دروس في مسائل علم الأصول - ج ٤

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-94850-6-5
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٤٣

الثالث : ما عن السيد الطباطبائي قدس‌سره من أنه لا ريب في وجود واجبات ومحرمات كثيرة بين المشتبهات [١].

ومقتضى ذلك وجوب الاحتياط بالإتيان بكل ما يحتمل الوجوب ولو موهوما ، وترك ما يحتمل الحرمة كذلك ، ولكن مقتضى قاعدة نفي الحرج عدم وجوب ذلك كله ، لأنه عسر أكيد وحرج شديد ، فمقتضى الجمع بين قاعدتي الاحتياط وانتفاء الحرج العمل بالاحتياط في المظنونات دون المشكوكات والموهومات ، لأن الجمع على غير هذا الوجه بإخراج بعض المظنونات وإدخال بعض المشكوكات والموهومات باطل إجماعا.

ولا يخفى ما فيه من القدح والفساد ، فإنه بعض مقدمات دليل الانسداد ، ولا

______________________________________________________

[١] ومما ذكرنا في الوجه السابق يظهر الحال في هذا الوجه الثالث الذي ذكره السيد الطباطبائي قدس‌سره على اعتبار الظن في الوقائع حيث نفى الريب عن ثبوت التكاليف في الوقائع المشتبهة حكمها عندنا بالعلم الإجمالي بها ، ومقتضى العلم الإجمالي الأخذ بالاحتياط فيها ولكن الاحتياط كذلك موجب للعسر والحرج الأكيد ، والجمع بين قاعدة نفي الحرج ومقتضى العلم الإجمالي هو الأخذ بجانب احتمال التكليف في الوقائع المظنونة بثبوتها فيها ، وترك رعايته في موهوماته ومشكوكاته ؛ لأنّ الجمع بغير هذا النحو برعاية جانب التكليف في بعض مظنونات التكاليف وبعض المشكوكات أو الموهومات وترك رعايته في البعض الآخر من المظنونات والمشكوكات والموهومات باطل إجماعا ، ووجه الظهور ما ذكرنا من أن هذا بعض مقدمات الانسداد ولا يتم إلّا بضم سائرها ، وإلّا فلقائل أن يقول بلزوم الأخذ بامتثال العلم والعلمي في مواردهما ، والأخذ بمقتضى الاصول العملية في غيرهما بحيث لا تصل النوبة إلى الاحتياط أصلا ولا يلزم حرج في امتثال التكاليف أصلا.

١٨١

يكاد ينتج بدون سائر مقدماته ، ومعه لا يكون دليل آخر ، بل ذاك الدليل.

الرابع : دليل الانسداد وهو مؤلّف من مقدمات يستقل العقل مع تحققها بكفاية الإطاعة الظنية حكومة أو كشفا [١] على ما تعرف ، ولا يكاد يستقل بها بدونها ، وهي خمس.

______________________________________________________

[١] الرابع من الوجوه المذكورة لاعتبار الظن في الوقائع المعروف بدليل الانسداد ويبحث في المقام في جهات.

الاولى : بيان المقدمات التي تعرف بمقدمات دليل الانسداد.

الثانية : التكلّم في تمامية تلك المقدمات أو عدم تماميتها كلا أو بعضا.

والثالثة : أنه على تقدير تماميتها تفيد اعتبار الظن بنحو الكشف أو الحكومة أم لا.

والرابعة : أنه على تقدير كون نتيجتها اعتبار الظن فالنتيجة على تقدير الكشف أو على تقدير الحكومة مطلقة أو مهملة.

في مقدمات دليل الانسداد والجواب عنه

أما الجهة الاولى : فالمعروف وعليه الماتن أن مقدماته خمس.

الاولى : العلم الإجمالي بثبوت تكاليف فعلية في كثير من الوقائع.

والثانية : عدم التمكن من تحصيل العلم أو الطريق المعتبر إلى تعيين الوقائع التي يثبت التكليف فيها واقعا غالبا.

والثالثة : عدم جواز إهمال تلك التكاليف ورعاية الأحكام بترك التعرض لامتثالها وموافقتها.

