دروس في مسائل علم الأصول - ج ٤

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-94850-6-5
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

على ما تقدم سابقا ، وأما أصالة الطهارة لظاهر شفتيه فلا أثر لها حتى تقع المعارضة بينها وبين أصالة حلية الخل ، حيث إن المفروض عدم تمكن المكلف من التطهير لفقد الماء ، نعم إذا بقي الخل إلى أن وجد الماء لتطهيره فلا يجوز شربه لوقوع المعارضة.

الصورة الثانية : ما إذا كان الاضطرار إلى بعض الأطراف لا بعينه ، ثم حصل العلم الإجمالي كما إذا اضطر إلى شرب أحد الماءين ثم علم إجمالا بوقوع النجاسة في أحدهما ، وقد يقال في هذه الصورة بعدم تنجيز العلم الإجمالي كالصورة الاولى ، بدعوى أن ما يدفع المكلف اضطراره بشربه حلال وحرمة شرب الآخر بعده مشكوك بدوا ، فيؤخذ بأصالة الحلية فيه ، ولكن هذا القول ضعيف ، والصحيح تنجيز العلم الإجمالي ؛ لأنّ الاضطرار يرفع الحرمة إذا كان طارئا على ارتكاب الحرام كما هو مفاد رفع الاضطرار ، وقوله عليه‌السلام : ما من محرّم إلّا وقد أحلّ لمن اضطر إليه (١) ، والمفروض في هذه الصورة عدم طرو الاضطرار إلى شرب الماء المتنجس ، ولذا لو كان المتنجس منهما محرزا كان على المكلف دفع اضطراره بغيره.

وعلى الجملة النجس منهما واقعا باق على حرمته وموجب لتساقط الاصول النافية فيهما ، غاية الأمر لا تجب الموافقة القطعية في الفرض ؛ لأنّ حكم العقل بلزومها للتحرز عن العقاب المحتمل ، ومع كون الموافقة القطعية موجبة للابتلاء بمحذور آخر كالقاء النفس في التهلكة لا يحكم العقل بلزومها ، أضف إلى ذلك أن الشارع إذا رخص في ارتكاب المحرم لدفع الاضطرار فالترخيص في ارتكاب محتمل

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٣ : ٢٢٨ ، الباب ١٢ من أبواب كتاب الإيمان ، الحديث ١٨.

٣٨١

.................................................................................................

______________________________________________________

الحرمة أولى ، غاية الأمر الترخيص في الأول واقعي وفي الثاني ظاهري ، وقد تقدم أن كلام الماتن ظاهره كون الترخيص واقعيا ، وكذا يظهر ذلك من المحقق النائيني قدس‌سره ولكن يختلف ما ذكره عما ذكره الماتن ، حيث قال : ما يدفع به الاضطرار قبل دفعه كان محرما على تقدير كون المعلوم بالإجمال فيه ، ولذا يجب رعاية العلم الإجمالي في الطرف الباقي حتى بعد دفع اضطراره ، حيث لم يطرأ الاضطرار على خصوص الحرام الواقعي ، وإنما يكون اختياره لدفع اضطراره موجبا لسقوط حرمته الواقعية ، ولكن لا يخفى أن تعلق الحرمة الواقعية بفعل قبل ارتكابه وسقوطها عند اختيار ارتكابه أمر غير معقول ؛ لأنّ التكليف للزجر عن اختيار متعلقه ، وإذا جاز الفعل واقعا باختيار ارتكابه فلا يبقى معنى لتحريمه ، والحل أن اختيار شيء لدفع اضطراره إلى الجامع لا يوجب طرو الاضطرار عليه ليكون التكليف به ساقطا باختياره لدفع اضطراره ، والمتعين ما ذكرنا من عدم حكم العقل في الفرض بلزوم الموافقة القطعية ، ولا يبعد أن يجري الاستصحاب في بقاء النجس بعد رفع الاضطرار بأحدهما في هذا الفرض أيضا ، كما يأتي في الصورة الثالثة. ومما ذكرنا يظهر الحال في الصورة الثالثة : وهي ما إذا كان طرو الاضطرار إلى شرب أحد ماءين بعد العلم بنجاسة أحدهما ، فإنه عند طرو الاضطرار فالمختار لدفعه باق على حرمته الواقعية فيما إذا انطبق عليه المعلوم بالإجمال ، غايته أنه لا تجب الموافقة القطعية عقلا على ما تقدم ، بل يمكن في الفرض الالتزام بوجوب الاجتناب عن الآخر للاستصحاب في بقاء ما تنجس واقعا ، ولا يعارض بالاستصحاب في عدم وقوع النجس في الباقي لسقوطه بالمعارضة مع عدم وقوعه في المدفوع به الاضطرار قبل طرو الاضطرار إلى شرب أحدهما.

٣٨٢

لو كان إلى غير معين ، ضرورة أنه مطلقا موجب لجواز ارتكاب أحد الأطراف أو تركه ، تعيينا أو تخييرا ، وهو ينافي العلم بحرمة المعلوم أو بوجوبه بينها فعلا ، وكذلك لا فرق بين أن يكون الاضطرار كذلك سابقا على حدوث العلم أو لاحقا ، وذلك لأن التكليف المعلوم بينها من أول الأمر كان محدودا بعدم عروض الاضطرار إلى متعلقة ، فلو عرض على بعض أطرافه لما كان التكليف به معلوما ،

______________________________________________________

لا يقال : كيف يكون المدفوع به الاضطرار محرما واقعا عند اختياره لدفعه ، وما فائدة تحريمه عنده مع كون الغرض من النهي الزجر عن متعلقه ، والتأمل في فائدة النهي والغرض منه يجري في كل من الصورتين الثانية والثالثة ، فإنه يقال نعم الغرض من النهي الزجر عن متعلقه ، وهذا الغرض حاصل ، حيث إنه لو علم أثناء الارتكاب أن ما يرتكبه نجس يجب قطع الارتكاب ودفع اضطراره بغيره ، بخلاف ما إذا كان الاضطرار إلى معين ، فإنه لو علم نجاسته حين ارتكابه فلا يضر لسقوط النهي عنه بالاضطرار إليه.

