دروس في مسائل علم الأصول - ج ٤

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-94850-6-5
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٤٣

نعم يشكل الأمر في بعض الأصول العملية ، كأصالة الإباحة الشرعية ، فإن الإذن في الإقدام والاقتحام ينافي المنع فعلا ، كما فيما صادف الحرام ، وإن كان الإذن فيه لأجل مصلحة فيه ، لا لأجل عدم مصلحة ومفسدة ملزمة في المأذون فيه ، فلا محيص في مثله إلّا عن الالتزام بعدم انقداح الإرادة أو الكراهة في بعض المبادئ العالية أيضا ، كما في المبدأ الأعلى ، لكنه لا يوجب الالتزام بعدم كون التكليف الواقعي بفعلي ، بمعنى كونه على صفة ونحو لو علم به المكلف لتنجز عليه ، كسائر التكاليف الفعلية التي تتنجز بسبب القطع بها ، وكونه فعليا إنما يوجب البعث أو الزجر في النفس النبويّة أو الولويّة ، فيما إذا لم ينقدح فيها الإذن لأجل مصلحة فيه.

فانقدح بما ذكرنا أنه لا يلزم الالتزام بعدم كون الحكم الواقعي في مورد الاصول والأمارات فعليا كي يشكل تارة [١].

______________________________________________________

[١] يظهر من كلمات الشيخ قدس‌سره في مقام الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري أن الأحكام الواقعية في موارد الأمارات والاصول شأنية ، والمراد بالشأني ما يعبّر عنه بالحكم الإنشائي ، فكون مدلول الأمارة أو مفاد الأصل حكما فعليا لا ينافي الحكم الواقعي ، وقد أورد الماتن قدس‌سره على ذلك بأن لازم ما ذكر أن لا تصل تلك الأحكام بقيام الأمارة التي قام الدليل على اعتبارها مرتبة التنجّز ، وذلك فإن مدلول دليل اعتبارها تنزيل مؤداها منزلة الواقع فيكون مؤدّاها حكما واقعيا تنزيليا ، وبما أن الواقع حكم إنشائي غير فعلي فالحكم الواقعي التنزيلي لا يزيد على الواقعي الحقيقي فيما إذا فرض أن الواقع الحقيقي إنشائي غير فعلي في عدم لزوم امتثاله.

وبتعبير آخر العلم الوجداني بالواقعي الإنشائي غير منجّز كما تقدم سابقا في توجيه تقييد متعلق القطع بالتكليف الفعلي ، فمع الأمارة القائمة وثبوت الواقع

٦١

بعدم لزوم الإتيان حينئذ بما قامت الأمارة على وجوبه ، ضرورة عدم لزوم امتثال الأحكام الإنشائية ما لم تصر فعلية ولم تبلغ مرتبة البعث والزجر ، ولزوم الإتيان به مما لا يحتاج إلى مزيد بيان أو إقامة برهان.

لا يقال : لا مجال لهذا الإشكال ، لو قيل بأنها كانت قبل أداء الأمارة إليها إنشائية ، لأنها بذلك تصير فعلية ، تبلغ تلك المرتبة.

فإنه يقال : لا يكاد يحرز بسبب قيام الأمارة المعتبرة على حكم إنشائي لا حقيقة ولا تعبدا ، إلّا حكم إنشائي تعبدا ، لا حكم إنشائي أدّت إليه الأمارة ، أما حقيقة فواضح ، وأما تعبدا فلأنّ قصارى ما هو قضية حجية الأمارة كون مؤدّاها هو الواقع تعبدا ، لا الواقع الذي أدّت إليه الأمارة ، فافهم.

______________________________________________________

التنزيلي بدليل اعتبارها يثبت حكم واقعي إنشائي تنزيلي.

لا يقال : وإن لم يكن الحكم الواقعي عند الشيخ قدس‌سره فعليا مع قطع النظر عن العلم به إلّا أنه بالعلم به يصل إلى مرتبة الفعلية ، فإن العلم بالحكم الإنشائي موضوع لفعليّته ، فالمنزل عليه في دليل اعتبار الأمارة ليس مجرّد نفس الحكم الواقعي ليرد عليه عدم لزوم تنجّزه بقيام الأمارة الظنية ، بل هو الحكم الواقعي الذي أدت إليه الأمارة الوجدانية أي الحكم الواقعي المعلوم.

فإنّه يقال : إنما تخبر الأمارة الظنية عن الحكم الواقعي المفروض كونه إنشائيا ، وغاية مدلول دليل اعتبار الأمارة أن مؤدى الأمارة هو الحكم الواقعي لا الواقعي الذي قامت به الأمارة الوجدانية ، اللهم إلّا أن يقال : لو كان مدلول دليل اعتبار الأمارة تنزيل المؤدى منزلة نفس الحكم الواقعي يكون اعتبارها لغوا فيستفاد من دليل اعتبارها بدلالة الاقتضاء أن المنزل عليه هو الحكم الواقعي الذي أدت اليه الأمارة الوجدانية ، ولكن دليل الاقتضاء لا يجري في الموارد التي يكون فيها للأحكام الواقعية في

٦٢

اللهمّ إلّا أن يقال : إن الدليل على تنزيل المؤدّى منزلة الواقع ـ الذي صار مؤدّى لها ـ هو دليل الحجية بدلالة الاقتضاء ، لكنه لا يكاد يتم إلّا إذا لم يكن للأحكام بمرتبتها الإنشائية أثر أصلا ، وإلّا لم تكن لتلك الدلالة مجال ، كما لا يخفى.

واخرى بأنه كيف يكون التوفيق بذلك؟ مع احتمال أحكام فعلية بعثيّة أو زجريّة في موارد الطرق والاصول العملية [١].

______________________________________________________

مرتبتها الإنشائية أثر كاستحقاق المثوبة على الموافقة.

