دروس في مسائل علم الأصول - ج ٤

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-94850-6-5
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٤٣

العملية؟ المطلوب فيها أولا العمل بالجوارح ، يتبع في الأصول الاعتقادية المطلوب فيها عمل الجوانح من الاعتقاد به وعقد القلب عليه وتحمله والانقياد له ، أو لا؟.

الظاهر لا ، فإن الأمر الاعتقادي وإن انسد باب القطع به ، إلّا أن باب الاعتقاد إجمالا ـ بما هو واقعة والانقياد له وتحمله ـ غير منسد ، بخلاف العمل بالجوارح ، فإنه لا يكاد يعلم مطابقته مع ما هو واقعه إلّا بالاحتياط ، والمفروض عدم وجوبه شرعا ، أو عدم جوازه عقلا ، ولا أقرب من العمل على وفق الظن.

______________________________________________________

اخبارهما به وجدانا ، وهذا بناء على كون اعتبار الطريق علما فظاهر ، وأما بناء على كون الاعتبار بمعنى جعل المنجزية والمعذرية له فإن الشارع جعل للخبر القائم به المنجزية والمعذرية بالإضافة إلى المخبر به المفروض كونه أمرا اعتقاديا ، وإنما يفترق القول باعتبار العلم عن القول بجعل المنجزية والمعذرية فيما إذا كان المخبر به من الامور التكوينية والتاريخية وأحوال القرون الماضية ، فإنه لو اعتبر الظن وقلنا بأن اعتباره بمعنى عدّه علما جاز الإخبار بوقوعها على طبق الخبر لأنّ جواز الإخبار بالشيء منوط بالعلم به ، والمفروض أن الشارع اعتبر الظنّ القائم علما به بخلاف ما إذا قيل بأن اعتباره بمعنى جعل المنجزية والمعذرية ، فإنه لا بد من أن يكون المؤدّى الحكم الشرعيّ أو الموضوع له.

أقول : العمدة في اعتبار الخبر السيرة العقلائية الجارية من المتشرعة أيضا في الامور الدينية ولم يحرز سيرتهم على الاعتقاد بمؤدّى الظن ولو كان ذلك الظن القائم معتبرا بالإضافة إلى الأحكام الفرعية ، وعليه فالاعتقاد التفصيلي بما قام به الظن الخاص جوازه فضلا عن وجوبه محل تأمل بل وجواز الإخبار به كجواز الإخبار بالتكوينيات والقرون أو الامم الماضية ما لم يحصل الاطمينان بذلك أيضا محل تأمل ، لما ذكرنا من ان دليل اعتبار الظن الخاص هي السيرة العقلائية ولم يثبت عمومها بالإضافة إلى الامور

٢٢١

وبالجملة : لا موجب مع انسداد باب العلم في الاعتقاديات لترتيب الأعمال الجوانحية على الظن فيها ، مع إمكان ترتيبها على ما هو الواقع فيها ، فلا يتحمل إلّا لما هو الواقع ، ولا ينقاد إلّا له ، لا لما هو مظنونه ، وهذا بخلاف العمليات ، فإنه لا محيص عن العمل بالظن فيها مع مقدمات الانسداد.

نعم ، يجب تحصيل العلم في بعض الاعتقادات لو أمكن من باب وجوب المعرفة لنفسها [١].

______________________________________________________

الاعتقادية ونحوها ما لم يكن في البين اطمينان ولو بكثرة الأخبار وتعددها.

[١] هذا هو القسم الثاني من الاعتقاديات الواجب على كل مكلف تحصيل العلم بها ، وهذا الوجوب نفسي وليس كوجوب تحصيل العلم بالأحكام الشرعية والعبادات والمعاملات من كون العلم فيها طريقا إلى إحراز التكاليف وامتثالها والإتيان بالمعاملة الصحيحة ليرتب عليها آثارها.

وبتعبير آخر معرفة هذه الامور من الاعتقاديات دخيل في كون الشخص مسلما كمعرفة الله سبحانه وتوحيده والنبوة الخاصة والمعاد الجسماني أو في كونه مؤمنا كالعلم بعدله سبحانه والإمامة ، ويقع الكلام في هذا القسم في جهات.

الاولى : هل يمكن فيه للجاهل القاصر بأن لا يتمكن من معرفة هذه الامور أو بعضها بعد الفراغ من عدم قيام الظن مقام العلم بمعنى أن الظن بهذه الامور لا يقوم مقام العلم ؛ لما تقدم من أنّ الظن ولو كان من الظنون الخاصة لا يقوم مقام العلم المأخوذ على نحو الوصفية ، والمفروض أن الواجب على المكلف تحصيل العلم والمعرفة واليقين بهذه الامور ، والظن باعتباره علم في جهة الطريقية لا في الموضوعية.

الثانية : أن الجاهل القاصر على تقدير إمكان تحققه محكوم بالكفر وعدم الإيمان أم لا حتى مع الظن بها.

٢٢٢

.................................................................................................

______________________________________________________

والثالثة : هل يعاقب الجاهل القاصر كالمقصر أو أن عقابه على ما لا يقدر على تحصيل العلم به خلاف العدل.

