دروس في مسائل علم الأصول - ج ٤

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-94850-6-5
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٤٣

بإنه نحو من الانقياد والطاعة.

وما قيل في دفعه : من كون المراد بالاحتياط في العبادات هو مجرد الفعل المطابق للعبادة [١] من جميع الجهات عدا نية القربة.

______________________________________________________

حتى يسري الأمر إلى ذلك العمل.

وعلى الجملة : كما أن العارض لا يمكن أن يكون من مبادئ ثبوت المعروض وحصوله كذلك الأمر بشيء لا يمكن أن يكون من مبادئ ثبوت ذلك الشيء بمعنى انطباقه على الخارج وردّه ثانيا ، بأنّ حكم العقل بحسن الاحتياط لا يكشف عن تعلق الأمر المولوي أي الاستحباب الشرعي بنحو اللم كما لا يكشف ترتب الثواب على الاحتياط عن استحبابه ، كذلك بنحو الإن حيث إن حكمه بحسنه كحكمه بحسن الطاعة لا يستلزم حكما مولويا كما أن الحكم بترتب الثواب كالحكم بترتبه على الطاعة إرشادي حيث إن الاحتياط يدخل في عنوان الإطاعة والانقياد.

[١] هذا هو الوجه الذي ذكره الشيخ قدس‌سره في الجواب عن الإشكال المتقدم ، حيث ذكر أن المراد بالاحتياط في العبادة الإتيان بالعمل المطابق لها من جميع الجهات غير جهة قصد التقرب ، وأورد عليه الماتن قدس‌سره بأن الاحتياط المحكوم بالحسن شرعا وعقلا له معنى واحد في العبادة وغيرها ، وهو الإتيان بجميع ما يعتبر فيه واقعا على تقدير التكليف به واقعا ، وهذا غير متحقق في العبادة التي يدور أمرها بين الوجوب وغير الاستحباب ، ولو تعلق الأمر بالعمل المطابق للعبادة من غير جهة قصد القربة لكان هذا مطلوبا مولويا نفسيا لا يرتبط بحسن الاحتياط عقلا أو شرعا ، نعم لو قام دليل خاص في مورد دوران أمر العبادة بين الوجوب وغير الاستحباب أمر بالاحتياط فيها ، فيحمل على أن المراد من الاحتياط في ذلك المورد ما ذكره إذا لم يكن الالتزام فيه بالاحتياط بمعناه الحقيقي ويكون الحمل عليه في الحقيقة التزاما

٣٢١

فيه : مضافا إلى عدم مساعدة دليل حينئذ على حسنه بهذا المعنى فيها ، بداهة أنه ليس باحتياط حقيقة ، بل هو أمر لو دلّ عليه دليل كان مطلوبا مولويا نفسيا عباديا ، والعقل لا يستقل إلّا بحسن الاحتياط ، والنقل لا يكاد يرشد إلّا إليه.

نعم ، لو كان هناك دليل على الترغيب في الاحتياط في خصوص العبادة ، لما كان محيص عن دلالته اقتضاء على أن المراد به ذاك المعنى ، بناء على عدم إمكانه فيها بمعناه حقيقة ، كما لا يخفى أنه التزام بالإشكال وعدم جريانه فيها ، وهو كما ترى. قلت : لا يخفى أن منشأ الإشكال هو تخيل كون القربة المعتبرة في العبادة مثل

______________________________________________________

بالإشكال بعدم جريان الاحتياط في تلك العبادة حقيقة.

أقول : إذا ورد في خطاب الأمر بالاحتياط فيما دار أمر العبادة بين الوجوب وغير الاستحباب لا يمكن حمله على أن المراد بالاحتياط المعنى الذي ذكره الماتن ، واستظهره من كلام الشيخ قدس‌سره وأورد عليه بأن الأمر بالعمل المطابق للعبادة من جميع الجهات غير جهة قصد التقرب يكون مولويا نفسيا متعلقا بذات العمل المطابق للعبادة الواقعية على تقدير الوجوب واقعا ، فإنه على هذا التقدير لا دليل على اعتبار قصد التقرب في الإتيان بمتعلق هذا الأمر فيصبح توصليا ولا أظن بالماتن أو الشيخ الالتزام بالاستحباب النفسي التوصلي ، بل الظاهر أن مراد الشيخ قدس‌سره أن الشارع قد وسّع في قصد التقرب المعتبر في العبادة عند الجهل بوجوبها سواء كان أمرها دائر بين الوجوب والاستحباب أو بين الوجوب وغير الاستحباب. فيجوز في الاحتياط فيها الإتيان بالعمل المطابق للعبادة من جميع الجهات من غير جهة قصد التقرب فإنّ قصده في مقام الاحتياط والجهل بالواقع بالإتيان بها لاحتمال وجوبها الواقعي ، وهذا التقرب غير مطابق لقصد التقرب المعتبر فيها على تقدير العلم بوجوبها فيكون الأمر بالاحتياط عند الجهل طريقيا استحبابيا أو إرشاديا على ما يأتي.