أقول : إذا فرض أن الحكم الواقعي إنشائي ولا يكون فعليا إلّا مع الأمارة الوجدانية يعني العلم به يكون تنزيل مؤدى الأمارة الظنية منزلة الواقعي كافيا في وصوله مرتبة التنجّز على تقدير المصادفة وذلك لما تقدم في بحث قيام الأمارات بدليل اعتبارها مقام القطع الموضوعي الطريقي من أن تنزيل الشيء منزلة جزء الموضوع أو قيده صحيح فيما إذا حصل الجزء الآخر أو المقيد بنفس ذلك التنزيل والأمر في المقام كذلك ، فإنّه بتنزيل المؤدى منزلة الواقع يحصل العلم بالواقع ولو كان الواقع تنزيليا ، إلّا أن العلم به وجداني والمفروض أن العلم بالواقع موضوع لفعلية ذلك الواقع فالفعلية والتنجز يحصلان معا وإن كان التنجز متأخرا عن الاولى مرتبة.

[١] ومراده مما ذكر الإشكال فيما ذكر الشيخ قدس‌سره من أن الأحكام في موارد الطرق والأمارات والاصول العملية إنشائية ، ووجه الإشكال أن اعتبار الأمارة ومفاد الاصول هو عند الجهل بالواقع ، واحتمال التكليف الفعلي في مواردها ؛ وإلّا فمع إنشائية الحكم لا يكون موضوع لاعتبارهما.

أقول : لم يؤخذ في موضوع اعتبار الأمارة عقلا إلّا عدم العلم الوجداني من المكلف بالحكم الواقعي ؛ لأنّ التعبد مع العلم بالواقع لا معنى له ، وأما مفاد الاصول فسيأتي التعرض لها في ذيل الوجه الآتي في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري.

٦٣

المتكفّلة لأحكام فعلية ، ضرورة أنه كما لا يمكن القطع بثبوت المتنافيين ، كذلك لا يمكن احتماله.

فلا يصح التوفيق بين الحكمين ، بالتزام كون الحكم الواقعي ـ الذي يكون مورد الطرق ـ إنشائيا غير فعلي ، كما لا يصحّ بأن الحكمين ليسا في مرتبة واحدة ، بل في مرتبتين ضرورة تأخّر الحكم الظاهري عن الواقعي بمرتبتين [١].

______________________________________________________

في مقالة المحقق النائيني في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري

[١] قد تشبث المحقق النائيني قدس‌سره بهذا الوجه في مفاد الاصول غير المحرزة من إيجاب الاحتياط وأصالتي البراءة والحليّة ، وقد ذكر أن المجعول في الأمارة تتميم كشفها ، بمعنى أن الأمارة القائمة بحكم وتكليف تعتبر علما بذلك الحكم والتكليف ، حيث إن الأمارات جلّها بل كلّها امور إمضائية في اعتبارها والعقلاء في بنائهم يرونها علما والأمارة وإن تكون فيها بنفسها نوع كشف عن الواقع إلّا أن كشفها عنه ناقص.

وفيها احتمال اختلاف الواقع عن مدلولها وقد ألغى الشارع تبعا على ما عند العقلاء احتمال الخلاف ، ويترتب على هذا الإلغاء واعتبارها علما كونها منجزة للواقع أو معذرة عنه ولم يجعل الشارع في موردها غير ما يكون في الواقع مع قطع النظر عن قيامها واعتبارها ليدعى أن المجعول الثاني بقيامها يكون مضادا أو منافيا لما في الواقع من الحكم والتكليف ، بل يكون حال الأمارة مع إصابتها الواقع حال العلم الوجداني به ومع خطئها يكون كالقطع بالواقع الذي يكون اعتقادا بالواقع خطأ في كونه عذرا على ما تقدم.

وأما الاصول فإن كانت محرزة للواقع وناظرة إليه كالاستصحاب وقاعدتي الفراغ والتجاوز يكون المعتبر في مواردها إحراز الواقع والعلم به من حيث الجري العملي ثبوتا أو سقوطا ، بأن كان الشارع معتبرا المكلف محرزا للواقع بحسب عمله

٦٤

.................................................................................................

______________________________________________________

فلم يجعل في مواردها بمفادها غير اعتبار الإحراز للمكلف لا حكم تكليفي أو وضعي آخر غير ما في الواقع.

ليقال : إن المجعول الثاني مضادّ للحكم الواقعي أو ينافيه.

وإن لم تكن محرزة فالمجعول فيها وان كان حكما إلّا أنه لا ينافي الحكم أو التكليف الواقعي ، وبيان ذلك أن التكليف الواقعي بأي مرتبة فرضت من الأهمية عند الشارع لا يكون داعيا للمكلف إلى العمل إلّا بعد وصوله إليه فقسم من الاصول غير المحرزة يوجب وصول التكليف الواقعي إلى المكلّف ، كما في مورد الأمر بالاحتياط من الشبهة الوجوبية أو التحريمية ، فإن التكليف الواقعي على تقديره لا يدعو المكلف إلى موافقته لعدم وصوله إليه ، فالأمر بالاحتياط في مورد احتماله تحفّظ على ذلك التكليف المحتمل من حيث العمل به ، فالملاك الداعي للشارع إلى إيجابه الاحتياط نفس وجوب ذلك الفعل واقعا أو تحريمه الواقعي من الشبهات الوجوبية أو التحريمية فيكون الأمر بالاحتياط في الحقيقة من متمم الجعل الذي لا يكون مع المتمّم بالفتح حكمين حقيقة بل في مورد ثبوت التكليف الواقعي الناشئ عن مصلحة الفعل أو مفسدته يكون التحفظ على الملاك المزبور موجبا لجعل التكليف واقعا ، وللأمر بالاحتياط عند احتماله بعد جعله وحيث إن الاحتياط هو التحفظ على الواقع ففي مورد لا يكون فيه تكليف أو موضوع لحكم الزامي لا يكون الفعل أو الترك فيه من الاحتياط حقيقة ، بل هو تخيّل احتياط ولذا لا يكون فيه وجوب الاحتياط ليكون منافيا للحكم الواقعي في ذلك المورد وقسم منه يكون عدم الأهمية في التكليف الواقعي نظير الأهمية في الفرض السابق داعيا إلى الترخيص في الارتكاب ما لم يصل التكليف الواقعي إلى المكلّف وهذا الترخيص في طول التكليف الواقعي

٦٥

.................................................................................................