أما الجهة الاولى : فلا يبعد دعوى أن الجاهل القاصر بالاضافة إلى العلم بوجود الصانع وتوحيده لا يوجد إلّا نادرا ، فإن التأمل في تحقق الشيء فضلا عن الموجودات الأرضية والسماوية والتأمل في النظام الموجود فيها يوصل الإنسان إلى اليقين بأن هذه الموجودات والنظام الموجود فيها لا بد من أن ينتهي إلى الواجب بالذات الذي هو في ذاته قادر وعالم ، والآيات من الكتاب المجيد المرشدة للإنسان إلى النظر والتأمل في خلق السماوات والارض هداية له في هذه الجهة ، وأما الجهل قصورا بالإضافة إلى النبوة الخاصة والمعاد الجسماني والإمامة فلا ينبغي التأمل في تحققه كما هو الحال في أكثر من عاش في بلاد الكفر وبلغ حدا فقد قوته وضعفت إدراكاته ولم يكن ملتفتا وسامعا إلى من يخبر بالإسلام ومعتقداته.

أما الجهة الثانية : فلا ينبغي التأمل أيضا في أنه يترتب على القاصر جميع الأحكام المترتبة على الكفر وينتفي عنه جميع ما يترتب على الإسلام والمسلم من الأحكام ؛ لأنّ القصور والاستضعاف لا يمنع عن انطباق عنوان الكفر على القاصر ، ولا يوجب انطباق المسلم عليه ، وإنما يفترق القصور عن التقصير بالإضافة إلى الجهة الثالثة ، فإن القاصر وإن لا ينال لما هو جزاء الإيمان والإطاعة من درجات النعيم والجنة إلّا أنه لا يستحق عقابا ما لم يتحقق في ذلك العالم ما يوجب استحقاقه العقاب ، فإن العقاب بلا بيان قبيح ينافي العدل إذا لم يكن معاندا للحق بل كان منقادا له على الإجمال ، وما في كلام الماتن قدس‌سره في بحث الطلب والإرادة من أن استحقاق العقاب من لوازم البعد المترتب على الكفر والعصيان الناشئين من خبث الباطن

٢٢٣

كمعرفة الواجب تعالى وصفاته أداء لشكر بعض نعمائه ، ومعرفة أنبيائه ، فإنهم وسائط نعمه وآلائه ، بل وكذا معرفة الإمام عليه‌السلام على وجه صحيح ، فالعقل يستقل بوجوب معرفة النبي ووصيه لذلك ، ولاحتمال الضرر في تركه ، ولا يجب عقلا معرفة غير ما ذكر ، إلّا ما وجب شرعا معرفته ، كمعرفة الإمام عليه‌السلام على وجه آخر غير صحيح ، أو أمر آخر مما دل الشرع على وجوب معرفته ، وما لا دلالة على وجوب معرفته بالخصوص لا من العقل ولا من النقل كان أصالة البراءة عن وجوب معرفته محكمة [١].

______________________________________________________

وسوء السريرة قد تقدم ما فيه فلا نعيد.

[١] ذكر قدس‌سره أن وجوب تحصيل العلم في بعض الاعتقاديات مع إمكانه عقلي بوجوب نفسي كمعرفة الله سبحانه وصفاته فإن وجوب معرفته سبحانه بصفاته من باب شكر المنعم ، وكذا معرفة أنبيائه فإنهم وسائط نعمه وآلائه وكذا معرفة الإمام عليه‌السلام فإن الإمام عليه‌السلام أيضا واسطة نعمه سبحانه فيجب معرفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام عليه‌السلام لذلك ، ولاحتمال الضرر في ترك تحصيل العلم والمعرفة ولا يجب معرفة غير ذلك عقلا بل وجوب تحصيل العلم به شرعي على تقدير قيام الدليل عليه كوجوب معرفة الإمام عليه‌السلام على الوجه الآخر غير الصحيح بناء على أن الدليل على وجوب مثل ما ورد : «من مات ولم يعرف امام زمانه مات ميتة الجاهلية» (١) وما ورد من بناء الإسلام على خمس التي خامسها وأعظمها الولاية (٢).

أقول : ويعدّ من القسم الثاني المعاد الجسماني حيث إن مقتضى الآيات وجوب الإيمان والتصديق به تفصيلا كما في سائر الاعتقاديات ، يكون الاعتقاد مع حصول

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٦ : ٢٤٦ ، الباب ٣٣ من أبواب الأمر والنهي ، الحديث ٢٣.

(٢) الكافي ٢ : ٢٢ ، باب دعائم الاسلام. دار التعارف.

