دروس في مسائل علم الأصول - ج ٤

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-94850-6-5
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

كما في التكليف غير الإلزامي ، والأحكام الوضعية التي تكون لسان خطاباتها الأحكام المجعولة بمفاد القضايا الحقيقية يكون الموضوع للاصول محققا في ناحية كل واحد من أطراف العلم في نفسه ، ورفع اليد فيها عن خطابات الاصول النافية يحتاج إلى ثبوت مقيد لإطلاقاتها من ناحية العقل أو الشرع ، وذلك فان الحكم الظاهري والتكليف الواقعي لا يكونان متنافيين في البدء ؛ لأنّ التكليف الواقعي نفسي ناشئ عن الملاك في متعلقه والحكم الظاهري طريقي ناش عن المصلحة في ثبوت نفس الحكم من غير أن يكون في متعلقه ملاكا غير ما فيه من الملاك واقعا ، كما لا يكون بينهما منافاة في الغرض ؛ لأنّ الغرض من التكليف الواقعي إمكان كونه داعيا للمكلف إلى الإتيان بمتعلّقه أو تركه ، والغرض من الحكم الظاهري العمل به عند عدم وصول التكليف الواقعي ولو كان التكليف الواقعي معلوما ولو بالإجمال لكان الترخيص في جميع أطراف العلم منافيا للتكليف الواقعي في ناحية الغرض ، حيث لا يجتمع مع وصول التكليف المعلوم بالإجمال مع الترخيص في ارتكاب جميعها ، وكون كل من الأطراف في نفسه مشكوكا إنما يفيد في اعتبار الحكم الظاهري في خصوصه إذا كان لذلك البعض معيّن لدخوله تحت خطاب الأصل العملي ، كما إذا كان سائر الأطراف موضوعا لموضوع الأصل المثبت للتكليف أو لغير ذلك ، أو قام دليل خطاب على ثبوت الترخيص في الارتكاب في أحدهما لا بعينه ، كما إذا اضطر إلى شرب أحد الماءين مع علمه بنجاسة أحدهما إجمالا ، فإنه قد تقدم إن الترخيص فيما يختاره لدفع اضطراره منهما حكم ظاهري مستفاد من فحوى أدلة رفع الاضطرار ، بخلاف ما إذا لم يكن في البين معين لبعض الأطراف ولا دليل خاص ، حيث يكون شمول خطاب الأصل النافي لكل واحد من الأطراف على حد سواء

٣٦١

.................................................................................................

______________________________________________________

فيسقط في جميعها.

لا يقال : لا بأس بجريان الأصل النافي في كل من الأطراف مشروطا بترك الباقي ، فإنّه مع هذا النحو من الترخيص لا يثبت الترخيص القطعي في المخالفة القطعية للتكليف الواصل.

فإنه يقال : لا يحتمل أن تكون الحلية الواقعية في كل من الأطراف مقيدة ومشروطة ، بل الحكم الواقعي في كل طرف إما الحلية الواقعية أو الحرمة الواقعية المطلقتين ، فلا تعارض بين خطاب التكليف الواقعي مع خطاب الحلية الواقعية ، وأما الحلية الظاهرية في كل من الأطراف إنما يستفاد من خطاب واحد ، لا أن لكل من الأطراف للحلية الظاهرية خطابا يخصه حتى يجمع بين الخطابين بما ذكر ، فالجمع بين الحكمين بالتخيير أو بتقييد كل منهما بترك الآخر إنما يصح ويعدّ جمعا عرفيا إذا كان لكل من الحكمين خطاب يخصه كان الحكمان مع احتمال التخيير واقعيين ، نعم لو كان بين الأطراف تكليفا إلزاميا أو وضعا يستتبع الإلزام واحتمل ثبوت الإلزام أو الوضع في جميعها ، كما إذا علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين أو الثوبين واحتمل نجاسة الآخر أيضا ، فلا مانع عن إجراء أصالة الطهارة في الإناء بعنوان الآخر منهما أو الثوب الآخر ، فيحكم بصحة الصلاة إذا صلى في أحدهما وأعادها في الثوب الآخر ، فإن ثاني الثوبين أو الإناءين محكوم بالطهارة ولو بعنوانه ، وهذا الأمر غير مفروض في المقام للعلم بثبوت التكليف الواقعي في بعض الأطراف ، وعدم ثبوته في البعض الآخر ، ثم إنه لا فرق فيما ذكر من سقوط الاصول النافية من أطراف العلم بالتكليف مع عدم المعين بين أصل وأصل آخر ، وأما الاصول المثبتة للتكليف في الأطراف فلا مانع من جريانها في كل منها ؛ لانّ الموجب لتعارض الاصول فيها لزوم الترخيص

٣٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

القطعي في المخالفة القطعية للتكليف الواصل بينها ، ولا يلزم من جريان الاصول المثبتة هذا المحذور ، ولا يكون ملاك التعارض في الاصول العملية عين ملاك التعارض في الطرق والأمارات ، يعني العلم بعدم مطابقة كلتا الأمارتين للواقع ؛ لأنّ مجرد العلم بالخلاف لا يضر في جريان الاصول العملية فيما إذا لم يلزم المخالفة العملية للتكليف الواقعي ، نعم قد ذكر الشيخ قدس‌سره وقوع المعارضة بمجرد العلم المزبور بدعوى لزوم المناقضة من شمول أدلتها لأطراف العلم ، ولكنها ضعيفة كما بين في بحث الاستصحاب ، ونذكر ضعفها في المقام إجمالا ، وعن المحقق النائيني قدس‌سره عدم جريان الاصول التنزيلية في أطراف العلم الإجمالي سواء كانت نافية للتكليف أو مثبتة ؛ لأنّ مفاد الاصول التنزيلية هو العلم بالواقع من جهة البناء العلمي فيمتنع التعبد به مع العلم بخلافه في بعض الأطراف.