______________________________________________________

بمرتبتين من ثبوته وفرض الشك فيه لا في مرتبته ليكون بينها تضاد أو تناف حيث لا يكون للتكليف الواقعي إطلاق بالإضافة إلى حال التحيّر فيه ، والحاصل أن للشك في الحكم أو التكليف الواقعي اعتبارين أحدهما : أنه صفة نفسانية ، والثاني : أنه تحيّر في الواقع وتردّد فيه وهو بالاعتبار الثاني موضوع للأحكام الظاهرية.

أقول : أما عدم الإطلاق في الحكم الواقعي بحيث لا يعم حال الشك فيه فقد ذكرنا أن الإطلاق فيه ذاتي حيث لا يمكن تقييد الحكم الواقعي بصورة العلم به ، نعم مع عدم وصول التكليف الواقعي يكون الترخيص في الفعل أمرا ممكنا إذا كان فيه مصلحة نوعية كما تقدم.

وأما تقييد الأمر بالاحتياط بصورة ثبوت التكليف واقعا فيه ما لا يخفى ، فإن الأمر بالاحتياط في الحقيقة أمر بإحراز رعاية التكليف الواقعي على تقديره ، فيكون الأمر به طريقيا يترتب عليه تنجيز الواقع على تقديره.

وليس من الحكم النفسي وجعل التوسعة للتكليف بالفعل الثابت واقعا لينجر ذلك التكليف إلى ظرف الجهل به ويخرج عن الإهمال الكائن فيه بالجعل الأول.

وعلى الجملة : التكليف الواقعي الذي له إطلاق ذاتي في ظرف الجهل به يكون على تقديره واقعا واصلا بالأمر بالاحتياط في الواقعة ، ومع عدم الأمر بالاحتياط بل مع الترخيص الظاهري في الارتكاب لا محذور ، حيث إنّ التكليف الواقعي على تقديره غير واصل ولا منافاة بين الحكمين لا في ناحية مبدئهما ولا في ناحية المنتهى أي الغرض منهما ، وما ذكره قدس‌سره في ناحية اعتبار الأمارات صحيح ولا يصغى إلى ما قيل من أنّ العلم غير قابل للجعل والنقص في الكشف في الأمارة أمر تكويني غير قابل للتتميم بالاعتبار وذلك فإن الاعتبار هو فرض شيء شيئا آخر ليترتب عليه

٦٦

.................................................................................................

______________________________________________________

أثر الشيء الآخر وتنجّز التكليف واستحقاق العقوبة على مخالفته مترتب عقلا على وصوله وخروجه عن عدم البيان له ومع اعتبار الشارع الأمارة القائمة به علما به يتم الموضوع لحكم العقل ، وقد ذكرنا أنّه مع إمكان هذا الاعتبار لا مجال لما ذهب إليه الماتن قدس‌سره من أن اعتبار الأمارة عبارة عن جعل الحجية لها فإنّه مع جعل الحجية إن اعتبرت علما يكون جعلها لغوا فإنه بمجرد اعتبار العلم يترتب عليها الأثر العقلي فتكون منجّزة ومعذّرة وإن لم يعتبرها علما فهو مخالف لما تقدم من أنّ اعتبار الأمارات إمضاء لما عليه العقلاء ، حيث يرون الأمارة المعتبرة القائمة بشيء علما به.

وقد ظهر مما ذكرنا من أنّ ما يقال ، في وجه الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري تعدّد مرتبتهما بدعوى أنّ المقتضى للحكم الواقعي ما في نفس الفعل ، حيث يكون لحاظه فيه داعيا للمولى إلى جعل حكم واقعي لنفس الفعل وفي هذه المرتبة لا يمكن فرض الجهل به ليكون مقتضيا للحكم الظاهري فيكون مزاحما لمقتضى الحكم الواقعي ، كما أنّه في مرتبة جعل الحكم الظاهري كان الحكم الواقعي مجعولا من قبل فالتمانع بين المقتضيين إنّما يتصور فيما إذا كانا في مرتبة واحدة.

وفيه ، أنّ الإطلاق في الحكم الواقعي المجعول ذاتي يثبت مع فعلية موضوعه في ظرف الشك أيضا والحكم الظاهري المجعول على خلافه ينافي مع ثبوته إلّا أن يدفع بما ذكرنا من أنّ تنافي الحكمين ينشأ من المضادة بين مبدئهما أو في داعويتهما إلى العمل ، ولا تنافي بين المبدأين لهما ولا في الغرض من جعلهما ، ومجرد بيان الاختلاف في رتبة موضوعهما لا يكون علاجا لعدم إمكان تخصيص الحكم الواقعي في صورة الجهل به ، بأن لا يكون له إطلاق بالإضافة إلى صورة الجهل به ثبوتا.

وذكر العراقي قدس‌سره في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري بما حاصله عدم

٦٧

.................................................................................................

