دروس في مسائل علم الأصول - ج ٤

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-94850-6-5
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٤٣

هذا مع أن الغرض الداعي إلى الأمر لا يكاد يحرز إلّا بالأكثر بناء على ما ذهب إليه المشهور من العدلية [١] من تبعية الأوامر والنواهي للمصالح والمفاسد في

______________________________________________________

الركوع بعد الحمد وهكذا ، ومع هذا الاختلاف كيف يمكن دعوى أن تعلق الوجوب وانبساطه على ذات الأقل محرز تفصيلا ، وأن الانحلال حقيقي فلم يبق في البين مع عدم إمكان تبعض التكليف الواحد في الثبوت والسقوط إلّا دعوى التبعض في مقام التنجز ، وهو انحلال حكمي ؛ لأنّ العلم الإجمالي بالإضافة إلى التكليف المردد بين تعلقه بالأقل أو الأكثر بيان ولا يجرى معه قاعدة قبح العقاب بلا بيان بالإضافة إلى تعلقه بالأقلّ ، ولا بالإضافة إلى تعلقه بالأكثر من ناحية ترك الأقل ، وأما بالإضافة إليه من ناحية جزئية المشكوك فلا منع من جريانها كما لا يخفى.

[١] وقد يستدل على لزوم الاحتياط عقلا في دوران الأمر بين كون الواجب هو الأقل أو الأكثر في الارتباطيين وأنه لا مجرى لقاعدة قبح العقاب بلا بيان في ناحية وجوب الأكثر بوجه آخر ، وقد تعرض الشيخ قدس‌سره لهذا الوجه وأجاب عنه وحاصله أنه في موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين يعلم الغرض الملزم في البين وتحصيل الغرض الملزم للشارع لازم عقلا ، ولذا تكون الواجبات الشرعية ألطافا في الواجبات العقلية ، والغرض اللازم استيفاؤه لا يحرز حصوله بالاتيان بالأقل فقط بل يكون بالاحتياط والاتيان بالأكثر.

وأجاب عن ذلك تارة بأن مسألة الرجوع إلى البراءة أو الاشتغال عند الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين غير مبيّن على المشهور عند العدلية من وجود المصالح أو المفاسد في الواجبات أو المحرمات ليقال : إنّ استيفاءها والتحرز عن تلك المفاسد لازم عقلا لكونهما من الغرض الملزم للشارع ، بل تجري على القول الأشعري المنكر لهما ، بل وتجري على غير المشهور عند العدلية من تحقق المصلحة في نفس الحكم

٤٢١

.................................................................................................

______________________________________________________

والتكليف ، واخرى بأنه على تقدير المصالح والمفاسد في المتعلقات لم يحرز في المقام لزوم الاستيفاء ، حيث يحتمل دخالة قصد الوجه في حصول الغرض بعد العلم باعتبار قصد التقرب والامتثال في حصوله ، ولا يتمكن المكلف مع دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين من قصد الوجه ، فيبقى في البين الخروج عن عهدة التكليف المعلوم بالإجمال المنحل إلى وجوب الأقل على ما تقدم ، حيث إن الخروج من عهدة التكليف المعلوم لازم عقلا ، وإن لم يكن في المتعلق غرض بحيث يلزم على المكلف استيفاؤه.

الاستدلال على لزوم الاحتياط بالاتيان بالأكثر للوجه العقلي

وقد صحح الماتن قدس‌سره الاستدلال العقلي المذكور للزوم الاحتياط بالإتيان بالأكثر ، وقال : إن ما ذكره الشيخ قدس‌سره في الجواب عنه غير مفيد ، فإن من التزم بالمصلحة الملزمة في الواجب وكونها غرضا داعيا للشارع إلى إيجابه عليه أن يلتزم بالإتيان بالأكثر لاستيفاء الغرض ، وقول الأشعري المنكر للمصلحة الملزمة لا يرفع عنه هذا الالتزام ، وما ذكره من عدم ابتناء البراءة والاشتغال في المسألة على قول المشهور من العدلية لا يفيد من التزم بالمصالح والمفاسد في الواجبات والمحرمات ، بل التزم بما عليه غير المشهور من العدلية من احتمال كون المصالح في نفس التكاليف فإن حصولها في المتعلق عنده محتمل ، وأما ما ذكره ثانيا من احتمال دخالة قصد الوجه في حصول الامتثال المحصّل للغرض ، ولا يتمكن المكلف في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين من قصده فيدفعه أنه على تقدير اعتبار قصد الوجه يتمكن منه المكلف في نفس العمل ، وإنما لا يتمكن من قصد التمييز في الجزء المشكوك جزئيته ، وقصد الوجه والتمييز في خصوص كل جزء غير معتبر

٤٢٢

المأمور به والمنهي عنه ، وكون الواجبات الشرعية ألطافا في الواجبات العقلية ، وقد مرّ اعتبار موافقة الغرض وحصوله عقلا في إطاعة الأمر وسقوطه ، فلا بد من إحرازه في إحرازها ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

عقلا في صحة العمل ، وإلّا لزم عدم إمكان الاحتياط في المقام ، وإمكان الاحتياط فيه كالاحتياط في العلم الإجمالي في المتباينين واضح ، فللمكلّف مع اعتبار قصد الوجه الإتيان بالأكثر فإنه مصداق للواجب أي متعلق الوجوب فيما دار أمر المشكوك بين كونه جزءا واجبا أو جزءا مستحبا المعبر عنه بجزء الفرد ، نعم إذا كان أمره دائرا بين كونه جزءا من المتعلق أو مقارنا خارجا للمتعلق ينطبق متعلق الوجوب عليه بسائر أجزائه ، هذا مع أن الكلام في البراءة والاشتغال في الأقل والأكثر الارتباطيين يجري فيما كان الواجب توصليا ولا مجال في التوصلي لاحتمال دخل قصد الوجه في العمل فضلا عن أجزائه.

