دروس في مسائل علم الأصول - ج ٤

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-94850-6-5
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٤٣

لا يقال : على هذا لا يكون اعتبار خبر الثقة بالسيرة أيضا ، إلّا على وجه دائر ، فإن اعتباره بها فعلا يتوقف على عدم الردع بها عنها ، وهو يتوقف على تخصيصها بها ، وهو يتوقف على عدم الردع بها عنها.

فإنه يقال : إنما يكفي في حجيته بها عدم ثبوت الردع عنها ، لعدم نهوض ما يصلح لردعها ، كما يكفي في تخصيصها لها ذلك ، كما لا يخفى ، ضرورة أن ما جرت عليه السيرة المستمرة في مقام الإطاعة والمعصية ، وفي استحقاق العقوبة بالمخالفة ، وعدم استحقاقها مع الموافقة ، ولو في صورة المخالفة عن الواقع ، يكون عقلا في الشرع متّبعا ما لم ينهض دليل على المنع عن اتباعه في الشرعيات ، فافهم وتأمل.

______________________________________________________

والاصول إحراز اعتبارها إمضاء أو تأسيسا ، وهذا لا يجتمع مع احتمال الردع عن السيرة المشار إليها ، وذكر قدس‌سره في الهامش أنّه مع ثبوت الردع يستصحب عدمه وبقاء الحجيّة الثابتة لخبر الواحد قبل نزول الآيات ، وفيه ما لا يخفى فإنّه لم يحرز حجية الخبر في الشرعيات قبل نزول الآيات بحيث تكون الآيات ناسخة لها ، بل تكشف عن عدم اعتباره في الشرعيات من أول الأمر مع أنّ الدليل على اعتبار الاستصحاب الروايات التي تعدّ من الخبر الواحد.

كما أنّ ما ذكره قدس‌سره في الهامش من أنّ المقام داخل في ورود الخاص من قبل ، وورود خطاب العام بعده ، ومع دوران الأمر بين كونه ناسخا أو الخاص المتقدم مخصّصا يحكم بالتخصيص لا يمكن المساعدة عليه ، لما تقدم من أن السيرة العقلائية مع احتمال عدم إمضاء الشارع لها من الأول في الشرعيات لا تعدّ من الخاص المتقدم ، وتأخير خطاب الردع بملاحظة أن إبلاغه يتوقف على دخول الناس بالإسلام ثمّ إعلامهم الأحكام تدريجا لا مانع عنه ، والصحيح في الجواب أن الآيات المشار إليها لا يحتمل كونها رادعة ، فإن السيرة من المتشرّعة أيضا جارية بعد نزولها

١٦١

.................................................................................................

______________________________________________________

على الاستمرار بأخبار العدول والثقات في الأحكام الشرعية فإن الأمارة التي استمرت السيرة على العمل بها لو كانت غير معتبرة عند الشارع منع عن العمل بها بخصوصها ، وإلّا لا يمكن الردع عنها بالإطلاق أو العموم لأنّ الناس يرون الأمارة المزبورة علما ، ولذا لا تصلح الآيات المشار إليها عن اعتبار أنفسها ؛ لأنّها أيضا داخلة في الظواهر فيكون العمل بها عملا بغير العلم ، والسر في ذلك أن النهي عن الوقوف بغير العلم مفادها قضية حقيقية ، وتعيين عدم العلم خارج عن مدلولها ومقتضى السيرة على اعتبار خبر الثقة كونه علما لا يكون مصداقا للمنهي عنه ؛ ولذا وردت الروايات الخاصة المتواترة إجمالا في النهي عن العمل بالقياس في الدين.

١٦٢

فصل

في الوجوه العقلية التي اقيمت على حجية الخبر الواحد :

أحدها : أنه يعلم إجمالا بصدور كثير مما بأيدينا من الأخبار من الأئمة الأطهار عليهم‌السلام بمقدار واف بمعظم الفقه.

______________________________________________________

في الوجه الأول من الوجوه العقلية المذكورة لحجية الخبر الواحد

[١] يستدل على اعتبار الأخبار المأثورة عن الأئمة عليهم‌السلام التي وصلت بأيدينا المودعة في الكتب المعروفة بالجوامع بالوجوه العقلية منها ما تعرض الماتن له أولا ، وذكر في تقريره أن الأخبار التي بأيدينا على طائفتين.

إحداهما : من المثبتات للتكليف والمراد منه الوجوب والحرمة أو ما هو ملزوم لأحدهما كقيام الخبر بنجاسة شيء أو ككون الجزء المبان من الحي ميتة ، أو أن الفقاع خمر وغير ذلك.

والاخرى : من النافية له كما إذا كان مفاد الخبر استحباب شيء أو إباحته أو كراهته أو ما يلزمه الإباحة والترخيص ، وحيث إن لزوم العمل بالأخبار ليس من قبيل التكليف النفسي نظير العمل بالتكاليف الواقعية في الوقائع ، بل لزوم العمل بها للوصول إلى موافقة التكاليف الواقعية التي لنا علم بثبوت تلك التكاليف في الوقائع المعبّر عن علمها بالعلم الإجمالي الكبير ، وهذا العلم الإجمالي الكبير لاحتمال انحصار أطرافها بالتكاليف التي تضمنتها الأخبار المثبتة غير مؤثر في التنجيز ، ويكون مقتضى العلم الإجمالي باشتمال موارد الأخبار المثبتة على التكاليف الواقعية واحتمال انحصار التكاليف الواقعية بمواردها بحيث لا يكون في موارد سائر الأمارات غير المعتبرة تكليف واقعي هو العمل بكل خبر مفاده ثبوت التكليف في

١٦٣

.................................................................................................