______________________________________________________

الإطلاق في الإرادة التي يكشف عنها خطاب التكليف ليمتنع في مرتبة الجهل بالخطاب أو الجهل بانطباقه على الواقعة جعل الحكم الطريقي الظاهري ، وأوضح ذلك بالقوانين المجعولة في حق الرعايا في الحكومات ، فإنها تجعل ولكن يتأخر زمان إجرائها العملي ، فإنّه ربما تكون المصلحة مؤدية إلى جعل القانون بنحو الكلية على موضوع مع عدم قيام المصلحة في إجرائه ولو لعدم استعداد الرعية لامتثال هذا القانون ، وترى أنّ القانون مع عدم جعله في مقام الإجراء باق على كليّته مع عدم المصلحة في إجرائه ، وفي مثل ذلك لا يكون المراد من القانون المجعول إلّا مجرد إنشائه على طبق المصلحة الموجودة والقائمة بموضوعه مع خلوّه عن الإرادة الفعلية ولو للتسهيل على الرعية ، وإلّا لم يمكن تفكيك القوة الإجرائية عن قوة جعل القانون على موضوعه في ظرف وجود موضوعه ، فالأحكام الواقعية مع الظاهرية المجعولة عند الجهل بها من هذا القبيل ، وتوهم رجوع شرائط الإجراء إلى شرائط موضوع القانون غلط فاحش ؛ لأنّ من شرائط سهولة الامتثال علمهم ومثل هذا الشرط من لوازم موافقة القانون لا من مصحّحات نفسه.

ولا يخفى ما فيه ، من أن ما يذكر شرطا لإجراء القانون يرجع إلى قيود الموضوع بنحو القضية الحقيقية التي هي مفاد القانون ، ولكن هذا بالإضافة إلى القيود التي يمكن لحاظها وأخذها في مقام الجعل في ناحية الموضوع كما في شرط العلم بالقانون المجعول ، فإنّه لا يمكن أخذه في ناحية الموضوع له لكون الإطلاق بالإضافة إليه ذاتي لا محالة ، ويمكن دخالته في الغرض من التكليف المجعول على ما تقدم بخلاف قيد زمان الإجراء فإنّ أخذه في الموضوع للقانون الكلي أمر ممكن ، وما عند العقلاء من تأخير زمان الإجراء مرجعه إلى جعل الحكم بنحو الواجب

٦٨

وذلك لا يكاد يجدي ، فإن الظاهري وإن لم يكن في تمام مراتب الواقعي ، إلّا أنه يكون في مرتبته أيضا.

وعلى تقدير المنافاة لزم اجتماع المتنافيين في هذه المرتبة ، فتأمل فيما ذكرنا من التحقيق في التوفيق ، فإنه دقيق وبالتأمل حقيق.

ثالثها : إنّ الأصل فيما لا يعلم اعتباره بالخصوص شرعا ولا يحرز التعبد به واقعا عدم حجيته جزما [١] بمعنى عدم ترتب الآثار المرغوبة من الحجة عليه قطعا.

فإنها لا تكاد تترتب إلّا على ما اتصف بالحجية فعلا ، ولا يكاد يكون الاتصاف بها ، إلّا إذا أحرز التعبد به وجعله طريقا متبعا ، ضرورة أنه بدونه لا يصح المؤاخذة على مخالفة التكليف بمجرد إصابته ، ولا يكون عذرا لدى مخالفته مع عدمها ، ولا يكون مخالفته تجريا ، ولا يكون موافقته بما هي موافقة انقيادا ، وإن

______________________________________________________

المشروط من الأول أو نسخ إطلاقه وتقييد موضوعه بعد جعله.

[١] قد ذكر قدس‌سره أنّ الأصل عند الشك في اعتبار أمارة شرعا هو عدم ترتب شيء من آثار الحجة عليها فلا يكون التكليف الواقعي منجزا بوجودها ، ولا يكون المكلف معذورا في مخالفة التكليف الواقعي بالعمل بها بمعنى أنّ المنجزية والمعذرية تترتب على أمارة قد أحرزت إنشاء الاعتبار لها.

وبتعبير آخر إذا اعتبر الشارع أمارة تكون متّصفة بالحجية الإنشائية وإذا وصل ذلك الاعتبار إلى المكلّف تكون متّصفة بالحجية الفعلية ، وعلى ذلك فمع الشك وعدم إحراز اعتبارها لا يترتب عليها شيء من التنجيز والتعذير ، وهذا معنى أنّ الشك في حجية أمارة أي الشك في إنشائها لها مساوق للجزم بعدمها أي بعدم الحجية الفعلية ، فقد ظهر أنّ المراد بالأصل في المقام حكم العقل حيث إنّه الحاكم في استحقاق العقاب والمثوبة لا الأصل العملي من الاصول المعروفة.

٦٩

كانت بما هي محتملة لموافقة الواقع كذلك إذا وقعت برجاء إصابته ، فمع الشك في التعبد به يقطع بعدم حجيته وعدم ترتيب شيء من الآثار عليه ، للقطع بانتفاء الموضوع معه ، ولعمري هذا واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان أو إقامة برهان.

وأما صحة الالتزام بما أدّى إليه من الأحكام وصحة نسبته إليه تعالى فليسا من آثارها [١].

______________________________________________________

الأصل عند الشك في اعتبار الأمارة

[١] هذا تعرض لما ذكر الشيخ قدس‌سره في تقرير الأصل في المقام حيث ذكر قدس‌سره أنّ التعبد بأمارة لم يحرز اعتبارها بالالتزام بمؤدّاها ، ونسبة مؤدّاها إلى الله سبحانه تشريع محرّم وافتراء عليه تعالى ، وهذا غير جائز بالأدلة الأربعة ، فمن الكتاب قوله سبحانه (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ)(١) بناء على أنّ الافتراء يعم ما لا يعلم أنّه من الله أن ينسب إليه ولو لم يكن عاما بأن كان مختصا بما علم عدم كونه من الله فيعم حكمه لما لا يعلم أيضا ، حيث ذكر سبحانه الافتراء في مقابل إذنه لهم إلى آخر ما ذكره ، وناقش الماتن قدس‌سره في التقرير المزبور بأنّ صحة الالتزام بمؤدّى الأمارة وجواز نسبته إلى الله سبحانه ليستا أثرين لاعتبار الأمارة ليكون انتفاؤهما عند الشك في الاعتبار مثمرا في نفي الحجية ، فإنّ النسبة بينهما وبين منجزية الأمارة ومعذريتها العموم من الوجه ، فربما تكون الأمارة حجة مع انتفائهما كما في الظن حال الانسداد على الحكومة ولو فرض عدم حرمة الالتزام بمؤدّى أمارة وعدم حرمة نسبة مؤدّاها إلى الله سبحانه لا يترتب عليها المنجّزية والمعذّرية كما لو قيل فرضا بجواز التشريع وعدم حرمته.

