دروس في مسائل علم الأصول - ج ٤

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-94850-6-5
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

وقاعدة الفراغ والشك في الإتيان بفريضة الوقت قبل خروجه إلى غير ذلك ، وأورد العراقي قدس‌سره على ما ذكره النائيني في عدم شمول ما استكرهوا عليه وما اضطروا إليه لموارد الاضطرار إلى ترك الواجب أو الإكراه عليه ، فإنّ الرفع تنزيل الموجود معدوما لا تنزيل المعدوم موجودا ، فإنه وضع بأنا نفرض أن المكلف قد علم بتعلق نذره بشرب أحد المائعين ولا يدري تعيينه ، واكره أو اضطر إلى ترك شرب أحدهما معينا أو غير معين ، فلا بد من التزامه بوجوب الوفاء بالنذر وإحراز موافقته القطعية بشربهما مع أنه لا يمكن الالتزام إلّا بالتكليف التوسطي ، أي لزوم الموافقة الاحتمالية وليس هذا إلّا من جهة رفع الاضطرار.

أقول : لا يخفى ما في الإيراد فإنه لو أغمض عما ذكر والتزم بأن حديث رفع الاضطرار لا يشمل ترك الواجب لا يجب في المثال شربهما ، فإنه إذا كان الاضطرار إلى ترك شرب المعين وكان النذر متعلقا بشربه يرتفع وجوب شربه بقاعدة نفي الضرر ونفي الحرج الشامل لوجوب الوفاء بالنذر ، وإن تعلق الاضطرار بترك شرب أحدهما لا بعينه فأيضا كذلك ، فإن الضرر المتوعد به في الإكراه أو المتوجه إليه في صورة الاضطرار مما يجب التحفظ عنه ، فالعلم الإجمالي بوجوب شرب أحدهما لا يجب موافقته القطعية لما ذكر في محله من كون لزوم الموافقة القطعية لحكم العقل بتحصيل الأمن من احتمال مخالفة التكليف الواصل ، والعقل لا يحكم بلزوم الموافقة القطعية الموجبة للمخالفة القطعية لتكليف آخر ، فيتعين في الفرض لزوم المخالفة الاحتمالية.

وعلى الجملة مفاد الحديث رفع تكليف يضطر المكلف إلى ترك امتثاله أو يكره عليه ، ولكن الحديث لا يثبت التكليف بغير ما يضطر إليه ، حيث إن شأن رفع

٢٦١

.................................................................................................

______________________________________________________

الاضطرار أو الإكراه الرفع لا إثبات غيره ، فإذا اضطر المكلف إلى ترك جزء أو شرط من متعلق التكليف في تمام الوقت المضروب شرعا لذلك الواجب يكون رفع الجزء أو الشرط بعدم التكليف بالفعل المشتمل لذلك الجزء أو المقيد بذلك الشرط ، ولكن لا يثبت التكليف بالخالي عنه ، وكذا الحال إذا كان الفعل الخاص موضوعا لحكم تكليفي أو وضعي واضطر المكلف إلى ترك ذلك الفعل الخاص فلا دلالة في الحديث على ترتب ذلك التكليف أو الوضع على ترتبهما على الفعل بلا تلك الخصوصية كما اعتبر الشارع القضاء من المجتهد نافذا في حق المترافعين ، فلا يدل حديث رفع الاضطرار على نفوذه من مطلق العالم وإن لم يكن مجتهدا ، وهكذا حيث إن مقتضى حديث رفع ما اضطروا إليه أو ما استكرهوا عليه هو رفع الأثر المترتب على الفعل لو لا الإكراه والاضطرار عند طريانهما ، لا إثباته لفعل آخر بل لا يرتفع ذلك الأثر عن ذلك الفعل في الموارد التي يكون عدم ترتبه على الفعل عند الاضطرار على خلاف الامتنان ، كبيع المضطر داره لحاجته إلى ثمنها ، كما أنه لو قام في مورد دليل على ثبوت التكليف بالفعل الخالي عن الشرط أو الجزء كما في الاضطرار إلى ترك بعض ما يعتبر في الصلاة يؤخذ به ، وليس هذا راجعا إلى استفادته من رفع الاضطرار ، كما أنه إذا قام الدليل على ترتب الأثر على الفعل الخالي عن الخصوصية كترتب النفوذ على قضاء قاضي التحكيم يؤخذ به.

لا يقال : ما الفرق بين رفع ما اضطروا إليه وما استكرهوا عليه وبين رفع ما لا يعلمون ، فإنهم ذكروا مع تردد الواجب الارتباطي بين الأقلّ والأكثر تجري البراءة في ناحية جزئية المشكوك أو شرطيته ، فيكتفى في امتثال الواجب بالأقل ، مع أن رفع الجزئية والشرطية تكون برفع التكليف النفسي المتعلق بالأكثر ولا علم بتعلقه بالأقل بنحو اللابشرط.

٢٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

فإنه يقال : الرفع في موارد الاضطرار والإكراه والنسيان أي نسيان الجزء أو الشرط في جميع الوقت واقعي ولا يكون في البين مثبت للتكليف بالإضافة إلى الباقي في حديث الرفع ، وهذا بخلاف دوران المأمور به بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين ، فإن الرفع عند عدم العلم بالإضافة إلى الأكثر رفع ظاهري فيختص الرفع بالإضافة إلى ترك المأمور به من ناحية ترك الجزء المشكوك أو الشرط المشكوك ، فإن ثبوت التكليف بالإضافة إلى الأقل معلوم فإن الأمر به نفسيا أو ضمنيا معلوم وكذا ترتب العقاب في تركه محرز فلا يجري فيه قبح العقاب بلا بيان أو «رفع عن امتي ما لا يعلمون» ، بخلاف ترك المشكوك فإن تعلق التكليف به ولو ضمنيا أو ترتب العقاب في تركه غير محرز ، وبتعبير آخر التكليف الموجود في البين قابل للتبعّض في التنجيز ، أضف إلى ذلك أن رفع التكليف بالأقل ولو بنحو اللابشرط خلاف التوسعة فلا مجرى فيه لأصالة البراءة كما هو الحال في دوران الأمر الواجب بين المطلق والمقيد ، حيث إنّ تعلق التكليف بالجامع بين المطلق والمقيد محرز وجريان البراءة في ناحية تعلق الوجوب بالمطلق ممنوع لكون رفعه الظاهري على خلاف الامتنان مع فرض العلم بالتكليف بالجامع بخلاف جريانها في ناحية المشروط والمقيّد.