______________________________________________________

الواقعة ، وأما الأخبار النافية فيعمل على طبقها إلّا في موردين : أحدهما : أن يكون خصوص المسألة مورد قاعدة الاشتغال للعلم الإجمالي في خصوصها ، كما إذا علم بوجوب الظهر أو الجمعة أو بوجوب القصر أو التمام فإنّه لا يمكن فيها العمل بالخبر النافي لوجوب إحدى الصلاتين بعينها.

الثاني : ما إذا كان في المسألة ، التي ورد خبر بنفي التكليف فيها ، أصل مثبت للتكليف كالخبر الدالّ على جواز شرب العصير المغلي بعد ذهاب ثلثيه ولو بغير النار ، فإنّ الاستصحاب في ناحية بقاء الحرمة إلى أن يذهب ثلثاه بالنار مقتضاه عدم جواز العمل بذلك الخبر النافي ، وهذا بناء على جريان الاستصحاب في ناحية التكليف في أطراف العلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة في بعض الأطراف أو قيام دليل على انتقاضها فيه ، وإلّا كما عليه الشيخ الأنصاري من عدم جريانه فيختصّ ترك العمل بالخبر النافي بما إذا كان خصوص المسألة مورد العلم الإجمالي بالتكليف يعني المورد الأول.

أقول : إذا فرض في مورد العلم الإجمالي بثبوت التكليف في الصلاة في يوم الجمعة كالظهر والجمعة والقصر والتمام قيام خبر بوجوب إحداهما وخبر بعدم وجوب الاخرى ، فلا بأس بالأخذ بالخبر المثبت لوجوب إحداهما وترك الاخرى أخذا بالخبر بعدم وجوبها ، لأنّ وجوب ما دلّ الخبر على وجوبه منجز بالعلم الإجمالي الأول بثبوت التكاليف في موارد الأخبار المثبتة التي منها الخبر المفروض فلا يكون العلم الإجمالي الحاصل في خصوص المسألة منجزا ، فإن الأصل النافي لوجوب الاخرى بلا معارض وحتى فيما لم يكن لنفي وجوب الاخرى خبر ، نظير ما إذا علم بنجاسة أحد الإناءين ثمّ علم أن شيئا آخر كان ملاقيا لأحدهما المعين ، فإنّه

١٦٤

.................................................................................................

______________________________________________________

لا يجب الاجتناب عن الملاقي (بالكسر) فإنّ العلم الإجمالي الآخر بنجاسة الملاقي (بالكسر) أو الطرف الآخر غير منجز كما قرر في محله ، لا يقال : إذا كان مدرك الاستصحاب الأخبار فكيف يؤخذ به مع قيام الخبر النافي في مورده بنفي التكليف ، فإنّه يقال : العمل بالاستصحاب المثبت في الحقيقة عمل بالخبر المثبت للتكليف وبما أن موارد الأخبار المثبتة مورد للعلم الإجمالي المنجّز للتكليف ، فيكون مورد جريان الاستصحاب في ناحية بقاء التكليف داخلة في أطراف العلم الإجمالي ومعه لا يفيد الخبر النافي.

وهذا كله بالإضافة إلى موارد الأصل العملي ، وأما بالإضافة إلى الاصول اللفظية فظاهر الماتن قدس‌سره الفرق بين اعتبار الخبر وبين لزوم العمل به للعلم الإجمالي المتقدم ، فإنه إذا كان الخبر القائم بالتكليف المنافي لإطلاق الكتاب والسنة معتبرا يرفع اليد به عن نفي التكليف المستفاد من إطلاقهما أو عمومهما ولكن بناء على العمل بالخبر للعلم الإجمالي لا يرفع اليد عنهما ؛ لأنّ الإطلاق أو العموم منهما حجة على نفي التكليف في موردهما.

أقول : العلم الإجمالي بثبوت التكاليف في موارد الأخبار المثبتة للتكليف في موارد الإطلاق والعموم النافيين له من الكتاب والسنة يمنع الأخذ بإطلاقهما أو عمومهما ، نعم إذا انعكس الأمر وكان الإطلاق أو العموم منهما مثبتا للتكليف والخبر القائم نافيا فالعلم الإجمالي بكون الأخبار النافية للتكليف المنافية لعمومهما أو إطلاقهما ، بعضها صادرة ومطابقة للحكم الواقعي لا يمنع عن العمل على طبق العموم أو الإطلاق المثبت للتكليف من الكتاب والسنّة ، فإن العلم الإجمالي ببقاء بعض العمومات والإطلاقات منهما باقية على حالها يقتضي الاحتياط في العمل

١٦٥

.................................................................................................

______________________________________________________

بجميعها لإحراز امتثال التكليف في الموارد الباقية بحالها لعدم تمييز تلك الموارد عن غيرها.

لا يقال : يحتمل كون الأخبار النافية كلّها مطابقة للواقع بحيث لا يكون في البين علم إجمالي ببقاء بعض العمومات المثبتة للتكليف بحالها في موارد الأخبار النافية.