__________________

(١) سورة يونس : الآية ٥٩.

٧٠

.................................................................................................

______________________________________________________

وذكر المحقق النائيني قدس‌سره على المناقشة بأنّ جواز الالتزام بمؤدى الأمارة ونسبة ذلك إلى الله سبحانه لا ينفك عن اعتبارها أصلا ، والنقض باعتبار الظن النوعي حال الانسداد على الحكومة غير صحيح ، فإنّ الظن على ذلك المسلك لا يعتبر من ناحية العقل ، فإنّ شأن العقل الإدراك لا جعل الحكم التكليفي والوضعي ، بل يكون لزوم رعاية الظن على ذلك المسلك من جهة التبعيض في الاحتياط حيث لا يصح لله سبحانه في حكمته أن يطالب العباد بالموافقة القطعية العملية في الوقائع المبتلى بها ، ولا يجوز للعباد أن يقتصروا في تلك الوقائع بأقل من الموافقة الظنية للتكاليف وجواز الالتزام بمؤدى الأمارة وجواز نسبته إلى الله سبحانه مع فرض عدم اعتبارها مجرد فرض ، وقد أضاف إلى الإيراد المزبور بعض الفحول قدس‌سره بأنّ تنجيز التكليف الواقعي لا يكون متوقفا على اعتبار الأمارة أصلا بل التكاليف الواقعية منجزة بالعلم بها إجمالا في الوقائع المسمى بالعلم الإجمالي الكبير أو بالعلم الإجمالي الصغير كما في دوران الأمر بين وجوب الظهر أو الجمعة ، بل قد يكون التنجيز بمجرد الاحتمال كما في احتمال التكليف قبل الفحص ، فإنّ في هذه الموارد يكون التكليف الواقعي منجّزا مع قطع النظر عن الأمارة.

نعم الأمارة المعتبرة على أحد طرفي العلم الإجمالي يكون مسقطا بوجوب الاحتياط ومعذّرا عن الواقع على تقدير مخالفتها التكليف الواقعي.

أقول : الاستدلال على عدم اعتبار الأمارة عند الشك في اعتبارها بما ذكر الشيخ قدس‌سره لا يثبت عدم الاعتبار على مسلك الماتن قدس‌سره فإنّ المجعول على مسلكه في معنى اعتبار الأمارة جعل المنجزية والمعذرية لها من غير أن تعتبر الأمارة علما بالواقع ومن غير أن يجعل مؤدّاها حكما شرعيا للمكلف في الواقعة ، فإنّه على ذلك

٧١

.................................................................................................

______________________________________________________

لا يجوز للمكلف أن يلتزم بأنّ مؤداها حكم شرعي للواقعة من الشارع ومجعول من قبله ولو فرض اعتبارها.

نعم على مسلك الشيخ قدس‌سره في اعتبار الأمارة يكون اعتبارها ملازما لصحة نسبة مؤداها إلى الشارع والالتزام بأنّه حكم شرعي للمكلّف. وعلى الجملة اعتبار أمارة على مسلك الماتن لا يوجب خروج نسبة مؤدّاها إلى الشارع مطلقا عن التشريع ، نعم لا بأس بنسبته إليه سبحانه احتمالا كما هو الحال في موارد الأمارة الغير المعتبرة أيضا ، ثم إنّ ما ذكر من استناد التنجيز إلى العلم الإجمالي الكبير أو إلى العلم الإجمالي الصغير لا يمكن المساعدة عليه ، فإنّه إذا انحلّ العلم الإجمالي الكبير بالظفر إلى التكاليف التي يحتمل انحصار التكاليف في الوقائع على ذلك المقدار ، ولم يكن في المسألة علم إجمالي صغير يكون تنجيز التكليف فيه على تقديره مستندا إلى الأمارة المعتبرة القائمة به ولولاها لكان موردها من موارد قاعدة «قبح العقاب بلا بيان» أو «رفع عن امتي ما لا يعلمون» لتبدل احتمال التكليف فيه قبل الفحص إلى احتماله بعده كما لا يخفى ، بل قبل الانحلال أيضا ، يثبت التنجيز للأمارة إذ قبل اعتبار تلك الأمارة ووصولها كان تنجيز التكليف في الواقعة مستندا إلى احتماله وكونه من أطراف العلم الإجمالي وبعد الظفر بتلك الأمارة يكون تنجيزه مستندا إلى تلك الأمارة لا احتمال الضرر.

ولا يخفى أنّه لا ينبغي التأمل في أن التشريع يكون بالبناء قلبا على حكم أنّه من الشارع مع العلم بعدم كونه منه ، أو مع الجهل بكونه منه والعمل خارجا مبنيا على هذا البناء يدخل في عنوان الافتراء على الله سبحانه موضوعا أو حكما في مقابل الافتراء عليه قولا ، وكما أنّ مجرد البناء على الحكاية بخلاف الواقع لا يدخل في عنوان الكذب

٧٢

ضرورة أن حجية الظن عقلا ـ على تقرير الحكومة في حال الانسداد ـ لا توجب صحتهما ، فلو فرض صحتهما شرعا مع الشك في التعبد به لما كان يجدي في الحجية شيئا ما لم يترتب عليه ما ذكر من آثارها ، ومعه لما كان يضر عدم صحتهما أصلا ، كما أشرنا إليه آنفا.