والصورة الرابعة : ما إذا علم بنجاسة أحد مائعين ، أحدهما ماء والآخر خل ، ثم طرأ الاضطرار إلى شرب الماء لدفع عطشه ، ففيها ما تقدم من عدم الفرق بين طرو الاضطرار إلى بعض الأطراف وبين فقده ، في أن العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما قبل طرو الاضطرار أو فقد بعض الأطراف مقتضاه لزوم الاجتناب عن الآخر ؛ لأنّ الاصول النافية في جميع الأطراف قد سقطت قبل طروه أو فقد بعض الأطراف ، بل يمكن في الفرض الاستصحاب في بقاء ما وقعت النجاسة فيه سابقا ، فإن المقام من قبيل القسم الثاني من الكلي ، ومقتضاه رعاية التكليف المحتمل في غير المضطر إليه أو الباقي من الأطراف ، ولا مجال في المقام لدعوى معارضة الاستصحاب في عدم وقوع النجاسة في الخل مع الاستصحاب في بقاء الكلي بعد دفع الاضطرار بالماء ، أو

٣٨٣

لاحتمال أن يكون هو المضطر إليه فيما كان الاضطرار إلى المعين ، أو يكون هو المختار فيما كان إلى بعض الأطراف بلا تعيين.

لا يقال : الاضطرار إلى بعض الأطراف ليس إلّا كفقد بعضها ، فكما لا إشكال في لزوم رعاية الاحتياط في الباقي مع الفقدان ، كذلك لا ينبغي الإشكال في لزوم رعايته مع الاضطرار ، فيجب الاجتناب عن الباقي أو ارتكابه خروجا عن عهدة ما تنجز عليه قبل عروضه.

______________________________________________________

بعد فقد بعض الأطراف ، وذلك لسقوط جميع الاصول النافية في الأطراف قبل طرو الاضطرار أو فقد بعضها.

وهذا بخلاف الصورة الاولى ، من حصول العلم بوقوع النجاسة بعد الاضطرار إلى معين ، حيث ذكرنا أن أصالة الحلية في الخل جارية ولم تسقط ومع أصالة الحلية لا يجرى الاستصحاب في بقاء النجاسة السابقة ؛ لأنه لا أثر لبقاء النجاسة إلّا الاحتياط لاحتمال دفع الضرر ولا يثبت نجاسة الخل ، واحتمال الضرر مدفوع في شرب الخل بجريان أصالة الحلية فيه كما أوضحنا ذلك في بحث الاستصحاب في القسم الثاني من الكلي إذا احتمل التكليف في الفرد الباقي المحتمل ، وكان احتماله فيه مدفوعا بالأصل النافي ، ولا يخفى أن الملاك في تنجيز العلم الإجمالي وعدم تنجيزه في موارد الاضطرار إلى بعض الأطراف معينا ، هو حصول العلم الإجمالي لا المعلوم بالإجمال ، بمعنى أن سبق المعلوم بالإجمال على الاضطرار للبعض المعين من الأطراف لا يفيد في تنجيز العلم الإجمالي ، وإنما الموجب لتنجيزه ما إذا كان نفس العلم الإجمالي قبل الاضطرار إلى بعض الأطراف معينا ، ولو كان لاحقا بالاضطرار فلا يفيد التنجيز لأن الموجب لتنجيزه تساقط الاصول النافية في أطرافه ، وأطرافه تكون موردا لها عند حصول العلم ، فإن الموضوع لها الشك في الأطراف ، الحاصل

٣٨٤

فإنه يقال : حيث إن فقد المكلف به ليس من حدود التكليف به وقيوده ، كان التكليف المتعلق به مطلقا ، فإذا اشتغلت الذمة به ، كان قضية الاشتغال به يقينا الفراغ عنه كذلك ، وهذا بخلاف الاضطرار إلى تركه ، فإنه من حدود التكليف به وقيوده ، ولا يكون الاشتغال به من الأول إلّا مقيدا بعدم عروضه ، فلا يقين باشتغال الذمة بالتكليف به إلّا إلى هذا الحد ، فلا يجب رعايته فيما بعده ، ولا يكون إلّا من باب الاحتياط في الشبهة البدوية ، فافهم وتأمل فإنه دقيق جدا.

الثاني : إنه لما كان النهي عن الشيء ، إنما هو لأجل أن يصير داعيا للمكلف نحو تركه لو لم يكن له داع آخر [١].

______________________________________________________

بحصول العلم الإجمالي وسبق المعلوم بالإجمال على الاضطرار لا يؤثر في المعارضة ، إذا كان نفس العلم به لاحقا على الاضطرار ، ومما ذكرنا يظهر أنه لو كان العلم الإجمالي مقارنا لحصول الاضطرار إلى بعض الأطراف بعينه ، وأنه لا يكون في الفرض للأصل النافي في غير المضطر إليه معارض حتى وإن كان نفس المعلوم بالإجمال سابقا على الاضطرار فتدبر.

اشتراط الابتلاء بجميع أطراف العلم الإجمالي في تنجيزه

[١] اعتبر جماعة في تنجيز العلم الإجمالي بالحرمة الابتلاء بجميع أطرافه ، وذكر في وجهه أنه لا ينبغي التأمل في اعتبار التمكن من فعل في صحة النهي عنه ، حيث إن النهي عن فعل لا يتمكن المكلف منه لغو لا يصدر عن المولى الحكيم ، وإذا كان الوجه في عدم صحة النهي في فرض عدم التمكن من المتعلق ما ذكر جرى فيما كان الفعل مما يترك عادة ولا يحصل للمكلف داع إلى ارتكابه مع اطلاعه بما عليه من الخصوصيات ، ولذلك التزموا كالماتن قدس‌سره باشتراط الابتلاء في فعلية النهي ؛ لأنه مع عدم الابتلاء لا يترتب على النهي عنه دعوة للمكلف إلى الترك.