عدم جريان أصالة البراءة عند الشك في شرطية شيء للمعاملة أو قيديته لها

لا يقال : كما أن لحديث الرفع حكومة ـ بفقرة «ما لا يعلمون وما اضطروا إليه وما استكرهوا عليه» ، ـ ظاهرية أو واقعية بالإضافة إلى قيود متعلق التكليف ، فليكن كذلك بالإضافة إلى القيود المعتبرة في صحة المعاملات فيرجع في القيد المشكوك اعتباره في المعاملة إلى أصالة البراءة أو في ترك القيود المعتبرة للاضطرار أو الإكراه برفع الاضطرار والإكراه.

٢٦٣

.................................................................................................

______________________________________________________

فإنه يقال معنى كون شيء قيدا للمعاملة تعلق الامضاء بأفرادها الواجدة لذلك القيد ، فالأفراد الخالية عنه لم يتعلق بها الإمضاء وليس في الافراد الخالية أثر ليقال برفعه يرفع الإكراه والاضطرار.

وبتعبير آخر : الإمضاء يتعلق بنحو الانحلال بانحلال المعاملة ، فما وجد منها واجدا للقيد تعلق بها الإمضاء ، والأصل عدم تعلق الإمضاء بغير الواجد فلا بد في إثبات الإمضاء حتى بالإضافة إلى الفاقد من إطلاق أو عموم في دليل اعتبار تلك المعاملة أو قيام دليل خاص على إمضاء الفاقد أيضا ، هذا بالإضافة إلى فقرة ما لا يعلمون ، وأما بالإضافة إلى صورة الإكراه أو الاضطرار أو النسيان فليس في الفاقد أثر حتى ينفى ذلك الأثر برفع الإكراه أو الاضطرار وثبوت الإمضاء ليس رفعا ، بل من إثبات الأثر الذي لا يدخل في مدلول حديث الرفع ، وبالجملة الشرطية والقيدية للمعاملة ينتزع من عدم انحلال الإمضاء بالإضافة إلى الأفراد الفاقدة وعدمهما ينتزعان من الانحلال ، والأصل العملي مقتضاه عدم الانحلال في مقام الثبوت حتى بالإضافة إلى فقرة «ما لا يعلمون».

تذييل ـ الظاهر اختصاص الرفع في «ما لا يعلمون» برفع الحكم الإلزامي المحتمل فعلا أو تركا ، وأما إذا علم بعدم الإلزام ودار أمر الفعل بين الاستحباب وعدمه فلا مجرى لحديث الرفع ، حيث لا ثقل في استحباب الفعل كما لا مجرى للبراءة العقلية ، حيث إن عدم العقاب فعلا أو تركا معلوم.

وقد يقال : إن عدم جريان مثل حديث الرفع إنما هو في احتمال الاستحباب النفسي للفعل ، وأما الاستحباب الضمني كما إذا شك في أن المستحب هو الأقل أو الأكثر أو المطلق والمشروط فيمكن نفي دخالة المشكوك في المطلوب بحديث الرفع حيث لو لا الرفع لما أمكن الإتيان بالأقل بداعوية الأمر المتعلق به أو بالأكثر ، بل

٢٦٤

فإنّ ما لا يعلم من التكليف مطلقا كان في الشبهة الحكمية أو الموضوعية بنفسه قابل للرفع والوضع شرعا ، وإن كان في غيره لا بد من تقدير الآثار أو المجاز في إسناد الرفع إليه ، فإنه ليس ما اضطروا وما استكرهوا ... إلى آخر التسعة بمرفوع حقيقة.

نعم لو كان المراد من الموصول في (ما لا يعلمون) ما اشتبه حاله ولم يعلم عنوانه ، لكان أحد الأمرين مما لا بد منه أيضا. ثم لا وجه لتقدير خصوص المؤاخذة بعد وضوح أن المقدر في غير واحد غيرها ، فلا محيص عن أن يكون المقدر هو الأثر الظاهر في كل منها ، أو تمام آثارها التي تقتضي المنّة رفعها ، كما أنّ ما يكون بلحاظه الإسناد إليها مجازا ، هو هذا ، كما لا يخفى.

فالخبر دل على رفع كل أثر تكليفي أو وضعي كان في رفعه منة على الأمة ، كما استشهد الإمام عليه‌السلام بمثل هذا الخبر في رفع ما استكره عليه من الطلاق

______________________________________________________

لا بد في إحراز امتثال الأمر المعلوم من الإتيان بالأكثر حيث إن الأمر لا يدعو إلّا إلى متعلقه أو في ضمن دعوته إلى تمام متعلقه ، بخلاف ما إذا جرت البراءة عن تعلقه بالأكثر حيث يثبت أن المتعلق في الظاهر هو الأقل.