______________________________________________________

والافتراء ما لم يكن مظهرا للبناء والتزامه قولا ، ويتحقق بعد إظهاره بالقول كذلك ما لم يكن في الخارج فعل خارجي مظهر لبنائه لا يعدّ تشريعا وافتراء عملا نظير الإخبار عن الشيء بالفعل ، فالفعل المأتي به بالبناء والقصد المزبور يكون من الافتراء والكذب على الله قولا ، وعنوان الافتراء عليه محكوم بالحرمة بالكتاب المجيد والروايات ، والمناقشة في الاستدلال على حرمته بقوله سبحانه (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ)(١) وبما ورد من الروايات الدالّة على حرمة الافتراء ضعيفة ، ولا يخفى أنّ من الثمرة المترتبة على القول بأنّ المجعول في باب اعتبار الأمارة اعتبارها علما ، وبين القول بأنّ المجعول لها الحجية انحصار اعتبارها على موارد التكاليف والأحكام الشرعية على الثاني فإنّه لا يعقل جعل التنجيز والتقدير لها إلّا في تلك الموارد ، وأما الأمارة القائمة بعوالم القبر والآخرة وغيرها من الامور الراجعة إلى العقائد ونحوها فلا يعقل فيها التنجيز والتعذير ، وكذا الحال بناء على أنّ معنى اعتبارها جعل مؤدّاها حكما شرعيا طريقيا ، وأما بناء على اعتبارها علما فلا ينحصر اعتبارها على موارد الأحكام وموضوعاتها ، بل يعمّ غيرها فتكون نتيجة الاعتبار في الموارد المشار اليها جواز الإخبار بها حيث بقيام خبر الثقة بذلك الأمر يثبت العلم به ويترتب على العلم به جواز الإخبار به للغير.

__________________

(١) سورة يونس : الآية ٥٩.

٧٣

فبيان عدم صحة الالتزام مع الشك في التعبد ، وعدم جواز إسناده إليه تعالى غير مرتبط بالمقام ، فلا يكون الاستدلال عليه بمهم ، كما أتعب به شيخنا العلامة ـ أعلى الله مقامه نفسه الزكية ، بما أطنب من النقض والإبرام ، فراجعه بما علقناه عليه ، وتأمل.

______________________________________________________

بقي في المقام أمران :

أحدهما : أنّه ربما يتمسك عند الشك في اعتبار أمارة بالاستصحاب في عدم اعتبارها ، ويناقش فيه أنّ الاستصحاب إنّما يجري في ناحية عدم الشيء إذا كان عدمه موضوعا لحكم شرعي ، وأما إذا كان الموضوع للحكم الشرعي أو الأثر العقلي مجرد عدم العلم به ففي مثل ذلك لا مورد للاستصحاب في ناحية عدمه ، وقد تقدم أنّ مع عدم إحراز اعتبار الأمارة يترتب عليها حرمة التعبد وإسناد مدلولها إلى الشارع ، ولا تكون منجزة للتكليف فيما إذا أصابت ولا معذرة فيما أخطات.

واورد على ذلك بأنّ المستصحب إذا كان حكما شرعيا تكليفيا أو وضعيا يجري الاستصحاب في ناحية عدمه.

وبتعبير آخر إذا كان الشك في وجوب فعل كافيا في جريان أصالة البراءة بعد الفحص في وجوبه فلا يمنع ذلك عن جريان الاستصحاب في ناحية عدم جعله ، كما أنّ جريان أصالة الطهارة في شيء إذا شك في جعل النجاسة له لا يمنع عن الاستصحاب في ناحية عدم جعل النجاسة له.

وفيه أنّ مفاد الأصلين في مثل هذه الموارد مختلف ؛ ولذا يكون مع جريان الاستصحاب في ناحية عدم جعل الوجوب أو النجاسة حاكما على أصالة البراءة أو قاعدة الطهارة ، وهذا بخلاف حرمة التشريع والتعبد بمدلول أمارة لم يعلم اعتبارها ، فإنّ الموضوع للحرمة شيء واحد وخصوصية العلم بعدم اعتبارها أو عدم العلم

٧٤

وقد انقدح ـ بما ذكرنا ـ أن الصواب فيما هو المهم في الباب ما ذكرنا في تقرير الأصل ، فتدبر جيدا.

إذا عرفت ذلك ، فما خرج موضوعا عن تحت هذا الأصل أو قيل بخروجه يذكر في ذيل فصول.

______________________________________________________

بعدم الاعتبار غير دخيل في موضوع تلك الحرمة وتحقق التشريع.

وعلى الجملة : المهم في المقام وهو عدم جواز نسبة المؤدى إلى الشارع ، وعدم كون الأمارة منجزة أو معذرة لا يحتاج إلى الأصل لثبوت الموضوع لهما وجدانا وجواز الإخبار بعدم إنشاء الاعتبار غير مهم في المقام ، وأن يكون إحراز الموضوع له بالاستصحاب.

والآخر : قد ذكر الشيخ قدس‌سره في ذيل البحث في الأصل عند الشك في اعتبار أمارة أنّه مع عدم الظفر بالدليل على اعتبارها يكون الالتزام بمؤدّاها محرما على ما تقدم من غير فرق بين كون العمل بها ملازما لطرح الأصل المعتبر أم لا ، وإذا عمل بها من غير التزام بكون مدلولها حكمه الشرعي يكون العمل بها محرّما فيما كان موجبا لطرح الأصل المعتبر ولذا قد يجتمع في العمل بأمارة غير معتبرة أو غير محرزة الاعتبار جهتان من الحرمة ، واستدل للحرمة من الجهة الثانية بقوله سبحانه (لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(١) و (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)(٢).