فنقول قد ذكر الشيخ قدس‌سره عدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي سواء كان مفاده ثبوت التكليف فيها أو نفيها بدعوى أن شمول خطاباته لأطراف العلم يوجب التناقض في مدلولها من جهة صدرها وذيلها ، حيث إن مفاد لا تنقض اليقين بالشك لو عمّ أطراف العلم يكون مفاده النهي عن نقض اليقين بالشك في كل منها بنحو السالبة الكلية. وما في ذيلها : «ولكن انقضه بيقين آخر» مفاده نقض اليقين السابق في بعض تلك الأطراف للعلم بالخلاف في بعضها ، وهذه الموجبة الجزئية تناقض السالبة الكلية.

وفيه أن : «لا تنقض» يعم جميع الأطراف كلا بملاحظة نفسه ، واليقين السابق متعلق به كذلك ، ولكن اليقين بالخلاف لم يتعلق به كذلك حتى ينافي الذيل صدره ، وعلى تقدير الإغماض فعدم الشمول ما كان فيه الذيل المزبور فلا يمنع شمول ما لم يرد فيه الذيل المزبور ، مع أن هذا البيان على تقدير تماميته يختص بأدلة

٣٦٣

.................................................................................................

______________________________________________________

الاستصحاب ولا يجري في خطابات سائر الاصول ، مثل قولهم : «رفع عن امتي ما لا يعلمون» (١) نعم يمكن الوهم في جريانه في مثل : «كل شيء حلال حتى تعرف انه حرام» (٢) أو «كل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر ، فإذا علمت فقد قذر» (٣).

وأما ما ذكره المحقق النائيني قدس‌سره فيرد عليه أن التعبد بالعلم بشيء إنما ينافي العلم بالخلاف في نفس ذلك الشيء وجدانا ، بل لا معنى للتعبد فيه معه ، وأما مع عدم العلم فيه بخصوصه فانما ينافي التعبد بالعلم فيه إذا استلزم الترخيص القطعي في المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بينهما إجمالا ، ولا يكون مجرد التعبد بالعلم من حيث البناء العملي في طرف منافيا للتعبد بالعلم في كل من سائر الأطراف أيضا ؛ لأنّ التعبد بالعلم فيه لا ينفي المتعبد به من سائر الأطراف ، كما إذا توضأ بمائع مردّد بين الماء الطاهر والمضاف النجس ، حيث إن التعبد ببقاء الحدث لا يثبت نجاسة الأعضاء حتى لا يجري الاستصحاب في طهارتها.

جريان الأصل الطولي النافي في بعض أطراف العلم إذا اختص خطابه بذلك البعض

ثم إنّ ما ذكرنا من تساقط الاصول النافية في أطراف العلم للوجه المتقدم ، وهو لزوم الترخيص القطعي في المخالفة القطعية للتكليف الواصل بين الأطراف وعدم المعين لبعض الأطراف ليؤخذ بالأصل النافي فيه ، مقتضاه عدم المانع من جريان الأصل النافي في بعض الأطراف إذا كان لذلك الأصل النافي خطاب آخر مفاده غير

__________________

(١) مستدرك الوسائل ٦ : ٤٢٣ ، الباب ٢٦ ، الحديث ٧١٣٦.

(٢) الكافي ٥ : ٣١٣ ، الحديث ٣٩.

(٣) التهذيب ١ : ٢٨٤ ، الحديث ١١٩.

٣٦٤

.................................................................................................

______________________________________________________

مفاد الأصل النافي المشترك ، ويكون أصلا طوليا بالإضافة إلى الأصل النافي المشترك ، كما إذا علم بنجاسة ماء أو نجاسة ثوب ، فإن الاستصحاب في طهارتهما أو قاعدتها فيهما وإن تسقط بالمعارضة ؛ لأنّ شمول خطاب النهي عن نقض اليقين أو : «كل شيء نظيف حتى تعلم انه قذر» بالإضافة إلى كل منهما على حد سواء ، إلّا أن خطاب «كل شيء حلال حتى تعرف انه حرام» يختص بالماء فيجوز شربه وإن لم يجز استعماله في التطهير من الحدث أو الخبث ؛ لأنّ أصالة الحلية لا مورد لها في ناحية الثوب ، لعدم حرمة لبس الثوب المتنجس تكليفا كما هو ظاهر الحلية والحرمة المضافة إلى الأشياء ، ودعوى أن أصالة الحلية في ناحية الماء يعارضها أصالة الطهارة في ناحية الثوب لم يعلم لها وجه ، بعد ما ذكرنا أن الموجب للمعارضة عدم المعين للأصل النافي في بعض الأطراف ، نعم إذا كان الأصل الطولي مشتركا بين الأطراف وكان المختص هو الأصل الحاكم على ذلك الأصل الطولي ، كما إذا علم بنجاسة الماء أو غصبية الثوب تقع المعارضة بين أصالة الحلية في ناحية الثوب وبين أصالة الطهارة وأصالة الحلية في ناحية الماء ، ولا مجال لدعوى أنه تسقط أصالة الطهارة في الماء وأصالة الحلية في الثوب بالمعارضة ويرجع إلى أصالة الحلية في الماء ؛ لأنها في الماء أصل طولي لا تصل النوبة إليها مع أصالة الطهارة فيه ، وذلك فإن معنى كونها أصلا طوليا أنه لا تصل النوبة إليها مع جريان الأصل الحاكم لا مع عدم جريانه كما هو الفرض في المقام.

وبتعبير آخر الأصل الطولي المشترك مع عدم جريان الأصل الحاكم المختص ببعض الأطراف في عرض الأصل الحاكم ، والطولية إنما هي في فرض جريان الأصل الحاكم ، ولا يقاس ذلك بفرض اختصاص الأصل الطولي واشتراك الأصل الحاكم ،

٣٦٥

.................................................................................................