٣٢٢

سائر الشروط المعتبرة فيها ، مما يتعلق بها الأمر [١]. المتعلّق بها ، فيشكل جريانه

______________________________________________________

[١] وأجاب الماتن قدس‌سره أن منشأ الإشكال في جريان الاحتياط فيما دار أمر العبادة بين الوجوب وغير الاستحباب هو تخيل أن قصد التقرب المعتبر في العبادة كسائر شروطها وقيودها مما يؤخذ في متعلق الأمر بها ، وبما أن الاحتياط في العبادة يكون بالاحتياط بمتعلق الوجوب على تقديره واقعا ، قيل بعدم إمكان الإتيان بالمتعلق عند الجهل بالوجوب ودوران أمرها بينه وبين غير الاستحباب ، ولكن الأمر ليس كذلك فإن قصد التقرب المعتبر في العبادة غير مأخوذ في متعلق التكليف إنما يكون له دخل في حصول الغرض من متعلق الأمر فقط على ما ذكر في بحث التعبدي والتوصلي ، وعليه يكون المأتي به في مقام الاحتياط تمام ما تعلق به الأمر الوجوبي على تقديره واقعا من غير نقص فيه ، غاية الأمر لا بد من كون الإتيان به على نحو لو كان في الواقع أمر بها كان الإتيان المزبور مقربا بأن يؤتى به بداعي احتمال الأمر أو احتمال كونه محبوبا لله سبحانه ، بحيث يكون على تقدير الأمر بها واقعا الإتيان إطاعة وعلى عدمه انقيادا لله سبحانه فيستحق الثواب على التقديرين ، فإن الانقياد لجنابه يوجب استحقاقه كالطاعة له ، فلا حاجة في جريان الاحتياط في العبادات حتى فيما دار أمرها بين الوجوب وغير الاستحباب إلى تعلق الأمر بتلك العبادة.

أقول : لا يخفى أنه لا فرق بين القول بعدم إمكان أخذ قصد التقرب في متعلق الأمر أو القول بإمكانه وأنه يؤخذ في متعلق الأمر ، فإنه لو كان قصد التقرب منحصرا على الإتيان بالعمل بداعوية الأمر به ولو كان الأمر به ضمنيا فلا يمكن الإتيان بالعبادة بداعوية الأمر بها فيما دار الأمر فيها بين الوجوب وغير الاستحباب ، حيث لا يمكن الإتيان بها بداعوية الأمر بها حتى مع فرض أن الأمر يتعلق في العبادات

٣٢٣

.................................................................................................

______________________________________________________

بذات العمل ، فإن الإتيان بداعوية الأمر يتوقف على إحراز الأمر بها وإلّا كان الإتيان المزبور تشريعا ، وإن قلنا بأن قصد التقرب لا ينحصر على ذلك ، بل المعتبر فيه انتساب الإتيان واضافته إلى الله سبحانه بنحو كما هو الصحيح ، فهذه الإضافة كما تحصل بالإتيان بداعوية الأمر عند إحرازه كذلك تحصل بغيره أيضا ، ومنه الإتيان لاحتمال الأمر بها فيكون العمل مع انضمام هذا التقرب موجبا لتعنونه بعنوان الاحتياط ، سواء قيل بأخذ قصد التقرب في متعلق الأمر أم لا.

وعلى الجملة : فما ذكره قدس‌سره من ابتناء الإشكال على أخذ قصد التقرب في متعلق الأمر بالعبادة غير صحيح ، بل الإشكال مبني على انحصار قصد التقرب المعتبر في العبادة على الإتيان بها بداعوية الأمر بها فتدبر جيدا.

بقي في المقام أمران : الأول : أنه قد تقدم حسن الاحتياط عقلا وشرعا ويقع الكلام في أن أمر الشارع بالاحتياط مولوي أو إرشادي وأن حكم العقل بحسنه يكشف عن أمر الشارع به من باب الملازمة ، أو أن حكمه بالحسن في مرتبة الامتثال فاعلي لا يكشف عن الأمر المولوي من الشارع ، ظاهر كلام الماتن عدم كشف حكمه بالحسن عن الأمر المولوي بنحو اللم ولا يكون أمر الشارع إلّا إرشاديا ، وقد صرح المحقق النائيني قدس‌سره أنه لا مورد للملازمة في المقام ، فإن حكم العقل بحسنه للتحفظ على المصلحة الواقعية على تقديرها باستيفائها والاجتناب عن المفسدة الواقعية على تقديرها بعدم الابتلاء بها ، وهذا الحكم من العقل واقع في سلسلة المعلومات والأحكام الشرعية لا يلازم حكما شرعيا مولويا ، وتنحصر الملازمة على ما كان حكمه في سلسلة علل الأحكام وملاكاتها ، وبالجملة حكم العقل بحسن الاحتياط كحكمه بحسن الطاعة في كونه غير قابل للحكم المولوي هذا بالإضافة إلى الحكم

٣٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

النفسي ، وأما بالإضافة إلى الحكم الشرعي المولوي الطريقي فإن شأنه تنجيز الثواب في موارد الترخيص الظاهري ، والمفروض استحقاق المكلف المثوبة بحكم العقل إما على الطاعة أو الانقياد مع قطع النظر عن أمر الشارع بالاحتياط.

أقول : يظهر من بعض الأخبار أن للاحتياط أثرا آخر مطلوبا غير استيفاء ما في الواقع من المصلحة على تقدير الوجوب وغير عدم الابتلاء بالمفسدة على تقدير الحرمة وهو توطين النفس للاجتناب عن المحارم وتعودها على المواظبة على الواجبات نظير قوله عليه‌السلام : «من ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له أترك ، والمعاصي حمى الله ، ومن يرتع حول الحمى يوشك أن يدخلها» (١) ، ولكن حكم العقل بحسنه ليس بهذا الملاك وظاهر عمدة الخطابات الشرعية أن الأمر بالاحتياط والوقوف عند الشبهات أنّه للتحفظ على احتمال التكليف وعدم الابتلاء بالمفسدة الواقعية ، وهذا الأمر لا يكون إلّا إرشاديا والكلام في الأمر به مولويا طريقيا استحبابيا ، وحيث إن هذا الأمر الطريقي لتنجيز الواقع عقابا أو لا أقل ثوابا ، والمفروض عدم ترتبه على الأمر به لاستقلال العقل باستحقاق المحتاط للمثوبة للطاعة أو للانقياد فلا يبقى موجب للأمر الطريقي به.