لا يقال : تبعّض الوجوب في التنجز على تقدير تعلقه بالأكثر أمر معقول ، ولذا أمكن جريان البراءة عن وجوب الجزء الزائد ، حيث يثبت بضم المعلوم بالاجمال تنجز الوجوب حتى على تقدير تعلقه بالأكثر في ناحية الأقل ، بخلاف الاستحباب المتعلق بالأقل أو الأكثر فإن استحباب الاحتياط بالإتيان بالأكثر غير مرفوع للعلم بحسن الاحتياط ورجحانه والاكتفاء بالأقل لاحتمال كونه المستحب النفسي لا يحتاج إلى أصالة البراءة ، كما أن الإتيان بالأقل بداع الأمر به مهملا لا يحتاج إليها وتعلقه به بنحو اللابشرط لا يثبت بالبراءة.

٢٦٥

والصدقة والعتاق.

ثم لا يذهب عليك أن المرفوع فيما اضطر إليه وغيره ، مما أخذ بعنوانه الثانوي إنما هو الآثار المترتبة عليه بعنوانه الأولي [١].

______________________________________________________

فإنه يقال : معنى البراءة عن جزئية المشكوك أو قيديته ، الحكم بتبعض الامتثال على تقدير تعلق الأمر بالأكثر بمعنى اكتفاء الشارع بالأقل ما دام الجهل ولو على تقدير تعلق الأمر ثبوتا بالأكثر.

[١] الظاهر اختصاص الرفع في فقرة «ما اضطروا إليه وما استكرهوا عليه والخطأ والنسيان» بالحكم المترتب على الفعل لو لا الإكراه والاضطرار والخطأ والنسيان ، فإن مقتضى الحديث كون هذه العناوين رافعة سواء كان الحكم الثابت للفعل لو لاها من الحكم بالعنوان الأولي أو بالعنوان الثانوي ، نعم الأثر الثابت للفعل بنفس هذه العناوين لا يرتفع ، فإن هذه العناوين موجبة لثبوته فلا يرتفع بها ، نعم هذا في غير الحسد والوسوسة في الخلق والطيرة ، فإن المراد من الرفع بالإضافة إليها عدم جعل تكليف على المكلف فيها ، وعلى ذلك فليس في جعل حكم للفعل بأحد العناوين الرافعة مثل وجوب سجود السهو المترتب على نسيان السجدة ، أو وجوب الكفارة في القتل خطأ والدية فيه تخصيص في الحديث.

لا يقال : لا مانع عن كون مدلول الحديث رفع الفعل المكره عليه أو المضطر إليه ونحوهما في مقام التشريع ، بأن لم يجعل عند الاضطرار إليه حكم وتكليف سواء كان الحكم بعنوانه أو بعنوان الاضطرار أو الإكراه عليه ، وكذا الحال في الخطأ والنسيان ، وعلى هذا تكون الموارد التي ثبت فيها تكليف عند الاضطرار إلى فعل أو الإكراه عليه والخطأ والنسيان تخصيصا في الحديث.

أقول : الجمع بين اللحاظين لو لم نقل بامتناعه فلا ينبغي التأمل في أنه خلاف

٢٦٦

ضرورة أن الظاهر أن هذه العناوين صارت موجبة للرفع ، والموضوع للأثر مستدع لوضعه ، فكيف يكون موجبا لرفعه؟

لا يقال كيف؟ وإيجاب الاحتياط فيما لا يعلم وإيجاب التحفظ في الخطأ والنسيان ، يكون أثرا لهذه العناوين بعينها وباقتضاء نفسها.

فإنه يقال : بل إنما تكون باقتضاء الواقع في موردها ، ضرورة أن الاهتمام به يوجب إيجابهما ، لئلّا يفوت على المكلف ، كما لا يخفى.

ومنها : حديث الحجب وقد انقدح تقريب الاستدلال به مما ذكرنا في حديث الرفع [١].

______________________________________________________

الظاهر ، وذلك فإن الموارد التي يكون الاضطرار أو الإكراه رافعا لما تعلق بالفعل من التكليف به والحكم عليه لو لا الاضطرار أو الإكراه ، يلاحظ ذلك التكليف في مقام الجعل ، ويقيد التعلق بالفعل أو الحكم عليه بعدم طرو عنوان الإكراه والاضطرار ، حيث إن التكليف لا يرتفع عن متعلقه أو موضوعه عند طريان عنوان إلّا بأخذ عدم طريانه عليهما عند الجعل ، ومعنى رفعهما بلحاظ الأثر لنفسهما أنه لم يلاحظ في مقام التشريع حصولهما في الخارج ، بأن يجعل الحكم لحصولهما أو التكليف بإيجادهما نظير رفع الحسد والوسوسة والطيرة والجمع بين لحاظ عدم طروهما وعدم لحاظ حصولهما في مقام التشريع بالإضافة إلى الفعل الواحد غير ممكن ، وعلى تقدير التنزل والإغماض فلا أقل من أن الجمع يحتاج إلى قرينة ، وبما أن الحديث قد طبق على نفي الحكم الثابت للفعل بطريان الإكراه عليه ، فيعلم كون الرفع المشار إليه بالإضافة إلى الأحكام والتكاليف الثابتة للأفعال وأنها ترتفع عنها بطريان تلك العناوين في الموارد التي يكون في الارتفاع امتنان.

أدلة أصالة البراءة

[١] من الأخبار التي استدل بها على البراءة في الشبهات الحكمية ما رواه الكليني عن

٢٦٧

.................................................................................................

______________________________________________________

أحمد بن محمد بن يحيى ، عن أبيه ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن ابن فضال ، عن داود بن فرقد ، عن أبي الحسن زكريا بن يحيى ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» (١) ووجه الاستدلال كون التكليف والإلزام والحكم الوضعي الموضوع لهما محجوبا علمه عن العباد فرع ثبوته واقعا ، وحيث إن العلم بحكم لا يمكن أن يكون مأخوذا في ثبوت ذلك الحكم فيكون رفعه عند حجب علمه رفعا ظاهريا ، بمعنى عدم وجوب الاحتياط فيه ، وأن العباد لا يؤخذون بالمحجوب من التكليف والحكم ، ولا يجري في الحديث ما جرى في حديث الرفع من كون «رفع ما لا يعلمون» ناظرا إلى الشبهات الموضوعية ، فإن الوارد في الحديث من الموصول بملاحظة صلته لا يعم الشبهات الموضوعية.