وذكر قدس‌سره في آخر كلامه في المقام أنه لو قيل باعتبار قصد الوجه في العبادات حتى في أجزائها بنحو ينافيه التردد لما يجب الامتثال حتى بالإتيان بالأقل لعدم إحراز الغرض فيه ، وعدم إمكان تحصيله لو كان متعلقا بالأكثر ولو لم يعتبر قصد الوجه كذلك ، بل اعتبر بنحو لا ينافيه التردد في بعض أجزائه لزم الإتيان بالأكثر للزوم إحراز حصول الغرض.

أقول : يرد على الماتن قدس‌سره أنه مع تردد الغرض والملاك في كونه في المتعلق أو نفس التكليف لم يمكن الالتزام بلزوم الاحتياط من ناحية العلم بالغرض ، ووجهه ظاهر ، فإنه إنما يلزم رعاية العلم بالغرض إذا كان الغرض مترتبا على فعل العبد بحيث يكون مطلوبا منه ، ومع كون الغرض في نفس التكليف أو احتماله فلا يعلم المكلف باشتغال عهدته بالغرض ليلزم عليه إحراز رعايته وظاهر كلامه قدس‌سره لزوم رعايته حتى في هذا الفرض.

٤٢٣

ولا وجه للتفصي عنه : تارة بعدم ابتناء مسألة البراءة والاحتياط على ما ذهب إليه مشهور العدلية ، وجريانها على ما ذهب إليه الأشاعرة المنكرين لذلك ، أو بعض العدلية المكتفين بكون المصلحة في نفس الأمر دون المأمور به.

وأخرى بأن حصول المصلحة واللطف في العبادات لا يكاد يكون إلّا بإتيانها

______________________________________________________

وما ذكره أخيرا من عدم لزوم الاتيان بالأقل مع اعتبار قصد الوجه والتمييز بحيث ينافيه التردد أيضا لا يمكن المساعدة عليه ؛ لأنه ذكر في بحث الواجب التعبدي والتوصلي أن قصد الوجه والتمييز كقصد التقرب مما لا يمكن أخذه في متعلق التكليف ، وإنما يتعلق التكليف بذات المتعلق ، ولكن العقل حاكم بلزوم رعاية ما ذكر إذا احتمل دخالتها في حصول الامتثال والغرض من إيجاب ذلك المتعلق ، وعليه ففي المقام بناء على الانحلال تعلق الأمر النفسي بذات الأقل محرز ، وإنما الشك في حصول الغرض بالإتيان بالأقل المحرز وجوبه على الفرض ، والتردد في تعلق الوجوب وانبساطه على الجزء المشكوك فلا يمكن قصد التمييز والوجه في ذلك الجزء المشكوك لا في الأقل المحرز وجوبه يقينا خصوصا فيما إذا لم يكن الترتيب معتبرا بين الأجزاء على ما تقدم ، وعلى الجملة يجب الإتيان بالأقل لاحتمال حصول الغرض المعلوم في البين به ، وأجاب المحقق النائيني قدس‌سره عن الوجه العقلي بأن مجرد العلم بالغرض في متعلق التكليف لا يوجب لزوم رعايته ، وذلك فإن الغرض المترتب على متعلق التكليف يكون تارة بمنزلة المعلول من علته بأن يكون المتعلق من العلة التامة له كما في ترتب زهوق الروح على فري الأوداج ، واخرى يكون الإتيان بالمتعلق من قبيل المقدمة الإعدادية لحصول الغرض كما في ترتب نبات الزرع على حرث الأرض وإلقاء الحب فيها ، وإذا كان الغرض من قبيل الأول لتعلق الوجوب يلزم على المكلف إحراز حصوله ، بخلاف ما إذا كان من قبيل

٤٢٤

على وجه الامتثال ، وحينئذ كان لاحتمال اعتبار معرفة أجزائها تفصيلا ـ ليؤتى بها مع قصد الوجه ـ مجال ، ومعه لا يكاد يقطع بحصول اللطف والمصلحة الداعية إلى الأمر ، فلم يبق إلّا التخلص عن تبعة مخالفته بإتيان ما علم تعلقه به ، فإنه واجب عقلا وإن لم يكن في المأمور به مصلحة ولطف رأسا ، لتنجزه بالعلم به إجمالا.

______________________________________________________

الثاني فإنه لا يجب على المكلف إلّا الإتيان بمتعلق التكليف ، حيث إن الغرض خارج عن فعله فلا يطلب منه وإنما يطلب منه فعله ، وفيما إذا لم يحرز أن الغرض من أي القسمين لا يثبت في حقه إلّا التكليف بالفعل ، والحاصل أن مجرد العلم بالغرض في متعلق التكليف مع تردده بين القسمين لا يوجب القول بلزوم رعاية الاحتياط لإحراز حصول الغرض ، حيث إن الغرض في القسم الأول مطلوب من المكلف ، ولذا لا يفرق بين أمره بقطع الأوداج أو إزهاق روحه ، بخلاف القسم الثاني فإنه لا يتعلق التكليف إلّا بنفس الفعل فإنه المقدور للمكلف ، وترتب الغرض يحتاج إلى أمر أو امور خارجة عن اختياره فلا تطلب منه ، بل لا يبعد أن يستفاد من تعلق الأمر في الخطاب بعنوان الفعل مع عدم معروفية الملاك بأن الملاك من قبيل الثاني.