٢٢٤

ولا دلالة لمثل قوله تعالى (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ) الآية ، ولا لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وما أعلم شيئا بعد المعرفة أفضل من هذه الصلوات الخمس) ولا لما دل على وجوب التفقه وطلب العلم من الآيات والروايات على وجوب معرفته بالعموم ، ضرورة أن المراد من (ليعبدون) هو خصوص عبادة الله ومعرفته ، والنبوي إنما هو بصدد بيان فضيلة الصلوات لا بيان حكم المعرفة ، فلا إطلاق فيه أصلا ، ومثل آية النفر ، إنما هو

______________________________________________________

العلم بها تفصيليا ، ولا يخفى أنّ شأن العقل هو الإدراك لا الإيجاب والبعث الاعتباري والوجوب حتى في معرفة الله ومعرفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام شرعي ، غاية الأمر إيصال هذا الوجوب الشرعي يكون بطريق العقل فقط ، كما في وجوب معرفة الله والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو بطريق شرعي أيضا كما في معرفة الإمام عليه‌السلام حيث إنّه مع احتمال العقل الضرر في ترك المعرفة إيصال للوجوب إلى العباد ودفع الضرر المحتمل كما ذكرنا أمر فطري كالضرر المقطوع ولا مجرى لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، حيث إنّ حكم العقل أي احتماله الضرر في الترك في نفسه بيان لذلك الوجوب ، ولا يقاس بما إذا احتمل وجوب فعل بعد الفحص وعدم الظفر بالبيان له بل يقاس المقام بما قبل الفحص بحيث يكون عالما بذلك الوجوب بعده كما لا يخفى ، وقد ذكرنا إمكان تحصيل العلم والمعرفة بوجوده سبحانه وتوحيده وقدرته وأنه عالم بالذات بالنظر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والتفكر في النظام الموجود في الكون على ما أشارت إليه الآيات ، ولحكم العقل القطعي بأن الشيء الحادث إذا وجد لا يمكن أن يوجد بلا سبب وفاعل ، ولذا يكون الجاهل بمعرفة الله سبحانه مقصرا لا قاصرا إلّا نادرا بخلاف النبوة الخاصة والإمامة والمعاد الجسماني ، بل العدل أيضا فإنه قد يوجد القاصر بالإضافة إليها على ما مرّ.

وعلى الجملة ما يجب المعرفة فيها واليقين بها لا يقوم الظن مقام العلم ، فإن

٢٢٥

بصدد بيان الطريق المتوسل به إلى التفقه الواجب ، لا بيان ما يجب فقهه ومعرفته ، كما لا يخفى ، وكذا ما دل على وجوب طلب العلم إنما هو بصدد الحث على طلبه ، لا بصدد بيان ما يجب العلم به.

ثم إنه لا يجوز الاكتفاء بالظن فيما يجب معرفته عقلا أو شرعا ، حيث إنه ليس بمعرفة قطعا ، فلا بد من تحصيل العلم لو أمكن ، ومع العجز عنه كان معذورا إن كان عن قصور لغفلة أو لغموضة المطلب مع قلّة الاستعداد ، كما هو المشاهد في كثير من النساء بل الرجال ، بخلاف ما إذا كان عن تقصير في الاجتهاد ، ولو لأجل حب طريقة الآباء والأجداد واتباع سيرة السلف ، فإنه كالجبلّي للخلف ، وقلما عنه

______________________________________________________

الظن لا يكون يقينا واعتقادا تفصيليا بالإضافة ، ولذا لا يجري في الاعتقاديات جواز التقليد ، نعم إذا كان أقوال أهل المعرفة والبصيرة في مثل هذه الامور موجبا ليقين العامّي بهذه الامور بحيث جزم أنهم لم يذكروها بمجرد حب طريقة الآباء والأجداد واتباع سيرة السلف والغرور بها يكون علمه ومعرفته بهذا النحو كافيا في المعرفة الواجبة ، ودعوى أنه لا يوجد في الاعتقاديات الواجبة معرفتها وتحصيل العلم واليقين بها قاصر ، بل غير الواصل إلى معرفتها مقصر لا محالة لقوله سبحانه : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا)(١) لا يمكن المساعدة عليه ، فإن القاصر من لا يجد وسائل المجاهدة ولو لضعف قوى إدراكه بعد غفلته عن مثل هذه الامور رأسا ، ثم إنه إذا أحرز في أمر اعتقادي أنه لا يكفي فيه مجرد الاعتقاد الإجمالي بل يجب تحصيل العلم واليقين به فهو ، وإلّا فمقتضى الأصل كالشك في وجوب سائر الامور عدم وجوب تحصيل العلم والمعرفة به ، وما عن الشيخ قدس‌سره من الحكم بوجوب تحصيل المعرفة به أخذا بالأمر بالتفقه في الدين المستفاد من آية النفر وإطلاق المعرفة في المروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وما أعلم شيئا بعد

__________________

(١) سورة العنكبوت : الآية ٦٩.

٢٢٦

تخلف.

والمراد من المجاهدة في قوله تعالى (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) هو المجاهدة مع النفس ، بتخليتها عن الرذائل وتحليتها بالفضائل ، وهي التي كانت أكبر من الجهاد ، لا النظر والاجتهاد ، وإلّا لادّى إلى الهداية ، مع أنه يؤدي إلى الجهالة والضلالة ، إلّا إذا كانت هناك منه ـ تعالى ـ عناية ، فإنه غالبا بصدد إثبات أن ما وجد آباءه عليه هو الحق ، لا بصدد الحق ، فيكون مقصرا مع اجتهاده ، ومؤاخذا إذا أخطأ على قطعه واعتقاده.