نعم ، قد يناقش في الاستدلال بها على البراءة في الشبهات الحكمية بأنه ناظر إلى الأحكام التي لم يبيّنها النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله للناس وأوكل بيانها إلى وصيّه الأخير عليه آلاف التحية والسلام ، وتلك التكاليف والأحكام غير واردة في بحث البراءة في الشبهات الحكمية ، فإن الكلام فيها في المشتبهات الحكمية التي بيّنها الشارع وقد خفيت بعضها عنا بفعل الظالمين والطوارئ الخارجية.

وكون علم تلك التكاليف محجوبا عن العباد غير مستند إلى الله سبحانه ، وإنما يصح الإسناد إليه في خصوص ما أشرنا إليه من التكاليف والأحكام وكأن الماتن قدس‌سره قد سلّم بالإشكال حيث لم يذكر جوابا عن ذلك.

ولكن الصحيح المناقشة غير صحيحة فإنه كما يصح إسناد الحجب إلى الله

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٦٣ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٣.

٢٦٨

.................................................................................................

______________________________________________________

سبحانه لعدم تعلق مشيئته لوصول الحكم إلى العباد في القسم المشار إليه ، كذلك الحال في القسم الثاني أيضا ، حيث لو كانت مشيئته بوصولها إلى العباد لأمر الوصي الأخير سلام الله عليه بالظهور وإبلاغها لنا ، ولعله لذلك لم يناقش صاحب الوسائل في دلالته على البراءة ولكنه خصّها بالشبهات الوجوبية بدعوى أنه قد ثبت الأمر بالتوقف وترك الاقتحام في الشبهات التحريمية بالأخبار الواردة في تثليث الامور وغيرها ، وقال : لو وجب الاحتياط في الشبهات الوجوبية أيضا لزم التكليف بما لا يطاق ، إذ كثير من الأفعال أمرها دائر بين الوجوب والحرمة ، ولذا لا يجب الاحتياط في الشبهة الوجوبية إلّا إذا علم التكليف في خصوص الواقعة إجمالا كالقصر والتمام والجمعة والظهر وجزاء واحد للصيد الواحد أو جزاءين على شخصين (١).

أقول : لا يخفى ما في كلامه من التعليل لعدم جريان البراءة في الشبهات التحريمية ووجه رفع اليد عن إطلاق الحديث فيها والأخذ به في الشبهات الوجوبية ، ويأتي التعرض لذلك في أدلة القائلين بوجوب الاحتياط.

وربما يقال : بأن الحديث كحديث الرفع يعم الشبهات الموضوعية أيضا ، حيث إن الله لو تعلّقت مشيئته بعدم كون علمها محجوبا لأوجد مقدمات العلم بها فمع عدم إيجاد مقدماته يصح إسناد الحجب إلى الله سبحانه.

وفيه ، أن الحديث لا تعم الشبهة الموضوعية فإنه لو تمكن المكلف فيها من العلم بحال الموضوع لا يكون العلم بها محجوبا من قبل الله سبحانه ، فالحجب مستند فيها إلى نفس المكلف ، بل لا يعمّها بعد الفحص وعدم العلم بها أيضا ، فإن

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٦٣ ، ذيل الحديث ٣٣.

٢٦٩

إلّا أنه ربما يشكل بمنع ظهوره في وضع ما لا يعلم من التكليف ، بدعوى ظهوره في خصوص ما تعلقت عنايته تعالى بمنع اطلاع العباد عليه ، لعدم أمر رسله بتبليغه ، حيث إنه بدونه لما صح إسناد الحجب إليه تعالى.

ومنها : قوله عليه‌السلام كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه [١]. الحديث ،

______________________________________________________

ظاهر الحديث أن حجب الله علم الشيء هو الموجب لرفعه عنهم ، والأمر في الشبهة الموضوعية ليس كذلك ، فإن الموجب للرفع فيها نفس الحجب لا حجب الله سبحانه.

ثم إن الحديث مروي في الكافي في باب حجج الله على خلقه بالسند السابق : «ما حجب الله عن العباد فهو موضوع عنهم» (١) ، والظاهر عدم الفرق في المفاد حيث إن ظاهر حجب الله الشيء عدم إعطاء طريق العلم به لهم ، سواء كان ذلك من قبيل التكليف المتعلق بالأفعال أو من الاعتقاديات على تقدير العلم بها كما لا يخفى.

[١] وقد يستدل على البراءة في الشبهات الحكمية بروايات الحل ، وترك الماتن الاستدلال بها غير ما ورد فيما رواه الكليني قدس‌سره عن على بن ابراهيم ، عن أبيه ، عن هارون بن مسلم ، عن مسعدة بن صدقة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام حيث ورد في صدره : «كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه» (٢) ، ووجه الاستدلال ما أشار إليه في المتن من دلالته على حلية ما لم يعلم حرمته ، سواء كان ذلك في الشبهة الموضوعية أو الحكمية ، بأن يكون عدم العلم بحرمته لعدم تمام الدليل عليه ، وكان ذكر ما يجري في الشبهة الموضوعية بعده لا يوجب اختصاص الصدر بها.

نعم الحديث لا يعم الشبهات الوجوبية إلّا أن ذلك غير مهم ، فإنه إذا ثبت اعتبار

__________________

(١) الكافي ١ : ١٢٦.

(٢) الكافي ٥ : ٣١٣ ، الحديث ٤٠.

٢٧٠

.................................................................................................