______________________________________________________

فإن خطاب الأصل الطولي شموله للطرف المختص به بلا محذور ، نعم إذا كان الأصل الطولي في أحد الطرفين مثبتا وفي الآخر نافيا وبعد تساقط الأصلين الحاكمين في كل من الطرفين يجوز الرجوع إلى الأصل الطولي فيهما وينحل بهما العلم الإجمالي انحلالا حكميا ، كما إذا علم بعد صلاتي المغرب والعشاء إما بنقصان ركوع من صلاة العشاء أو بزيادته في صلاة المغرب ، فإنه لا بأس بعد سقوط قاعدة الفراغ في ناحية كل من صلاة المغرب والعشاء بالرجوع إلى الاستصحاب في عدم الإتيان بالركوع الزائد في صلاة المغرب ، وعدم الإتيان بالركوع الرابع في صلاة العشاء فيحكم ببطلان العشاء وصحة صلاة المغرب ، ونظير ذلك ما إذا علم إما بعدم الاتيان بصلاة العصر أو نقصان ركوع صلاة المغرب التي صلاها فإن قاعدة الحيلولة الجارية في صلاة العصر معارضة بقاعدة الفراغ الجارية في صلاة المغرب وبعد تساقطهما يرجع إلى أصالة البراءة من وجوب قضاء العصر ، بل استصحاب عدم فوتها حيث إن الاستصحاب في عدم الاتيان بها في وقتها لا يثبت فوتها ، ولكن الاستصحاب في عدم الاتيان بصلاة المغرب جارية يثبت بقاء التكليف بها.

تنجيز العلم الاجمالي له مرتبتان ولا ملازمة بين ثبوتهما وسقوطهما

قد ظهر مما ذكرنا أنّ لتنجيز العلم الإجمالي مرتبتين ولا ملازمة بين التنجيز بالمرتبة الاولى وهو عدم جواز مخالفته القطعية والتنجيز بالمرتبة الثانية يعني لزوم الموافقة القطعية ، ولكن قد يقال الموارد التي اشير إليها من تنجيز العلم الإجمالي التكليف بالمرتبة الاولى دون الثانية غير صحيح ، فإن العلم الإجمالي في تلك الموارد غير منجز أصلا ، بل المنجز فيها الأصل المثبت في بعض الأطراف والترخيص فيها بالأصل النافي في بعضها الآخر ، ولذا يعبّر عن هذه الموارد بانحلال

٣٦٦

وأخرى بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، فيقع الكلام في مقامين :

المقام الأول : في دوران الأمر بين المتباينين.

لا يخفى أن التكليف المعلوم بينهما مطلقا ـ ولو كانا فعل أمر وترك آخر ـ إن كان فعليا من جميع الجهات ، بأن يكون واجدا لما هو العلة التامة للبعث أو الزجر الفعلي ، مع ما هو عليه من الإجمال والتردد والاحتمال ، فلا محيص عن تنجزه وصحة العقوبة على مخالفته ، وحينئذ لا محالة يكون ما دلّ بعمومه على الرفع أو الوضع أو السعة أو الإباحة مما يعم أطراف العلم مخصصا عقلا ، لأجل مناقضتها معه.

______________________________________________________

العلم الإجمالي حكما وعدم تأثيره في التنجز أصلا ، وما ذكر في مسألة العلم بنجاسة هذا الماء أو نجاسة ذلك الثوب غير صحيح ، بل يجب الاجتناب عن الماء كالثوب للعلم الإجمالي بنجاسته أو نجاسة الثوب.

والتمثيل لانفكاك مرتبتي التنجيز بما إذا علم الزوج بلزوم المبيت عند إحدى الزوجتين واشتبهتا ، حيث لا يجوز ترك المبيت في تلك الليلة عندهما رأسا مع أنه لا تجب الموافقة القطعية غير صحيح ؛ لأنّ المنكر في كلام ، صاحب الكفاية والعراقي ما إذا كان بالترخيص من الشارع في بعض الأطراف للعلم الإجمالي بالتكليف فيها لا ما إذا كان عدم لزوم الموافقة القطعية لعدم تمكن العبد من إحراز الامتثال حيث إن فعلية التكليف ينافي ترخيصه لا معذورية المكلف من إحراز الامتثال لعدم تمكنه عقلا لا يمكن المساعدة عليه ، فإن سقوط قاعدة الفراغ في مسألة العلم بزيادة الركوع إما في صلاة المغرب أو نقصانه في العشاء مستند إلى تنجيز العلم الإجمالي ، فإنه لو لا لزوم الترخيص القطعي في المخالفة القطعية للعلم الإجمالي بالتكليف بإعادة إحداهما لكانت كل من الصلاتين محكومة بالصحة ، وقد تقدم أن الموجب للتساقط في الاصول في أطراف العلم الإجمالي غير الموجب له

٣٦٧

وإن لم يكن فعليا كذلك ، ولو كان بحيث لو علم تفصيلا لوجب امتثاله وصح العقاب على مخالفته ، لم يكن هناك مانع عقلا ولا شرعا عن شمول أدلة البراءة الشرعية للأطراف.

ومن هنا انقدح أنه لا فرق بين العلم التفصيلي والإجمالي ، إلّا أنه لا مجال للحكم الظاهري مع التفصيلي ، فإذا كان الحكم الواقعي فعليا من سائر الجهات ، لا

______________________________________________________

في الأمارات ، ولا يكون مجرد العلم الإجمالي موجبا للتساقط في الاصول من أطراف العلم الإجمالي ، ثم إنه بعد تساقط قاعدة الفراغ في ناحية كل من الصلاتين يكون ترك إعادة المغرب مستندا إلى الأصل النافي المختص ، وهذا معنى التفكيك في العلم الإجمالي في تنجيزه بين عدم جواز مخالفته القطعية وبين لزوم موافقتها القطعية في مورد كان الأصل النافي مختصا ببعض أطرافه.