ثم لا استقلال للعقل بوجوب تحصيل الظن مع اليأس عن تحصيل العلم ، فيما يجب تحصيله عقلا لو أمكن ، لو لم نقل باستقلاله بعدم وجوبه ، بل بعدم جوازه ، لما أشرنا إليه من أن الأمور الاعتقادية مع عدم القطع بها أمكن الاعتقاد بما هو واقعها والانقياد لها ، فلا إلجاء فيها أصلا إلى التنزل إلى الظن فيما انسد فيه باب العلم ، بخلاف الفروع العملية ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

المعرفة أفضل من الصلوات الخمس (١) ، وما ورد في طلب العلم من الآيات والروايات وقوله سبحانه : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(٢) لا يمكن المساعدة عليه ، فإن آية النفر في بيان وجوب التفقه في الدين كفاية ، لا في بيان ما يجب على الناس عينا ، وآية السؤال ما دلّ على وجوب طلب العلم ، وعدم كون الجهل عذرا في ترك المعرفة الواجبة وسائر التكاليف الشرعية ، والمراد من (لِيَعْبُدُونِ) معرفة الله وعبادته والنبوي في مقام بيان فضيلة الصلوات لا في مقام بيان المعرفة الواجبة ، وما في كلام الماتن من أن آية النفر كأخبار وجوب طلب العلم في بيان طريقة التوسّل إلى التفقه

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٢٣٦.

(٢) سورة الذاريات : الآية ٥٦.

٢٢٧

وكذلك لا دلالة من النقل على وجوبه ، فيما يجب معرفته مع الإمكان شرعا ، بل الأدلة الدالة على النهي عن اتباع الظن ، دليل على عدم جوازه أيضا.

وقد انقدح من مطاوي ما ذكرنا ، أن القاصر يكون في الاعتقاديات للغفلة ، أو عدم الاستعداد للاجتهاد فيها ، لعدم وضوح الأمر فيها بمثابة لا يكون الجهل بها إلّا عن تقصير ، كما لا يخفى ، فيكون معذورا عقلا.

ولا يصغى إلى ما ربما قيل : بعدم وجود القاصر فيها ، لكنه إنما يكون معذورا غير معاقب على عدم معرفة الحق ، إذا لم يكن يعانده ، بل كان ينقاد له على إجماله لو احتمله.

______________________________________________________

الواجب لا في بيان ما يجب فقهه ومعرفته لا يمكن المساعدة عليه ، فإن آية النفر في بيان وجوب التفقه في الدين بنحو الواجب الكفائي ، والكلام في بيان ما يجب تحصيل العلم به عينا وأخبار وجوب الطلب ناظرة إلى عدم كون الجهل عذرا للمكلف في موارد التكاليف لا بيان موارد التكليف كما لا يخفى ، وقد ظهر مما ذكرنا أن الجاهل القاصر في الاعتقاديات يوجد ويكون معذورا غير معاقب ولكن عدم العقاب ما لم يكن معاندا ، بل كان له اعتقاد وتسليم قلبي على ما هو الحق وإلّا فيؤخذ بعناده مع جهله بالواقع ، وحقيقة الحال كما ظهر أنه إذا حصل ببيان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الإمام عليه‌السلام بواقع أمر يجب الاعتقاد التفصيلي به ، وإلّا يكون تكذيبا أو تشكيكا في نبوة النبي أو إمامة الإمام ووجوب الاعتقاد التفصيلي لا يكون في هذا القسم من الاصول الاعتقادية بحيث يجب تحصيل العلم والمعرفة به ، بل وجوب الاعتقاد كذلك متفرع على حصول العلم واليقين به من جهة بيان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الإمام عليه‌السلام فما يصنعه بعض من لا خبرة له من إدراج مثل هذه الامور في الاصول الاعتقادية التي لا يحكم على الجاهل بها بالإسلام أو أنه من أهل الإيمان ناشئ عن عدم التفرقة بين

٢٢٨

هذا بعض الكلام مما يناسب المقام ، وأما بيان حكم الجاهل من حيث الكفر والإسلام ، فهو مع عدم مناسبته خارج عن وضع الرسالة.

الثاني : الظن الذي لم يقم على حجيته دليل

هل يجبر به ضعف السند أو الدلالة بحيث صار حجة ما لولاه لما كان بحجة [١] أو يوهن به ما لولاه على خلافه لكان حجة ، أو يرجح به أحد المتعارضين بحيث لولاه على وفقه لما كان ترجيح لأحدهما أو كان للآخر منهما أم لا؟

ومجمل القول في ذلك : إن العبرة في حصول الجبران أو الرجحان بموافقته ، هو الدخول بذلك تحت دليل الحجية ، أو المرجحية الراجعة إلى دليل الحجية ، كما أن العبرة في الوهن إنما هو الخروج بالمخالفة عن تحت دليل الحجية ، فلا يبعد

______________________________________________________

الاصول الاعتقادية وما يكون التكذيب أو التشكيك فيه ملازما لتكذيب النبوة أو الإمامة أو التشكيك فيهما.