اللهم إلّا أن يقال : استقلال العقل بما ذكر ما لم يكن في الاحتياط جهة مرجوحة ، ويحتمل مع قطع النظر عن الأخبار الواردة فيها الأمر به أن يكون فيه الجهة المشار اليها الموجبة للمزاحمة مع المصلحة الواقعية أو المفسدة الواقعية ، وتكون مرجوحة عند الشارع ، فللشارع الأمر بها طريقيا غير لزوميّ لتنجيز الثواب ، وعليه فلا يقاس الأمر به بالأمر بالطاعة في موارد ثبوت التكليف وإحرازه ، حيث لا يعقل

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٦١ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٧.

٣٢٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الأمر به إلّا ارشادا وليس كل حكم للعقل في سلسلة الأحكام إرشاديا محضا ، بل ربما يكون مولويا ، وما ورد في بعض الروايات المشار إليها من قبيل ذكر الفوائد المترتبة على الاحتياط وليس من بيان ملاك أمر الشارع بالاحتياط في الشبهات كما لا يخفى.

الأمر الثاني ، ذكر النائيني قدس‌سره أنه على تقدير كون الأمر بالاحتياط مولويا ، والبناء على سراية هذا الأمر إلى العمل ، فلا يكون العمل عبادة إذا أتى بداعوية الأمر بالاحتياط ، بل الموجب لعباديته على تقدير وجوبه واقعا وقوعه لاحتمال الوجوب الواقعي ، وذلك فإن الأمر بالاحتياط في نفسه توصلي لجريانه في التوصليات أيضا ، ودعوى أن الأمر بالاحتياط يكتسب التعبدية من الوجوب الواقعي على تقديره غير صحيح ، وذلك فإن العمل الواحد إذا تعلق به أمران أحدهما تعبدي والآخر توصلي ، كما إذا نذر المكلف صلاة الليل يكتسب الأمر التوصلي وهو وجوب الوفاء بالنذر التعبدية من الاستحباب النفسي المتعلق بصلاة الليل ، فإن الأمر بوجوب الوفاء يسري إلى صلاة الليل ولا يكون متعلقا بصلاة الليل المستحبة ، بأن يكون الأمر بها من ناحية وجوب الوفاء بالنذر طوليا ، حيث إنه لا يمكن الإتيان بصلاتها المستحبة بعد تعلق النذر مستحيل ، فلا يتعلق النذر إلّا بصلاة الليل والإتيان بها بداعوية الأمر بالوفاء بالنذر تجعلها عبادة ، بخلاف ما إذا استؤجر للإتيان بعبادة مستحبة أو واجبة نيابة حيث يكون وجوب الوفاء بالإجارة في طول الأمر بتلك العبادة المستحبة أو الواجبة ، فالموجب لعباديتها الإتيان بها لاستحبابها أو وجوبها في نفسها ، وإذا أتى بتلك العبادة بداعوية الأمر بالإجارة لا بداعي وجوبها أو استحبابها في نفسها لا تكون عبادة لأنّ اكتساب العبادية لوجوب الوفاء بالإجارة عن الوجوب أو

٣٢٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الاستحباب المتعلق بذلك الأمر لا يمكن لطولية الأمر بالإجارة وتعدد متعلق الأمرين ، وفي المقام أيضا ، الأمر المتعلق بالفعل على تقديره واقعا مع الأمر بالاحتياط ، نظير الأمر بالعمل مع الأمر بالوفاء بالإجارة طولى مع تعدد المتعلقين ، فلا يمكن أن يكتسب الأمر بالاحتياط العبادية من الوجوب المحتمل واقعا ، على تقدير تعلقه بالعمل ، بل لا بد في امتثال الوجوب المحتمل من الإتيان بالعبادة بداعى احتمال الأمر به لتقع عبادة.

أقول : قد ذكرنا في بحث التعبدي والتوصلي أن كون فعل عبادة لا يسقط الأمر به بمجرد الإتيان بذات الفعل لاعتبار قصد التقرب وأخذه في متعلق الأمر به ، وإلّا فلا فرق في ناحية نفس الأمر في التوصلي والتعبدي حيث يكون الغرض من نفس الأمر بالمتعلق فيهما إمكان دعوته إلى متعلقه بوصوله إلى المكلف والمصحح لقصد القربة إضافة العمل إلى الله سبحانه بأن يؤتى بالفعل له ، ويحصل هذا إذا حصل الفعل في التوصلي بداعوية الأمر به إلى العمل والأمر بالاحتياط أيضا توصلي ، ولكن لا يكون الأمر به داعيا إلى العمل إلّا إذا كان العمل مع قطع النظر عن الأمر بالاحتياط مصداقا للاحتياط ، ولو قيل بأن الاحتياط لا يتحقق إلّا مع الإتيان بقصد التقرب الذي هو الإتيان بداعوية الأمر بالعمل فلا يتحقق هذا التقرب فيما دار أمر العبادة بين الوجوب وغير الاستحباب ، ولكن لو قلنا بكفاية مطلق إضافة الفعل إلى الله يكفي في تحققه الإتيان لاحتمال وجوب العمل ، وما ذكره قدس‌سره من أن المصحح لقصد التقرب للعبادة عن المنوب عنه الأمر النفسي التعبدي المتوجه إلى المنوب عنه فهذا لا يجري في النيابة عن الموتى ، مع أنه لا يعقل أن يكون الأمر المتوجه إلى المنوب عنه داعيا للأجير إلى العمل ، نعم النيابة عن الميت في نفسها فيما فات عنه

٣٢٧

حينئذ ، لعدم التمكن من قصد القربة المعتبر فيها ، وقد عرفت أنه فاسد ، وإنما اعتبر قصد القربة فيها عقلا لأجل أن الغرض منها لا يكاد يحصل بدونه.