______________________________________________________

أصالة البراءة في الشبهة الحكمية التحريمية يلتزم بها في الشبهة الوجوبية أيضا لعدم احتمال الفرق ، بل يمكن أن يقال : بعمومه للشبهة الوجوبية أيضا لدوران أمر الترك فيها بين الحلال والحرام بناء على أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده العام.

وقد ترك الشيخ الأنصاري قدس‌سره الاستدلال بهذا الحديث ، وذكر صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام (١) ونحوها رواية معاوية بن عمار : «كل شيء فيه الحلال والحرام فهو لك حلال ابدا حتى تعرف الحرام منه فتدعه بعينه» (٢) ورواية عبد الله بن سنان عن عبد الله بن سليمان قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام «عن الجبن [إلى أن قال] : ساخبرك عن الجبن وغيره : كل ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه من قبل نفسك» (٣) والظاهر أن إعراض الماتن عن الاستدلال بهذه الروايات وجود القرينة فيها على اختصاصها بالشبهة الموضوعية ، والقرينة تقسيم الشيء وفرض الحلال والحرام منه والحكم بحلية ما يشك من أنه من قسمه الحلال أو من الحرام حتى يعلم أنه من قسمه الحرام ، وهذا يجري في الشبهة الموضوعية ، حيث يكون العلم بوجود القسم الحرام منه خارجا كقسمه الحلال ، منشأ للشك في الفرد المشكوك منه كما إذا لم يعلم أن هذا العصير من قسمه المغلي الذي لم يذهب ثلثاه أو أنه من قسمه الحلال الذي ذهب ثلثاه ، أو أن هذا اللحم من قسم المذكى أو من قسم غير المذكى إلى غير ذلك ، وهذا بخلاف الشبهة الحكمية فإن الشك فيها في حرمة شيء أو حليته لتردد أمره بأن يجعل الشارع الحرمة فيه أو الحلية ، ومنشأ

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٧ : ٨٧ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث الأول.

(٢) وسائل الشيعة ٢٥ : ١١٩ ، الباب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ، الحديث ٧.

(٣) المصدر السابق : ١١٧ ، الحديث الأول.

٢٧١

.................................................................................................

______________________________________________________

الشك فيه فقد النص فيه أو إجماله أو تعارضه على ما تقدم ، وعلى ذلك فروايات الحل التي ورد فيها فرض الحلال والحرام في الشيء تكون مختصة بالشبهة الموضوعية ، ولا يمكن الاستدلال بها على البراءة في الشبهات الحكمية التي هي مورد الكلام في المقام.

ودعوى أنه يمكن تحقق القسمة الفعلية في الشبهة الحكمية أيضا كاللحم المذكى فإن قسما منه حلال كما إذا كان من لحم الغنم ونحوه ، وقسما منه حرام كلحم الذئب ويشك في المذكى من لحم الأرنب أنه حلال أو حرام لا يمكن المساعدة عليها ؛ لما ذكر من أن منشأ الشك في لحم الأرنب فقد النص أو إجماله أو تعارضه ، لا وجود قسمي الحلال والحرام من المذكى خارجا ، وذكر المحقق النائيني قدس‌سره في توجيه الاستدلال على البراءة بمثل صحيحة عبد الله بن سنان أن الشيئية تساوي الوجود الخارجي والوجود الخارجي غير قابل للقسمة ، بأن يكون لوجود واحد قسمان ، فيكون المراد من قولهم فيه حلال وحرام احتمال كونه حلالا أو حراما ، وهذا كما ينطبق على الشبهات الموضوعية كذلك يجري في الشبهات الحكمية أيضا.

وفيه أن عنوان الشيء ينطبق على الطبيعي ، والمراد أن الطبيعي الذي فيه قسم الحلال وقسم الحرام ، فتناول ذلك الطبيعي حلال إلى أن يعلم أنه من قسمه الحرام ، وتحقق القسمين في الطبيعي وكونه منشأ للشك يختص بالشبهات الموضوعية كما تقدم ، ولو كان المراد الشيء الخارجي فظهور تحقق القسمين قرينة على رجوع الضمير فيه إلى نوعه بطريق الاستخدام المفروض فيه تحقق الحلال والحرام ، ثم إن تحقق القسمين من الطبيعي في الخارج وكونه منشأ للشك فيما يريد المكلف تناوله لا يلازم تنجيز العلم الإجمالي ؛ لإمكان كون المعلوم بالإجمال من الشبهة غير

٢٧٢

.................................................................................................

______________________________________________________

المحصورة أو المحصورة التي لا تدخل جميع الأطراف في مقدور المكلف ، واحتمال كون القسم الحرام مما هو خارج عن ابتلائه وتمكنه أو جريان الطريق الدال على الحلية في ناحية الداخل في الابتلاء ، وما ورد في هذه الروايات من تقييد العلم بالحرام بعينه لا ينافي تنجيز العلم الإجمالى إذا تحقق في أطرافه شرائط التنجيز ، فإن الترخيص في أطراف العلم الإجمالي بالحرمة بحيث يوجب الترخيص في المخالفة القطعية غير ممكن ، وتقييد الحكم بالحلية إلى معرفة العلم بحرمة نفس المشكوك باعتبار العلم الإجمالي غير المنجز كقوله عليه‌السلام : «أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم في جميع الأرضين ، إذا علمت أنه ميتة فلا تأكله» (١) ثم بعد ظهور كلمة (بعينه) في كونه تقييدا ، وأن العلم الإجمالي بوجود الحرام خارجا لا يوجب الاجتناب عن المشكوك فلا موجب لحملها على التأكيد كما صنع الشيخ قدس‌سره بدعوى أنه إذا علم حرمة شيء يعلم حرمة نفسه ، فإن الحمل على التأكيد في الروايات المتعددة خلاف الظاهر ، وعلى ذلك ذكر كلمة (بعينه) قرينة اخرى على اختصاصها بالشبهات الموضوعية ، وأن هذا العلم الإجمالي غير المنجز يكون منشأ للشك في المشكوك ، حيث إن هذا العلم الإجمالي وكونه منشأ للشك لا يجري في الشبهات الحكمية ، ومن ذلك يظهر الحال في رواية مسعدة بن صدقة (٢) وكون قيد (بعينه) في صدرها قرينة على أن الكبرى الواردة فيها مختصة بالشبهات الموضوعية ، وقد يذكر أن في الموثقة قرينتين اخريين على اختصاصها بالشبهة الموضوعية.