وقد أورد بعض الأجلة قدس‌سرهم على ما ذكر ، بأن متعلق الوجوب وإن يمكن كونه من قبيل المعدّ للغرض الأقصى للمولى ، إلّا أن الغرض المطلوب من المكلف هو الغرض المترتب على فعله لا الغرض الأقصى ، وفعله بالإضافة إلى الغرض المطلوب منه المعبر عنه بالغرض الأدنى مما يترتب على فعله يكون من قبيل ترتب المعلول على علّته ، وإذا شك المكلف في ترتب الغرض الأدنى واحتمل عدم حصوله بالإتيان بالفعل لزمه الاحتياط بالإتيان بالأكثر لإحراز حصوله ، فلا يمكن إبطال الوجه العقلي بتقسيم الغرض وترديده في موارد الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين بين ما لا يطلب عن المكلف لاحتمال كون فعله معدّا للغرض لا علة وبين ما يطلب لكونه

٤٢٥

وأما الزائد عليه لو كان فلا تبعة على مخالفته من جهته ، فإن العقوبة عليه بلا بيان. وذلك ضرورة أن حكم العقل بالبراءة ـ على مذهب الأشعري ـ لا يجدي من ذهب إلى ما عليه المشهور من العدلية ، بل من ذهب إلى ما عليه غير المشهور ، لاحتمال أن يكون الداعي إلى الأمر ومصلحته ـ على هذا المذهب أيضا ـ هو ما في الواجبات من المصلحة وكونها ألطافا ، فافهم.

وحصول اللطف والمصلحة في العبادة ، وإن كان يتوقف على الإتيان بها على وجه الامتثال ، إلّا أنه لا مجال لاحتمال اعتبار معرفة الأجزاء وإتيانها على وجهها ، كيف؟ ولا إشكال في إمكان الاحتياط هاهنا كما في المتباينين ، ولا يكاد يمكن مع اعتباره. هذا مع وضوح بطلان احتمال اعتبار قصد الوجه كذلك ، والمراد بالوجه في كلام من صرح بوجوب إيقاع الواجب على وجهه ووجوب اقترانه به ، هو وجه

______________________________________________________

علة له.

ثم ذكر أن الصحيح في الجواب عن الوجه العقلي المزبور ما حاصله أن الغرض المترتب على الفعل إذا كان معلوما بعنوان الخاص بلا فرق بين كون الغرض الأقصى وكون الفعل علة تامة له وبين كونه أدنى ، فاللازم على المكلف إحراز حصوله ، وأما إذا لم يكن بعنوانه الخاص معلوما واحرز وجوده بالبرهان ونحوه من غير أن يعرف المكلف عنوانه الخاص فلا حكم للعقل بلزوم خروج المكلف عن عهدته ، بل اللازم عنده الخروج عن عهدة التكليف المتعلق بالفعل مع إحرازه ، فإن عدم حصول هذا الغرض مع عدم علم المكلف بعنوان الخاص غير مربوط بالمكلف ، فالمسئول هو المولى حيث يكون عليه أن يوصله بعنوانه إلى المكلف بحيث يكون عليه رعايته.

وتوضيح ذلك أنه لا ينبغي التأمل في أن تدارك غرض المولى ليس واجبا مولويا آخر غير إيجاب الفعل الذي يعلم المكلف بوجوبه نفسيا ليكون المكلف

٤٢٦

نفسه من وجوبه النفسي ، لا وجه أجزائه من وجوبها الغيري أو وجوبها العرضي ، وإتيان الواجب مقترنا بوجهه غاية ووصفا بإتيان الأكثر بمكان من الإمكان ، لانطباق الواجب عليه ولو كان هو الأقل ، فيتأتّى من المكلف معه قصد الوجه ، واحتمال اشتماله على ما ليس من أجزائه ليس بضائر ، إذا قصد وجوب المأتي على إجماله ، بلا تمييز ما له دخل في الواجب من أجزائه ، لا سيما إذا دار الزائد بين كونه جزءا لماهيته وجزءا لفرده ، حيث ينطبق الواجب على المأتي حينئذ بتمامه وكماله ، لأن الطبيعي يصدق على الفرد بمشخصاته.

______________________________________________________

مستحقا لعقابين عند ترك الفعل ، كما لا ينبغي التأمل في أن حكم العقل بلزوم رعاية غرض المولى ليس من الحكم العقلي المستقل نظير حكمه بقبح الظلم ليستتبع حكما شرعيا مولويا بقانون الملازمة لتكون النتيجة وجوب كل من الفعل واستيفاء الغرض وجوبا نفسيا ، بل لزوم رعاية غرض المولى حكم العقل في مقام الامتثال ، يعني إذا أمر المولى بفعل يحكم العقل بموافقته أو إطاعته بحيث يحصل الغرض الداعي له إلى إيجاب الفعل ، وعلى ذلك نقول لا حكم للعقل بذلك في موارد عدم معلومية الغرض بعنوانه ، بل على المولى أن يأمر بالفعل المحصل له ويوصل إلى عبده بيانه ، وإذا علم المكلف الغرض بعنوان الخاص يكون العلم به وصولا ، وإن تعلق الإيجاب في خطابه بنفس الفعل فإن ذلك الإيجاب أما غيري أو إرشادي إلى إيجاب تدارك الغرض نظير أمر الوالد ولده بالذهاب إلى المكتب ، فإنه إرشاد أو كناية إلى أمره بالتعلم أو أن الأمر بالذهاب غيري ، وأما إذا لم يعلم الغرض بعنوانه بأن لم يدل عليه خطاب الأمر أو غيره فلا وجوب إلّا لمتعلق الأمر ، ولا يرى العقل إلّا لزوم متابعته حيث إن المولى هو المسئول عن إيصال غرضه إلى عبده بعنوانه فالوجه العقلي المزبور فاسد من أصله.