٣٨٥

.................................................................................................

______________________________________________________

وقد يقال لازم ما ذكر اشتراط الابتلاء في التكليف الوجوبي أيضا ، بأن يعتبر في الوجوب الفعلي إمكان ترتب دعوته إلى الفعل وإذا فرض فعل لا يحصل للمكلف داع إلى تركه عادة يكون الأمر به لغوا ، كايجاب ستر العورة عن غير الزوجة ووجوب الانفاق على النفس والولد ، واعترف الماتن قدس‌سره بذلك في هامش الكفاية ، وقد ذكر النائيني قدس‌سره أن اشتراط الابتلاء يختص بالتكاليف التحريمية ، والمراد من الخروج عن الابتلاء كون الموضوع لحرمة الفعل بحيث يحتاج الاتيان بمتعلق النهي إلى تهيئة مقدمات للوصول إليه بحيث لا يرغب عادة إلى تلك الهيئة ، ككون المائع النجس أو الغصبي في أرض يحتاج الوصول إليها إلى سفر طويل ، وهذا النحو من الفعل لا يصح النهي عنه ، ولكن يصح الأمر بمثل هذا الفعل ؛ لأنّ الأمر يكون داعيا له إلى تهيئة المقدمات ، وأما إذا لم يكن الموضوع كذلك بل عدم ارتكابه لوجود داع آخر يدعو إلى تركه ولا يتخلف الداعي عادة ، كتحريم أكل الخبائث فيصح النهي عنه كما يصح الأمر بستر العورة ، حيث يكون النهي والأمر مؤكدين للارتداع أو الاتيان ، ولكن قد يناقش في الفرق بين ما إذا كان الوصول إلى الموضوع محتاجا إلى تهيئة مقدمات لا يحصل للمكلف عادة الداعي إليها ، وبين ما إذا كان الموضوع بيد المكلف ولكن يكون له داع آخر إلى ترك متعلق النهي لا يتخلف عنه عادة ، بحيث لا يحصل للنهي المفروض داعوية إلى الترك ، ولو كان النهي في الفرض الأول لغوا لكان في الثاني أيضا كذلك ، وبتعبير آخر كما يصح أخذ القدرة في متعلق النهي بأن يضاف النهي إلى الفعل المقدور كذلك يصح أخذ الابتلاء بمعنى عدم الداعي الآخر الذي لا يتخلف عادة في متعلقه بأن يختص النهي بالفعل الذي يمكن فيه حصول الداعي إلى الارتكاب عادة ، ولكن الصحيح عدم اعتبار الزائد على القدرة لا في الإيجاب ولا في

٣٨٦

.................................................................................................

______________________________________________________

التحريم ، حيث إن النهي مع الداعي الآخر إلى الفعل أو الترك مؤكد يكون موجبا للقرب فيما إذا كان كل منهما مستقلا في الدعوة بمعنى أنه لو لم يكن للمكلف داع آخر إلى الفعل أو الترك لكان الأمر أو النهي داعيا له إلى الاتيان أو الترك ، وحيث إن الغرض في الأوامر الشرعية والنواهي الشرعية ليس مجرد الفعل أو الترك ، بل الغرض منهما استناد الفعل إلى أمر الشارع به ، واستناد الترك إلى نهيه ، لصح للشارع الأمر والنهي حتى فيما كان للمكلف داع آخر إلى الفعل أو الترك ، ولا يقاس ذلك بالموارد التي يكون الغرض من الأمر والنهي مجرد الإتيان بالمتعلق أو تركه خارجا ، ليكون الأمر والنهي مع داع آخر لا يتخلف عادة عبثا.

لا يقال : لو كان الغرض في الأوامر الشرعية ونواهيه الاستناد في الفعل أو الترك إلى أمر الشارع ونهيه لكانت التكاليف كلها من التعبدي مع أن النواهي كلها والأوامر جلّها توصليات.

فإنه يقال : إنما يكون المتعلق توصليا أو تعبديا لملاك فيه ، فإن كان الملاك فيه غير موقوف على قصد التقرب فهو توصلي ، وإن كان موقوفا على الاستناد وقصد التقرب فهو تعبدي ، وبتعبير آخر في موارد العبادة يتعلق الأمر بالفعل مع قصد التقرب بخلاف التوصلي فإنه يتعلق بذات الفعل على ما أوضحنا في بحث التعبدي والتوصلي ، وأما الغرض من التكليف في كل من التعبدي والتوصلي الاستناد ، وربما يشير إلى ذلك قوله سبحانه : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ ،)(١) نعم رعاية هذا الغرض في كل الأوامر والنواهي من مراتب تكميل النفس والتقرب إليه سبحانه.

__________________

(١) سورة البينة : الآية ٥.

٣٨٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وعلى الجملة الغرض من النهي عن فعل إمكان كونه داعيا إلى تركه حتى فيما إذا كان له داع آخر إلى تركه ، وكذلك الغرض من الإيجاب إمكان كونه داعيا إلى الفعل ولو مع فرض داع آخر له إلى الإتيان.