فإنّه يقال : أصالة العموم في غير المقدار المعلوم بالإجمال باقية على حالها من الاعتبار ، ومقتضاها مع عدم تمييز مواردها العمل على طبقها لإحراز امتثال التكليف الثابت بها ولو كانت مواردها غير متميزة ، ولكن لا يخفى سقوط أصالة العموم والإطلاق بذلك ويكون المرجع الأصل العملي سواء كان مثبتا للتكليف أو نافيا له.

وإذا كان كلّ من العموم والخبر القائم مثبتا للتكليف فمع إمكان الجمع بينهما يتعيّن العمل بكلّ منهما ، كما إذا كان مقتضى الإطلاق وجوب التيمّم والخبر قائما بوجوب الوضوء وإن لم يمكن الجمع بينهما ، كما إذا كان مقتضى العموم أو الإطلاق كون التكليف حرمة فعل والخبر قائما على وجوبه.

فقد يقال : يكون المقام من نظير دوران الأمر بين المحذورين ، ولكن لا يخفى أنّ ذلك فيما إذا كان العموم كالخبر الخاصّ من قسم الخبر ، وأما إذا كان العموم والإطلاق من الكتاب والسنّة يكون مقتضاهما نفي التكليف القائم به الخبر وثبوت التكليف الآخر ، وحيث إن العلم الإجمالي بصدور بعض الأخبار من هذا القسم وثبوت مدلولها واقعا موجود يسقط الإطلاق والعموم من الكتاب والسنّة عن الاعتبار ويتعين العمل على طبق الخبر.

وقد يقال : إنّ المقام نظير ما إذا كان لشخص ثلاث زوجات ، وعلم أنّه حلف إما

١٦٦

بحيث لو علم تفصيلا ذاك المقدار لا نحل علمنا الإجمالي بثبوت التكاليف بين الروايات وسائر الأمارات إلى العلم التفصيلي بالتكاليف في مضامين الأخبار الصادرة المعلومة تفصيلا ، والشك البدوي في ثبوت التكليف في مورد سائر الأمارات الغير المعتبرة ، ولازم ذلك لزوم العمل على وفق جميع الأخبار المثبتة ، وجواز العمل على طبق النافي منها فيما إذا لم يكن في المسألة أصل مثبت له ، من قاعدة الاشتغال أو الاستصحاب ، بناء على جريانه في أطراف [ما] علم إجمالا بانتقاض الحالة السابقة في بعضها ، أو قيام أمارة معتبرة على انتقاضها فيه ،

______________________________________________________

على وطء الصغيرة أو المتوسطة وحلف أيضا إما على ترك وطء الكبيرة أو المتوسطة ، ففي الفرض علمان إجماليّان مقتضاهما تنجيز كلّ من التكليف بوطء الصغيرة والتكليف بترك وطء الكبيرة على تقدير ثبوتهما واقعا والتخيير في المتوسطة حيث إن الحلفين المعلومين بالإجمال بالإضافة إلى المتوسطة يقتضيان دوران أمرها بين المحذورين ، فإن العلم الإجمالي الأول يقتضي وطأها ويقتضي الثاني ترك وطئها وإن يحتمل أن لا يتعلق الحلف لا بوطئها ولا بترك وطئها ، بأن يحلف على وطء الصغيرة ويحلف بحلف آخر على ترك وطء الكبيرة ، إلّا أن الإجمال في الحلفين المعلومين موجب لدخول المتوسطة في أطراف كلا العلمين.

أقول : التنظير إنما يصحّ إذا علم إجمالا ببقاء الإطلاق والعموم من الكتاب والسنّة في بعض مثل مورد الفرض على إطلاقه وعمومه ، وأما مع احتمال المصادفة في جميع الأخبار الواردة على خلاف عمومهما أو إطلاقهما فلا يكون في البين علم إجمالي آخر متعلق بخلاف التكليف القائم به الخبر مستفاد من عموم الكتاب والسنة أو إطلاقهما.

ثم إن في المثال المذكور في الحلف على الوطء والحلف على تركه كلاما ، وهو

١٦٧

وإلّا لاختص عدم جواز العمل على وفق النافي بما إذا كان على خلاف قاعدة الاشتغال.

وفيه : إنه لا يكاد ينهض على حجية الخبر ، بحيث يقدم تخصيصا أو تقييدا أو ترجيحا على غيره ، من عموم أو إطلاق أو مثل مفهوم ، وإن كان يسلم عما أورد عليه من أن لازمه الاحتياط في سائر الأمارات ، لا في خصوص الروايات ، لما عرفت من انحلال العلم الإجمالي بينهما بما علم بين الأخبار بالخصوص ولو بالإجمال فتأمل جيدا.

ثانيها : ما ذكره في الوافية مستدلا على حجية الأخبار الموجودة في الكتب المعتمدة للشيعة [١].

______________________________________________________

دعوى أنّ العلم الإجمالي بالحلفين غير منجز لعدم إمكان المخالفة القطعية ولا الموافقة القطعية لشيء من الحلفين ، فإنّه إن وطأ المتوسطة يحتمل تعلق الحلف أولا بوطئها لا وطء الصغيرة ، والحلف الثاني : تعلق بترك وطئها ثانيا ، ولتعلق الحلف الثاني بحنث الحلف الأول يكون باطلا وإن ترك وطأها يحتمل أن يحلف أولا بترك وطئها ، وثانيا على وطئها ولم يكن شيء من الحلفين مرتبطا بالصغيرة والكبيرة فيجري الاستصحاب في ناحية عدم تعلّق الحلف بوطء الصغيرة ، وعدم تعلّقه بترك وطء الكبيرة بلا معارضة ، ولكن لا يخفى ما فيها لجريان أصالة الصحة في ناحية كلّ من الحلفين ومعها لا تصل النوبة إلى الاستصحاب وحيث إن أصالة الصحة في ناحيتها لا تثبت عدم تعلق الحلف بالمتوسطة يدور الأمر في وطئها بين المحذورين فتدبّر.