لا يقال : أصالة الحلية في ناحية الماء فيما إذا علم بنجاسته أو نجاسة الثوب غير جارية ؛ لأنها معارضة بأصالة البراءة عن مانعية الثوب في الصلاة.

فإنه يقال : إن أصالة البراءة عن مانعية الثوب مبتلاة بالمعارض أيضا بأصالة البراءة عن حرمة استعمال الماء في الأكل والشرب ، ولكن أصالة الحلية بما أن لها خطابا خاصا تجري في ناحية الماء بلا معارض.

بقي في المقام أمران ، الأول : أن العلم بحدوث التكليف إجمالا كما أنه موجب لتنجزه كذلك العلم الإجمالي في مرحلة الامتثال موجب أيضا لسقوط الاصول الجارية في أطرافها ، فما لم يكن في البين ما يثبت الصحة في بعض الأطراف يجب الاحتياط في جميعها ، ولو اقتصر المكلف في امتثال التكليف على بعض الأطراف ثم ظهر كونه مصادفا للواقع يحكم بالإجزاء في التوصليات ، وهل يحكم بالإجزاء في التعبديات ، فظاهر كلام الشيخ قدس‌سره أن الحكم بالإجزاء يختص بما إذا كان عازما على

٣٦٨

محالة يصير فعليا معه من جميع الجهات ، وله مجال مع الإجمالي ، فيمكن أن لا يصير فعليا معه ، لإمكان جعل الظاهري في أطرافه ، وإن كان فعليا من غير هذه الجهة ، فافهم.

ثم إن الظاهر أنه لو فرض أن المعلوم بالإجمال كان فعليا من جميع الجهات لوجب عقلا موافقته مطلقا ولو كانت أطرافه غير محصورة ، وإنما التفاوت بين المحصورة وغيرها هو أن عدم الحصر ربما يلازم ما يمنع عن فعلية المعلوم ، مع كونه فعليا لولاه من سائر الجهات.

______________________________________________________

الموافقة القطعية ولو لم يكن عازما إلّا بالاقتصار على بعض المحتملات فلا يحكم بالصحة حتى إذا ظهر موافقة المأتي به للمكلف به ، وما ذكره مبني على اعتبار قصد الجزم في نية العبادة بأن لا يكون قاصدا بالإتيان بها على تقدير ، ولكن لم يرد في شيء من الأدلة اعتبار الجزم بهذا المعنى في صحة العلم.

وقد يقال : إنه يترتب على ذلك أنه لو دار الأمر في الواجبين المترتبين بين تكرار كل منهما ، كما إذا اشتبهت القبلة مع وجوب صلاة الظهرين بين طرفين أو أكثر ، فما دام لم يفرغ من محتملات الواجب الأول لم يجز الإتيان بمحتمل الواجب الآخر بناء على اعتبار قصد الجزم ، بخلاف ما إذا قيل بعدم اعتباره فإنه يجوز له قبل الفراغ الإتيان ببعض محتملات الواجب الآخر ، كما إذا صلى الظهر إلى جهة يجوز صلاة العصر إلى تلك الجهة ، ولا يعتبر الفراغ من محتملات صلاة الظهر ، نعم لا يجوز له أن يأتي من محتملات العصر إلى غير الجهة التي صلى الظهر إليها وإلّا علم بطلان العصر لفقد الترتيب أو لكونها إلى غير جهة القبلة ، ولكن لا يخفى ما في هذا التفريع ، فإنه بناء على قصد الجزم في صحة العبادة فاللازم أن يكون قاصدا للامتثال الإجمالي ، وهذا القصد لا ينافي الدخول في محتملات العصر على النحو الذي ذكرنا قبل الفراغ

٣٦٩

وبالجملة : لا يكاد يرى العقل تفاوتا بين المحصورة وغيرها ، في التنجز وعدمه ، فيما كان المعلوم إجمالا فعليا ، يبعث المولى نحوه فعلا أو يزجر عنه كذلك مع ما هو عليه من كثرة أطرافه.

والحاصل : أن اختلاف الأطراف في الحصر وعدمه لا يوجب تفاوتا في ناحية العلم ، ولو أوجب تفاوتا فإنما هو في ناحية المعلوم في فعلية البعث أو الزجر مع الحصر ، وعدمها مع عدمه ، فلا يكاد يختلف العلم الإجمالي باختلاف الأطراف

______________________________________________________

من محتملات صلاة الظهر.

الثاني : ما إذا كان للمعلوم بالإجمال في بعض الأطراف أثر زائد كما إذا علم بنجاسة الماء أو نجاسة اللبن فإن النجاسة في الماء أو اللبن موضوع لحرمة الأكل والشرب ، ويختص الماء بأن النجاسة فيه توجب عدم جواز استعماله في رفع الحدث والخبث ، وفي مثل ذلك تسقط أصالة الطهارة في كل من ناحية الماء وناحية اللبن ، وكذا أصالة البراءة والحلية في استعمال كل منهما في الشرب والأكل ، وأما بالإضافة إلى رفع الحدث أو الخبث باستعمال الماء المزبور فيرجع فيه إلى الأصل الجاري فيه سواء كان مثبتا كما في المثال فإنه يرجع إلى استصحاب بقاء الحدث أو الخبث ، بمعنى أنه لم يغسل بماء طاهر أو لم يتوضأ أو لم يغتسل بالماء الطاهر ، أو كان نافيا طوليا كما تقدم في مسألة العلم بنجاسة الماء أو الثوب بالإضافة إلى حليّة شرب الماء.

وهذا بخلاف ما إذا كان الاختلاف في الموضوع المترتب عليه الأثر بأن كان الدوران بين الأقل والأكثر في الموضوع لا الأثر ، فإنه لو لم يكن في الفرض قدر مشترك كما إذا علم بنذره بقراءة سورة خاصة في صلاته بعد الحمد ، وترددت السورة المنذورة بين سورة التوحيد وسورة يس ، فعليه الاتيان بصلاتين بكل من

٣٧٠

قلة وكثرة في التنجيز وعدمه ما لم يختلف المعلوم في الفعلية وعدمها بذلك ، وقد عرفت آنفا أنه لا تفاوت بين التفصيلي والإجمالي في ذلك ، ما لم يكن تفاوت في طرف المعلوم أيضا ، فتأمل تعرف.