والمشهور بين القوم أنه إذا صح التكليف بما هو خارج عن الابتلاء بالمعنى المتقدم في كلام النائيني قدس‌سره ، بل وغيره مما يكون التكليف فيها للتأكيد والتكرار في الداعوية بالمعنى المتقدم يترتب على ذلك تنجيز العلم الإجمالي بالتكليف بين الداخل في الابتلاء أو غيره ، بخلاف ما إذا قيل باختصاص التكليف بمورد الابتلاء ، فإنه تجرى الاصول النافية في الداخل في الابتلاء بلا معارض ، ولكن لا يخفى ما فيه ، فإن تنجيز العلم الإجمالي يكون بتعارض الاصول النافية في الأطراف ، وإذا اختص بعض الأطراف بأصل طولي ناف فلا يكون تنجيز للعلم الإجمالي ، وعلى ذلك فالاصول النافية كالاستصحاب في عدم الموضوع وعدم التكليف في الأطراف متعارضة ، وكذلك أصالة الطهارة والحلية ، إلّا أن حديث الرفع بفقرة : «رفع ما لا يعلمون» يختص بما إذا كان الموضوع للحرمة أو الحرمة في الداخل في الابتلاء ، حيث إن الوضع فيه ثقل على المكلف بخلاف الوضع فيما هو خارج عن الابتلاء فإنه لا ثقل فيه ، حيث لا يرتكبه المكلف فيكون الرفع في الداخل في محل الابتلاء امتنانا دون غيره ، نعم إذا اختص الخارج عن الابتلاء بأصل مختص لا يجري في الداخل في مورد الابتلاء تقع المعارضة بينه وبين أصالة البراءة الجارية في الداخل فيه.

ثم على تقدير اعتبار الابتلاء في صحة التكليف ، فإن شك في خروج بعض الأطراف عن الابتلاء بالشبهة المفهومية فإن للخروج عن الابتلاء مراتب ، فبعض تلك

٣٨٨

.................................................................................................

______________________________________________________

المراتب متيقن وبعضها مشكوك ، فهل يصح مع المرتبة المشكوكة التمسك بإطلاق خطاب تحريم الشيء وتثبت الحرمة في الفرض بين الاطراف؟ ويكون العلم الإجمالي منجزا كما عليه الشيخ قدس‌سره ، أو أنه لا يصح معها التمسك بالإطلاق في الخطاب حيث يعتبر في التمسك بالإطلاق في خطاب الحكم في مورد إحراز إمكان ثبوت الحكم فيه بحسب مقام الثبوت كما عليه ظاهر الماتن ، فيجري الأصل النافي في الطرف الداخل في الابتلاء ، فالصحيح على القول باشتراط التكليف بالابتلاء هو الأول ، فإنه كما يصح التمسك بالإطلاق من الخطاب في موارد الشك في ثبوت الحكم من سائر الجهات ، كذلك يتمسك به في مورد احتمال عدم إمكان ثبوت الحكم فيه ثبوتا ، حيث إنه بالإطلاق المزبور يستكشف ثبوته وإمكانه ، ولذا لم يحصل إحراز هذا الإمكان من مقدمات الإطلاق وإلّا لم يمكن التمسك بالإطلاق في موارد الشك في ثبوت الحكم ثبوتا ، لاحتمال عدم الملاك له فيها ، مع أن ثبوت الحكم وجعله في مورد عدم ملاكه فيه قبيح على المولى الحكيم.

وعلى الجملة : مع الأخذ بالإطلاق المقتضي لثبوت الحكم بين الأطراف تكون الاصول النافية فيها متعارضة إلّا في الفرض الذي ذكرناه ، نعم لو قيل بانصراف خطابات التكليف إلى ثبوته في موارد الابتلاء ، كما يدعى ذلك بانصرافها إلى القادرين على متعلقات التكليف لما يمكن التمسك بها في موارد الشك في الابتلاء بنحو الشبهة المفهومية ، ولكن الدعوى بمراحل عن الواقع ، ولو كان مراد الماتن ذلك كان المتعين تعليل عدم جواز التمسك بعدم إحراز ظهور الخطاب لا بصحة إطلاق الحكم وإمكانه ثبوتا ، وإلّا يؤخذ بالإطلاق في الخطاب في موارد تقييد الحكم ثبوتا أو إمكان إطلاقه كذلك كما ذكرنا.

٣٨٩

.................................................................................................

______________________________________________________

هذا كله في الشبهة المفهومية للابتلاء ، وأما إذا شك في الخروج عنه بالشبهة المصداقية فلا يمكن التمسك بإطلاق الخطاب لإثبات التكليف للموضوع الموجود بين أطراف يحتمل وجودها خارج الابتلاء أو الخارج عن القدرة ، كما إذا علم بنجاسة إناء زيد أو عمرو ، وإناء عمرو مردّد بين كونه هو المتناول بيده أو خارج عن ابتلائه أو قدرته ، فإنه لا يمكن في الفرض التمسك بخطاب تحريم شرب النجس لإثبات التكليف على ما هو المقرر في بحث عدم جواز التمسك بالعام أو المطلق في شبهتهما المصداقية ، سواء كان التخصيص أو التقييد نقليا أو عقليا ، وعليه فيجري الأصل النافي في الأطراف الداخلة في موارد الابتلاء أو القدرة لاحتمال وجود الموضوع فيما هو خارج عن ابتلائه أو قدرته.

في الشك في كون بعض الأطراف مقدورا أو داخلا في الابتلاء

لا يقال كيف تجري أصالة البراءة أو غيرها من الأصل النافي في الداخل في الابتلاء أو القدرة مع أن المعروف فيما بينهم أن الشك في القدرة مورد الاحتياط كما إذا شك في تمكنه من تجهيز الميت فإنه لا يجوز له تركه أخذا بالأصل النافي ، فإنه يقال : يختص لزوم الاحتياط بموارد العلم بالملاك وعدم اختصاصه بصورة التمكن كما في المثال ، وأما إذا لم يعلم ذلك واحتمل انحصاره على صورة التمكن من الفعل ، فالشك في القدرة المساوق للشك في التكليف مجرى للبراءة ، بخلاف الصورة الاولى حيث يلزم فيها الاحتياط ؛ لأنّ العلم بالملاك الملزم كالعلم بالتكليف في لزوم الرعاية غاية الأمر يكون المكلف مع عجزه وفوت الملاك لقصوره معذورا ، بخلاف تفويته ، لكن لا علم لنا غالبا بهذا النحو من الملاك ، حيث إن الغالب يكون الكاشف عنه التكليف ، ومع عدم ثبوته في حق العاجز لا يحرز الملاك ، نعم إذا علم