وعليه كان جريان الاحتياط فيه بمكان من الإمكان ، ضرورة التمكن من الإتيان بما احتمل وجوبه بتمامه وكماله ، غاية الأمر أنه لا بد أن يؤتى به على نحو لو كان مأمورا به لكان مقربا ، بأن يؤتى به بداعي احتمال الأمر أو احتمال كونه محبوبا له تعالى ، فيقع حينئذ على تقدير الأمر به امتثالا لأمره تعالى ، وعلى تقدير عدمه انقيادا لجنابه (تبارك وتعالى) ، ويستحق الثواب على كل حال إما على الطاعة أو الانقياد.

وقد انقدح بذلك أنه لا حاجة في جريانه في العبادات إلى تعلق أمر بها ، بل لو فرض تعلقه بها لما كان من الاحتياط بشيء ، بل كسائر ما علم وجوبه أو استحبابه

______________________________________________________

مستحب وإذا صلى نيابة عنه بداعوية الأمر الاستحبابي يتحقق قصد التقرب ، وإذا آجر نفسه على القضاء عنه يكون متعلق الأمر بالإجارة ووجوب الوفاء بها عين متعلق ذلك الأمر الاستحبابي المتعلق بالنيابة فيكتسب الوجوب الآتي من قبل عقد الإجارة متحدا مع الأمر النفسي المتعلق بالنيابة نظير اتحاد متعلق وجوب الوفاء بالنذر مع متعلق الأمر بصلاة الليل ، ولكن قد لا يكون ذلك الأمر النفسي ، ومع ذلك تصح النيابة عن الغير وتصح الإجارة ويتحقق قصد التقرب في عمل الأجير أيضا كما في بعث المستطيع الذي صار عاجزا عن المباشرة للغير في الحج عنه في حجة الإسلام ، فإن البعث تكليف للعاجز والنيابة عنه بلا بعثه بإجارة أو غيرها غير صحيحة ، والسر في ذلك أن مع قيام الدليل على مشروعية البعث ، لا بد من الحكم بصحة النيابة عنه في الحج ، ومجرد قصد النائب الحج عنه وفاء لعقد الإجارة يوجب تحقق قصد التقرب

٣٢٨

منها ، كما لا يخفى.

فظهر أنه لو قيل بدلالة أخبار (من بلغه ثواب) على استحباب العمل الذي بلغ عليه الثواب ، ولو بخبر ضعيف لما كان يجدي في جريانه [١].

______________________________________________________

وأخذ الاجرة من قبيل الداعي إلى الداعي فلا ينافي قصده ، وفيما نحن فيه أيضا إذ أتى المكلف العبادة ـ المحتمل وجوبه ـ بداعوية الأمر بالاحتياط وكان في الواقع واجبا حصل قصد القربة فلا ينحصر قصد التقرب في كون الداعي إلى الإتيان به مجرد احتمال وجوبه بل يمكن أخذ احتمال الوجوب وصفا في العمل ويؤتى بداعوية الأمر بالاحتياط.

[١] قد يقال : بأنه إذا قيل بدلالة أخبار من بلغ على استحباب العمل البالغ عليه الثواب ولو بخبر ضعيف ، فيمكن جريان الاحتياط في العبادة الدائرة بين الوجوب وغير الاستحباب أو الاستحباب وغير الوجوب مع ورود خبر ضعيف في وجوبها أو في استحبابها ، حيث يمكن الإتيان بها بداعوية الأمر الاستحبابي المستفاد من تلك الأخبار ، ويتحقق بذلك قصد التقرب المعتبر في العبادة ، وأجاب الماتن قدس‌سره بأنه لو قيل باستحباب ذلك العمل بورود خبر ضعيف في وجوبها أو استحبابها لا يكون الإتيان بها بداعوية هذا الأمر احتياطا ، بل من قبيل الإتيان بعمل مستحب بعنوانه الثانوي.

ثم قال : ولو قيل بأن ما ذكر فيما لو قيل بأن مفاد أخبار من بلغ استحباب العمل بعنوانه الثانوي ، وأما إذا قلنا بأن مفادها استحبابها هو محتمل الوجوب أو الاستحباب بأن يستحب الإتيان بها بعنوان الاحتياط فيصح الإتيان بها بداعوية هذا الأمر الاستحبابي ، فيكون احتياطا مع تحقق قصد التقرب ، وأجاب عن ذلك أولا : بأنه على ذلك ، فالأمر المستفاد كالأمر بالاحتياط توصلي لا يوجب الإتيان بداعويته وقوع العمل

٣٢٩

في خصوص ما دلّ على وجوبه أو استحبابه خبر ضعيف ، بل كان عليه مستحبا كسائر ما دل الدليل على استحبابه.

لا يقال : هذا لو قيل بدلالتها على استحباب نفس العمل الذي بلغ عليه الثواب بعنوانه ، وأما لو دلّ على استحبابه لا بهذا العنوان ، بل بعنوان أنه محتمل الثواب ، لكانت دالّة على استحباب الإتيان به بعنوان الاحتياط ، كأوامر الاحتياط ، لو قيل بأنها للطلب المولوي لا الإرشادي.

فإنه يقال : إن الأمر بعنوان الاحتياط ولو كان مولويا لكان توصليا ، مع أنه لو كان عباديا لما كان مصححا للاحتياط ، ومجديا في جريانه في العبادات كما أشرنا إليه آنفا.