وقد انقدح أنه لا وجه لاحتمال عدم وجوب الموافقة القطعية مع حرمة مخالفتها ، ضرورة أن التكليف المعلوم إجمالا لو كان فعليا لوجب موافقته قطعا ، وإلّا لم يحرم مخالفته كذلك أيضا.

ومنه ظهر أنه لو لم يعلم فعلية التكليف مع العلم به إجمالا إما من جهة عدم الابتلاء ببعض أطرافه أو من جهة الاضطرار إلى بعضها [١].

______________________________________________________

السورتين بعد قراءة الحمد لسقوط الاصول النافية في الطرفين ، بخلاف ما إذا كان بينهما قدر مشترك خارجي في الأثر ، كما إذا علم إجمالا بأنه استدان من زيد الفا ، أو أتلف عليه ألفين فإن الاستدانة والإتلاف وإن كانا موضوعين وليس بينهما قدر مشترك خارجي ، إلّا أن وجود القدر المشترك في حكمها وهو اشتغال الذمة بالأقل كاف في الانحلال.

[١] ظاهر كلامه قدس‌سره أنه مع عدم العلم بتكليف فعلي سواء كان عدم العلم بفعليته من جهة عدم الابتلاء ببعض أطراف العلم أو من جهة الاضطرار إلى ارتكاب بعضها معينا أو مرددا ، أو من جهة العلم بموضوع يعلم بتحققه في طول الزمان كعلم المستحاضة بحيضها في بعض أيام الشهر لما وجب موافقته ، بل جاز مخالفته ، بخلاف ما إذا علم التكليف الفعلي فإن العلم الإجمالي يوجب تنجزه ولو كان بين أطراف تدريجية ، فإن التدرج في متعلق التكليف لا ينافي فعليته ضرورة أنه كما يصح التكليف بأمر حالي ، كذلك يصح بأمر استقبالي كوجوب الحج على المستطيع في موسمه ، ومقتضى كلامه هذا أن العلم الإجمالي بحدوث تكليف ، إما فعلا أو في

٣٧١

.................................................................................................

______________________________________________________

المستقبل لا يوجب التنجز ، بخلاف ما إذا كان التكليف المعلوم فعليا والتدرج في متعلق ذلك التكليف ، فإنه لا فرق في تنجزه بين كون أطراف التكليف المعلوم بالإجمال دفعية أو تدريجية.

تنجيز العلم الإجمالي في التدريجيات

وينبغي الكلام في المقام في أقسام التدرج فنقول إن التدرج قد يستند إلى اختيار المكلف كما إذا علم بكون أحد الثوبين غصبا فإنه يمكن للمكلف لبسهما معا ، ولكن اختار أن يلبس أحدهما في زمان والآخر في زمان آخر ، ولا إشكال في أن هذا القسم يدخل في العلم الإجمالي بالتكليف في الدفعيات والعلم بالحرمة الواقعية المتعلقة بلبس المغصوب يكون منجزا لها ، وقد يستند التدرج إلى عدم إمكان الجمع بين الأطراف في الارتكاب دفعة ، كما إذا علم بحرمة أحد ضدين لهما ثالث ، فإنه يتمكن من الإتيان بأي منهما أولا ، ولكن لا يمكن الجمع بينهما في زمان ، ولا ينبغي التأمل في دخول ذلك في الدفعيات على ما تقدم ، وقد تستند التدريجية إلى تقيّد أحد الأطراف بزمان أو بزمان متأخّر ، والتكليف المعلوم بالإجمال إما أن يكون فعليا على كل تقدير أو لا يكون فعليا إلّا على تقدير دون تقدير آخر.

الأول : كما إذا نذر صوم يوم الخميس في هذا الاسبوع أو يومه في الاسبوع الآتي فإن وجوب الوفاء بالنذر يكون فعليا من حين النذر وإن كان متعلّقه الأمر الاستقبالي ، وقد التزم الماتن بكون العلم الإجمالي منجزا في هذه الصورة.

والثاني : وهو ما إذا لم يكن التكليف على فرض تأخّر متعلقه فعليا كما في مسألة حيض المستحاضة في طول الشهر ، فإن العلم الإجمالي يتعلق بتكليف فعلي

٣٧٢

.................................................................................................

______________________________________________________

على تقدير ، واستقبالي على تقدير آخر ، وفي مثل ذلك مقتضى كلام الماتن جواز الرجوع إلى الأصل النافي في كل الأطراف مع حصول طرفه ، كما إذا رأت ناسية الوقت دما مستمرا إلى خمسة عشر يوما أو إلى آخر الشهر ، فإنه لا يجب عليها محرمات الحائض في شيء من أيام الدم ، حيث تتمسك المرأة بالاستصحاب في عدم الحيض في أول الدم إلى أن تبقى ثلاثة أيام من آخر دمها ، وفي تلك الأخيرة يتعارض الاستصحاب في بقاء الحيض المعلوم إجمالا مع الاستصحاب في بقاء الطهر المعلوم كذلك فيتساقطان ، أو لا يجري شيء من الاستصحابين ، فيؤخذ بأصالة الحلية في محرمات الحائض ؛ لانّ خطاب قاعدة الحلية ، يختص بتلك المحرمات.