٣٩٠

ـ ولا يكاد يكون ذلك إلّا فيما يمكن عادة ابتلاؤه به ، وأما ما لا ابتلاء به بحسبها ، فليس للنهي عنه موقع أصلا ، ضرورة أنه بلا فائدة ولا طائل ، بل يكون من قبيل طلب الحاصل ـ كان الابتلاء بجميع الأطراف مما لا بد منه في تأثير العلم ، فإنه

______________________________________________________

من الخارج أو دل دليل من خطاب شرعي كما في صورة العجز الناشئ عن ترك التعلم ، حيث يستفاد من الروايات الواردة في وجوبه أن العجز الناشئ عن تركه لا يكون عذرا فيحرز فوت الملاك مع العجز الناشئ عن تركه.

في استفادة عموم الملاك من خطابات التكاليف

وأما دعوى استفادة عموم الملاك من إطلاق الخطابات لكون مفادها ثبوت التكاليف في حق المتمكن والعاجز ، غاية الأمر يكون التكليف بالإضافة إلى العاجز بداعي الإعلام بالملاك والتصدي للفعل مع عدم إحراز عجزه واحتمال تمكنه ، ولذا يكون مع إحراز عجزه معذورا ويكون التمكن شرطا لتنجز التكليف لا يمكن المساعدة عليها ؛ لأنّ التكاليف من الإيجاب والتحريم بل الترخيص كونها بداعي البعث والزجر والإذن في الارتكاب ، فينحصر مدلولها ثبوتا بحكم العقل على المتمكن من متعلقاتها وأن يكون مدلولها الاستعمالي مطلقا بالإضافة إلى المتمكن والعاجز.

وعلى الجملة اعتبار القدرة في التكليف عقلا من قبيل ثبوت القيد ثبوتا ولا يوجب انتقاض ظهوره الاستعمالي ، بل يوجب عدم اعتباره ، نعم إذا كان مفاد الخطاب القضية الخارجية فالأمر كما ذكر لا يكون المكلف معذورا في مخالفة التكليف إلّا مع إحراز عجزه ، وذلك فإن إحراز حال المكلف فيما كان الخطاب بمفاد القضية الخارجية يكون على المولى توجيه خطابه إلى عبده ، ظاهره أنه أحرز تمكنه من الفعل ، بقي في المقام أمران :

٣٩١

.................................................................................................

______________________________________________________

أحدهما : قد يقال كما أن خروج بعض الأطراف عن القدرة العقلية أو حتى عن الابتلاء بناء على ما تقدم يمنع عن تنجيز العلم الإجمالي كذلك العجز الشرعي في بعض أطرافه يمنع عن تنجيزه ، كما إذا علم بإصابة النجاسة في الماء أو الثوب الغصبي فإنه تجري أصالة الطهارة في الماء ، ولا يعارضها أصالة الطهارة في الثوب ، فإن الثوب المزبور لا يجوز الصلاة فيه سواء كان طاهرا أو نجسا فلا مورد للأصل فيه.

أقول : لو كان غير المقدور شرعا بحيث لم يكن للمعلوم بالإجمال أي أثر فيه أصلا فيجري في المقدور الاصول النافية بلا معارض ، بخلاف ما كان له أثر فيه ، فإن أصالة الطهارة في الثوب الغصبي مقتضاها طهارة ما يلاقيه ولو بعد ذلك ، ويكون هذا الأصل على تقدير جريانه حاكما على أصالة الطهارة في ناحية الملاقي (بالكسر) فأصالة الطهارة في الماء معارضة بأصالة الطهارة في الثوب ، نعم لا بأس بشرب الماء المزبور أخذا بأصالة الحل فيه على ما تقدم من أنها أصل طولي يستفاد من خطاب يختص ببعض الأطراف.

وبتعبير آخر طهارة شيء أو نجاسته وإن كانت جزء الموضوع أو قيده في تنجس ملاقيه إلّا أن جزء الموضوع أو قيده فيما كان قابلا للجعل في نفسه يمكن التعبد به قبل تمام الموضوع مع احتمال تمامه ، بخلاف ما إذا كان الجزء أو القيد غير مجعول بحيث لا معنى للتعبد به إلّا جعل حكمه ، فإن التعبد به لا يمكن إلّا في فرض جزئه الآخر أو ذات المقيد ، وعليه فالعلم الإجمالي بنجاسة الماء أو الثوب الغصبي كاف في وقوع المعارضة في الأصل المقتضي لطهارة كل منهما.

وثانيهما : ما إذا فرض تحقق المعلوم بالإجمال في بعض الأطراف يكون الحكم فيه فعليا بخلاف ما إذا تحقق في البعض الآخر فإن الحكم لا يكون فعليا ، كما إذا علم

٣٩٢

بدونه لا علم بتكليف فعليّ ، لاحتمال تعلق الخطاب بما لا ابتلاء به.

ومنه قد انقدح أن الملاك في الابتلاء المصحح لفعلية الزجر وانقداح طلب تركه في نفس المولى فعلا ، هو ما إذا صح انقداح الداعي إلى فعله في نفس العبد

______________________________________________________

بوقوع النجاسة في الماء أو التراب مع انحصار طهور المكلف بهما ، فهل يمكن الالتزام بجريان أصالة الطهارة في الماء ؛ لأنّ وقوع النجاسة في التراب على تقديره لا أثر له ؛ لأنّ بطلان التيمم به على هذا التقدير غير مستند إلى نجاسته ، بل إلى كون المكلف واجدا للماء.