إحداهما : ذكر الأمثلة الواردة فيها فكلها من قبيل الشبهة الموضوعية ، وثانيتهما :

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٥ : ١١٩ ، الباب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ، الحديث ٥.

(٢) وسائل الشيعة ١٧ : ٨٩ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤.

٢٧٣

حيث دل على حليّة ما لم يعلم حرمته مطلقا ، ولو كان من جهة عدم الدليل على حرمته ، وبعدم الفصل قطعا بين إباحته وعدم وجوب الاحتياط فيه وبين عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية ، يتم المطلوب.

______________________________________________________

ما ورد فيها من «أن الأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك ، أو تقوم به البينة فإن قيام البينة التي اخذ فيها إحدى الغايتين للحلية لا يكون إلّا في الموضوعات ، ولعله لذلك ترك الشيخ قدس‌سره الاستدلال بها ، وربما يقال ذكر قيام البينة إنما يكون قرينة على الاختصاص إذا اريد منها شهادة العدلين ، وأما إذا اريد منها المبيّن والموضح كما هو معناها اللغوي فلا تكون قرينة عليه ، فإن خبر الواحد المعتبر في الأحكام ، بيّنة على قول الإمام عليه‌السلام وحكم شرعي ثابت في الشريعة بنحو القضية الحقيقية.

أقول : يكفي في عدم دلالة الرواية على الشبهات الحكمية ذكر قيام البينة ، فإن البينة لو لم تكن في زمان الصادق عليه‌السلام بل قبله ظاهرا في خصوص شهادة العدلين فلا أقل من اكتناف الحديث بما يصلح للقرينية ، فلا ينعقد له ظهور في عمومه للشبهات الحكمية ، بأن يكون المراد منها الأشياء كلها على الحليّة حتى تفحص عن حرمتها وتستكشفها أنت أو يقوم مبين ودليل على حرمتها من الخارج ، بل ثبوت قاعدة الحلية بهذا الحديث مع ما ذكرنا من ضعف سنده لا يخلو عن تأمل ، فإن المراد بقاعدتها أن يحكم بحلية المشكوك في كونه حراما بما هو مشكوك والأمثلة الواردة فيها ليست كذلك ، فإن الحلية فيها مستندة إلى قاعدة اليد أو استصحاب عدم الرضاع والنسب ولا ترتبط الحلية بقاعدة اليد أو الاستصحاب بقاعدتها إلّا أن يكون المراد التنظير ، بأن يكون المراد كما أن الحلية في هذه الأمثلة مغياة باستبانة خلافها أو بقيام البينة على خلافها ، كذلك الحلية المحكوم بها على كل شيء مشكوك في الحلية والحرمة.

٢٧٤

مع إمكان أن يقال : ترك ما احتمل وجوبه مما لم يعرف حرمته ، فهو حلال ، تأمل. ومنها قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الناس في سعة ما لا يعلمون [١].

______________________________________________________

[١] من الأخبار التي يستدل بها على البراءة في الشبهة الحكميّة ما رواه في المستدرك عن كتاب عوالي اللآلي مرسلا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال «الناس في سعة ما لم يعلموا» (١) ووجه الاستدلال دلالة الحديث على كون المكلفين على سعة من تكليف لا يعلمونه بلا فرق بين كونه حرمة فعل أو وجوب فعل فهم مرخصون في ارتكاب الأول وترك الثاني ما لم يعلموا ، غاية الأمر يرفع اليد عن إطلاقها في الشبهات الحكمية بتقييد بجهلهم بعد الفحص وعدم علمهم به ، والحديث ينفي وجوب الاحتياط فإنه لو كان الاحتياط واجبا لما كانوا في سعة أصلا ، وظاهر الماتن قدس‌سره عدم الفرق في دلالته على ذلك بين كون (ما) موصولة أو مصدرية زمانية ، ولكن الظاهر الفرق بين الموصولة والمصدرية ، وأن الموصول مع صلته ينطبق على الإلزام الواقعي على تقديره ويحكم بأن المكلف على سعة منه فلا يجب عليه رعايته بالاحتياط فيه ، وأما لو كانت (ما) مصدرية لكانت أدلة الاحتياط واردة على الحديث في الإلزام المشتبه الواقعي ، فإن مفاده على المصدرية الزمانية هو كون الناس على سعة زمان عدم علمهم ، ومع إيجاب الاحتياط وقيام الدليل عليه يعلم الوظيفة زمان الجهل فلا سعة.

وبتعبير آخر لو كانت (ما) موصولة فظاهره رجوع ضمير المفعول في صلته إلى نفس الموصول فيكون مفاده الناس في سعة من التكليف الذي لا يعلمونه ، فهذا ينافي إيجاب الاحتياط فيه ، وأما إذا كانت (ما) مصدرية زمانية فالمرجع للضمير

__________________

(١) المستدرك ١٨ : ٢٠ ، الباب ١٢ من أبواب مقدمات الحدود ، الحديث ٤. عن عوالي اللآلي ١ : ٤٢٤ ، الحديث ١٠٩.