والرابعة : بعد فرض عدم جواز إهمالها الاحتياط في كل من تلك الوقائع التي هي من أطراف العلم بالتكاليف غير لازم بل غير جائز كما لا يجوز فيها الرجوع إلى

١٨٢

أولها : إنه يعلم إجمالا بثبوت تكاليف كثيرة فعلية في الشريعة.

ثانيها : إنه قد انسد علينا باب العلم والعلمي إلى كثير منها.

ثالثها : إنه لا يجوز لنا إهمالها وعدم التعرض لامتثالها أصلا.

رابعها : إنه لا يجب علينا الاحتياط في أطراف علمنا ، بل لا يجوز في الجملة ،

______________________________________________________

الأصل الجاري في كل مسألة مع قطع النظر عن ذلك العلم الإجمالي ، بأن يرجع في واقعة إلى الاستصحاب وفي الاخرى إلى البراءة ، والثالثة إلى أصالة الاحتياط ، والرابعة إلى أصالة التخيير بحسب ملاحظة الخصوصية في نفس الواقعة ، كما لا يجوز لمجتهد فيها الرجوع إلى فتوى من يدعى الانفتاح بدعوى العلم أو الطريق الخاص فيها إلى التكاليف.

والخامسة : أنّ الأخذ بالامتثال الظني فيها متعين والّا لزم ترجيح المرجوح ، وقد يقال : إن المقدمة الثالثة في كلام الماتن مستدرك لأنّه ذكر في المقدمة الاولى العلم الإجمالي بثبوت تكاليف فعلية في الشريعة ، ومقتضى فعليتها عدم جواز إهمالها ولزوم التعرض لامتثالها ، فذكره قدس‌سره المقدمة الثالثة بأنه لا يجوز إهمالها وترك التعرض لامتثالها أصلا لا تكون مقدمة اخرى ، ولو كان مراده هو العلم بأصل الشريعة وثبوت التكاليف فيها لا العلم بفعلية التكاليف الفعلية في حقنا فلا حاجة إلى ذكر المقدمة الاولى ، وإن كان المراد أمرا صحيحا إذ ما يذكر من مقدمات دليل الانسداد هي المقدمات القريبة لا المقدمة البعيدة ، وإن كان دليل الانسداد متوقفا عليها في نفس الأمر وإلّا لزم أن يجعل من مقدماته إثبات الصانع والنبوة إلى غير ذلك من المقدمات ، وقد جعل الشيخ قدس‌سره مقدمات الانسداد أربعا ، ولم يذكر فيها المقدمة الاولى التي عدّها الماتن من مقدماته.

أقول : لا بد في مقدمات الانسداد من فرض العلم الإجمالي بثبوت تكاليف

١٨٣

كما لا يجوز الرجوع إلى الأصل في المسألة ، من استصحاب وتخيير وبراءة واحتياط ، ولا إلى فتوى العالم بحكمها.

خامسها : إنه كان ترجيح المرجوح على الراجح قبيحا ، فيستقل العقل حينئذ بلزوم الإطاعة الظنية لتلك التكاليف المعلومة ، وإلّا لزم ـ بعد انسداد باب العلم والعلمي بها ـ إما إهمالها ، وإما لزوم الاحتياط في أطرافها ، وإما الرجوع إلى الأصل الجاري في كل مسألة ، مع قطع النظر عن العلم بها ، أو التقليد فيها ، أو الاكتفاء بالإطاعة الشكية أو الوهمية مع التمكن من الظنية. والفرض بطلان كل واحد منها :

أما المقدمة الاولى : فهي وإن كانت بديهية ، إلّا أنه قد عرفت انحلال العلم الإجمالي [١].