أقول : هذا أيضا صحيح فيما إذا لم يكن لطهارة التراب أثر شرعي كجواز السجود عليه أو يعلم ملاقاته طاهرا بالرطوبة المسرية ولو بعد ذلك ، لتقع المعارضة بين أصالة الطهارة الجارية في الماء وأصالة الطهارة الجارية في التراب ، وإلّا يجمع المكلّف بين الوضوء بالماء المزبور ثم بعد يبس أعضائه يتيمم به ، فإنّ نجاسة الأعضاء على تقدير كون الماء نجسا لا يضر بصحة التيمم بالتراب وإن كان الأولى التيمم به أولا ثم يزيل التراب عن مواضعه ويتوضأ ، وأما إذا علم بنجاسة الماء أو كون التراب مغصوبا مع انحصار طهوره عليهما وعدم مرتبة اخرى مما يتيمم به ، فبما أن المكلف في الفرض يعلم بوجوب الصلاة عليه مع الطهور إما بالماء أو بالتراب يتعين عليه رعايته ، ولكن الموافقة القطعية للتكليف بالصلاة بالجمع بين الوضوء والتيمم توجب المخالفة الاحتمالية للتكليف المحتمل المنجز ، أعني حرمة التصرف في التراب لسقوط أصالة الحلية فيه بالمعارضة مع أصالة الطهارة والحلية في الماء على ما تقدم يقتصر في موافقة التكليف بالصلاة على موافقته الاحتمالية أي بالوضوء مع الماء المزبور.

نعم إذا تمكن من المرتبة اللاحقة مما يتيمم به تعين الموافقة القطعية للتكليف

٣٩٣

مع اطلاعه على ما هو عليه من الحال ، ولو شك في ذلك كان المرجع هو البراءة ، لعدم القطع بالاشتغال ، لا إطلاق الخطاب ، ضرورة أنه لا مجال للتشبث به إلّا فيما إذا شك في التقييد بشيء بعد الفراغ عن صحة الإطلاق بدونه ، لا فيما شك في اعتباره في صحته ، تأمل لعلك تعرف إن شاء الله تعالى.

الثالث : إنه قد عرفت أنه مع فعلية التكليف المعلوم لا تفاوت بين أن تكون أطرافه محصورة ، وأن تكون غير محصورة [١].

______________________________________________________

بالصلاة بالجمع بين الوضوء والتيمم بتلك المرتبة ، ولو عكس الأمر بأن علم إما بغصبية الماء أو كون التراب نجسا تعين مع انحصار الطهور عليهما التيمم بالتراب المزبور ، لاحتمال كون الماء غصبا وتنجز حرمة التصرف فيه بمعارضة أصالة الحلية فيه بأصالة الطهارة في ناحية التراب.

العلم الإجمالي في أطرافه غير المحصورة

[١] اشتهر في الألسنة عدم الاعتبار بالعلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة ، وأن تنجيز العلم الإجمالي يختص بما إذا كانت أطرافه محصورة ، ولذا تصدوا لذكر المعيار في كون الشبهة أطرافها محصورة أو غير محصورة ، وذكر الماتن قدس‌سره عدم الفرق في تنجيز العلم الإجمالي بين قلة أطرافه وكثرتها ، نعم ربما تكون كثرة الأطراف في بعض الموارد موجبة لعسر الموافقة القطعية للمعلوم بالإجمال بالاجتناب عن جميع الأطراف أو الاتيان بجميعها أو كان رعايته موجبة في جميع الأطراف الضرر أو غيره مما يوجب رفع التكليف وعدم فعليته ، وهذا الأمر قد يتفق مع قلة الأطراف أيضا ، فلا بد من ملاحظة ما يوجب رفع التكليف وعدم فعليته وأنه محقق في مورد العلم الإجمالي أم لا ، أو أنه محقق مع كثرة الأطراف ومع أي مرتبة منها ، فإن احرز تحققه فهو وإلّا يحكم بتنجز التكليف المعلوم بالإجمال

٣٩٤

.................................................................................................

______________________________________________________

فيما كان في البين عموم أو إطلاق في خطاب ذلك التكليف ، ومع عدمهما يكون المرجع أصالة البراءة لكون الشك في تحقق تكليف فعلي في البين.

أقول : المفروض في الشبهة غير المحصورة عدم دخولها في مورد الاضطرار إلى ارتكاب بعض الأطراف لا بعينه وإلّا جرى فيها ما تقدم ، بل المفروض كون الاجتناب عن جميع الأطراف عسرا أو حرجا ، وقد ذكر الماتن قدس‌سره في قاعدة نفي الحرج أنها ترفع التكليف إذا انطبق عنوان الحرج كالضرر على الفعل الذي تعلق به التكليف ، وفي موارد الشبهة غير المحصورة لا ينطبق عنوان الحرج أو الضرر على الفعل فعلا أو تركا ، بل يكون الحرج أو الضرر في الإتيان بجميع أطراف العلم الإجمالي أو تركها فلا مجرى لقاعدة نفي الحرج أو قاعدة نفي الضرر في موارد الشبهة غير المحصورة ، نعم لو قيل بأن الضرر أو الحرج عنوان لنفس التكليف وأن المنفي نفس التكليف الحرجي أو الضرري ، فقد يدعى أن التكليف مع العلم الإجمالي به في أطراف كثيرة حرجي ؛ لأنّ الحرج في التكليف عبارة عن كون امتثاله حرجيا فينفى بقاعدة نفيه أو نفي الضرر ، وبعده لا موجب لرعاية العلم الإجمالي أصلا.

لا يقال : كيف تكون قاعدة نفي الحرج أو الضرر حاكمة في أطراف العلم الاجمالى ؛ لأنّ الاجتناب عن الحرام الواقعي أو الإتيان بالواجب الواقعي لا حرج ولا ضرر فيهما ، وإنما يكون الحرج أو الضرر في إحراز الاجتناب عن الحرام الواقعي أو إحراز الإتيان بالواجب الواقعي ، وهذا الإحراز المعبر عنه بالموافقة القطعية لزومها عقلي لا يدخل في المجعول الشرعي ليكون منفيا بنفي جعل الحرج أو الضرر ، فلا فرق في عدم شمول القاعدتين بين القول بأن الحرج أو الضرر عنوان لنفس الفعل

٣٩٥

.................................................................................................