وأورد المحقق النائيني قدس‌سره على ذلك بأنّه عند الشك في اعتبار أمارة لا يكون التمسك بالعموم المزبور صحيحا ؛ لأنّ رفع اليد عنه مع اعتبار الأمارة ليس من جهة

__________________

(١) سورة الإسراء : الآية ٣٦.

(٢) سورة النجم : الآية ٢٨.

٧٥

.................................................................................................

______________________________________________________

تخصيصه ، بل لحكومة دليل الاعتبار للأمارة ، فمع الشك في اعتبارها واحتمال كونها علما في اعتبار الشارع يكون التمسك بالعموم المزبور من قبيل التمسك بالعام في شبهته المصداقية ولكن لا يخفى ما فيه ، فأما أولا : فإنّ مجرد إنشاء الاعتبار لأمارة واقعا مع عدم وصول ذلك الاعتبار إلى المكلّف لا يكون العمل بها سكونا بالعلم ، بل كونه عملا بالعلم يتوقف على وصول ذلك الاعتبار على ما تقدم ، ومقتضاه أنّ الأمارة ما لم يحرز اعتبارها تكون داخلة في العموم المزبور وجدانا ، وثانيا : أنّ النهي عن الاقتفاء بغير علم والنهي عن اتباع الظن وإرشاد إلى حكم العقل بلزوم تحصيل المؤمّن ، وعدم كون غير العلم مؤمنا والتمسك بالعام المزبور عند الشك في اعتبار أمارة من قبيل التمسك بقوله سبحانه : (أَطِيعُوا اللهَ)(١) لإثبات وجوب متابعة القطع بالتكليف وكون موافقته مؤمنا.

والأولى للشيخ قدس‌سره أن يقول : إنّ العمل بأمارة مع الشك في اعتبارها غير جائز إذا لزم منه طرح الأصل المعتبر المثبت للتكليف ؛ لأنّ العمل بها مع عدم إحراز اعتبارها وترك العمل بذلك الأصل معصية ، كما إذا صادف الأصل التكليف الواقعي وأنّه يحسب تجريا كما إذا لم يصادفه.

__________________

(١) سورة آل عمران : الآية ٣٢ و ١٣٢ و ...

٧٦

فصل

لا شبهة في لزوم اتباع ظاهر كلام الشارع [١]. في تعيين مراده في الجملة ، لاستقرار طريقة العقلاء على اتباع الظهورات في تعيين المرادات ، مع القطع

______________________________________________________

في حجيّة الظهورات

[١] الكلام الصادر عن المتكلّم له مدلولان :

الأول : ما يعبّر عنه المدلول الاستعمالي وهو ما يريد المتكلم إحضار المعنى المستفاد من الألفاظ الواردة في كلامه بحسب وضع مؤدّاها وهيئاتها ووضع الهيئة التركيبية فيه في أذهان السامعين ، وكذا ما كان المعنى المستفاد بقرائن الاستعمال أو المقام.

والثاني : تعيين أنّ ما هو ظاهر كلامه مطابق لمراده الجدّي المعبّر عنه بالمدلول التصديقي ومقام الثبوت والواقع ، وهذا يكون بعد إحراز المتكلّم في مقام تفهيم مراده الجدّي ، كما هو الأصل في كلام كل متكلّم عاقل ، والتطابق المشار إليه والبناء عليه مما جرت عليه سيرة العقلاء في الكلام الصادر عنه ما لم يحرز الخلاف ، ويلزم اتباعه بالإضافة إلى خطابات الشارع فإنّه لم يخترع لتفهيم مراداته الواقعية طريقا آخر ، ويتعين الأخذ بأصالة التطابق مع عدم إحراز الخلاف ، بلا فرق بين كون التطابق مظنونا أو ظن بالخلاف وكون الواصل إليه الخطاب ممن قصد المتكلّم إفهامه أو قصد عدم إفهامه أم لا ، ويشهد لذلك كله ما ذكرنا من سيرة العقلاء فإنّهم يعتمدون على أصالة التطابق في مقام الشهادة بالإقرار وإن لم يكن المقر بصدد إفهام الشاهد أو كان بصدد عدم إفهامه ، ولا يعذّرون من خالف ظاهر كلام المولى فيما إذا تضمّن

٧٧

بعدم الردع عنها ، لوضوح عدم اختراع طريقة أخرى في مقام الإفادة لمرامه من كلامه ، كما هو واضح. والظاهر أن سيرتهم على اتباعها ، من غير تقييد بإفادتها للظن فعلا ، ولا بعدم الظن كذلك على خلافها قطعا ، ضرورة أنه لا مجال عندهم للاعتذار عن مخالفتها ، بعدم إفادتها للظن بالوفاق ، ولا بوجود الظن بالخلاف.

______________________________________________________

تكليفا يخصّه أو يعمّه بمجرد دعواه أنّه لم يظنّ بمراده الواقعي أو ظنّ بخلافه.