في الوجه الثاني من الوجوه العقلية المذكورة لحجية الخبر الواحد

[١] ثاني الوجوه ما ذكره في الوافية واستدلّ به على حجية الأخبار المودعة في الكتب المعتمدة عند علماء الشيعة كالكتب الأربعة مع عمل جمع به من غير ردّ

١٦٨

كالكتب الأربعة ، مع عمل جمع به من غير رد ظاهر ، وهو : (إنا نقطع ببقاء التكليف إلى يوم القيامة ، سيما بالأصول الضرورية ، كالصلاة والزكاة والصوم والحج والمتاجر والأنكحة ونحوها ، مع أن جل أجزائها وشرائطها وموانعها إنما يثبت بالخبر غير القطعي ، بحيث نقطع بخروج حقائق هذه الأمور عن كونها هذه الأمور عند ترك العمل بخبر الواحد ، ومن أنكر فإنما ينكره باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان). انتهى.

وأورد عليه : أولا : بأن العلم الإجمالي حاصل بوجود الأجزاء والشرائط بين جميع الأخبار ، لا خصوص الأخبار المشروطة بما ذكره ، فاللازم حينئذ : إما الاحتياط ، أو العمل بكل ما دل على جزئية شيء أو شرطيته.

______________________________________________________

ظاهر ، وهو أن الجزم ببقاء الشريعة إلى يوم القيامة ولزوم العمل بها سيما بالعبادات الضرورية في جهة وجوبها كالصلاة والصوم والزكاة والحجّ وكذلك بقاء المعاملات المشروعة ولزوم رعايتها مع أن جلّ أجزاء العبادات وشرائطها وموانعها ثبت بالخبر غير القطعي ، بحيث لو ترك العمل بتلك الأخبار الواردة في أجزائها وقيودها لخرجت العبادات عن كونها صلاة أو صوما أو زكاة أو حجّا وكذلك الأمر في المعاملات ومن أنكر ذلك يكون إنكاره باللسان وقلبه مطمئن بما ذكر ، والفرق بين هذا الوجه والوجه السابق هو أن مقتضى الوجه السابق العمل بالأخبار المأثورة سواء عمل بها جمع أم لا وسواء كانت في الكتب المعتمدة أو غيرها.

وقد ذكر الماتن قدس‌سره عن الشيخ قدس‌سره إيراده على هذا الوجه أوّلا ، بأنّ العلم الإجمالي بأجزاء العبادات وشرائطها وموانعها كالمعاملات وكذا سائر التكاليف يعمّ جميع الأخبار ، فاللازم إما الاحتياط التامّ بأن يؤتى بالعبادة بجميع ما يحتمل دخله فيها مما ورد في الأخبار ، وكذا المعاملة أو يعمل بكل خبر دلّ على دخل شيء في

١٦٩

قلت : يمكن أن يقال : إن العلم الإجمالي وإن كان حاصلا بين جميع الأخبار ، إلّا أن العلم بوجود الأخبار الصادرة عنهم عليهم‌السلام بقدر الكفاية بين تلك الطائفة ، أو العلم باعتبار طائفة كذلك بينها ، يوجب انحلال ذاك العلم الإجمالي ، وصيرورة غير خارجا عن طرف العلم ، كما مرت إليه الإشارة في تقريب الوجه الأول ، اللهمّ إلّا أن يمنع عن ذلك ، وادعي عدم الكفاية فيما علم بصدوره أو اعتباره ، أو ادعي العلم بصدور أخبار أخر بين غيرها ، فتأمل.

وثانيا : بأن قضيته إنما هو العمل بالأخبار المثبتة للجزئية أو الشرطية ، دون الأخبار النافية لهما.

______________________________________________________

العبادة أو المعاملة مما يظنّ بصدوره. وذكر الماتن أن الإيراد على الوجه بما ذكر غير صحيح لاحتمال انحصار الأجزاء والشرائط والموانع وكذا سائر التكاليف في موارد الأخبار التي وصفها بما ذكر بأن لم يكن في غيرها ما يعتبر في العبادة أو المعاملة وهذا يوجب انحلال العلم الإجمالي الأول وخروج غير موارد الأخبار الموصوفة عن أطراف العلم إلّا أن يمنع انحلال العلم الإجمالي بخصوص تلك الأخبار ، بأن ادّعى العلم بصدور بعض أخبار أخر دالّة على قيد العبادة ، أو المعاملة.