______________________________________________________

المتعلق به التكليف ، أو على التكليف المتعلق به الفعل ، بل لو فرض انطباقه على التكليف لازمه ارتفاعه واقعا فتصير الحليّة في كل واحد من أطراف العلم واقعية لا ظاهرية ، ولا يظن التزام القائلين بعدم اعتبار العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة بذلك.

فإنه يقال : يصدق الحرج على التكليف الثابت في طرف واحد من أطراف كثيرة ، وإن امتثاله في هذا الحال حرجي ، حيث إنه يتوقف على الإتيان بجميع الأطراف أو ترك جميعها ورفعه في هذا الحال أي مقيدا بحال الجهل وبقاء التردد يكون رفعا ظاهريا ، فإن كونه ظاهريا مقتضى تقييد الرفع بحال الجهل وبقاء التردد ، نعم بناء على اعتبار انطباق عنوان الحرج أو الضرر على الفعل المنطبق عليه عنوانهما التكليف فلا مجرى لهما في الشبهة غير المحصورة ، نعم بناء على ذلك يتعين في موارد العلم الإجمالي بالواجب في أطراف غير محصورة الإتيان من أطراف العلم إلى أن يصل رعاية الاحتياط في الباقي بحد الحرج في الفعل ، فيعلم بعدم التكليف بعد ذلك إما للاتيان بالواجب قبل ذلك أو ارتفاع التكليف على تقدير بقائه ، فيكون نظير الاضطرار اللاحق على البعض المعين من أطراف العلم حيث لا يجب رعاية العلم في الطرف المضطر إليه.

وأما في موارد العلم الإجمالي بالحرمة في الشبهة غير المحصورة فإن كان بعض أطرافه خارجا عن القدرة فلا بأس بارتكاب أي طرف مما هو داخل في القدرة إذا لم يعلم بوجود الحرام في تلك الأطراف ولو في طول الزمان ، وأما إذا كانت جميع الأطراف داخلة تحت قدرته كذلك ، فاللازم الاجتناب عن جميعها إلى أن يصل إلى حد الاضطرار إلى ارتكاب البعض ، أو يصل مع الاجتناب عن جميعها في طول

٣٩٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الزمان إلى بقاء بعض الأطراف فقط مما هو بمقدار الحرام المعلوم بالإجمال الأول ، ولكن كان الاجتناب عنها أمرا حرجيا ، ويتعين ما ذكر أيضا بناء على أن الحرج والضرر وإن يكونا عنوانين لنفس التكليف ، إلّا أن التكليف الواقعي ليس في موافقته حرج أو ضرر ، وإنما الحرج والضرر في إحراز الموافقة القطعية ولزوم الموافقة القطعية حكم عقلي لا يرتفع بنفي الحرج والضرر في مقام الجعل ، أو أن خطاب نفي الحرج أو الضرر لا يرفع التكليف برفع ظاهري وإنما مدلولهما نفي الجعل واقعا بالإضافة إلى التكليف المجعول في الشريعة.

كلام النائيني قدس‌سره في الشبهة غير المحصورة وبيانه الملاك في كونها غير محصورة

ومما ذكرنا يظهر الخلل فيما ذكره المحقق النائيني قدس‌سره حيث قال : لا يجب الاجتناب عن أطراف الشبهة التحريمية غير المحصورة ، وذلك ؛ لأنّ المكلف لا يتمكن من ارتكاب جميع أطراف الشبهة ومع عدم تمكنه من ذلك لا يمكن المخالفة القطعية للحرمة الواقعية ، وإذا لم يمكن المخالفة القطعية فلا تجب الموافقة القطعية أيضا ، فإن لزوم الموافقة القطعية تابعة لحرمة المخالفة القطعية ، ولهذا يختص عدم لزوم الاجتناب عن الأطراف بالشبهة التحريمية غير المحصورة ، وأما التكليف الوجوبي المعلوم بالإجمال بين أطراف كثيرة فيمكن فيها المخالفة القطعية بترك جميع أطراف العلم ، ولذا يجب فيها الإتيان بمحتملات التكليف الوجوبي إلى أن يلزم الحرج أو الضرر أو يكتفى بالموافقة الظنية بناء على تعين الامتثال الظني بعد تعذر الامتثال القطعي ، ومع تعذره أيضا تصل النوبة إلى الامتثال الاحتمالي على ما هو المقرر في بحث مراتب الامتثال ، فتحصّل أن الملاك في كون الشبهة التحريمية غير محصورة وعدم تنجيز العلم الاجمالي بالحرام فيها هو عدم التمكن من المخالفة

٣٩٧

.................................................................................................

______________________________________________________

القطعية من جهة كثرة أطراف العلم الإجمالي بالحرام.

في الاستدلال على حكم الشبهة غير المحصورة

أقول : إن كان المراد أنه لا يتمكن من ارتكاب أطراف الشبهة غير المحصورة حتى بحسب طول الزمان لم يشترطوا ذلك عند قولهم بعدم اعتبار العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة ، أضف إلى ذلك أن ما ذكره قدس‌سره من أنه إذا لم يمكن المخالفة القطعية فلا تجب الموافقة القطعية أيضا ، وأن وجوب الموافقة القطعية تابع لعدم جواز المخالفة القطعية لا يمكن المساعدة عليه ، فإن جواز المخالفة القطعية لا يجتمع مع وجوب الموافقة القطعية ، وأما اجتماع وجوب الموافقة القطعية مع عدم إمكان المخالفة القطعية فهو أمر واقع في الشبهة المحصورة أيضا ، فإنه إذا تردد الحرام في زمان بين ضدين لهما ثالث فإنه لا يمكن الجمع بين الضدين في ذلك الزمان حتى تحصل المخالفة القطعية ، ولكن يمكن موافقتها القطعية بتركهما إلى ضد ثالث ، فاللازم أن لا يكون العلم الإجمالي في الشبهة المحصورة منجزا بدعوى أنه لا مانع في مثل ذلك من الأخذ بالاصول النافية في كل من الضدين ، حيث لا يلزم من الأخذ بها في كل منهما المخالفة القطعية لعدم إمكان تلك المخالفة ، نظير الاصول النافية في كل من الوجوب والحرمة في دوران الأمر بين المحذورين.