٤٢٧

نعم ، لو دار بين كونه جزءا أو مقارنا لما كان منطبقا عليه بتمامه لو لم يكن جزءا ، لكنه غير ضائر لانطباقه عليه أيضا فيما لم يكن ذاك الزائد جزء غايته ، لا بتمامه بل بسائر أجزائه.

هذا مضافا إلى أن اعتبار قصد الوجه من رأس مما يقطع بخلافه ، مع أن الكلام في هذه المسألة لا يختص بما لا بد أن يؤتى به على وجه الامتثال من العبادات ، مع أنه لو قيل باعتبار قصد الوجه في الامتثال فيها على وجه ينافيه التردد والاحتمال ، فلا وجه معه للزوم مراعاة الأمر المعلوم أصلا ، ولو بإتيان الأقل لو لم يحصل الغرض ، وللزم الاحتياط بإتيان الأكثر مع حصوله ، ليحصل القطع بالفراغ بعد القطع بالاشتغال ، لاحتمال بقائه مع الأقل بسبب بقاء غرضه ، فافهم. هذا بحسب حكم العقل.

______________________________________________________

أقول : قد ذكرنا في بحث الواجب النفسي والغيري أن العلم بالملاك وترتبه على الفعل لا يوجب كون وجوب الفعل غيريا ، فإن الدليل على كشف الملاك في الفعل المعلق به الوجوب حكمة المولى وعدم جعل التكليف على العباد عبثا ، وهذا لا يقتضي أن تكون المصلحة الملحوظة بالإضافة إلى الفعل من قبيل المعلول إلى علته بلا فرق بين كون تلك المصلحة الغرض الأعلى أو الأدنى ، بل يمكن أن تكون من قبيل الحكمة التي قد تترتب على الفعل وقد لا تترتب أو تترتب على الفعل أو لا تترتب على فعل كل واحد منهم ، ويكون أمر الشارع الجميع بذلك الفعل لئلا يكون اختلاف بين المكلفين حتى فيما إذا علم تلك الحكمة بعنوانه كالأمر بغسل الجمعة لإزالة أرياح الآباط.

والحاصل مجرد العلم بعنوان الغرض والمصلحة لا يوجب كون وجوب الفعل إرشاديّا أو غيريّا ، بل يكون الفعل واجبا نفسيّا ، نعم في موارد كون الغرض بالإضافة إلى الفعل المتعلق به الوجوب بنحو المعلول على تقدير الإحراز فالأمر كما ذكر بعض الأجلّة.

٤٢٨

وأما النقل فالظاهر أنّ عموم مثل حديث الرفع قاض برفع جزئية ما شك في جزئيته [١].

______________________________________________________

[١] يقع الكلام في جريان البراءة الشرعية عند دوران أمر الواجب بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، فيقال بجريانها ولو لم يكن في البين الانحلال العقلي ، لذا اختار الماتن قدس‌سره الانحلال الشرعي مع إنكاره انحلال العلم الإجمالي عقلا ، وذكر في وجهه ما تقريبه : أن العلم الإجمالي بوجوب الأقل أو الأكثر وإن لا ينحل عقلا إلّا أنه لا يجب الاحتياط بالإتيان بالأكثر حيث إن عدم الانحلال إنما هو في ناحية العلم بالتكليف بأحدهما ثبوتا ، ولكن الانحلال شرعا في ناحية الحكم الوضعي المجعول للأجزاء ، فإنه يعلم بثبوت الجزئية لكل من أجزاء الأقل وهذا علم تفصيلي بالإضافة إلى ثبوت الجزئية للأقل ، وأما ثبوت الجزئية للمشكوك غير معلوم فيكون مقتضى حديث الرفع رفعها ؛ لأنّ الموضوع للرفع في الحديث ما لا يعلمون ، وهو يعم جزئية الجزء المشكوك ، فيتعين الواجب في الأقل بثبوت الجزئية لأجزاء الأقل وعدم ثبوتها للمشكوك.

ولا يتوهم أن الانحلال في الحكم الوضعي كان بحسب العقل أيضا مع أنه قدس‌سره أنكر جريان البراءة العقلية رأسا ، وذلك فإن العلم الإجمالي بوجوب الأقل بنحو اللابشرط أو بوجوبه بشرط المشكوك يعني وجوب الأكثر كان بيانا حتى فيما كان التكليف ثبوتا متعلقا بالاكثر بثبوت الجزئية للمشكوك ، فقاعدة قبح العقاب بلا بيان لم يكن لها مورد بخلاف البراءة الشرعية فإن الموضوع لها ليس عدم البيان ، بل عدم العلم بالحكم تكليفا أو وضعا ، والجهل المفروض في المقام وهو الجهل بجزئية المشكوك يعمها ما لا يعلمون فيحكم عليها بالرفع.

لا يقال : جزئية الجزء المشكوك أو المنسي ليست حكما شرعيا مجعولا ، كما

٤٢٩

.................................................................................................