______________________________________________________

كثيرة في الوقائع المشتبهة وانسداد باب العلم والعلمي إلى كثير منها ، كما هو المقدمة الاولى والثانية فيما ذكره الماتن ١ ، وبما أن العلم الإجمالي عنده مقتض للتنجيز وليس علة تامة كالعلم التفصيلي ، فلا بد من بيان أن العلم الإجمالي بتلك التكاليف لا يجوز إهمالها بأنه لم يثبت عقلا أو شرعا الترخيص في ترك رعايتها ، فذكر الفعلية في المقدمة الاولى لا ينافي الثالثة حيث لم يذكر في الاولى الفعلية المطلقة بل ذكر مطلق الفعلية الجامعة بين المطلقة والمقيدة بما دام لم يثبت الترخيص الظاهري في أطرافه على ما ذكره في البحث في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري نعم بناء على الفعلية التي ذكرناها في فعلية الأحكام والتكاليف وكون العلم الإجمالي وصولا للتكليف الواقعي وأنه لا يمكن للشارع الترخيص القطعي في مخالفته ، تكون المقدمة الثالثة مستدركا ، فالإشكال على الماتن غير تام على مسلكه الذي ذكره في بحث العلم الإجمالي مع ملاحظة مطلق الفعلية التي ذكرها في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري.

[١] يقع الكلام في تمامية تلك المقدمات ، أما المقدمة الاولى : فلا ينبغي

١٨٤

.................................................................................................

______________________________________________________

التأمل في ثبوت التكاليف في كثير من الوقائع والعلم الإجمالي بثبوتها حاصل إلّا أنه قد تقدم انحلال هذا العلم بالعلم الإجمالي بثبوت التكاليف في موارد الأخبار المأثورة في الكتب المعروفة عند الإمامية ، حيث يحتمل انحصار التكاليف الواقعية في مواردها بأن لا تكون تكاليف اخرى في موارد سائر الظنون ، ومع احتمال الانحصار يقتصر في الاحتياط بموارد تلك الأخبار ولا يلزم من رعاية الاحتياط فيها عسر وحرج حيث يكون الفرض كما قيل باعتبار جميع أخبار تلك الكتب.

لا يقال : العلم الإجمالي الصغير لا يوجب انحلال العلم الإجمالي الكبير ، نظير ما إذا علم أولا بنجاسة بعض الإناءات من مجموعة من الإناءات كانت النجاسة في مجموعها معلومة بالإجمال من الأول ، بأن كانت جملة من الإناءات سوداء وجملة منها بيضاء ، وعلم نجاسة البعض من الجملتين ، ثم علم بالنجاسة في بعض الإناءات السود فإنه لا مجرى لأصالة الطهارة في الإناءات البيض لسقوط أصالة الطهارة فيها بالمعارضة مع أصالة الطهارة في السود من قبل ، فإنّه يقال : عدم الانحلال في موارد كون المعلوم بالإجمال ، ثانيا أمرا جديدا حادثا ، كما إذا وقعت بعد العلم الإجمالي الأول النجاسة في بعض الآنية السود ، فإن العلم الإجمالي الثاني لا يفيد في انحلال العلم الإجمالي الأول ، وأما إذا كان المعلوم بالإجمال ثانيا نفس المعلوم بالإجمال أولا ، بأن علم أن النجاسة التي أصابت الإناءات أصابت جملة من السود ويحتمل انحصار الإصابة عليها بأن لم يصب شيء من تلك النجاسة من الإناءات البيض ، وفي مثل ذلك ينحل العلم الإجمالي الأول ؛ لأنّ العلم الإجمالي الأول تبدّل إلى العلم الإجمالي الصغير بحدوث المعلوم بالإجمال الأول فيها من الأول ، والشك في حدوثه في غيرها من الإناءات البيض كذلك ، فتجري اصالة الطهارة في الإناءات

١٨٥

بما في الأخبار الصادرة عن الأئمة الطاهرين : التي تكون فيما بأيدينا ، من الروايات في الكتب المعتبرة ، ومعه لا موجب للاحتياط إلّا في خصوص ما في الروايات ، وهو غير مستلزم للعسر فضلا عما يوجب الاختلال ، ولا إجماع على

______________________________________________________

البيض ، ويجب الاحتياط في السود والعلم الإجمالي الكبير بالتكاليف في الوقائع الكثيرة مع العلم الإجمالي ثانيا بالتكاليف في موارد الأخبار من هذا القبيل ، حيث إن التكاليف التي وردت فيها الأخبار كانت ثابتة في الوقائع من الأول ، لا يقال : لا يحتمل كذب سائر الأمارات بجميعها التي لا تدخل في عنوان الأخبار المأثورة فيها فكيف ينحل العلم الإجمالي الأول ، فإنّه يقال : نعم ، ولكن سائر الأمارات التي في موردها تكليف واقعي وردت في مواردها الأخبار أيضا في الكتب المعروفة للأخبار وثبوت التكليف في مورد سائر الأمارات التي لم يرد في الأخبار مؤداها غير معلوم ولو بالإجمال من الأول فتدبر.