والحاصل أنّ الاصول الجارية في الخطابات مختلفة ، فإنّ مقتضى بعضها تعيين المراد الاستعمالي كأصالة الحقيقة وعدم الإضمار ونحو ذلك ، وبعضها لتعيين المراد الجدّي كأصالة العموم والإطلاق ونحوهما ، وهذه الاصول مما جرت عليه سيرة العقلاء في محاوراتهم ولا مجال للتشكيك في اعتبارها في الجملة ، وإنّما وقع الكلام في اعتبار الظهورات في مقامات ثلاثة :

الأول : ما يتوهم من أنّ اعتبار الظهور فيما إذا لم يكن ظن بالخلاف وأشرنا إلى أنّ ذلك غير صحيح لا مجال له ، والشاهد لذلك عدم صحة الاعتذار عن مخالفته بدعوى أنّه لم يحصل له الظن بالمراد الواقعي ، أو ظنّ بخلافه فضلا عن دعوى عدم حصول الاطمينان بالمراد الجدّي ، نعم إذا كان الظنّ بالخلاف من طريق معتبر بحيث يعدّ قرينة عرفية على خلاف الظهور يتعيّن الأخذ بمقتضاها ، ولعلّ منشأ الوهم ما يلاحظ من العقلاء من عدم اعتمادهم على ظاهر كلام مثل الطبيب فيما إذا خطر ببالهم لعلّ مراده الجدّي من كلامه غير ظاهره ، ويسألون عن مراده الجدّي بإعادة الكلام عليه ولكن لا يخفى أنّ هذا من الاحتياط فيما إذا كان الغرض الوصول إلى الواقع فقط لا الاحتجاج والاعتذار كما هو المفروض في المقام. الثاني : ما عن المحقق القمي قدس‌سره من أنّه لا اعتبار للظهور بالإضافة إلى غير المقصود بالإفهام إذا كان

٧٨

كما أن الظاهر عدم اختصاص ذلك بمن قصد إفهامه ، ولذا لا يسمع اعتذار من لا يقصد إفهامه إذا خالف ما تضمنه ظاهر كلام المولى ، من تكليف يعمه أو يخصه ، ويصح به الاحتجاج لدى المخاصمة واللجاج ، كما تشهد به صحة الشهادة بالإقرار من كل من سمعه ولو قصد عدم إفهامه ، فضلا عما إذا لم يكن بصدد إفهامه ،

______________________________________________________

المتكلّم ممن يعتمد على القرائن المنفصلة والحاليّة التي تكون عند المخاطب ، وعلى ذلك بنى عدم اعتبار ظهورات الأخبار التي وصلت إلينا عن الائمة عليهم‌السلام بنقل الرّواة فإنّه لم يقصد بها تفهيم عامة الناس بل تفهيم السائلين ومن القي إليه خطاباتهم فقط ، وكذا ظهورات الكتاب المجيد بناء على اختصاص خطاباته بالمشافهين وعدم صحة مخاطبة الغائبين عن مجلس التخاطب فضلا عن المعدومين في ذلك الزمان ويذكر لهذا التفصيل وجها ، وهو أنّه إذا لم يكن من عادة المتكلّم الاعتماد على القرائن المنفصلة والحالية يكون منشأ الخطأ إما غفلة المتكلّم عن ذكر القرينة على المراد الاستعمالي أو المراد الجدّي أو غفلة السامع عن القرينة باستماعها ، وكلا الأمرين يدفع بأصالة عدم الغفلة الجارية في حق المتكلّم والمخاطب بخلاف ما كان من عادته الاعتماد على القرائن المنفصلة والحالية ، فإنّ أصالة عدم الغفلة الجارية في حقهما لا تفيد في إثبات كون ظاهر الكلام هو مراده حيث من المحتمل وجود قرينة بين المتكلّم والسامع ولم نطّلع على تلك القرينة ، وأوجب ذلك خطأنا في إصابة المراد ، أو لم تصل القرينة المنفصلة إلينا.

وعلى الجملة المنشأ لهذا التفصيل إرجاع الاصول الجارية في الخطابات إلى أصالة عدم الغفلة ، ولكن لا يمكن المساعدة عليه ؛ لأنّ أصالة الظهور أصل مستقل وكذا سائر الاصول اللفظية ، كما يشهد بذلك سماع الشهادة على الإقرار وغير ذلك مما أشرنا إليه فإنّه دليل قطعي على عدم انحصار اعتبار الظهورات بالمقصودين

٧٩

ولا فرق في ذلك بين الكتاب المبين [١] وأحاديث سيد المرسلين والأئمة الطاهرين عليهم‌السلام.

وإن ذهب بعض الأصحاب إلى عدم حجية ظاهر الكتاب ، إما بدعوى اختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله ومن خوطب به ، كما يشهد به ما ورد في ردع

______________________________________________________

بالإفهام ، وأنّه لا يعتنى باحتمال قرينة حالية بين المتكلّم والسائل أو المخاطب ما لم يحرز ، وجريان عادة المتكلّم على الاتكال بالقرائن المنفصلة لا يقتضي سقوط ظهور الخطاب عن الاعتبار مطلقا ، بل مقتضاه الفحص عن القرينة في موارد احتمالها والاعتماد على أصالة الظهور بعده ، هذا أولا.

وثانيا : لم يثبت انحصار قصد التفهيم في الأخبار المأثورة عن النبي والأئمة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين على السائلين والمخاطبين فقط ، بل الثابت من ترغيب الأئمة عليهم‌السلام إلى نشر الأخبار وكتابتها وحفظ الحديث إلى سائر الناس ، وعموم القصد كما هو الحال في خطابات الكتاب المجيد أيضا ، فإنّ خطاباته ذكر للعالمين كما تقدم بيان ذلك في بحث الخطابات المشافهية ، وأما دعوى عدم جواز الاعتماد على ظواهر الأخبار المروية عنهم عليهم‌السلام لحصول التقطيع في الأخبار عند تبويبها ، ولعلّ الصدر في بعضها كانت قرينة على ما في ذيلها وبالعكس فلا يمكن المساعدة عليها ، فإنّ غاية ذلك اعتبار الفحص عن القرينة على الخلاف لا الطرح بالمرة خصوصا فيما كان التقطيع من الثقات العارفين باسلوب الكلام والمأمونين بملاحظة الخصوصيات كأرباب الجوامع.

في حجية ظواهر الكتاب المجيد

[١] المقام الثالث : ما ذهب إليه الأخباريون من أصحابنا من عدم جواز الاعتماد على ظواهر الكتاب المجيد لعدم علمنا بالقرائن الاستعمالية والمدلولات التصديقية

٨٠