______________________________________________________

أنه ليست للجزئية أثر شرعي مجعول ولزوم الإعادة عند ارتفاع الجهل أو النسيان أثر عقلي لا للجزئية ، بل لبقاء التكليف الواقعي بلا امتثال ، وحديث الرفع لا يجري إلّا فيما كان المجهول بنفسه حكما شرعيا أو كان له أثر شرعي ، وأجاب قدس‌سره عن ذلك بأن الجزئية وإن لم تكن مجعولة شرعا بنفسها ، إلّا أنها تكون مجعولة شرعا بتبع جعل منشأ انتزاعها وهو التكليف بالأكثر ، وكونها مجعولا شرعيا بهذا المقدار كاف في جريان البراءة الشرعية في ناحيتها ، لا يقال : إنما يكون رفع المجعول بالتبع برفع منشأ انتزاعها ، وإذا ارتفع التكليف بالأكثر فلا مثبت لثبوت التكليف بالأقل ، بل يكون التكليف بالأقل ثبوتا من المشكوك بدوا ، وأجاب عن ذلك بأنه وإن يكون رفع الأمر الانتزاعي برفع منشأ انتزاعه إلّا أن التكليف بالأقل ثبوتا لا يكون من المشكوك بدوا ، فإن نسبة حديث الرفع بالإضافة إلى خطابات سائر الأجزاء بمنزلة الاستثناء ، فإن إطلاق كل من تلك الخطابات مقتضاه بقاء الوارد فيه على جزئيته ، سقط وجوب شيء آخر عن الجزئية بنسيانه أو الجهل به أم لم يسقط ، فيكون هذا الإطلاق مثبتا لوجوب الإتيان بالأقل.

أقول : لا يخفى ما في هذا الجواب ، فإن ما دل على جزئية شيء للعمل ، مقتضاه أن ذلك العمل لا يكون بدونه ، وأما ذلك العمل متعلق الأمر فعلا أم لا فلا نظر له إلى ذلك ، وعليه فاللازم إثبات الأمر الفعلي بالأقل أو غير المنسي فعلا ، ويؤخذ بإطلاق أدلة الجزئية ، فيقال : إن مقتضاه بقاؤها على الجزئية في هذا الحال أيضا ، والمفروض عدم إحراز الأمر بأصل العمل بعد إحراز سقوط الأمر بالأكثر ، وهذا فيما كان الرفع فيه رفعا واقعيا كما في موردي النسيان والاضطرار ، فإنه في مثل ذلك يكون رفع جزئية الشيء برفع الأمر النفسي عن مجموع الأجزاء لو قيل بعدم اعتبار

٤٣٠

.................................................................................................

______________________________________________________

الاستيعاب في النسيان والاضطرار لجميع الوقت ، وذلك فإن الجزئية بنفسها غير قابلة للرفع الواقعي بنفسها ، وبعد سقوط الأمر بالمجموع المشتمل للمنسي أو المضطر إلى تركه يحتاج إثبات الوجوب النفسي الاستقلالي لسائر الأجزاء إلى قيام دليل عليه ، ويقال بأن الدليل على ثبوته إطلاق ما دل على جزئية كل من سائر الأجزاء ، وهذا الجواب وإن كان غير تام كما أشرنا إليه ، فإن مقتضى إطلاق أدلتها جزئية كل منها عند الأمر بالعمل المركب لا ثبوت الأمر بالمركب فعلا ، إلّا أن ما ذكر لا مورد له في موارد الرفع الظاهري كمورد الجهل بجزئية شيء ، حيث إن الرفع الظاهري يقابله الوضع الظاهري والوضع الظاهري لجزئية المشكوك الأمر بالاحتياط عند الإتيان بالمركب فيكون رفعها عند الجهل بالجزئية عدم لزوم الاحتياط حتى على تقدير تعلق الأمر بالأكثر واقعا والإتيان بسائر الأجزاء ، يعني الأقل لعدم سقوط التكليف الواقعي حقيقة كان متعلقا بالاقل أو الاكثر ، بل العلم بكون الأقل متعلقا للتكليف واقعا إما استقلالا أو في ضمن الأمر بالأكثر منجز للتكليف الواقعي بالإضافة إلى غير الجزء المشكوك في جزئيته ، بمعنى أنه لو كان متعلق التكليف في الواقع الأقل أو الأكثر فالمكلف معاقب على مخالفته من ناحية ترك الأقل ، ومعذور لو كانت مخالفته من ناحية ترك الجزء المشكوك ، والتبعض في تنجز التكليف الواقعي أمر معقول لا محذور فيه على ما مر في بيان الانحلال الحكمي العقلي.

في بيان جريان أصالة البراءة الشرعية في ناحية وجوب الأكثر

نعم ، جريان أصالة البراءة في نفي الجزئية بأن يكون مفادها نفي الحكم الوضعي ظاهرا غير صحيح ، وذلك لوجهين.

الأول : فإنه إما أن يلتزم بعدم جريان البراءة في نفس التكليف المتعلق بالأكثر ؛

٤٣١

.................................................................................................

______________________________________________________

لأنها تعارض بأصالة البراءة الجارية في تعلق الوجوب النفسى المستقل بالأقل ، ففي هذه الصورة كما أن أصالة البراءة في وجوب الأقل تعارض البراءة عن وجوب الأكثر كذلك تعارض أصالة البراءة عن جزئية المشكوك ؛ لما تقدم من أن الأصل النافي في أحد طرفي العلم الإجمالي يعارض الأصل النافي في الطرف الآخر ، ولو كان الأصل النافي فيه متعددا وبعضها بالإضافة إلى البعض الآخر طوليا ، كما اعترف الماتن قدس‌سره بذلك في مسألة ملاقى أحد أطراف العلم فيما إذا حصل العلم الإجمالي بنجاسة أحد الطرفين والملاقاة لأحدهما دفعة واحدة ، وذكرنا أنّه مع اختصاص الأصل الطولي بخطاب مستقل لا يجري على الطرف الآخر لا مانع من الرجوع إليه والأخذ بمفاده ، ولكن هذا لا يجرى في المقام ، فإن أصالة البراءة في الحكم التكليفي والوضعي مستفاد من حديث الرفع.