والمتحصل مما ذكرنا أنه لا ينحل العلم الإجمالي الأول فيما إذا كان عدم البقاء أو التبدل في ناحية المعلوم بالإجمال لتلف بعض أطراف العلم أو خروجه عن التمكن ، أو صار بحدوث موضوع التكليف فيه المعلوم بالتفصيل مع بقاء العلم الإجمالي بحاله بالإضافة إلى الأزمنة السابقة حتى فعلا فإنه في الفرض لا يجري الأصل النافي في الطرف الآخر أو الأطراف الاخرى لأنّ الأصل النافي فيه أو فيها قد سقط بالمعارضة مع الأصل النافي في غير الباقي قبل انتفائه أو تبدّل حكمه ، بخلاف ما إذا كان عدم البقاء في ناحية نفس العلم الإجمالي السابق مع بقاء المعلوم به على حاله الواقعي ، فإنه إذا تبدل نفس العلم الإجمالي السابق إلى العلم التفصيلي به أو إلى العلم الإجمالي الصغير بحيث يعلم أن المعلوم بالعلم الإجمالي السابق كان في هذا الطرف أو في ضمن هذه الأطراف من الأول يكون الطرف الآخر أو الأطراف

١٨٦

عدم وجوبه ، ولو سلم الإجماع على عدم وجوبه لو لم يكن هناك انحلال.

وأما المقدمة الثانية : أما بالنسبة إلى العلم فهي بالنسبة إلى أمثال زماننا بيّنة وجدانية يعرف الانسداد كل من تعرّض للاستنباط والاجتهاد [١].

______________________________________________________

الاخرى موردا للأصل النافي بلا معارض ، لأنه قد علم أن التكليف المعلوم سابقا بالعلم الإجمالي كان في هذا الطرف أو في ضمن هذه الأطراف من الأول فيكون الشك في الأطراف الاخرى شكّا في التكليف الزائد من الأول.

ومما ذكرنا يظهر وجه انحلال العلم الإجمالي الصغير بناء على مسلك الانفتاحي في مورد الروايات أيضا فإنه مع قيام الدليل على اعتبار طوائف منها بخصوصها مما يحتمل انحصار التكاليف المعلومة بالإجمال في مواردها يخرج موارد غير تلك الطوائف من الأخبار عن أطراف المعلوم بالإجمال ولو حكما ، بمعنى أنه لا تجري الاصول النافية وغيرها في موارد تلك الطوائف من الأخبار لاعتبار الشارع المكلف فيها عالما بحكم الشريعة في تلك الوقائع ، ومع هذا الاعتبار يكون رجوع المكلف إلى الاصول في غيرها بلا محذور لكونه شاكّا في ثبوت التكليف في كل منها كما لا يخفى.

[١] لا ينبغي التأمّل في عدم إمكان تحصيل العلم الوجداني التفصيلي بالأحكام والتكاليف الواقعية في معظم الوقائع بحيث يكون حكم كل واقعة معلوما تفصيلا ، وأما بالإضافة إلى الاعتباري المعبر عنه بالطريق الخاص فقد تقدم اعتبار ظواهر الكتاب المجيد ، فإن ظواهرها من الطرق المعتبرة بالخصوص وكذا اعتبار خبر الثقة بل الحسان من الطرق الخاصة بالسيرة العقلائية الممضاة من الشارع ، وما في عبارة الماتن من الاقتصار بخبر يوثق بصدقه أي الاطمينان بصدوره لا وجه له ، فإن الوثوق بالصدق أي الاطمينان بالصدور في نفسه حجة في مقابل خبر الثقة كما هو

١٨٧

وأما بالنسبة إلى العلمي ، فالظاهر أنها غير ثابتة ، لما عرفت من نهوض الأدلة على حجية خبر يوثق بصدقه ، وهو بحمد الله واف بمعظم الفقه ، لا سيّما بضميمة ما علم تفصيلا منها ، كما لا يخفى.