ولا يخفى أن في عبارة الماتن خللا في نقل الإيراد عن الشيخ قدس‌سره ونقل عن الشيخ ثانيا بأن قضية الوجه المتقدّم العمل بالأخبار المثبتة للجزئية والشرطية للعبادة والمعاملة دون الأخبار النافية ، وذكر أن الأولى الإيراد على الوجه المزبور بأن مقتضاه العمل بالأخبار المثبتة فيما لم ينهض إطلاق أو عموم على النفي لا الحجية بحيث يخصص العامّ أو يقيد المطلق بالخبر الدالّ على ثبوت الجزء أو الشرط أو يعمل بالخبر النافي في مقابل المطلق أو العامّ الدالّ على ثبوتهما أو في مقابل الأصل المثبت أو مقتض للاحتياط ، وقد ظهر فيما ذكره قدس‌سره مما تقدّم في المناقشة في الوجه

١٧٠

والأولى أن يورد عليه : بأن قضيته إنما هو الاحتياط بالاخبار المثبتة فيما لم تقم حجة معتبرة على نفيهما ، من عموم دليل أو إطلاقه ، لا الحجية بحيث يخصص أو يقيد بالمثبت منها ، أو يعمل بالنافي في قبال حجة على الثبوت ولو كان أصلا ، كما لا يخفى.

ثالثها : ما أفاده بعض المحققين بما ملخّصه : أنا نعلم بكوننا مكلّفين [١].

بالرجوع إلى الكتاب والسنة إلى يوم القيامة ، فإن تمكنا من الرجوع إليهما على نحو يحصل العلم بالحكم أو ما بحكمه ، فلا بد من الرجوع إليهما كذلك ، وإلّا فلا محيص عن الرجوع على نحو يحصل الظن به في الخروج عن عهدة هذا التكليف ، فلو لم يتمكن من القطع بالصدور أو الاعتبار ، فلا بد من التنزل إلى الظن بأحدهما.

وفيه : إن قضية بقاء التكليف فعلا بالرجوع إلى الأخبار الحاكية للسنة ، كما

______________________________________________________

الأول فلا نعيد.

في الوجه الثالث من الوجوه العقلية المذكورة لحجية الخبر الواحد

[١] وهذا الوجه ما ذكره صاحب الحاشية وظاهر كلامه قدس‌سره أن التكليف بالعمل بظواهر الكتاب والأخذ بالسنّة أي الأخبار الحاكية عن المعصومين عليهم‌السلام قولهم وفعلهم وتقريرهم باق إلى يوم القيامة ، وإذا تمكّنا من الأخذ بالأخبار المأثورة عنهم بحيث علم صدورها عنهم : أو اعتبارها في الشرع فهو ، وإلّا يتنزل عن العلم بالصدور إلى الظنّ به وعن العلم بالاعتبار إلى الظنّ به ، وتكون النتيجة لزوم العمل بكلّ خبر يظنّ صدوره عنهم أو يظن اعتباره شرعا ، ولعلّه قدس‌سره استفاد بقاء التكليف إلى يوم القيامة من مثل حديث الثقلين وأن مقتضى بقائه ما ذكره ، وقد أورد الماتن قدس‌سره على ما ذكر بوجهين :

الوجه الأول : أن التمكن من امتثال هذا التكليف بالعلم التفصيلي أو الإجمالي

١٧١

صرح بأنها المراد منها في ذيل كلامه ـ زيد في علو مقامه ـ إنما هي الاقتصار في الرجوع إلى الأخبار المتيقن الاعتبار ، فإن وفى ، وإلّا أضيف إليه الرجوع إلى ما هو المتيقن اعتباره بالإضافة لو كان ، وإلّا فالاحتياط بنحو عرفت ، لا الرجوع إلى ما ظن اعتباره ، وذلك للتمكن من الرجوع علما تفصيلا أو إجمالا ، فلا وجه معه من الاكتفاء بالرجوع إلى ما ظن اعتباره.

______________________________________________________

حاصل فعلا فلا تصل النوبة إلى الامتثال الظني.

وبيان ذلك أنّه لو كان ما هو المتيقّن اعتباره من الأخبار وافيا بمعظم الفقه ومعلوما لنا فالمتعين الأخذ بها وإن لم يكن المعلوم لنا كذلك وافيا به فاللازم التعدي إلى متيقن الاعتبار بالإضافة بمعنى العمل من الأخبار المأثورة بما لو اعتبر الشارع منها أخبارا لكانت ما نعمل به وإن لم يكن في البين متيقن الاعتبار كذلك أو لم يكن وافيا ، لكان اللازم الاحتياط بالعمل بكل خبر مثبت منها بل بالنافي منها حتى يحرز العمل بكل ما يجب العمل به بحسب ذلك التكليف وهذا الاحتياط لا يوجب حرجا كما يعمل بها القائل باعتبار جميع الأخبار التي لا يحرز كذبها أو عدم اعتبارها.

والوجه الثاني : هو أن التكليف بالعمل بالأخبار المأثورة فيما لم يحرز صدقها ولا اعتبارها غير محرز حتى يدعى أنه مع عدم التمكن يتنزل إلى الظنّ بالصدور أو الظن بالاعتبار ؛ لأنّ الخبر مع عدم إحراز صدقه أو اعتباره لا يدخل في السنّة بالمعنى الذي ذكره ، وقد أورد الشيخ قدس‌سره وتبعه النائيني (طاب ثراه) بأنّ ما ذكر ليس وجها آخر غير الوجه الأول أو بعض مقدمات الانسداد فإنّه لا موجب للعمل بالأخبار المأثورة إلّا العلم الإجمالي بصدور جلّها منهم عليهم‌السلام فإن كان الموجب ذلك فهذا عين الوجه الأول المتقدّم ، وإن اريد من السنّة نفس قول المعصوم أو فعله.