ثم إنه لا يبعد دلالة بعض تلك الأخبار على استحباب ما بلغ عليه الثواب [١].

______________________________________________________

عبادة ، فإن الموجب لوقوع العمل عبادة قصد الأمر التعبدي بها ، وأجاب ثانيا : بأنه لو كان الأمر بالاحتياط استحبابا تعبديا فلا يجدي أيضا في جريان الاحتياط في العبادة المرددة بين الوجوب وغير الاستحباب ، أو بين الاستحباب وغير الوجوب ؛ لأنّ الأمر الاستحبابي التعبدي تعلق بما يكون احتياطا مع قطع النظر عن هذا الأمر كما تقدم سابقا.

أقول : قد تقدم أن قصد التقرب المعتبر في العبادة هو إضافة العمل إلى الله سبحانه عند الإتيان مع تعلق الأمر به واقعا ، وهذا القصد لا يتوقف على إحراز الأمر به واقعا ولا على ثبوت الأمر المولوي المتعلق به بعنوان الاحتياط فلا نعيد.

[١] ثم قال : ولو قيل بأن ما ذكر فيما لو قيل بأن مفاد أخبار من بلغ استحباب العمل بعنوانه الثانوي ، وأما إذا قلنا بأن مفادها استحبابها هو محتمل الوجوب أو الاستحباب بأن يستحب الإتيان بها بعنوان الاحتياط فيصح الإتيان بها بداعوية هذا

٣٣٠

.................................................................................................

______________________________________________________

الأمر الاستحبابي ، فيكون احتياطا مع تحقق قصد التقرب ، وأجاب عن ذلك أولا : بأنه على ذلك ، فالأمر المستفاد كالأمر بالاحتياط توصلي لا يوجب الإتيان بداعويته وقوع العمل عبادة ، فإن الموجب لوقوع العمل عبادة قصد الأمر التعبدي بها ، وأجاب ثانيا : بأنه لو كان الأمر بالاحتياط استحبابا تعبديا فلا يجدي أيضا فى جريان الاحتياط في العبادة المرددة بين الوجوب وغير الاستحباب ، أو بين الاستحباب وغير الوجوب ؛ لأنّ الأمر الاستحبابي التعبدي تعلق بما يكون احتياطا مع قطع النظر عن هذا الأمر كما تقدم سابقا.

أقول : قد تقدم أن قصد التقرب المعتبر في العبادة هو إضافة العمل إلى الله سبحانه عند الإتيان مع تعلق الأمر به واقعا ، وهذا القصد لا يتوقف على إحراز الأمر به واقعا ولا على ثبوت الأمر المولوي المتعلق به بعنوان الاحتياط فلا نعيد.

أقول : حيث انجر الكلام إلى أخبار من بلغ فلا بأس بالنظر إليها ليظهر أن مفادها استحباب نفس العمل البالغ عليه الثواب ، كما هو ظاهر الماتن قدس‌سره أو استحباب الاحتياط مولويا أو أن مفادها كمفاد الأخبار الواردة في الاحتياط إرشاد إلى حسن الاحتياط ، وقد جعل في الوسائل من مقدمات العبادات بابا وروى فيه تسع روايات على اختلاف مضامينها ، والتام سندا منها روايتان.

إحداهما : ما عن المحاسن ، عن علي بن الحكم ، عن هشام بن سالم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من بلغه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له وإن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقله» (١).

والاخرى : ما عن الكليني قدس‌سره عن علي بن ابراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ : ٨١ ، الباب ١٨ من أبواب مقدمة العبادات ، الحديث ٤.

٣٣١

.................................................................................................

______________________________________________________

عن هشام بن سالم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من سمع شيئا من الثواب على شيء فصنعه كان له ، وإن لم يكن على ما بلغه» (١) ، وذكر الماتن أن المستفاد استحباب نفس العمل ببلوغ الثواب وكأن بلوغه يوجب استحبابه ، ووجه الاستفادة ظهور الصحيحة الاولى في ترتب الثواب على نفس العمل مطلقا ، ولو لم يكن الخبر البالغ به الثواب عليه صادقا وترتب الثواب على نفس العمل يكشف عن استحبابه ، فإنه لا معنى لترتبه على نفس عمل لم يكن محبوبا شرعا ، نعم لو كان ترتبه على العمل برجاء إدراك الواقع واحتمال كونه مطلوبا واقعا ، بأن كان بعنوان الاحتياط لم يكن كاشفا عن استحباب نفس العمل حيث إن ترتب الثواب على الانقياد كترتبه على الطاعة لا يكشف عن الأمر المولوي بهما.

وقد ذكر الشيخ قدس‌سره أن مدلولها ترتب الثواب على العمل البالغ عليه الثواب فيما إذا أتى برجاء إدراك الواقع وبعنوان الاحتياط ، وعليه فلا يكون ترتب الثواب عليه كاشفا عن استحباب نفس العمل ولو بعنوانه الثانوي ، ووجه كون مدلولها ما ذكر أمران.

أحدهما : أنه سلام الله عليه فرّع العمل على بلوغ الخبر ، وقال : «من بلغه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله شيء من الثواب فعمله» ظاهره كون بلوغه داعيا له إلى العمل ، وحيث إن داعوية الخبر البالغ عند ضعفه لاحتمال صدقه وأصابته الواقع فيكون الإتيان برجاء الواقع وترتب الثواب على العمل كذلك لا يكشف عن استحبابه.

وثانيهما : أنه قد قيّد العمل المترتب عليه الثواب بما إذا كان الإتيان طلبا لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيكون التقييد موجبا لحمل سائر الإطلاقات عليه.

__________________

(١) المصدر السابق : الحديث ٦.