وأما الثالثة : فهي قطعية ، ولو لم نقل بكون العلم الإجمالي منجزا مطلقا أو فيما جاز أو وجب الاقتحام في بعض أطرافه كما في المقام [١].

______________________________________________________

أيضا بالسيرة العقلائية.

والحاصل أن ظواهر الكتاب المجيد والأخبار المشار إليها كافيان بمعظم الفقه مع ضم الموارد التي يمكن تحصيل العلم الوجداني فيها إلى الحكم والتكليف الواقعي ، ومعه لا مجال لدعوى العلم الإجمالي بثبوت تكاليف اخرى في الشرع بحيث يلزم من الرجوع فيها إلى الاصول طرح تكاليف واقعية عملا على ما بينا سابقا وقد تقدم الوجه في انحلال العلم الإجمالي الصغير باعتبار الطوائف من الأمارات.

[١] ذكر قدس‌سره أنه لو بنى على عدم كون العلم الإجمالي بالتكليف منجزا أصلا ، كما هو مقتضى شمول الاصول النافية لكل واحد من أطرافه ، أو قيل بعدم كونه منجزا فيما إذا اضطر المكلف إلى ترك رعاية التكليف المعلوم بالإجمال في بعض أطرافه المعين أو غير المعين فلا يجري هذا الكلام في المقام ، فإنه لا يجوز ترك التعرض لامتثال التكاليف المعلومة بالإجمال حتى بناء على عدم تنجيز العلم الإجمالي وذلك للعلم بأن الشارع لا يرضى بإهمال التكاليف المعلومة بالإجمال وأنه مرغوب عنه عنده وغير جائز إجماعا.

لا يقال : إذا لم يكن العلم الإجمالي منجزا للزوم الارتكاب في بعض الأطراف على ما يأتي ، فكيف لا يجوز الارتكاب في الباقي مع كون الباقي موردا للبراءة عقلا ، حيث يكون العقاب على تقدير مصادفة سائر الأطراف التكليف من العقاب بلا بيان ،

١٨٨

حسب ما يأتي ، وذلك لان إهمال معظم الأحكام وعدم الاجتناب كثيرا عن الحرام ، مما يقطع بأنه مرغوب عنه شرعا ومما يلزم تركه إجماعا.

إن قلت : إذا لم يكن العلم بها منجزا لها للزوم الاقتحام في بعض الأطراف ـ كما أشير إليه ـ فهل كان العقاب على المخالفة في سائر الأطراف ـ حينئذ ـ على تقدير المصادفة إلّا عقابا بلا بيان؟ والمؤاخذة عليها إلّا مؤاخذة بلا برهان؟!

______________________________________________________

فإنّه يقال : هذا إذا لم يعلم باهتمام الشارع بالتكليف بالإضافة إلى سائر الأطراف ، وأما مع العلم بذلك كما تقدم فيعلم إيجاب الاحتياط من قبله في الوقائع في الجملة ، بل يمكن دعوى الإجماع على عدم جواز الإهمال وترك رعاية التكاليف في هذا الحال ومع استكشاف عدم الجواز شرعا لا يكون العقاب على تقدير المصادفة عقابا بلا بيان.

أقول : ظاهر كلمات غير الماتن أيضا أن المقام من موارد الاضطرار إلى غير المعين من أطراف العلم الإجمالي وعلى ذلك فلو قيل في الاضطرار إلى غير المعيّن تنجز التكليف المعلوم بالإجمال بمعنى عدم جواز مخالفته القطعية كما عليه الشيخ ومن سلك مسلكه فلا يحتاج في إثبات عدم جواز إهمال التكاليف المعلومة بالإجمال في الوقائع إلى دعوى الضرورة باهتمام الشارع بالتكاليف أو دعوى الإجماع على لزوم التعرض لامتثالها في الجملة ، بل دعوى الإجماع في المسألة المستحدثة غير المعنونة في كلمات القدماء كما ترى ، بخلاف ما إذا قيل بأن الاضطرار إلى غير المعين كالاضطرار إلى المعين يوجب سقوط العلم الإجمالي عن التأثير كما هو مسلك الماتن قدس‌سره ، ولذا تصدى لدعوى الضرورة والإجماع على عدم جواز الاهمال ولكن الصحيح عدم الحاجة إلى ذلك حتى بناء على هذا المسلك وأن العلم الإجمالي منجز في المقام على كلا المسلكين ، فإن غير ما يدفع به الاضطرار