وبتعبير آخر العلم الإجمالي بالتكاليف الواقعية التي لا بد من امتثالها وعدم إهمالها

١٧٢

هذا مع أن مجال المنع عن ثبوت التكليف بالرجوع إلى السنة ـ بذاك المعنى ـ فيما لم يعلم بالصدور ولا بالاعتبار بالخصوص واسع.

وأما الإيراد عليه : برجوعه إما إلى دليل الانسداد لو كان ملاكه دعوى العلم الإجمالي بتكاليف واقعية ، وإما إلى الدليل الأول ، لو كان ملاكه دعوى العلم بصدور أخبار كثيرة بين ما بأيدينا من الأخبار.

ففيه : إن ملاكه إنما هو دعوى العلم بالتكليف ، بالرجوع إلى الروايات في الجملة إلى يوم القيامة ، فراجع تمام كلامه تعرف حقيقة مرامه.

______________________________________________________

فمرجع ذلك إلى بعض مقدمات الانسداد ، وأورد عليه الماتن بأن مراده دعوى أن ما هو المعلوم لنا من التكليف هو العمل بالروايات إلى يوم القيامة في الجملة حتى مع الغمض عن العلم بثبوت التكاليف الواقعية في الوقائع فراجع تمام كلامه تعرف حقيقة مرامه.

أقول : ما ذكر الشيخ قدس‌سره من الإيراد متين ، فإن المأمور به في حديث الثقلين ونحوه مما لا يبعد تواتره هو الأخذ بأقوال الأئمة الهداة وصولا إلى التكاليف الشرعية وأحكام الوقائع المقررة من الشارع ومن الظاهر أن الأمر باتباع أقوالهم لا يقتضي وجوب العمل بالخبر عن أقوالهم إذا لم يحرز أن الخبر مصادف لقولهم وجدانا أو اعتبارا ؛ ولذا لا يدلّ حديث الثقلين على اعتبار الخبر الواحد ولا أظن أن يتمسك أحد في اعتبار خبر العدل والثقة بمثل الحديث فلا بد في الأخبار المأثورة عنهم في جهة وجوب العمل بها من موجب ، وذلك الموجب إما العلم الإجمالي بمطابقة معظم الأخبار المأثورة لأقوالهم في بيان الأحكام الواقعية فهذا يرجع إلى الوجه الأوّل ، أو أن الموجب ثبوت التكاليف الشرعية في الوقائع وأنّ المكلفين مع عدم علمهم بها تفصيلا سواء كان العلم وجدانيا أو اعتباريا لا يكون مطلق العنان وهذا الموجب بعض ما ذكر في مقدمات الانسداد وليس أمرا آخر.

١٧٣
١٧٤

فصل

في الوجوه التي أقاموها على حجية الظن وهي أربعة ، الأول : إن في مخالفة المجتهد لما ظنه من الحكم الوجوبي أو التحريمي مظنة للضرر [١] ودفع الضرر المظنون لازم.

______________________________________________________

في الوجوه العقلية المذكورة لاعتبار الظن الوجه الأول : من الوجوه العقلية التي ذكروها لإثبات حجية الظن

[١] قيل : بأن الظن بالتكليف أو الظن بما هو ملزوم وموضوع له لازم رعايته عقلا ما لم يثبت من الشارع الترخيص في ترك رعايته ، والمستند لهذا القول أحد امور أربعة ، الأول : أن في مخالفة المجتهد لما ظنّه من التكليف أو ملزومه مظنّة الضرر ، ودفع الضرر المظنون لازم بحكم العقل ، أما الصغرى فلأنّ الظن بوجوب شيء أو حرمته يلازم الظن بالعقاب على مخالفته بل الظن بالمفسدة في المخالفة بناء على تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد.

وأما الكبرى فلاستقلال العقل بدفع الضرر المظنون وهذا لا يرتبط بحكمه بالحسن والقبح ليقال إنّ : حكمه بهما مورد المناقشة وذلك فإن ملاك حكمه بلزوم دفع الضرر المظنون غير الملاك في حكمه بالحسن والقبح ؛ ولذا أطبق العقلاء بلزوم دفع الضرر مع خلافهم في الحسن والقبح العقليّين.

وأجاب الماتن عن الاستدلال بمنع الصغرى سواء اريد من الضرر العقاب أو المفسدة فإن استحقاق العقاب يترتب على العصيان المنوط بتنجّز التكليف الواقعي ولا يترتب على مخالفة التكليف الواقعي ولو مع عدم تنجّزه ، وقد تقدم سابقا أن الظن

١٧٥

أما الصغرى ، فلأن الظن بوجوب شيء أو حرمته يلازم الظن بالعقوبة على مخالفته أو الظن بالمفسدة فيها ، بناء على تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد.

وأما الكبرى ، فلاستقلال العقل بدفع الضرر المظنون ، ولو لم نقل بالتحسين والتقبيح ، لوضوح عدم انحصار ملاك حكمه بهما ، بل يكون التزامه بدفع الضرر المظنون بل المحتمل بما هو كذلك ولو لم يستقل بالتحسين والتقبيح ، مثل الالتزام بفعل ما استقل بحسنه ، إذا قيل باستقلاله ، ولذا أطبق العقلاء عليه ، مع خلافهم في استقلاله بالتحسين والتقبيح ، فتدبر جيدا.

______________________________________________________

بالتكليف بنفسه لا يقتضي تنجز التكليف بل منجزيته تحتاج إلى الجعل والاعتبار.