٢٧٥

فهم في سعة ما لم يعلم ، أو ما دام لم يعلم وجوبه أو حرمته ، ومن الواضح أنه لو كان الاحتياط واجبا لما كانوا في سعة أصلا ، فيعارض به ما دل على وجوبه ، كما لا يخفى.

لا يقال : قد علم به وجوب الاحتياط.

______________________________________________________

المفعول غير مذكور ، والمتيقن لو لا الظهور رجوعه إلى الوظيفة زمان الجهل ، ومع إيجاب الاحتياط وقيام الدليل عليه لا يفرض زمان للجهل في الشبهة الحكمية بالوظيفة ، وبما أن (ما) في الحديث مردّدة ما بين الموصولة والمصدرية فمع الإغماض عن ضعفه سندا لا يمكن الاستدلال بها على البراءة ، بحيث تعارض ما دلّ على لزوم التوقف والاحتياط أو يوجب حمل الأمر بهما على الاستحباب.

وقد يقال : إن مقتضى الاستقراء في مورد استعمال (ما) أنها تكون موصولة عند دخولها على المضارع بخلاف الداخلة على الفعل الماضي ، أو ما يكون بمعناه فإنه يحتمل كونها مصدرية والاستقراء لا يقضي بكون الاستعمال على خلاف ذلك غلطا ، إلّا أن مقتضاه أن الاستعمال في خلاف ذلك محتاج إلى القرينة ، وبما أن (ما) في الحديث داخلة على المضارع فيصح الاستدلال بها على البراءة ، ولكن ما ذكر مبني على ثبوت الحديث متنا كما في المتن ، ولكنه في المستدرك : «الناس في سعة ما لم يعلموا» فالمدخول فعل ماض معنى و (ما) الداخلة على الماضي تكون موصولة كما في قوله : «الناس أعداء ما جهلوا» (١) و (لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى)(٢) وللمرء ما تعلّم إلى غير ذلك ، وتكون مصدرية كما في قوله : هم بخير ما صاموا وصلوا ، إلى غير ذلك ، فالحديث غير تام سندا ودلالة.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة (لابن أبي الحديد) ١٨ : ٤٠٣.

(٢) سورة النجم : الآية ٣٩.

٢٧٦

فإنه يقال : لم يعلم الوجوب أو الحرمة بعد ، فكيف يقع في ضيق الاحتياط من أجله؟ نعم لو كان الاحتياط واجبا نفسيا كان وقوعهم في ضيقه بعد العلم بوجوبه ، لكنه عرفت أن وجوبه كان طريقيا ، لأجل أن لا يقعوا في مخالفة الواجب أو الحرام أحيانا ، فافهم.

ومنها : قوله عليه‌السلام كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي [١].

______________________________________________________

نعم ورد في حديث السفرة المطروحة في الفلاة وفيها اللحم أنه يؤكل منها ، وقال الراوي إنه للمسلم والكافر فأجاب عليه‌السلام : «هم في سعة ما لم يعلموا» ولكنه حكم في مورد خاص من الشبهة الموضوعية ولا يبعد دعوى أن أرض الإسلام أمارة الحلية والتذكية فلا يتعدى إلى غير مورده من الشبهات الموضوعية فضلا عن الشبهة الحكمية.

[١] روى في الفقيه في باب وصف الصلاة من فاتحتها إلى خاتمتها عن الصادق عليه‌السلام «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» (١) ، واستدل به على البراءة في الشبهات التحريمية ، وقد أورد على الاستدلال كما في المتن بأن الاستدلال مبنيّ على أن يراد من ورود النهي العلم به ووصول بيانه ، حيث ان الموضوع للحكم الظاهري ومنه الحلية الجهل بالتكليف الواقعي ، وإرادة العلم والوصول إلى المكلف من الورود خلاف الظاهر ، حيث إن مفاد الحديث كون الأشياء على الإباحة الواقعية إلى زمان صدور النهي ووروده من قبل الشارع ، حيث إن التكاليف الشرعية ومنها حرمة جملة من الأشياء جعلت شيئا فشيئا ولم يصدر عن الشارع النهي عن جميع المحرمات دفعة ، فقوله عليه‌السلام : «كل شيء مطلق» أي مرسل واقعا حتى يصدر ويرد النهي عنه من الشارح فينتهي أمد الإباحة الواقعية ، وظاهر الماتن التسليم بالإيراد

__________________

(١) وسائل الشيعة ٦ : ٢٨٩ ، الباب ١٩ من أبواب القنوت ، الحديث ٣.

٢٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وأشار إلى ما يمكن أن يقال في وجه التمسك به في الشبهات الحكمية بقوله : نعم ، ولكن بضميمة أصالة عدم ورود النهي عن المشكوك يحرز الموضوع لبقاء الحلية فيه وإن كان الحكم ببقائها من قبيل الحكم الظاهري فيكون نظير ما حكم الشارع بطهارة الماء القليل إلى أن يلاقي النجاسة ، فباستصحاب عدم ملاقاته النجاسة يحكم بطهارته ، غاية الأمر حيث إن إحراز الموضوع للحكم الواقعي بالأصل يكون الحكم المترتب عليه ظاهريا ، وإذا حكم الشارع بحلية شرب التتن إلى صدور النهي عنه ووروده ، فبالاستصحاب في عدم صدور النهي عنه يكون الحكم بالحلية الظاهرية ، ولكن هذه الحلية الظاهرية لا بما هو مشكوك حرمته وحليته كما هو مفاد أصالة البراءة وأصالة الحلية ، بل بما هو متيقن إباحته سابقا والشك في بقائها والحكم بالحلية بهذا العنوان لا يغني عن أصالة الحلية المعبر عنها بأصالة البراءة ، فإن الاستصحاب لا يجري فيما إذا ورد النهي عن الشيء في زمان وتحليله في زمان آخر ، وشك في المتقدم والمتأخر منهما ، حيث إنه إما لا يجري الاستصحاب في شيء منهما أو يسقطان بالمعارضة على ما هو المقرر في بحث حدوث الحادثين والشك في المتقدم والمتأخر منهما ، ودعوى إتمام الحلية فيها بعدم القول بالفصل كما ترى ، فإنه إنما يفيد ضميمة عدم القول بالفصل فيما إذا كان المثبت للحكم الظاهري الدليل حيث يتعدى إلى ما لا يحتمل الفرق كالتعدي من الشبهة التحريمية إلى الوجوبية ، وأما إذا كان الحكم الظاهري في مورد لحصول الموضوع فيه كحصول الموضوع للحكم الواقعي فلا يتعدى إلى ما لا موضوع له فيه ، فإن الفصل لعدم الموضوع لا لاختصاص الحكم والفصل فيه.