ولكن المحقق النائيني قدس‌سره ذكر عدم جواز الرجوع إلى الأصل النافي في شيء من الصورتين ، وأنه لا فرق في تنجيز العلم الإجمالي بين الدفعيات والتدريجيات ، وعن الشيخ قدس‌سره التفصيل بين ما كان التكليف المتأخر تاما من جهة الملاك ، بأن تكون القدرة في المتأخر شرطا في الاستيفاء أو لم يكن تاما ، بأن لم يحرز الملاك فيه إلّا على تقدير القدرة عليه في ظرفه ، ولكن المراجعة إلى كلامه في الرسالة لا يناسب هذا النقل ، حيث ذكر رحمه‌الله في الأمر السادس التحقيق أنه لا فرق بين الموجودات فعلا والموجودات تدريجا في وجوب الاجتناب نعم قد يمنع الابتلاء دفعة في التدريجيات كما في مثال الحيض ، فإنّه في مثل الحيض تنجّز التكليف على الزوج بترك وطء الحائض قبل زمان حيضها ممنوع ، وظاهر هذا الكلام هو بعينه ما ذكره الماتن من أنه لا فرق بين الدفعيات والتدريجيات إذا كان التكليف فعليا ، وأنه إذا وجب رعاية المعلوم بالإجمال في الدفعيات لفعلية التكليف لزم رعايته في التدريجيات أيضا ، وإن لم يجب في الثاني لم يجب في الأول أيضا ، لاتحاد ملاك

٣٧٣

.................................................................................................

______________________________________________________

وجوب الاجتناب وهو تعلق العلم بالتكليف المتوجه إلى المكلف فعلا ، ولذا التزم قدس‌سره بوجوب الاجتناب في مسألة الحلف على ترك الوطء في ليلة خاصة ، واشتبهت تلك الليلة بين ليلتين ، وفي مسألة علم التاجر بابتلائه في يومه أو شهره بمعاملة ربوية ، نعم ما ذكر في مسألة علم التاجر خارج عن البحث في المقام فلا يجوز للتاجر الدخول في معاملة لا يعلم حكمها ويحتمل دخولها في معاملة ربوية حتى مع عدم العلم الإجمالي ؛ لأنّ جريان البراءة في الشبهة الحكمية مشروط بالفحص ومع عدمه كما هو الفرض لا يكون معذورا ، بل يحكم بفساد المعاملة بمعنى عدم جواز ترتيب الأثر عليها ؛ لأنه لا يتمسك فيها بعموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) لعلمه بخروج المعاملة الربوية عن مثله ، وأن التمسك بالعام موقوف على الفحص وعدم الظفر بالدليل على التخصيص ، وعلى الجملة العلم الإجمالي في التدريجيات في الشبهة الحكمية قبل الفحص خارج عن مورد الكلام في المقام ، والموضوع للكلام في المقام ما إذا كانت الشبهة موضوعية أو حكمية بعد الفحص ، وإن العلم الاجمالي في التدريجيات كالعلم الإجمالي به في الدفعيات ، وقد ذكرنا أنه لو كان التكليف المعلوم بالإجمال على تقدير تعلقه بأمر استقبالي فعليا بنحو الواجب المعلق يكون تساقط الاصول النافية في أطرافه كتساقطها فيما كان المعلوم بالإجمال أطرافه دفعية ، وأما إذا كان نفس التكليف على بعض التقادير أمرا استقباليا وبنحو الواجب المشروط بنحو الشرط المقارن أو الموقت فمع العلم بحصوله مستقبلا إن لم يكن المعلوم بالإجمال فعليا فرضان.

احدهما : أن تكون القدرة في ظرفه على موافقة التكليف شرطا في الاستيفاء للملاك لا لنفس الملاك ، بمعنى أن المكلف إذا عجز عن الفعل يفوت عنه ملاك

٣٧٤

.................................................................................................

______________________________________________________

الواجب كفوته ممن يكون قادرا عليه ويترك الفعل اختيارا ، وفي هذا الفرض يجب على المكلف التحفظ على القدرة عليه في زمانه لاستقلال العقل بعدم جواز تفويت الملاك الملزم ويكون التكليف المردّد بين الفعلي والاستقبالي خارجا عن خطابات الاصول النافية ، حيث إن العلم بالملاك كاف في عدم جواز التفويت ، وبتعبير آخر كما يقبح الترخيص القطعي في المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال مع فعلية أطرافه كذلك يقبح هذا الترخيص في تفويت الملاك الملزم.

والفرض الثاني : ما إذا كان الملاك على تقدير حصول التكليف متأخرا ينحصر على القادر في ذلك الظرف بأن تكون القدرة عليه في ظرفه دخيلة في الملاك لا في استيفائه ، فهل يجوز للمولى الترخيص في مخالفة التكليف المعلوم بالاجمال المردّد بين كونه فعليا أو تكليفا استقباليا بهذا النحو؟ فالظاهر عدم الفرق في قبح الترخيص مع العلم بحصول التكليف في ظرفه وقدرة المكلف على موافقته سواء كان فعليا أو استقباليا ، وعدم لزوم حفظ القدرة في هذا الفرض لا ينافي عدم جواز الترخيص في مخالفته في ظرفه سواء كان ظرفه فعليا أم استقباليا ؛ لأنّ المفروض أنه لو لم يكن ظرفه فعليا يكون حصوله في المستقبل ، ولفعلية ملاكه ولزوم استيفائه في ذلك الظرف لا يصح من المولى الترخيص القطعي في المخالفة القطعية في المعلوم بالإجمال المردّد بين كونه تكليفا فعليا وكونه استقباليا. كما هو المفروض ، وإن جاز للمكلف تفويت قدرته على الموافقة قبل مجيء الظرف الاستقبالي ، إلّا أنه يعلم بأنه لا يفوته ويحصل التكليف في المستقبل لو لم يحصل فعلا ، وما في ظاهر تقريرات العراقي قدس‌سره من حفظ القدرة عليه في الفرض الثاني أيضا ، وتعليل تنجيز العلم الإجمالي بتعلقه بتكليف إما متعلق بالطرف الفعلي أو بحفظ القدرة على الاستقبالي

٣٧٥

معينا أو مرددا ، أو من جهة تعلقه بموضوع يقطع بتحققه إجمالا في هذا الشهر ، كأيام حيض المستحاضة مثلا ، لما وجب موافقته بل جاز مخالفته ، وأنه لو علم فعليته ولو كان بين أطراف تدريجية ، لكان منجزا ووجب موافقته. فإن التدرج لا يمنع عن الفعلية ، ضرورة أنه كما يصح التكليف بأمر حالي كذلك يصح بأمر استقبالي ، كالحج في الموسم للمستطيع ، فافهم.