ثم ذكر قدس‌سره إلّا أن يقال : بأنّ الظنّ بالتكليف وإن لم يكن بنفسه بحيث يستقل العقل بالعقاب على مخالفته ، إلّا أنّ العقل لا يستقل أيضا بعدم العقاب على مخالفته ، وعليه فالعقاب في المخالفة محتمل ودفع العقاب المحتمل كدفع الضرر المظنون لازم عقلا ، هذا ولو كان المراد بالضرر في الصغرى المفسدة ففي موارد مخالفة المجتهد لما ظنّه من الحرمة وإن يكون ظن بالمفسدة إلّا أن المفسدة لا تكون من قبيل الضرر المتوجه إلى المكلف حيث إن الحزازة والمنقصة في الفعل وإن كانت موجودة بحيث يستحق الفاعل الذي عليه في موارد ارتكاب الحرام ، إلّا أنها لا تكون من قبيل الضرر على الفاعل دائما ، وأما في الواجبات فالفائت عن المكلف المصلحة وفي تفويتها لا يكون ضرر بل ربما يكون الضرر في استيفائها كالإحسان بالمال.

وعلى الجملة : ليست المفسدة ولا المنفعة الفائتة اللتان في الأفعال وانيطت بهما الأحكام من قبيل المضرة على الفاعل ، كما أن ضرره ليس مناطا في حكم العقل بالحسن والقبح على القول باستقلاله في الحكم بهما.

أقول : لو تمّ هذا الوجه كان مقتضاه أن الظنّ بالتكليف مقتض للتنجيز وأنه يكون

١٧٦

والصواب في الجواب : هو منع الصغرى ، أما العقوبة فلضرورة عدم الملازمة بين الظن بالتكليف والظن بالعقوبة على مخالفته ، لعدم الملازمة بينه والعقوبة على مخالفته ، وإنما الملازمة بين خصوص معصيته واستحقاق العقوبة عليها ، لا بين مطلق المخالفة والعقوبة بنفسها ، وبمجرد الظن به بدون دليل على اعتباره لا يتنجز به ، كي يكون مخالفته عصيانه.

إلّا أن يقال : إن العقل وإن لم يستقل بتنجزه بمجرده ، بحيث يحكم باستحقاق العقوبة على مخالفته ، إلّا أنه لا يستقل أيضا بعدم استحقاقها معه ، فيحتمل العقوبة

______________________________________________________

موجبا لاستحقاق العقاب على مخالفته ، وهكذا لو صحّ ما ذكر الماتن قدس‌سره من أن العقل وإن لا يستقل بالعقاب على المخالفة إلّا أنه لا يستقل أيضا بعدم استحقاق العقاب بل يحتمل العقاب ، وهذا ينافي ما ذكر في تأسيس الأصل في اعتبار الظن من أنه لا يقتضي العقاب على المخالفة بل كونه موجبا له يحتاج إلى الجعل والاعتبار ، أو طرو حالات وثبوت مقدمات تقتضي كونه موجبا له ولا يصحّ التمسك بقاعدة قبح العقاب بلا بيان في موارد عدم ثبوت التكليف بوجه معتبر.

وما ذكر الماتن أيضا من أنه لا يبعد حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل لا يخفى ما فيه ، فإن الضرر إذا كان من قبيل العقاب فالعقل يستقل بلزوم دفعه حتى فيما إذا كان احتماله ضعيفا ، كما في أطراف العلم الإجمالي بالتكليف فيما إذا كانت أطرافه كثيرة فإن احتمال العقاب في ارتكاب واحد منها ضعيف ، ومع ذلك يجب عقلا رعايته. نعم لو رجع الأمر في أطراف العلم الاجمال بحيث جرى الأصل النافي في بعضها يكون عدم العقاب في ارتكابها قطعيا كما هو في موارد عدم تنجيز العلم الإجمالي لخروج بعضها عن مورد تعلّق التكليف ولو لكون الشبهة غير محصورة وهذا أمر آخر.

١٧٧

حينئذ على المخالفة ، ودعوى استقلاله بدفع الضرر المشكوك كالمظنون قريبة جدا ، لا سيما إذا كان هو العقوبة الأخروية ، كما لا يخفى.

وأما المفسدة فلأنها وإن كان الظن بالتكليف يوجب الظن بالوقوع فيها لو خالفه ، إلّا أنها ليست بضرر على كل حال ، ضرورة أن كل ما يوجب قبح الفعل من المفاسد لا يلزم أن يكون من الضرر على فاعله ، بل ربما يوجب حزازة ومنقصة في الفعل ، بحيث يذم عليه فاعله بلا ضرر عليه أصلا ، كما لا يخفى.

وأما تفويت المصلحة ، فلا شبهة في أنه ليس فيه مضرة ، بل ربما يكون في استيفائها المضرة ، كما في الإحسان بالمال.

______________________________________________________

والحاصل أن الثابت من حكم العقل أو الفطرة الارتكازية الدفع والفرار من العقاب المحتمل ، كيف والعقاب في مخالفة التكليف المعلوم بالتفصيل محتمل لا مقطوع لاحتمال العفو والشفاعة.

وعلى الجملة مخالفة التكليف المنجز يوجب استحقاق العقاب والاستحقاق لا يلازم فعلية العقاب ولو مستقبلا.