١٨٩

قلت : هذا إنما يلزم ، لو لم يعلم بإيجاب الاحتياط ، وقد علم به بنحو اللمّ ، حيث علم اهتمام الشارع بمراعاة تكاليفه ، بحيث ينافيه عدم إيجابه الاحتياط الموجب للزوم المراعاة ، ولو كان بالالتزام ببعض المحتملات ، مع صحة دعوى الإجماع على عدم جواز الإهمال في هذا الحال ، وأنه مرغوب عنه شرعا قطعا ، وأما مع استكشافه فلا يكون المؤاخذة والعقاب حينئذ بلا بيان وبلا برهان ، كما حققناه في البحث وغيره.

وأما المقدمة الرابعة : فهي بالنسبة إلى عدم وجوب الاحتياط التام بلا كلام فيما يوجب عسره اختلال النظام [١].

______________________________________________________

في المقام ثبوت التكاليف الواقعية فيه مورد للعلم الإجمالي أيضا ، ومقتضى هذا العلم الإجمالي الثاني رعايتها في موارده كما لا يخفى والعجب من الماتن أنّه تشبث في لزوم الرعاية بما ذكر ولم يتنبه بما ذكرنا من خصوصية المقام.

نفي وجوب الاحتياط

[١] مراده قدس‌سره أنه إذا كان رعاية التكاليف المعلومة بالإجمال في الوقائع المجهولة حكمها الواقعي بالاحتياط في جميع أطرافها موجبا لاختلال النظام فلا كلام في دخول المقام في الاضطرار إلى الارتكاب في البعض غير المعين من الأطراف ، نظير ما إذا علم النجاسة في إناءات يكون الاجتناب عن جميعها موجبا لتلف نفسه من العطش ، فيلزم الارتكاب بمقدار الاضطرار منها. وفي رعاية العلم الإجمالي في سائر الأطراف ما تقدّم في المقدّمة الثالثة وقد ذكرنا رعاية التكليف فيها حتى بناء على مسلك الماتن في الاضطرار إلى بعض أطراف العلم ، وذلك للعلم الإجمالي بأنّه في سائر الأطراف أيضا النجاسة معلومة إجمالا ، وهذا العلم الإجمالي يوجب الاحتياط في سائر الأطراف هذا يعنى عدم وجوب الاحتياط التام في جميع

١٩٠

.................................................................................................

______________________________________________________

الوقائع المجهولة حكمها مع العلم الإجمالي بثبوت التكاليف فيها مع لزوم اختلال النظام مما لا كلام فيه ، وأما إذا كان الاحتياط التام فيها موجبا للعسر والحرج فقط فهل يجوز ترك الاحتياط التام بحيث لا يلزم من رعاية التكاليف المعلومة بالإجمال مع تركه حرج أو لا موجب لرفع اليد عن الاحتياط التام أصلا كما هو ظاهر كلام الماتن قدس‌سره ، بدعوى أن مفاد دليل نفي الحرج والعسر نفي التكليف المتعلق بالفعل فيما إذا انطبق عليه ، أي على الفعل أو الترك عنوانهما كما هو الحال في نفي الضرر أيضا ، وأما إذا لم ينطبق عنوانهما على الفعل أو الترك كما في المقام حيث إن المكلف لو كان عالما بالتكاليف الواقعية ، أو كان عنده طريق إليها لأمكن له الامتثال والموافقة بالإتيان بالواجبات وترك المحرمات من غير أن يكون في ذلك عسر أو حرج ، ولزوم الحرج من ناحية الاحتياط بحكم العقل حيث إنّ لزومه مقتضى العلم الإجمالي بالتكاليف.