______________________________________________________

من غير ناحية شرط الوجوب وقيده كما ترى ، وتوجيهه أخيرا بتنجيز العلم الإجمالي في التدريجيات كالدفعيات بما سلكه في فعلية التكاليف من أن الإرادة الباعثة من المولى تتعلق بالفعل الاستقبالي بعنوانه ، وحصول الشرط ودخول الوقت خارجا لا يكون بنفسه دخيلا في تعلق إرادة المولى ، بل الدخيل في تعلقها لحاظهما طريقا ومشيرا إلى الخارج فيكون التفاوت في ناحية الانبعاث الناشئ عن الخطاب المتوجه إلى المكلف بتلك الإرادة ، حيث لا يكون الانبعاث إلّا بعد تطبيق الشرط والوقت على المورد وكيفية الانبعاث بل أصله خارج عن مدلول الخطاب ولا يمكن أخذهما في مدلوله ، حيث إنه متفرع على الخطاب ومدلوله ووصوله إلى المكلف ، وعلى كل تقدير يتعلق العلم الإجمالي بالإرادة الباعثة الفعلية الموجبة عند العلم بها لزوم حفظ القدرة على موافقة التكليف المشروط أو الموقت الحاصل فيما بعد من غير ناحية شرط التكليف أو قيده لا يخفى ما فيه ، فإن الإرادة الباعثة للمولى تتعلق بجعل التكليف ، والتكليف أمر اعتباري فتارة يعتبر الوجوب المتعلق فعليا ، والاستقبالية إنما تكون في نفس الفعل ، واخرى يعتبر الحكم والوجوب بعد حصول الشرط أو دخول الوقت خارجا ، ففي الثاني لا يجب حفظ القدرة على الفعل إلّا بعد تحقق الشرط أو دخول الوقت بخلاف الأول ، فإن نفس التكليف فيه فعلي وتقتضي فعليته حفظ القدرة على الفعل الاستقبالي ، ولو قبل حصول الشرط ودخول الوقت ، كما

٣٧٦

تنبيهات

الأول : أن الاضطرار كما يكون مانعا عن العلم بفعلية التكليف لو كان إلى واحد معين ، كذلك يكون مانعا [١].

______________________________________________________

أوضحنا كل ذلك في بحث الواجب المشروط بالشرط المقارن والواجب المعلق ، وعلى ذلك لم يبق في البين وجه لتنجيز العلم الإجمالي في التدريجيات التي يكون نفس التكليف مرددا بين كونه فعليا أو أمرا استقباليا غير ما ذكرنا من قبح الترخيص القطعي من المولى في المخالفة القطعية للتكليف الذي هو إما فعلي أو يعلم المكلف بصيرورته فعليا مستقبلا.

الاضطرار إلى بعض أطراف العلم

[١] ذكر الماتن قدس‌سره أن الاضطرار إلى بعض أطراف العلم سواء كان الاضطرار إلى معين أو غير معين يوجب عدم العلم بفعلية التكليف ، مثلا إذا علم نجاسة أحد المائعين أحدهما خل والآخر ماء ، واضطر إلى شرب الماء لدفع عطشه المهلك ، أو علم نجاسة أحد الماءين واضطر إلى شرب أحدهما لدفعه فشرب الماء في المثال الأول ، وشرب أحد الماءين في المثال الثاني حلال واقعا بلا فرق بين كونه هو النجس الواقعي أم لا ، والخل في الأول وغير المختار في الثاني تعلق التكليف به مشكوك فتجري فيه أصالة الحلية ، ثم إنه قدس‌سره ذكر عدم الفرق في مانعية الاضطرار عن العلم بالتكليف الفعلي بين ما كان الاضطرار إلى المعين أو غيره قبل العلم الاجمالي أو طرو الاضطرار بعدم حصول العلم الإجمالي ، والتزم بأن العلم الإجمالي في موارد الاضطرار إلى بعض أطرافه غير منجز ، حيث لا يكون في هذه الموارد علم بالتكليف الفعلي ولو إجمالا ، وتعرض قدس‌سره لما يقال بأن مانعية الاضطرار عن تنجيز العلم الإجمالي إذا كان الاضطرار سابقا على العلم صحيح ، وأما المانعية فيما إذا طرأ بعد

٣٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

العلم الإجمالي لم يحرز وجهه ، ولم يعلم الفرق بين طرو الاضطرار بعد العلم الإجمالي ، وبين فقد بعض الأطراف ، حيث إنّه مع فقد بعضها بعد العلم لا يوجب عدم لزوم رعاية احتمال التكليف في الأطراف الباقية ، وأجاب بالفرق بينهما ، وحاصله أن الأحكام الإلزامية المجعولة لموضوعاتها بالإضافة إلى تلك الموضوعات ليست بمقيدة بل تثبت لها بحصولها خارجا وترتفع عنها بارتفاعها ، مثال حرمة شرب الخمر تكون فعلية بحصول الخمر ، واعتصام الماء الكر يكون فعليا بحصول الماء الكر وبقائه ، وإذا ارتفع الموضوع بأن صار الخمر الخارجي خلا أو زالت الكرية من الماء ترتفع الحرمة في الأول والاعتصام في الثاني ، وهذا الارتفاع قهري وليس من تقييد الحكم وعدم إطلاقه ، وعلى ذلك فلو علم إجمالا بخمرية أحد الإناءين فيعلم بالحرمة الفعلية المطلقة في أحدهما ، وبعد فقد أحدهما يشك في ارتفاع تلك الحرمة بعد فعليتها وتنجزها ، وهذا بخلاف طرو الاضطرار حيث إن طروه غاية للتكليف وحدّ له قيدا ، فالماء المغصوب بعد طرو الاضطرار إلى شربه باق ، ولكن لا حرمة في شربه فمع الاضطرار إلى شرب أحد المائعين معينا أو إلى غير معين ، لا يصح القول بأنه كان لنا العلم بالحرمة الفعلية المطلقة في أحدهما ويشك في ارتفاع ما تعلقت به ، بل الصحيح أن يقال قد علمنا بالحرمة المغياة الفعلية التي نحتمل حصول غايتها فيكون الشك في الحرمة بعد طرو الاضطرار في الآخر شكا بدويا.