وإما أن يلتزم بجريان أصالة البراءة الشرعية في ناحية تعلق الوجوب بالأكثر ولا يعارضها أصالتها في ناحية وجوب الأقل حيث إنه مع العلم الإجمالي بوجوبه استقلالا أو ضمنا وترتب العقاب على تركه لا يبقي للأصل النافي فيه مورد ، وعلى ذلك يكون التكليف الواقعي منجزا بالإضافة إلى الأكثر أيضا من ناحية ترك الأقل أو لا تجري أصالة البراءة في تعلق التكليف بالأقل لكونه خلاف الامتنان بعد علم المكلف بأنه لا يجوز له ترك الصلاة رأسا ، فتجري في ناحية تعلق الوجوب بالأكثر ، ومع جريانها فيه لا يبقى لجريانها في نفس جزئية المشكوك مجال للعلم بعدم وجوب الاحتياط من ناحية احتمال تعلقه بالأكثر ، لا يقال : من التزم بالاحتياط عقلا في دوران أمر الواجب الارتباطي بين الأقل والأكثر بالوجه العقلي السابق من لزوم إحراز الغرض لا يمكن له الرجوع إلى أصالة البراءة عن وجوب الأكثر أو جزئية

٤٣٢

.................................................................................................

______________________________________________________

المشكوك ، فإن ترتب الغرض الملزم على الأقل لا بشرط أو الأكثر محرز ، وأصالة البراءة عن وجوب الأكثر لا يثبت ترتّبه على الأقل لا بشرط حتى يرتفع موضوع حكم العقل بلزوم رعايته ، نعم يمكن هذا الإثبات فيما قام الدليل على نفي جزئية المشكوك أو كان خطاب الأصل النافي واردا في مورد دوران أمر الواجب الارتباطي بين الأقل والأكثر ليحمل على إثبات الغرض أيضا صونا لكلام الحكيم عن اللغوية.

فإنه يقال : إن الغرض كما تقدم ليس لزوم تحصيله واجبا شرعيا آخر ، بل هو حكم العقل لاحتمال الاستحقاق للعقاب مع احتمال بقائه ببقاء التكليف ، وإذا اكتفى الشارع في مقام امتثال التكليف بالإتيان بالأقل كما هو مقتضى جريان البراءة في تعلق التكليف بالأكثر أو جزئية المشكوك ، فلا سبيل للعقل بالحكم بلزوم رعايته كما هو الحال في موارد جريان قاعدة التجاوز والفراغ ونحوهما.

وقد تحصّل من جميع ما ذكرنا ان القائل بالبراءة الشرعية في دوران الأمر في الواجب الارتباطي بين الأقل والأكثر إما أن يلتزم بانحلال العلم الإجمالي عقلا ولو كان هذا الانحلال حكميا على ما تقدم ، فالمجرى لأصالة البراءة الشرعية وهو تعلق التكليف بالأكثر أي تعلقه بالجزء المشكوك ؛ لأنّ تعلق الوجوب به ضمنا مما لا يعلم ، ورفعه عن الاكثر ظاهري بمعنى عدم وجوب الاحتياط في التكليف الواقعي من ناحيته ، بخلاف تعلقه بالأقل فإنه محرز وجدانا نفسيا مستقلا أو ضمنيا فلا موضوع لرفعه ، وعليه فيتنجز التكليف النفسي على تقدير تعلّقه بالأقل ، وعلى تقدير تعلقه بالأكثر من ناحية ترك الأقل والتنجز في التكليف الواحد والتبعض في تنجزه أمر ممكن كما تقدم ، فيؤتى بالأقل بداعي الأمر به على كل تقدير لثبوت الإطلاق الظاهري في متعلقه وإن التزم بعدم الانحلال عقلا حتى حكما فالتزامه بالبراءة

٤٣٣

فبمثله يرتفع الإجمال والتردد عما تردد أمره بين الأقل والأكثر ، ويعيّنه في الأول.

لا يقال : إن جزئية السورة المجهولة ـ مثلا ـ ليست بمجعولة وليس لها أثر مجعول ، والمرفوع بحديث الرافع إنما هو المجعول بنفسه أو أثره ، ووجوب الإعادة إنما هو أثر بقاء الأمر الأول بعد العلم مع أنه عقلي ، وليس إلّا من باب

______________________________________________________

الشرعية ممكن أيضا ، لأنّ الموضوع للبراءة الشرعية الجهل بالحكم وما لا يعلم فينطبق هذا على تعلق التكليف الواقعي بالأكثر ولا يرفع الوجوب النفسى عن الأقل ؛ لأن تعلق الوجوب النفسي به ولو في ضمن الأكثر محرز كما ذكرنا ، ولا أقل من كون رفع الوجوب المتعلق بالأقل بنحو اللابشرط خلاف الامتنان ، والبراءة الشرعية بكل من التقريبين لا تنافي عدم انحلال العلم الإجمالي عقلا ، فإن الموضوع في قاعدة قبح العقاب بلا بيان هو عدم البيان بمعنى عدم المصحح للعقاب ، والعلم الإجمالي المزبور عقلا وإن يكن مصححا للعقاب إلّا أن ملاك استحقاقه احتمال العقوبة في ترك كل من الطرفين إذا كان التكليف المعلوم بالإجمال فيه ، ومع جريان البراءة الشرعية في ناحية احتمال وجوب الأكثر كما تقدم لا احتمال لاستحقاق العقاب في ناحية ترك الأكثر بترك الجزء المشكوك ، ولذا تكون البراءة الشرعية في موارد جريانها واردة على حكم العقل فيه بالاحتياط.