[١] الكلام في الأمر الثاني في جهتين.

الاولى : كون الظن الذي لم يتم على اعتباره دليل هل يجبر ضعف الرواية سندا بحيث تصير حجة بموافقة هذا الظن أو يجبر به ضعف دلالتها ، فقد تقدم الكلام في هذه الجهة في البحث في الشهرة الفتوائية وكذا في كونها على خلاف الرواية المعتبرة ، لو لا خلافها موهنة لها بحيث سقطت عن الاعتبار فراجع.

والجهة الثانية : هي أنّ الظن الذي لم يقم دليل على اعتباره في نفسه هل يكون مرجحا لأحد المتعارضين بحيث تكون موافقته موجبة لتعين حجيته وسقوط الآخر عن الاعتبار فيما كان الأصل لو لا موافقته سقوط كليهما عن الاعتبار بناء على ما هو الصحيح من كون السقوط هو الأصل في المتعارضين ، أو لعدم الترجيح لأحدهما أو لا يكون هذا الظن موجبا للترجيح في المتعارضين أصلا ، ولكن لا يخفى أن الترجيح

٢٢٩

جبر ضعف السند في الخبر بالظن بصدوره أو بصحة مضمونه ، ودخوله بذلك تحت ما دل على حجية ما يوثق به ، فراجع أدلة اعتبارها.

وعدم جبر ضعف الدلالة بالظن بالمراد لاختصاص دليل الحجية بحجية الظهور في تعيين المراد ، والظن من أمارة خارجية به لا يوجب ظهور اللفظ فيه كما هو ظاهر ، إلّا فيما أوجب القطع ولو إجمالا باحتفافه بما كان موجبا لظهوره فيه لو لا عروض انتفائه ، وعدم وهن السند بالظن بعدم صدوره ، وكذا عدم وهن دلالته مع ظهوره ، إلّا فيما كشف بنحو معتبر عن ثبوت خلل في سنده ، أو وجود قرينة مانعة عن انعقاد ظهوره فيما فيه ظاهر لو لا تلك القرينة ، لعدم اختصاص دليل اعتبار خبر الثقة ولا دليل اعتبار الظهور بما إذا لم يكن ظن بعدم صدوره ، أو ظن بعدم إرادة ظهوره.

وأما الترجيح بالظن ، فهو فرع دليل على الترجيح به ، بعد سقوط الأمارتين بالتعارض من البين ، وعدم حجية واحد منهما بخصوصه وعنوانه ، وإن بقي أحدهما بلا عنوان على حجيته ، ولم يقم دليل بالخصوص على الترجيح به.

وإن ادعى شيخنا العلامة ـ أعلى الله مقامه ـ استفادته من الاخبار الدالة على الترجيح بالمرجحات الخاصة ، على ما في تفصيله في التعادل والترجيح.

______________________________________________________

يجري في الخبرين المتعارضين فقط ، وكما أن اعتبار الظن يحتاج إلى الدليل عليه كذلك كونه مرجحا ، وقد ذكرنا في بحث تعارض الخبرين أن الترجيح في المتعارضين بالشهرة الروائية في أحدهما أو كون أحدهما موافقا للكتاب أو مخالفا للعامة ، وأما غير ذلك فلا دليل على الترجيح به ، ومقتضى الأصل في المتعارضين سقوطهما عن الاعتبار ، ثم إنه يظهر من الماتن أن الظن غير معتبر لعدم قيام الدليل على اعتباره يكون جابرا لضعف السند إذا كان مفيدا للظن بالصدور أو المضمون

٢٣٠

ومقدمات الانسداد في الأحكام إنما توجب حجية الظن بالحكم أو بالحجة ، لا الترجيح به ما لم يوجب ظن بأحدهما ، ومقدماته في خصوص الترجيح لو جرت إنما توجب حجية الظن في تعيين المرجح ، لا أنه مرجح إلّا إذا ظن أنه ـ أيضا ـ مرجح ، فتأمل جيدا ، هذا فيما لم يقم على المنع عن العمل به بخصوصه دليل.

وأما ما قام الدليل على المنع عنه كذلك كالقياس ، فلا يكاد يكون به جبر أو وهن أو ترجيح ، فيما لا يكون لغيره أيضا ، وكذا فيما يكون به أحدهما ، لوضوح أن الظن القياسي إذا كان على خلاف ما لولاه لكان حجة ـ بعد المنع عنه ـ لا يوجب خروجه عن تحت دليل حجيته ، وإذا كان على وفق ما لولاه لما كان حجة لا يوجب دخوله تحت دليل الحجية ، وهكذا لا يوجب ترجيح أحد المتعارضين ، وذلك لدلالة دليل المنع على إلغائه الشارع رأسا ، وعدم جواز استعماله في الشرعيات قطعا ، ودخله في واحد منها نحو استعمال له فيها ، كما لا يخفى ، فتأمل جيدا.