وبتعبير آخر طرو الاضطرار غاية للمعلوم بالإجمال أي التكليف الفعلي بخلاف فقد أحد الأطراف فإنه ليس غاية للمعلوم بالإجمال ، بل غاية للعلم به والشك في الحرمة بعد طرو الاضطرار إلى أحدها من الشك البدوي في حدوث

٣٧٨

.................................................................................................

______________________________________________________

حرمة مطلقة من الأول ، بخلاف فقد بعض الأطراف فإن العلم الإجمالي بحدوث حرمة مطلقة بحاله ، غاية الأمر لا علم ببقائها ، ومقتضى قاعدة الاشتغال إحراز الخروج عن عهدتها بترك الأطراف الاخرى في موارد العلم بالحرمة أو بالاتيان بها في موارد العلم بالوجوب.

أقول : لا فرق بين غاية الاضطرار وسائر القيودات والغايات للتكليف ، ولو كان العلم الإجمالي غير منجز للتكليف بعد طرو الاضطرار إلى بعض الأطراف معينا أو غير معين يكون الأمر كذلك في غيره أيضا ، كما إذا علم إجمالا بكون أحد العصيرين من العصير العنبي الذي غلى ولم يذهب ثلثاه ، والآخر عصير زبيب مغلي فيجب الاجتناب عنهما ، وإذا ذهب ثلثا أحدهما فلا يجب الاجتناب عن الآخر ، والحلّ ما تقدم في بحث مفهوم الشرط من أن القيود وإن اختلفت بحسب مقام الإثبات وترجع إلى الحكم الوارد في الخطاب تارة واخرى إلى الموضوع الوارد فيه ، إلّا أن هذا في مقام الإثبات فقط ، وأما بحسب مقام الثبوت فكلها ترجع إلى الموضوع ، حيث تفرض في مقام جعل الحكم مفروض الوجود تارة واخرى مفروض العدم ، وكما أن الموضوع للاعتصام هو الماء الكر كذلك الموضوع للحرمة الخمر المفروض عدم كون شربها اضطراريا ، وكذلك الحال في سائر الأحكام بالإضافة إلى موضوعاتها ، وثانيا لو فرضنا أن العلم الإجمالي بالإضافة إلى الحكم المغيّا ، بالاضطرار ونحوه غير منجز بعد طرو الاضطرار أو غيره من الغاية على بعض الأطراف ، ولكن إذا لم يعلم المكلف بطرو الاضطرار إلى أحدهما من قبل ، كما إذا كان أحد المائعين ماء والآخر خلا ، وعلم أيضا بحدوث اضطراره إلى شرب الماء لدفع عطشه فإنه مع العلم فعلا بنجاسة أحدهما يعلم إجمالا إما بحرمة شرب الماء عليه فعلا إلى طرو الاضطرار ، أو

٣٧٩

.................................................................................................

______________________________________________________

بحرمة شرب الخل عليه مطلقا لعدم الاضطرار إليه ولو مستقبلا ، حيث إنه لا يرفع العطش ، فأصالة البراءة عن التكليف في كل منهما معارضة بأصالة البراءة عن التكليف المتعلق بالآخر ، وبعد تساقطهما يرجع إلى الاستصحاب في بقاء التكليف الفعلي إلى ما بعد الاضطرار إلى شرب الماء ، فإن هذا الاستصحاب من القسم الثاني من الاستصحاب في الكلي ، بل الأمر كذلك في حصول الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه كما لا يخفى.

ثم إن في الاضطرار إلى بعض أطراف العلم صورا.

الاولى : ما إذا كان الاضطرار إلى بعض معين ثم يحصل العلم الإجمالي ، كما إذا علم بوقوع نجاسة في أحد ما يعين أحدهما ماء والآخر خل ، وكان المكلف قبل وقوع النجاسة مضطرا إلى شرب الماء لدفع عطشه ، ولا ينبغي التأمّل في هذه الصورة في عدم تنجيز العلم الإجمالي بالإضافة إلى الخل أيضا ؛ لأنّ الماء المزبور يجوز شربه لمكان الاضطرار إليه سواء وقعت النجاسة فيه أم لا ، فيكون الشك في حرمة شرب الخل شكا بدويا فتجري أصالة الحل فيه ، ولكن لا يخفى أن عدم تنجيز العلم الإجمالي والحكم بجواز شرب الخل بأصالة الحلية إذا كان الماء بقدر رفع الاضطرار لا أزيد ، وإلّا فالتنجيز بحاله للعلم الإجمالي عند وقوع النجاسة بحرمة شرب الخل أو الباقي من الماء.

ولا يخفى أيضا أن أصالة الطهارة في ناحية الخل في الفرض تسقط بالمعارضة مع أصالة الطهارة في ناحية الإناء الذي فيه الماء ، ولكن لا مجرى لأصالة الطهارة في ظاهر شفتيه بعد شرب الماء ، بدعوى أن نجاستهما مانعة عن الصلاة قبل التطهير ، وذلك فإن أصالة الحلية الجارية في الخل لها خطاب خاص وأصل طولي فيؤخذ بها

٣٨٠