هذا بالإضافة إلى الضرر بمعنى العقاب ، وأما غير العقاب من الضرر فمنع الصغرى في مخالفة الظن بالتكليف صحيح حتى في المحرّمات الشرعية ، فإن الثابت في المحرمات ـ بناء على تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها ـ هي المفسدة ، والمفسدة الملحوظة فيها في الغالب نوعية لا من قبيل الضرر على المرتكب ، نعم الإضرار بالنفس بالجناية عليها أو بالعرض والأطراف والمال محرم لا مطلق الإضرار ، كما يشهد بذلك تحمل العقلاء الضرر الدنيوي لتحصيل بعض الأغراض العقلائيّة ، وأمّا ما ذكره من كون الملاك بناء على تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد لا يلزم أن يكون في متعلّقاتها بل يكون في نفس الأحكام والتكاليف فغير

١٧٨

هذا مع منع كون الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في المأمور به والمنهي عنه ، بل إنما هي تابعة لمصالح فيها ، كما حققناه في بعض فوائدنا.

وبالجملة : ليست المفسدة ولا المنفعة الفائتة اللتان في الأفعال وأنيط بهما الأحكام بمضرة ، وليس مناط حكم العقل بقبح ما فيه المفسدة أو حسن ما فيه المصلحة من الأفعال على القول باستقلاله بذلك ، هو كونه ذا ضرر وارد على فاعله أو نفع عائد إليه ، ولعمري هذا أوضح من أن يخفى ، فلا مجال لقاعدة رفع الضرر المظنون هاهنا أصلا ، ولا استقلال للعقل بقبح فعل ما فيه احتمال المفسدة أو ترك ما فيه احتمال المصلحة ، فافهم.

الثاني : أنه لو لم يؤخذ بالظن لزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو قبيح [١].

______________________________________________________

صحيح كما تقدّم بيان ذلك في التفرقة بين الحكم النفسي والطريقي ، نعم يمكن أن لا يكون تمام الغرض في نفس المتعلق بل يتم بجعل التكليف وتعلّقه بالمتعلق كما في الواجبات التعبّدية بناء على عدم إمكان أخذ القربة فيها في متعلق الأمر واحتملناه أيضا في مباحث القطع بالتكليف من إمكان كون الغرض أخص من متعلقه فتدبر.

وعلى الجملة الضرر الذي لا يدخل في العقاب الاخروي لا يظن في مورد الظن بالتكليف غايته يحتمل في بعض الموارد ولا دليل على لزوم دفعه عقلا إلّا في مورد الخوف من الضرر الذي يدخل في عنوان الجناية على النفس والعرض والأطراف والإجحاف بالمال ، فإن الخوف على ما يستفاد من الروايات الواردة في أبواب مختلفة طريق إلى إحراز الضرر ولا مورد معه للاصول النافية.

[١] الوجه الثاني من الوجوه العقلية لاعتبار الظن بالتكليف أنه لو لم يؤخذ به لزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو قبيح عقلا وتقريره أن لامتثال التكليف الثابت

١٧٩

وفيه : إنه لا يكاد يلزم منه ذلك إلّا فيما إذا كان الاخذ بالظن أو بطرفه لازما ، مع عدم إمكان الجمع بينهما عقلا ، أو عدم وجوبه شرعا ، ليدور الأمر بين ترجيحه وترجيح طرفه ، ولا يكاد يدور الأمر بينهما إلّا بمقدمات دليل الانسداد ، وإلّا كان اللازم هو الرجوع إلى العلم أو العلمي أو الاحتياط أو البراءة أو غيرهما على حسب اختلاف الأشخاص أو الأحوال في اختلاف المقدمات ، على ما ستطلع على حقيقة الحال.

______________________________________________________

في الوقائع الكثيرة واقعا مراتب ، الاولى : الامتثال التفصيلي بالعلم والعلمي والثانية : الامتثال الإجمالي وهو الأخذ بالاحتياط في الوقائع وفي كون ذلك مرتبة ثانية أو أنه في مرتبة الامتثال التفصيلي كلام تقدم في بحث جواز الاكتفاء بالامتثال الإجمالي مع التمكّن من الامتثال التفصيلي ، وذكرنا أن الأظهر كون الامتثال الإجمالي مع التفصيلي في مرتبة واحدة ، وعليه فالمرتبة الثانية الامتثال الظني والمراد بالظنّ ما لم يثبت اعتباره بالخصوص وإلّا يدخل في الامتثال العلمي الذي هو المرتبة الاولى من الامتثال ، والمرتبة الثالثة : على ما ذكر ، والرابعة : على من يرى الامتثال الإجمالي مرتبة ثانية هو الامتثال الاحتمالي بأن ترك المكلّف الامتثال في موارد الظن بالتكليف كلا أو بعضا وأخذ بالامتثال ورعاية التكليف في موارد الشك في التكليف أو الوهم بالتكليف كلا أو بعضا ، فإن هذا يكون من قبيل ترجيح المرجوح على الراجح ويستقل العقل بقبحه ، وفيه أن الاستدلال بما ذكر موقوف على ثبوت تنجز التكاليف في الوقائع وعدم التمكن من امتثالها بالمرتبة الاولى ولا بالاحتياط أو عدم وجوبه ، ودوران أمر الامتثال بين المرتبتين الأخيرتين ولا يتمّ شيء من ذلك إلّا بمقدمات الانسداد على تقدير تماميتها وبدونها لا يفيد ما ذكر من الوجه شيئا في اعتبار الظن.

١٨٠