______________________________________________________

ولا يكون جابرا لضعف دلالته ، فإن موافقة الظن لا يوجب الظهور في الرواية ما ولكن يوجب الوثوق بصدورها ، أو كون مضمونها حكما واقعيا ، ثم ذكر أن مخالفة الظن الذي لم يقم على اعتباره دليل مع الخبر المعتبر في نفسه لا يسقطه عن الاعتبار ؛ لأنّ اعتبار خبر الثقة غير مقيد بصورة عدم الظن بعدم صدوره أو بعدم الظن بعدم إرادة ظهوره.

وفيه أنه لو كان المراد بالظن في صورة الانجبار هو الوثوق يكون المراد في الموهن أيضا الوثوق ، والوثوق الشخصي في نفسه معتبر ولا يكون للتفرقة وجه.

٢٣١
٢٣٢

المقصد السابع

(في الاصول العمليّة)

٢٣٣
٢٣٤

المقصد السابع :

في الاصول العمليّة [١]

ـ وهي التي ينتهي إليها المجتهد بعد الفحص واليأس عن الظفر بدليل ، مما دل عليه حكم العقل أو عموم النقل ، والمهم منها أربعة ، فإن مثل قاعدة الطهارة فيما اشتبه طهارته بالشبهة الحكمية ، وإن كان مما ينتهي إليها فيما لا حجة على طهارته ولا على نجاسته ، إلّا أن البحث عنها ليس بمهم ، حيث إنها ثابتة بلا كلام ، من دون حاجة إلى نقض وإبرام ، بخلاف الأربعة ، وهي : البراءة والاحتياط ، والتخيير

______________________________________________________

[١] لا يخفى أن مفاد الاصول العملية وهي القواعد التي يؤخذ بها في الوقائع بعد الفحص واليأس عن الظفر بالدليل فيها على الأحكام الواقعية ربما يكون من الحكم الشرعي ، ويسمى بالأصل العملي الشرعي ، واخرى يكون ما يسمى بحكم العقل أو الأصل العملي العقلي ، فإن الأصل العقلي قد لا يجتمع مع الأصل الشرعي كقاعدة الاشتغال في أطراف العلم الإجمالي مع عدم كون الحالة السابقة في أطرافه تكليفا ، وقد يجتمع معه كما إذا كانت الحالة السابقة فيها تكليفا أو موضوعا للتكليف ، وكالبراءة العقلية في الشبهات البدوية بعد الفحص ، فإنها تجتمع مع البراءة العقلية من قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، سواء اريد من البيان العلم بالتكليف الواقعي حقيقة إجمالا أو تفصيلا أو كان العلم به اعتباريا ، أو كان المراد من البيان المصحّح للمؤاخذة على مخالفة التكليف الواقعي ، فإنه مع عدم المصحّح كذلك يقبح العقاب على مخالفة التكليف الواقعي سواء حكم الشارع بالرفع والإباحة الظاهرية أم لا.

ثم إنّ الاصول العملية منحصرة على الأربعة : أصالة البراءة والاستصحاب والاحتياط وأصالة التخيير ، وانحصار موارد هذه الاصول الأربعة أي أقسام الشك

٢٣٥

والاستصحاب : فإنها محل الخلاف بين الأصحاب ، ويحتاج تنقيح مجاريها وتوضيح ما هو حكم العقل أو مقتضى عموم النقل فيها إلى مزيد بحث وبيان ومئونة حجة وبرهان ، هذا مع جريانها في كل الأبواب ، واختصاص تلك القاعدة ببعضها ، فافهم.

______________________________________________________

لا يتجاوز الأربعة ، كما هو الحال في تقسيم كلّ شيء إلى النفي والإثبات. فلا يمكن أن يوجد قسم خامس للشك ، فإن الشك في واقعة في حكم تكليفي أو وضعي ملازم للتكليف ، إما أن تلاحظ فيه الحالة السابقة أم لا ، فالأول مورد الاستصحاب ومع عدم ملاحظتها إما أن يكون فيها علم إجمالي بالتكليف أو بالوضع الملازم له أم لا ، فالثاني مورد البراءة ، وإذا كان في البين علم إجمالي إن أمكن الاحتياط فهو مورد قاعدة الاشتغال وإلّا فمورده أصالة التخيير ، وانحصار الاصول في أقسام الشكوك على الأربعة استغراقي حيث يمكن للشارع أن يعتبر قاعدة اخرى غيرها في بعض الوقائع من موارد الاصول ، بأن يحكم في دوران الأمر بين وجوب فعل وحرمته في غير العبادة الأخذ باحتمال الحرمة ، بل يمكن الالتزام بوقوع مثل ذلك كما في قاعدة الطهارة الجارية في الشبهات الحكمية ، حيث لا فرق في مفاد الأصل والحكم الظاهري بين ما يكون من قبيل الحكم التكليفي أو الوضعي.