٣٣٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وقد أورد الماتن على كل من الوجهين ، أما ما أورد به على الوجه الأول فلأن ظاهر الصحيحة وإن يكن ترتب العمل على البلوغ وكونه هو الداعي له إلى الإتيان ، إلّا أن معنى الداعي أنه لو لم يكن بلوغ الثواب عليه لم يعمل ، وإذا دعاه البلوغ إلى العمل فتارة يقصده بما هو هو واخرى يقصده برجاء إصابة قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وحيث لم يقيد في الصحيحة الثواب المعطى بالصورة الثانية لو لم يكن ظاهرها ترتبه على الإتيان بالنحو الأول يكون ذلك كاشفا عن مطلوبية ذلك الشيء ببلوغ الثواب عليه ، وبالجملة فرض كون بلوغ خبر الثواب داعيا له إلى العمل لا يوجب تقييد عمله برجاء إدراك الواقع.

وأما الوجه الثاني : فإن حمل المطلق على المقيد إنما هو في فرض وحدة الحكم بخلاف مثل المقام ، حيث يمكن ترتب الثواب على العمل بالخبر الذي بلغ به الثواب عليه ، وما إذا أتى بالعمل المزبور لرجاء إدراك الواقع ويمكن بعد فرض استحباب العمل ببلوغ الخبر أن يكون إعطاء الثواب للإطاعة أي امتثال الأمر المتعلق بذلك العمل لا للاحتياط والانقياد فيكون وزان الأخبار وزان من سرح لحيته أو من صام يوم كذا أو صلى بكذا فله كذا ، ولذا أفتى المشهور باستحباب العمل في هذه الموارد.

أقول : إذا فرض البلوغ بخبر ضعيف فلا تكون داعويته إلى العمل إلّا بالإتيان برجاء اصابة الواقع كما إذا كان البلوغ بخبر معتبر كان الإتيان به بنحو المطلوبية الواقعية لإحرازها ، وترتب الثواب على العمل في بعض الروايات وإن كان صحيحا ، إلّا أن المراد العمل على مقتضى البلوغ ، والمراد من الأجر في الصحيحة هو

٣٣٣

.................................................................................................

______________________________________________________

خصوص الثواب البالغ في الخبر لا مطلق الأجر والثواب ، ويفصح عن كون المراد الثواب البالغ ظاهر صحيحة هشام بن سالم (١) المروية في «الكافي» فإنها مع ما في «المحاسن» (٢) رواية واحدة قد وصلت بطريقين.

والحاصل لا تكون الصحيحة بظاهرها استحباب نفس العمل البالغ عليه الثواب حتى مع فرض عدم صدق الخبر ، بل ولا استحباب العمل بالاحتياط مولويا ، فإن الثواب المعطى إما على الطاعة أو الانقياد ، كما لا مجال لدعوى أن المستفاد من تلك الأخبار إلغاء الشرائط المعتبرة في اعتبار الخبر بالإضافة إلى الأخبار الواردة في المستحبات أو مطلق غير الإلزاميات ، والوجه في عدم المجال لها أن الوارد في الأخبار إعطاء الثواب البالغ للعامل حتى في فرض عدم صدق الخبر ، وهذا ليس من لوازم الحجية للخبر ليكون ترتّبه كاشفا عن اعتبار الخبر ، ولو كان المراد منها إلغاء الشرائط المعتبرة في حجية الخبر في الإلزاميات لو ردّ الأمر فيها بالعمل على الخبر سواء عرف المخبر بالعدالة أو الثقة أو جهل أو عرف بخلاف ذلك ، ومما ذكر يظهر أنه لا يترتب على ذلك العمل الأثر المترتب على العمل المشروع والمستحب ، كما إذا بنى على استغناء كل غسل مستحب أو واجب عن الوضوء فلا تترتب مشروعية الاستغناء واستحبابه على الغسل الوارد في خبر ضعيف أو ورد خبر ـ في طريقه ضعف ـ في ترتب الثواب عليه.

لا يقال : على ما ذكر فلا تكون أخبار من بلغ إلّا متضمنة لحكم إرشادي محض ويصبح كاللغو ، حيث إن الأمر بالاحتياط مغن عن هذا الإرشاد ، والعقل مستقل

__________________

(١) الكافي ٢ : ٧١ ، الحديث الأول.

(٢) وسائل الشيعة ١ : ٨١ ، الباب ١٨ من أبواب مقدمات العبادات ، الحديث ٣ ، عن المحاسن : ٢٥.

٣٣٤

فإن صحيحة هشام بن سالم المحكية عن المحاسن ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : (من بلغه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله شيء من الثواب فعمله ، كان أجر ذلك له ، وإن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقله) ظاهرة في أن الأجر كان مترتبا على نفس العمل الذي بلغه عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه ذو ثواب ، وكون العمل متفرعا على البلوغ ، وكونه الداعي إلى العمل

______________________________________________________

باستحقاق المنقاد للتفضل عليه بالثواب كاستحقاق المطيع ، مع أن ظاهر الأخبار ثبوت خصوصية في مدلولها.

فإنه يقال يزيد مدلول هذه الأخبار على ما هو عند العقل بكون الانقياد موجبا للتفضل عليه بالثواب ، وأما تعيين ذلك الثواب فلا سبيل للعقل إليه ، وظاهر صحيحة هشام بن سالم بل وغيرها يعيّن الثواب بالثواب البالغ في الخبر سواء كان صدقا أم لا.

فيكون مدلولها الوعد بالتفضل الخاص ، نظير قوله سبحانه (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ)(١) حيث لا يستقل العقل باستحقاق المطيع هذا الثواب قبل الوعد به.