والوجه في عدم صحة هذا القول في الشبهة المحصورة المزبورة أنه مع إمكان الموافقة القطعية باختيار الضد الثالث يكون التكليف واصلا ، ومقتضى وصوله عقلا رعاية احتمال التكليف في كل من الضدين فيكون ترخيص الشارع في كل منهما منافيا للتكليف الواقعي المعلوم بالإجمال بينهما ، ولا يقاس المثال بدوران الأمر بين

٣٩٨

.................................................................................................

______________________________________________________

المحذورين ، حيث إن مع عدم إمكان شيء من المخالفة القطعية والموافقة القطعية لا يعتبر التكليف بنوعه واصلا ، والتكليف المردد بين الوجوب والحرمة مع وحدة المتعلق لا أثر له ولا يترتب عليه الانبعاث حتى ينافي الحكم الظاهري في المتعلق ويجري ما ذكرنا في المثال في الشبهة غير المحصورة أيضا إذا اعتبر فيها عدم التمكن من المخالفة القطعية ولو في طول الزمان.

وذكر الشيخ قدس‌سره في الوجوه التي يمكن الاستناد إليها في الالتزام بعدم تنجيز العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة ، واختار الوجه هو أن العلم الإجمالي المزبور لا يعتنى به عند العقلاء ويتعاملون مع أطرافه بالشبهة البدوية ، ولذا لا يرى العقل هذا العلم بيانا ، ويجري في كل من أطرافه حكمه بقبح العقاب بلا بيان ، وفسّر كلامه قدس‌سره بأن احتمال التكليف مع كثرة الأطراف في كل منها يكون موهوما ، فيجوز الارتكاب ما دام الوهم في الأطراف ، ويرد على ذلك بأنه إن كان المراد أنه لا يعتني بمجرد كون الاحتمال ضعيفا بأنه لا يعتبر في تنجيز العلم الإجمالي في أطراف محصورة تساوي احتمال التكليف في كل من أطرافها ، بل يكون العلم الإجمالي منجزا حتى فيما كان احتمال المعلوم بالإجمال في بعضها ضعيفا ، وإن كان المراد من الاحتمال الموهوم الاطمئنان بعدم المعلوم بالإجمال فيما يرتكبه فلازمه جواز الارتكاب ما دام الاطمئنان والوثوق بأن المعلوم بالإجمال في سائر الأطراف ، لا عدم تنجيز العلم الإجمالي في شيء من الأطراف كما هو ظاهر كلامهم بعدم الاعتبار بالعلم الإجمالي مع كون الشبهة غير محصورة.

ويمكن أن يكون مراده قدس‌سره مما ذكره ، ما ذكرناه في بحث الفقه في مسألة العلم بالنجاسة في الشبهة غير المحصورة من أن المراد من العلم هو الذي يغفل عنه عامة

٣٩٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الناس ولا يرونه علما مع كونه في الحقيقة علما ، وذكرنا عدم اختصاص ذلك بالعلم الإجمالي ، بل يجري في التفصيلي أيضا ، ومثلنا بالبيضة أو الدجاجة التي يشتريها أيتملكها بغير الشراء ، حيث إن جريان اليد العادية في طول سابق الزمان على اصولهما أمر قطعي ، ولكن لا يعتنى به فتدبر.

ثم إن الثمرة بين ما ذكره المحقق النائيني في وجه عدم وجوب الاجتناب عن أطراف الشبهة غير المحصورة ، وما ذكره الشيخ قدس‌سره في وجه عدم تنجيز العلم الإجمالي بناء على ما فسروا كلامه به يظهر فيما لو كان الشك في الشيء بنفسه موردا للاحتياط ، كما لو اشتبه مائع مضاف بين أطراف كثيرة من الآنية التي فيها ماء فيكتفى بالوضوء بواحد منها ، بناء على الوجه الذي ذكره الشيخ لكون المختار للوضوء ماء ، فإن احتمال كونه غير ماء موهوم ، بخلاف ما ذكره النائيني قدس‌سره فإنه يجب تكرار الوضوء بما في الآخر لإحراز التوضؤ بالماء.

وبتعبير آخر لا يكون الشك في كل من الأطراف كالعدم ، ولكن العجب منه قدس‌سره حيث التزم بكفاية الوضوء الواحد ، وعلله بأن المضاف المزبور لكثرة أطرافه بحكم التالف ، والوجه في العجب أنه إن كان المراد بالتلف الاستهلاك وارتفاع الموضوع بأن يكون كثرة الأطراف موجبا لانتفاء المضاف فهو غير تام صغرى وكبرى ، أما الصغرى فإنه يلزم على الاستهلاك لو كان درهم واحد من الدراهم الكثيرة ملك الغير أن يحكم بكل الدراهم أنها ملك لمن كان له سائر الدراهم ، وأما الكبرى فقد ذكرنا في بحث المطهرات أن الاستهلاك لا يوجب انتفاء الموضوع وجواز شرب الماء الكثير الواقع فيه البول أو غيره من النجاسة ، لما دل على اعتصام الماء وجواز شربه واستعماله في الوضوء ، فهذا من التبعية لحكم الماء الطاهر ، ولذا يقتصر على مورد قيام الدليل على

٤٠٠