في التمسك بالاستصحاب لاثبات لزوم الاحتياط بالإتيان بالأكثر

بقي في المقام أمر وهو أنه قد يتمسك في المقام بالاستصحاب للزوم الإتيان بالأكثر تارة ، ولجواز الاقتصار على الاتيان بالأقل اخرى ، أما الأول فيقال : إن المكلف بعد الاتيان بالأقل يحتمل بقاء التكليف المعلوم له إجمالا من قبل ، حيث إن التكليف على تقدير تعلّقه بالأكثر باق على حاله ، ومقتضى الاستصحاب الجاري فيه

٤٣٤

.................................................................................................

______________________________________________________

إحراز بقائه على حاله وهذا الاستصحاب من قبيل الاستصحاب في القسم الثاني من الكلي ولا يثبت تعلق التكليف ثبوتا بالأكثر إلّا أنه يتعين الإتيان به ليرتفع الموضوع له في ناحية الكلي.

ويجاب عن هذا الاستصحاب بأنه إنما تصل النوبة إلى الاستصحاب في ناحية الكلي إذا سقط الأصل في ناحية عدم حدوث الفرد الطويل بالمعارضة مع الأصل النافي في ناحية الفرد القصير ، وأما إذا جرى الأصل النافي في ناحية الفرد الطويل بلا معارضة في ناحية الفرد القصير فلا مورد للاستصحاب في ناحية الكلي ، كما إذا كان المكلف محدثا بالأصغر ثم خرج منه بلل مردّد بين البول والمني ، فإن الاستصحاب في بقاء الحدث الأصغر وفي عدم حدوث الجنابة له يعيّن أن رافع حدثه هو الوضوء فلا حدث له بعد الوضوء ، بخلاف ما إذا كان متطهرا من الحدثين وخرج منه بلل مردد بين البول والمني فإنه بعد الوضوء يجري الاستصحاب في ناحية بقاء الحدث ؛ لأن الاستصحاب في عدم حدوث جنابته قد سقط بالمعارضة مع الاستصحاب في عدم حدوثه بالبول المعبر عنه بالحدث الأصغر ، وما نحن فيه من قبيل الأول ؛ لأنّ الاستصحاب في عدم تعلق التكليف بالأكثر جار بلا معارض الاستصحاب في ناحية عدم تعلقه بالأقل لا موضوع له للعلم بتعلقه به استقلالا أو ضمنا ، والاستصحاب في عدم تعلقه بالأقل بنحو اللابشرط لا يثبت تعلقه بالأكثر.

وعلى الجملة لا مورد لاحتمال جواز ترك الأقل ليجري الاستصحاب في عدم تعلق التكليف به كما لا مجال لإثبات تعلقه بالأكثر فإنه من الأصل المثبت.

أقول : مجرد عدم المعارضة بين الأصل الجاري في ناحية الفرد الطويل والفرد القصير لا يوجب سقوط الاستصحاب في ناحية بقاء الكلي ، ولذا لو كان المكلف

٤٣٥

وجوب الإطاعة عقلا.

لأنه يقال : إن الجزئية وإن كانت غير مجعولة بنفسها ، إلّا أنها مجعولة بمنشإ انتزاعها ، وهذا كاف في صحة رفعها.

لا يقال : إنما يكون ارتفاع الأمر الانتزاعي برفع منشأ انتزاعه ، وهو الأمر

______________________________________________________

متطهرا من الحدثين ومع ذلك توضأ تجديدا وبعد الوضوء علم بخروج بلل منه قبل الوضوء مردد بين البول والمني فيجري الاستصحاب في ناحية عدم جنابته فيجوز له ما يحرم على الجنب كالمكث في المساجد قبل الغسل ، ولكن لا يجوز له مس كتابة القرآن من غير اغتسال لجريان الاستصحاب في ناحية بقاء الحدث ، وذلك فإن الاستصحاب في عدم الجنابة في هذا المثال لا يعين حال البلل وأنه كان بولا ، بخلاف ما خرج البلل المشتبه بعد كون المكلف محدثا بالأصغر فإن الاستصحاب في بقاء الأصغر بعد البلل وعدم تبدله بالأكبر يترتب عليه أن رافعه هو الوضوء هذا بناء على مسلك هذا القائل ، وأما بناء على ما ذكرنا في محله من أن المحدث إذا لم يكن جنبا فهو مكلف بالوضوء يحكم بطهارته في المثال أيضا فعلا كما يحكم بذلك إذا خرج البلل المشتبه من المتطهر من الحدثين بعد وضوئه بعد البلل ؛ لأنّ المستفاد من آية (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ...)(١) ، هو أن المحدث إذا لم يكن جنبا ولم يحصل منه ما يوجب الغسل يرتفع حدثه بالوضوء عند وجدانه الماء ، وإلّا يتيمم لصلاته وسائر ما يشترط فيه الطهارة.