في الثمرة بين الأقوال في أخبار من بلغ

وربما يقال بظهور الثمرة فيما إذا ورد خبر ضعيف في كون عمل ذا ثواب ، ودل إطلاق أو عموم في خطاب معتبر على حرمته ، فإنه بناء على كون روايات من بلغ دالة على عدم اعتبار القيود المعتبرة في الخبر القائم بالاستحباب يكون الخبر المفروض مقيدا أو مخصصا لإطلاق الحرمة أو عمومها ، وبناء على كون مفادها استحباب ذلك العمل ببلوغ ذلك الخبر يكون الاستحباب المستفاد من تلك الروايات مزاحما للحرمة المستفادة من العموم أو الإطلاق ، فيقدم التحريم لعدم

__________________

(١) سورة النساء : الآية ١٣.

٣٣٥

غير موجب لأن يكون الثواب إنما يكون مترتبا عليه ، فيما إذا أتى برجاء أنه مأمور به وبعنوان الاحتياط ، بداهة أن الداعي إلى العمل لا يوجب له وجها وعنوانا يؤتى به بذاك الوجه والعنوان.

وإتيان العمل بداعي طلب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كما قيّد به في بعض الأخبار ، وإن

______________________________________________________

صلاحية الحكم غير الإلزامي للمزاحمة مع الإلزامي.

وفيه أن الحكم الثابت للفعل بعنوانه الثانوي يتقدم على الحكم الثابت له بعنوانه الأولي ، كما إذا ورد الترخيص في الكذب الدافع لضرر الغير عنه ، أو مؤمن آخر فإنه يقدم على الحكم الثابت له بعنوانه الأولي ، وما يقال من أن الحكم غير الإلزامي لا يزاحم الإلزامي ، إنما هو في تزاحم الحكمين في مقام الموافقة والامتثال لا في مقام تزاحم الملاكات ، فإن ملاك غير الإلزامي يمكن أن يمنع عن تمامية ملاك الحكم الإلزامي ، والتزاحم مع وحدة الفعل في الحكمين إنما هو في ملاكهما لا محالة ؛ لأنّ الفعل الواحد لا يتحمل حكمين مختلفين ، ولكن الصحيح في المقام عدم تخصيص العام أو المطلق به سواء قيل بأنّ مفاد أخبار من بلغ بيان صيرورة الفعل بقيام الخبر مستحبا أم قيل بأن مفادها عدم اعتبار الشرائط المعتبرة في ناحية الخبر القائم بالإلزاميات في الخبر القائم بغير الإلزاميات ، فإنها ناظرة إلى العمل الذي ورد فيه ثواب فقط ، ولا يعم ما ورد فيه الدلالة على العقاب أيضا ، كما هو مقتضى العموم في خطاب التحريم أو إطلاقه ، فإن الخبر الضعيف لا يكون معتبرا في الفرض ولا موجبا لاستحبابه.

وربما يقال : بظهور الثمرة فيما إذا أفتى بعض الفقهاء باستحباب عمل أو وجوبه فإنه بناء على عدم اعتبار الشرائط في البلوغ وصيرورته بلوغا معتبرا يمكن للفقيه الآخر الفتوى باستحباب ذلك العمل ولو لم يكن في البين إلّا فتوى بعض الأصحاب

٣٣٦

كان انقيادا ، إلّا أن الثواب في الصحيحة انما رتب على نفس العمل ، ولا موجب لتقييدها به ، لعدم المنافاة بينهما ، بل لو أتى به كذلك أو التماسا للثواب الموعود ، كما قيد به في بعضها الآخر ، لأوتي الأجر والثواب على نفس العمل ، لا بما هو احتياط وانقياد ، فيكشف عن كونه بنفسه مطلوبا وإطاعة ، فيكون وزانه وزان (من سرح لحيته) أو (من صلى أو صام فله كذا) ولعله لذلك أفتى المشهور بالاستحباب ، فافهم وتأمل.

______________________________________________________

إذا احتمل فيه إصابة الواقع ، وفيه أنه لو قيل بعدم اعتبار الشرائط في الخبر الوارد في الثواب على عمل وأنه يكون مدركا للاستحباب أو موجبا له فلا يتعدى إلى موارد فتوى البعض ، لأنه إن علم المدرك للفتوى بالاستحباب أو الوجوب ولوحظ عدم تماميته فلا يصدق بلوغ الثواب فيه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو المعصوم عليه‌السلام ، ألا ترى أنه لا يصدق بلوغ نجاسة ماء البئر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بوقوع النجس فيه مع ملاحظة فتوى المشهور بها ، بل إذا لم يحرز المدرك لم يحرز صدق البلوغ ، حيث إن الفتوى إبراز لحدسه وإنشاء له لا نقل شيء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو المعصوم عليه‌السلام ، ثم إن الشيخ قدس‌سره ذكر في الرسالة بظهور الثمرة في موردين :

الأول : جواز المسح ببلّة المسترسل من اللحية كما لو قام خبر ضعيف على استحبابه وقلنا بثبوت الاستحباب بالخبر الضعيف ، ولا يجوز المسح ببلته بناء على عدم ثبوت الاستحباب بذلك الخبر ، وناقش في ذلك الماتن قدس‌سره في تعليقته على الرسالة ، بأنه إذا كان غسل المسترسل من قبيل المستحب في الواجب ولا يكون من أجزاء الوضوء ليجوز المسح ببلته ، نعم لو كان مدلول الخبر كونه جزءا مستحبا فلا بأس بالمسح ببلته.

إلّا أن يقال : ما دلّ على اعتبار المسح ببلة الوضوء كونها من بلة الأعضاء الأصلية.