في قاعدة الطهارة وعدم كون البحث فيها من المسائل الاصولية

ومن هنا وقع البحث في وجه حذف قاعدة الطهارة في الشبهات الحكمية من المباحث الاصولية مع انطباق ما ذكروا في وجه كون الاصول العملية من المباحث الاصولية فيشمل قاعدة الطهارة أيضا ، فإنها مما ينتهي إليها أمر الفقيه بعد الفحص وعدم الظفر بالدليل على النجاسة ، واعتذر الماتن من ذلك بوجهين.

الأول : أنّ قاعدة الطهارة لم يختلف في اعتبارها بخلاف سائر الاصول العملية ،

٢٣٦

.................................................................................................

______________________________________________________

فإن ثبوت بعضها وتعيين مجاريها وتوضيح مفادها محل الكلام على ما يأتي.

الثاني : أن قاعدة الطهارة تختص بموارد الشك في باب من أبواب الفقه وعدم اختصاصها بالاصول الأربعة ، فإنها تجري على كل أبوابه ، ولا يخفى عدم تمامية الوجه الثاني فإن استطراد المسألة الاصولية في جميع أبواب الفقه غير لازم.

وقد حكي عن بعض الاعتذار بوجه ثالث : وهو أن الطهارة والنجاسة الواقعيتين ليستا من قبيل الحكم الشرعي ، بل هما أمران واقعيان كشف عنهما الشارع في مواردهما ، لعدم اطلاع الناس عليهما في جميع تلك الموارد ، فيكون مورد الشك في كون الشيء طاهرا أو نجسا من قبيل الشبهة الموضوعية ، فأصالة الطهارة الجارية فيها من قبيل الاصول العملية الجارية في الشبهات الموضوعية.

وفيه إن اريد أن للطهارة أو النجاسة منشأ واقعيا فهذا صحيح في الجملة ، فإن الشارع لا يجعل النجاسة لشيء عبثا وبلا ملاك ، ولكن هذا يجري في سائر الأحكام الوضعية والأحكام التكليفية ، وإن اريد أنهما بنفسهما أمران واقعيان لا يحصلان بالاعتبار فهذا خلاف ظاهر الخطابات ، بل خلاف صراحة بعضها مثل ما ورد في الصحيح : «كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم قطرة بول قرضوا لحومهم بالمقاريض ، وقد وسّع الله عليكم بأوسع ما بين السماء والأرض وجعل لكم الماء طهورا» (١) ، فإن صريحه اعتبار طهارة موضع إصابة البول بغسله بالماء لهذه الامة وإذا كانت طهارته بالغسل بالاعتبار فلا محالة تكون نجاسته أيضا بالاعتبار ، حيث لم تكن ترتفع بالغسل بالماء من بني إسرائيل ، واعتبرها منتهية بالغسل بالماء لهذه الامة.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ : ١٣٣ ، الباب الأول من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٤.

٢٣٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وكذا اعتبر غسالة الاستنجاء طاهرة ولم يعتبر غسالة غيره من مزيلة العين طاهرة فلا يمكن أن يكون بينهما فارق تكويني ، وأمّا ما ذكرنا من كونهما أمرين تكوينيّين خلاف ظاهر الخطابات ، فلأن ظاهرها صدورها عن الشارع بما هو شارع لا بما هو عالم بالامور الخفية ومخبر بها ، وقد يقال كونهما أمرين واقعيّين لا يدخل الشك فيهما في الشبهة الموضوعية ، وأن لا يكون الشك فيهما من الشبهة الحكمية ، فإن الشبهة الحكمية ما يكون الشك فيها ناشئا من فقد خطاب الشارع أو إجماله أو تعارضه ، وإذا شك في نجاسة شيء كنجاسة العصير بعد غليانه ، يكون منشأ الشك فقد النص أو إجماله أو تعارضه ، بخلاف الشبهة الموضوعية فإن الشك فيها ينشأ من أمر لا يرتبط بفقد خطاب الشرع أو إجماله أو تعارضه. ولكن هذا أيضا لا يمكن المساعدة عليها ، فإن منشأ الشك في الشبهة الحكمية هو فقد خطاب الشارع أو إجماله أو تعارضه ، يعني خطاب الشارع بما هو شارع لا بما هو عالم بحقيقة الأمر الواقعي ، والشك في نجاسة العصير بعد غليانه بناء على كون النجاسة أمرا تكوينيا ينشأ من فقد خطاب الشارع بما هو مخبر صادق مطلع على الامور الخفية نظير الشك في بعض ما وقع في أول الخلقة أو ما يقع في آخر الدنيا ، ولا يرتبط ذلك بالشبهة الحكمية التي يكون الشك فيها في مجعول الشارع ثبوتا ناشئا مما ذكر.

ثم إن الفرق بين الاصول العملية وبعض القواعد الفقهية التي لا يتمكن العامي من تطبيقها على صغرياتها كقاعدة ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده ، وقاعدة وجوب الوفاء بالشروط والنذور ونحوها غير خفي ، فإنهما وإن كانتا تشتركان مع الاصول العملية الجارية في الشبهات الحكمية في تمكن المجتهد خاصة من التطبيق على الموارد والصغريات والعامي عاجز عن ذلك ، أما في الاصول العملية فظاهر ،

٢٣٨

.................................................................................................