أقول : لو كان الحديث منقولا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنه قال كذا لكان ما ذكر في الإيراد

٢٧٨

ودلالته يتوقف على عدم صدق الورود إلّا بعد العلم أو ما بحكمه ، بالنهي عنه وإن صدر عن الشارع ووصل إلى غير واحد ، مع أنه ممنوع لوضوح صدقه على صدوره عنه سيما بعد بلوغه إلى غير واحد ، وقد خفي على من لم يعلم بصدوره.

لا يقال : نعم ، ولكن بضميمة أصالة العدم صح الاستدلال به وتم.

فإنه يقال : وإن تم الاستدلال به بضميمتها ، ويحكم بإباحة مجهول الحرمة

______________________________________________________

على الاستدلال بالحديث على البراءة وجيها ، ولكنه على ما نقل قول الصادق عليه‌السلام وفي زمانه كان جميع المحرمات الواقعية مجعولة وصادرة عن الشارع ، فيتعين أن يكون المراد بالإطلاق الحكم الظاهري بالحلية ، ومن الورود الوصول إلى المكلف بنحو متعارف فإن الحكم الظاهري يكون موضوعه الجهل بالحكم الواقعي لا محالة ، وعليه فهذا الحديث لاختصاصه بالشبهة الحكمية أوضح ، ولذا تصدى صاحب الوسائل قدس‌سره لتأويله وتوجيهه ومما ذكرنا من كون الإباحة الواقعية للأشياء إلى صدور النهي عنها خلاف ظاهره مع كون القائل الإمام عليه‌السلام يظهر أن الأمر كذلك لو كان المراد بالإطلاق اللاحرجية العقلية الثابتة لكل فعل قبل تشريع الحرمة والنهي عنه ، مع أن اللاحرجية العقلية ليس حكما شرعيا ليحمل عليه كلام الشارع فما ذكره النائيني قدس‌سره في معنى الحديث من كون الأشياء على اللاحرجية عند سكوت الشارع حتى يثبت تشريع الحرمة ، وفرع على ذلك عدم إمكان التمسك به على أصالة البراءة والحلية ، فإن الكلام في المقام في حرمة الفعل بعد تشريع المحرمات وإبلاغها للناس لا يمكن المساعدة عليه لما ذكرنا من أن بيان أن الأشياء على اللاحرجية العقلية قبل تحريم الشارع لبعضها ، أو كل شيء على تلك الحلية حتى يشرع له الحرمة لا يفيد شيئا إذا صدر هذا الكلام عن الصادق عليه‌السلام حيث إن المحللات والمحرمات كانتا مشروعتين في الصدر الأول ، فإن كان بقاء تلك اللاحرجية واقعا في اعتبار الشارع أيضا إلى زمان

٢٧٩

وإطلاقه ، إلّا أنه لا بعنوان أنه مجهول الحرمة شرعا ، بل بعنوان أنه مما لم يرد عنه النهي واقعا.

لا يقال : نعم ، ولكنه لا يتفاوت فيما هو المهم من الحكم بالإباحة في مجهول الحرمة ، كان بهذا العنوان أو بذاك العنوان.

فإنه يقال : حيث إنه بذاك العنوان لاختص بما لم يعلم ورود النهي عنه أصلا ، ولا يكاد يعم ما إذا ورد النهي عنه في زمان ، وإباحته في آخر ، واشتبها من حيث التقدم والتأخر.

لا يقال : هذا لو لا عدم الفصل بين أفراد ما اشتبهت حرمته.

فإنه يقال : وإن لم يكن بينها الفصل ، إلّا أنه إنما يجدي فيما كان المثبت للحكم بالإباحة في بعضها الدليل ، لا الأصل ، فافهم.

وأما الإجماع : فقد نقل على البراءة إلّا أنه موهون [١].

______________________________________________________

النهي عنه فلا يمكن الالتزام بذلك ، فإن الحرمة الشرعية للمحرمات كانت عند تأسيس الشريعة كالمحللات فيها وكان التدريج في إبلاغها وبيانها للناس.

وبالجملة الحلية الشرعية لا تكون مغياة واقعا ببيان الحرمة كما أن حرمة المحرمات لا تكون مغياة بشيء من إبلاغها وإنما يكون المغيا بوصول الحرمة الحلية الظاهرية التي يحسن الإعلام بها من الإمام عليه‌السلام.

[١] ويستدل على البراءة في الشبهات الحكمية بالإجماع ، ولكن لا يخفى ما فيه فإن أصحابنا الأخباريين قد ذهبوا إلى لزوم التوقف والاحتياط في الشبهات التحريمية فليكن المراد اتفاق غيرهم ، ومن الظاهر أن ما يمكن أن يكون من أدلة الأحكام هو الإجماع التعبدي لا مطلق الاتفاق على حكم مع ظهور مستندهم لذلك الحكم ، فإن هذا الاتفاق مدركي يلاحظ المستند فيه ، فإن تم يكون الاعتماد عليه

٢٨٠