أقول : الجزء المستحب مع تغاير الواجب مع المستحب بأن يكون للمستحب

٣٣٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وجود انضمامي إلى الواجب غير صحيح ، بل يكون دائما من قبيل المستحب النفسي في ضمن واجب فلا يجوز المسح ببلته إلّا إذا كان استحبابه ملازما لجواز المسح ببلته ، كما إذا قيل باستحباب الغسل مرتين في أعضاء الوضوء ، فإنه يستلزم هذا الاستحباب جواز المسح ببلة الغسلة الثانية.

الثاني : ما إذا قام خبر ضعيف باستحباب الوضوء للنوم مثلا فإنه بناء على ثبوت الاستحباب بالخبر الضعيف يرتفع الحدث ، وأما مع عدم ثبوته لا يحرز ارتفاع الحدث به ، وفيه أن الوضوء في نفسه مستحب من المحدث ، ولكن يعتبر في صحته قصد التقرب ، وقد تقدم أن العمل برجاء الاستحباب من قصد التقرب فلا مجال للتأمل في كونه طهارة من الحدث بالأصغر ، والحمد لله رب العالمين.

٣٣٨

الثالث : أنّه لا يخفى أن النهي عن شيء إذا كان بمعنى طلب تركه في زمان أو مكان [١].

______________________________________________________

أقسام النهي عن الشيء

[١] قد يقال بعدم جريان البراءة في الشبهة الموضوعية ، ولا مورد فيها لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ؛ لأنّ ما على المولى بيان النهي عن الطبيعي والمفروض أنه محرز وواصل إلى المكلف ، ومع ارتكاب المشتبه لا يحرز امتثال النهي عن الطبيعي فيكون ترك المشكوك مقتضى قاعدة الاشتغال ، وذكر الماتن قدس‌سره أن النهي عن الطبيعي على نحوين :

النحول الأول : ما إذا تعلّق بصرف وجود الطبيعي بحيث تكون موافقته بترك جميع أفراده ، ومخالفته بارتكاب أول وجود منه ، حيث بعد تحقق أول الوجود لا يبقى نهي عنه ليكون الاجتناب عنه موافقة وارتكابه مخالفة ، عكس ما إذا تعلق الأمر بالطبيعي بمعنى طلب صرف الوجود ، فإنه بالإتيان بصرف الوجود تحصل الموافقة ، وبترك جميع أفراده تحصل المخالفة ، ولو كان النهي عن الطبيعي بهذا النحو يلزم الاجتناب عن الفرد المشكوك لاحراز ترك الطبيعي وعدم ارتكاب المنهي عنه يعنى الاتيان بصرف الوجود.

نعم ، إذا كان المكلف تاركا لصرف الوجود من قبل فيحكم بجواز ارتكاب الفرد المشتبه بالاستصحاب في ترك الطبيعي مع الاتيان به ، فإنه كما يحرز امتثال الواجب والإتيان بصرف وجوده بالأصل كما إذا جرى الاستصحاب في وضوئه ، كذلك يحرز موافقة النهي وترك الطبيعي بالأصل.

وعلى الجملة ، فالفرد المشتبه في هذا النحو من النهي عن الطبيعي خارج عن مورد أصالة البراءة ، ولو جاز تركه كما إذا كان المكلف تاركا لصرف وجود الطبيعي

٣٣٩

.................................................................................................

______________________________________________________

من قبل فجواز ارتكابه للاستصحاب لا لأصالة البراءة.

ودعوى العلم الإجمالي بعدم جواز ارتكاب المشتبه أو الفرد الآخر بعد ارتكابه ، ومقتضى هذا العلم الاجتناب عن المشتبه أيضا ، كما ترى لعدم كون هذا العلم منجزا مع جريان الاستصحاب في بقاء النهي بعد ارتكاب المشتبه ، حيث إن مقتضاه ترك الفرد الآخر بعد ارتكاب المشتبه للعلم بمخالفة النهي بعد ارتكابه ، وتحقق ما هو متعلقه إما بارتكابه أو بارتكاب الفرد المشتبه من قبل ، وبعد إحراز بقاء التكليف بعد ارتكاب المشتبه بالاستصحاب بعدم كون المشتبه من فرد الطبيعي أو عدم تحقق صرف الوجود منه يلزم رعاية التكليف بترك الفرد الآخر.

أقول : مما ذكرنا أخيرا يظهر أنه لا يختص جواز ارتكاب المشتبه بما إذا كان المكلف قبل فعلية النهي في حقه تاركا لصرف الوجود من الطبيعي ليستصحب بعد ارتكاب المشتبه فيحرز به الامتثال ، بل الاستصحاب يجري في ناحية عدم كون ارتكاب المشتبه من تحقق صرف وجود الطبيعي ويثبت به بقاء التكليف ولو كان ارتكاب المشتبه عند فعلية التكليف من بقاء ارتكابه.

وقد يقال : ما نحن فيه من قبيل دوران تكليف النهي بين أن يتعلق بالأكثر أو بالأقل ، وقد يأتي أن المرجع فيه أصالة البراءة عن تعلقه بالأكثر ، وبيان ذلك أن تعلق النهي بحيث يكون الزجر عن جميع الأفراد ثبوتا زجرا واحدا تعلقه بمجموع سائر الأفراد محرز ، والشك في كون المشكوك أيضا مزجور بزجر ضمني في ضمن تعلق ذلك بمجموع الأفراد أو لم يتعلق به زجر ، فأصالة البراءة عن تعلقه بالمشكوك جارية ، ولكن لا يخفى أن تعلق النهي بصرف الوجود ليس من تعلقه ثبوتا بمجموع أفراده جميعا ، بل ترك جميع الأفراد حكم عقلي حيث إن الطبيعي لا ينعدم إلّا بترك

٣٤٠