في البين من المشتبهات ما يكون الأمر بالاحتياط فيها إيجابا طريقيا ولو بملاحظة الترخيص ، ورفع التكليف فيها أمرا ممكنا إلّا الشبهات الحكمية قبل الفحص ، إذا قيل بأن أدلة وجوب التعلم فيها لا يمنع عن شمول الأمر بالاحتياط لها فيختص أمر الطريقي بها ، ثم إنه قد يجاب عن الأخبار التي ورد الأمر فيها بالوقوف عند الشبهة وعدم الاقتحام فيها بوجه آخر ، وهو أن المراد من الشبهة فيها المشتبه المطلق وغير البين من أي جهة ، فلا يعم ما يكون الترخيص الظاهري في ارتكابه محرزا ، حيث إنه إذا شمل للمشكوك دليل الترخيص في الارتكاب ما لم يعلم حرمته الواقعية يكون من الأمر البيّن وتدرج في الحلال البيّن ، ويشهد لاختصاص الشبهة في تلك الأخبار بالمشتبه المطلق أن تلك الأخبار آبية عن التخصيص مع أنه لا خلاف في عدم وجوب التوقف في الشبهات الموضوعية بل في الشبهة الحكمية الوجوبية بعد الفحص وعدم ظهور الدليل على الوجوب ، فلو لا أن الترخيص الظاهري أخرجتهما عن الشبهة لزم الالتزام بالتخصيص في مثل قوله : «قف عند الشبهة فإن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» (١).

أقول : الحديث المشار إليه ونحوه مما ورد فيه التعليل ، فنفس التعليل فيه قرينة على تقييد الشبهة بما فيه احتمال الهلاكة مع قطع النظر عن الأمر بالوقوف عندها

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٠ : ٢٥٨ ، الباب ١٥٧ من أبواب مقدمات النكاح ، الحديث ٢.

٢٩٨

.................................................................................................

______________________________________________________

فلا حاجة إلى دعوى كون المراد من المشتبه من جهة الحكم الواقعي والظاهري وما لم يرد فيه التعليل فهو قابل للتخصيص ، وعن المحقق النائيني قدس‌سره أنه يحتمل قريبا أن يكون المراد في الأخبار الوارد فيها الأمر بالوقوف عند الشبهة فإن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة أمر آخر ، وهو أن الاقتحام في الشبهات يوجب وقوع المكلف في المحرمات لا أن نفس ارتكاب الشبهة حرام يوجب العقاب إذا صادف الحرام الواقعي ، فإن الشخص إذا لم يجتنب عن الشبهات وعود نفسه على ارتكابها هان عليه ارتكاب المحرم ، بخلاف من تعود نفسه على عدم ارتكابها ، وقد ورد نظير ذلك في المكروهات حيث إن تعود النفس على ارتكابها وعدم مبالاته فيها رأسا يؤدي إلى جرأته على ارتكاب بعض المحرم ، كما أن الشخص لو لم يعتن بالمعصية الصغيرة ، وارتكبها مرارا هانت عليه الكبيرة.

وبالجملة يحصل من التعود على ترك المشتبهات ملكة التجنب عن المحرمات وإلى ذلك يشير قوله عليه‌السلام في خطبته على ما في مرسلة الفقيه : «والمعاصي حمى الله فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها» (١) ومن الظاهر أن الوقوف عند الشبهة كذلك أمر مستحب كما هو الظاهر من قوله عليه‌السلام : «أورع الناس من وقف عند الشبهة» (٢).

أقول : كون الاحتياط في الشبهات موجبا لتعود الإنسان على ترك الحرام وإن كان أمرا صحيحا ، وبهذا الاعتبار لا يبعد الالتزام بكونه أمرا مستحبا نفسيا ، وقد ورد

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٦١ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٧.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٦ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأول.

٢٩٩

.................................................................................................

______________________________________________________

في ذيل خطبته عليه‌السلام : «فمن ترك ما اشتبه له من الإثم فهو لما استبان له أترك ، والمعاصي حمى الله ، فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها» ، إلّا أن كون المراد من قوله عليه‌السلام في الروايات المتعدّدة : «قف عند الشبهة فإن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» ذلك غير ظاهر ، بل غير محتمل في بعضها ، وقد ورد ذلك في ذيل مقبولة عمر بن حنظلة فيما فرض عمر بن حنظلة عن توافق حكّامهم الخبرين بمعنى كون كل منهما موافقا للعامة من قوله : إذا كان ذلك فأرجه حتى تلق إمامك ، فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات (١) ، فإن ظاهره كون الوقوف عند الشبهة لعدم الابتلاء بالهلاكة المحتملة فيها ، نعم مورده كون الشبهة قبل الفحص اللازم والتمكن من تعلم التكليف الواقعي فيها ، إلّا أن تطبيق الكبرى شاهد لكون المراد بالهلاكة نفس الهلاكة المحتملة في الواقعة المشتبهة ، وممّا ذكر يظهر أنه لو قيل بأن الأمر بالوقوف عند الشبهة إرشاد إلى الإيجاب الطريقي المجعول في الشبهات ، ولذلك يصح تعليل الإرشاد إلى لزوم الوقوف عند الشبهة بثبوت الهلاكة في ارتكابها فلا ينبغي الريب بأن الأمر بالوقوف بهذا التعليل بإطلاقه وعمومه يقتضى التوقف عند الشبهة الحكمية التحريمية قبل الفحص وبعده ، وبما أن أدلة البراءة في الشبهة الحكمية مقيدة بما بعد الفحص وأنه لا هلاكة في ارتكابها حتى ما لو صادف التكليف الواقعي فتكون الشبهة الحكمية بعد الفحص خارجا عن العموم والإطلاق المزبور ، فيختص الأمر بالتوقف بالشبهات الحكمية بما قبل الفحص وإمكان تحصيل العلم بالتكليف الواقعي على تقديره في الواقعة ، ومما ذكرنا يظهر الحال في صحيحة

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٦ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأول.

٣٠٠