______________________________________________________

فإنها معتبرة عند عدم الظفر بالدليل على الحكم أو التكليف الواقعي ، وفي تلك القواعد لتقيّد الموضوع فيها بقيد لا يتيسر إلّا للفقيه إحرازه ، ولكن التطبيق في القواعد الفقهية لبيان الحكم الواقعي في مورد التطبيق بحسب المستفاد من الأدلة الاجتهادية ، وفي الاصول العملية لبيان الوظيفة عند عدم استفادة الحكم الواقعي بحسب تلك الأدلة ، ولذا تخرج القواعد الفقهية عما ذكر في تعريف علم الاصول (أو القواعد التي ينتهي إليها) أمر الفقيه بعد اليأس من الدليل على الحكم الواقعي.

أصالة التخيير أصل عملي مستقل أو أنها داخلة في أصالة البراءة

وينبغي التعرض في المقام لكون أصالة التخيير التي عدّوها من الاصول العملية أصل عملي مستقل في مقابل الاستصحاب وقاعدة الاشتغال وأصالة البراءة ، أو أنها ترجع إلى أصالة البراءة الجارية في ناحية كل من احتمالي الوجوب والحرمة.

وقد ذكر الشيخ العراقي قدس‌سره ما حاصله أنّه مع الشك في الحكم بالشبهة الحكمية وعدم لحاظ الحالة السابقة فيها إن لم يكن في البين بيان فالمرجع أصالة البراءة ، سواء أمكن فيها الاحتياط كدوران الأمر في حكم الفعل بين الحرمة والإباحة ، أو لم يمكن الاحتياط كدوران حكمه بين الحرمة والوجوب والإباحة ، وإن كان في البين بيان بالإضافة إلى التكليف وأمكن الاحتياط فيه فالمرجع قاعدة الاشتغال ، وإن لم يمكن الاحتياط كدوران حكمه بين الحرمة والوجوب والإباحة ، وإن كان في البين بيان بالإضافة إلى التكليف وأمكن الاحتياط فيه فالمرجع قاعدة الاشتغال ، وإن لم يمكن الاحتياط فيه أصلا فالمرجع أصالة التخيير ، ولا يتوهم أن أصالة التخيير معناها أصالة البراءة ، وأن العلم الإجمالي بحرمة الفعل أو وجوبه لعدم كونه منجزا كالعدم ، فتدخل الواقعة فيما لم يتم فيها البيان ، فإن هذا فاسد ، والوجه في فساده أن عدم البيان في الواقعة ناشئ عن عدم منجزية العلم الناشئ عن ترخيص العقل ، حيث إن

٢٣٩

.................................................................................................

______________________________________________________

مع تمكن المكلف على كل من الفعل والترك يكون حكمه بالتنجز باختيار الفعل بلا مرجح ، فيكون ترخيصه في كل من الفعل والترك مخرجا للعلم الإجمالي عن المنجزية بأن يكون حكمه بالترخيص مانعا عن تأثير العلم الإجمالي ، فعدم البيان الناشئ عن ترخيص العقل الموجب لعدم منجزية العلم الإجمالي لا يرتبط بأصالة البراءة ، فإن أصالة البراءة هي الترخيص الناشئ من عدم البيان لا الترخيص الموجب لعدم البيان.

أقول : لو قال قدس‌سره بأنه في موارد دوران الأمر بين المحذورين لا قصور في ناحية البيان ، وإنما القصور في ناحية المكلف حيث لا يتمكن من الجمع بين الفعل والترك واختيار أحدهما قهري ، وإلّا فلا فرق بين هذا العلم الإجمالي والعلم الإجمالي المنجّز في جهة البيان ، وأصالة البراءة عقلا هو حكمه بقبح العقاب بلا بيان ، لا حكمه بقبح العقاب لعدم تمكن المكلف من إحراز الامتثال ، كان ذلك أقرب إلى الفهم واحتمال التصديق ، ولكن لا يخفى أن الترخيص في الفعل أو الترك خارج من شأن العقل ، وإنما يحكم العقل بقبح الفعل لإدراكه المفسدة فيه ، ومعنى قبحه أنه يرى استحقاق فاعله الذم أو لنهي الشارع عن ارتكابه ، والقبح في الأول فعلي يكشف عن نهي الشارع عنه ، وفي الثاني فاعلي ، وإذا لم يكن العلم الإجمالي بحيث يمكن موافقته القطعية ومخالفته القطعية فلا يكون التكليف الواقعي واصلا بحيث يتحقق الفرض الذي لاحظه المولى عند جعله ، فإن التكليف وإن لا يمكن تقييده بغير صورة هذا العلم على ما تقدم من عدم إمكان أخذ العلم بالتكليف في موضوع ذلك التكليف ويكون له إطلاق ذاتي لا محالة ، إلّا أن الغرض من جعله إمكان كونه داعيا إلى العمل فعلا أو تركا عند وصوله ، والعلم الإجمالي بحرمة فعل أو وجوبه لا يكون

٢٤٠