والصحيح في الجواب عن الاستصحاب أنه لا مجرى للاستصحاب في ناحية الكلي في أمثال المقام مما يكون المستصحب هو التكليف الثابت سابقا المردد بين تكليف يقطع بعدم بقائه وبين تكليف يشك في حدوثه من الأول وكان متعلق

__________________

(١) سورة المائدة : الآية ٦.

٤٣٦

الأول ، ولا دليل آخر على أمر آخر بالخالي عنه.

لأنه يقال : نعم ، وان كان ارتفاعه بارتفاع منشأ انتزاعه ، إلّا أن نسبة حديث الرفع ـ الناظر إلى الأدلّة الدالّة على بيان الأجزاء ـ إليها نسبة الاستثناء ، وهو معها يكون دالّة على جزئيتها إلّا مع الجهل بها ، كما لا يخفى ، فتدبر جيدا.

______________________________________________________

التكليفين بحيث لم يكن للأصل مجرى في ناحية عدم التكليف بمتيقن الارتفاع ، كما في المقام ؛ لأنّ الاستصحاب في بقاء التكليف في فرض الإتيان بالأقل ليس له إلّا أثر عقلي وهو احتمال استحقاق العقاب على تقدير بقاء التكليف بأن يتعلق التكليف بالأكثر ، وإذا جرى الأصل في ناحية عدم تعلقه بالأكثر لا يبقى في البين الأثر العقلي ؛ لأن احتماله لاحتمال التكليف بالأكثر.

لا يقال : الاستصحاب في ناحية عدم تعلقه بالأكثر قبل الإتيان بالأقل معارض بعدم تعلقه بالأقل ، لأنه يقال الاستصحاب في ناحية عدم تعلقه بالأقل لا أثر له بعد العلم بلزوم الإتيان به ، فإنه إما واجب مستقل أو واجب ضمني ، وإنه يترتب على تركه مخالفة التكليف الواقعي يقينا ، هذا فيما إذا كان المطلوب بالتكليف ذات الأقل أو ذات الأكثر بلا اعتبار ترتيب بين الأجزاء ، وأما إذا كان المعتبر الترتيب بين الأجزاء بحيث لا يتحقق الأقل أيضا إذا كان الواجب هو الأكثر كما في اعتبار السورة المشكوك اعتبارها بعد الحمد وقبل الركوع فعلى تقدير وقوع المعارضة بين الاستصحاب في ناحية عدم وجوب الأقل والاستصحاب في ناحية عدم وجوب الاكثر ، تجري أصالة البراءة في ناحية عدم وجوب الأكثر ولا يعارض بأصالة البراءة في ناحية عدم وجوب الأقل ؛ لكون البراءة في ناحية الأقل خلاف الامتنان ، ومع جريان البراءة عن وجوب الأكثر لا مجال للاستصحاب في ناحية بقاء الكلي ؛ لأنّ الاستصحاب فيه لا يثبت تعلق التكليف الواقعي بالأكثر ، وذكرنا أن أثره العقلي يعني احتمال استحقاق العقاب على تقدير بقائه فينتفي بجريان البراءة في ناحية احتمال وجوب الأكثر.

٤٣٧
٤٣٨

الفهرست

الموافقة الالتزامية............................................................... ٥

في أنّ القطع بالحكم من المقدمات العقلية........................................ ١١

في تنجيز العلم الإجمالي....................................................... ٢٦

في جريان الاصول العملية في اطراف العلم الاجمالي............................... ٣٢

في جريان الاصول المثبتة في أطراف العلم الإجمالي................................. ٣٣

جواز الامتثال الإجمالي مع التمكن من الامتثال التفصيلي.......................... ٣٧

جواز الامتثال الإجمالي مع إمكان الامتثال الظني التفصيلي......................... ٤٠

في دوران الأمر بين الامتثال الإجمالي والظني التفصيلي............................. ٤٢

في دوران الأمر بين الامتثال الإجمالي والظني المطلق................................ ٤٣

الأمارات.................................................................... ٤٤

في الأمارات غير العلميّة....................................................... ٤٤

في إمكان التعبد بالأمارة...................................................... ٤٧

في بيان المراد من الإمكان في المقام.............................................. ٤٧

٤٣٩

في إمكان التعبد بالأمارة غير العلمية............................................ ٥٠

في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري.......................................... ٥٧

في مقالة المحقق النائيني في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري...................... ٦٤

الأصل عند الشك في اعتبار الأمارة............................................ ٧٠

في حجيّة الظهورات.......................................................... ٧٧

في حجية ظواهر الكتاب المجيد................................................. ٨٠

دعوى عدم اعتبار ظواهر الكتاب المجيد لوقوع التحريف فيه....................... ٨٦

في احتمال وجود القرينة....................................................... ٩٥

الإجماع المنقول............................................................. ١٠١

الشهرة في الفتوى........................................................... ١١١

حجية الخبر الواحد......................................................... ١١٥

المناقشة في الاستدلال على اعتبار خبر الواحد بآية النبأ.......................... ١٢٥

في الاستدلال على اعتبار خبر العدل بآية النبأ................................. ١٢٨

في الاستدلال على اعتبار الخبر الواحد بمفهوم الوصف في آية النبأ................ ١٣٢

في الاستدلال على اعتبار الخبر الواحد بآية النفر................................ ١٤٠

في الاستدلال على اعتبار الخبر الواحد بآية الكتمان............................. ١٤٦

في الاستدلال على اعتبار الخبر الواحد بآية السؤال.............................. ١٤٨

في الاستدلال على اعتبار الخبر الواحد بآية الاذن............................... ١٥١

في الأخبار التي استدل بها على اعتبار الخبر الواحد.............................. ١٥٥

٤٤٠