نعم لو قيل بأنّ الحرج والضرر عنوان لنفس الحكم فيمكن التمسّك بقاعدة نفي الحرج في نفيه ، حيث إنّ التكاليف الواقعية عند فقد العلم التفصيلي والطريق إليها يكون منشأ الحرج والضرر.

وعلى الجملة الحرج في المقام ينشأ من الإتيان بغير متعلق التكليف بالجمع بينه وبين الإتيان بمتعلق التكليف لإحراز الامتثال وموافقة التكليف المعلوم بالإجمال ، ولا ينطبق عنوان الحرج أو الضرر على نفس متعلق التكليف ولا يقاس المقام بما إذا كان الحرج أو الضرر فيما يتوقف عليه الفعل الواجب كحفر البئر أو النزول فيه ، حيث إن الواجب للحرج في مقدمته أو كونها ضرريا يكون حرجيا أو ضرريا ، بخلاف ما إذا كان الحرج أو الضرر في إحراز امتثال التكليف به على ما تقدم ،

١٩١

.................................................................................................

______________________________________________________

وقد يذكر أيضا في الفرق بين المسلكين ما إذا ظهر الغبن في المعاوضة حيث إن الضرر ينشأ من لزومها.

فينفى ، فيثبت الخيار بناء على أنّ المنفي هو الحكم الضّرري بخلاف ما إذا قيل بأن المنفي نفس الفعل الضرري فإنه عليه لا يثبت الخيار.

وفيه ما لا يخفى ، فإنه كما ذكرنا في بحث الخيارات أنّ اللزوم في المعاملة لا ينفى بقاعدة نفي الضرر على كلا المسلكين ، حيث إن الضرر أي النقص في ما كان للمغبون يحصل بنفس المعاملة ، ونفي اللزوم وثبوت الخيار يوجب تمكنه من تدارك ضرره ومفاد القاعدة نفي الضرر لا إثبات تداركه ، كما أنه بالقاعدة لا ينفى إمضاء المعاملة ليحكم ببطلانها ؛ لأنّ المعاملة مع الشرط الارتكازي فيها بعدم التفاوت الفاحش بين الثمن والقيمة السوقية خياري مع الغبن ولا امتنان في الحكم بفساد المعاملة الخيارية بنفي إمضائها.

وقد التزم بعض الاعلام (طاب ثراه) بحكومة قاعدة نفي الحرج في مثل المقام بلا فرق بين المسلكين فيما يكون الابتلاء بأطراف الشبهة تدريجيا ، فإن الحرج مع تدريجية الأطراف يكون في الأطراف المتأخرة التي يكون رعاية احتمال التكليف فيها بالإتيان بمتعلقه حرجيا فيعلم بالقاعدة عدم التكليف فيها ؛ لأن التكليف إذا كان في الأطراف السابقة فقد امتثل التكليف فيها على الفرض ، وإن كان في المتأخرة أيضا يرتفع بقاعدة نفي الحرج ، مثلا إذا نذر صوم بعض أيام الاسبوع وتردّد المنذور بين أيامها ، وفرض أن الصوم في جميعها حرجي وصام المكلف إلى يوم الجمعة ، بحيث صار عليه الصوم فيها حرجيا فلا بأس بتركه فيها ؛ لأنّه إن كان الصوم المنذور قبل يوم الجمعة فقد امتثله وإن كان صومها أيضا فلا يجب لقاعدة نفي الحرج بلا

١٩٢

وأما فيما لا يوجب ، فمحل نظر بل منع ، لعدم حكومة قاعدة نفي العسر والحرج على قاعدة الاحتياط ، وذلك لما حققناه في معنى ما دل على نفي الضرر والعسر ، من أن التوفيق بين دليلهما ودليل التكليف أو الوضع المتعلقين بما يعمهما ، هو نفيهما عنهما بلسان نفيهما ، فلا يكون له حكومة على الاحتياط العسر إذا كان بحكم العقل ، لعدم العسر في متعلق التكليف ، وإنما هو في الجمع بين محتملاته احتياطا.

______________________________________________________

فرق بين المسلكين ، نعم تظهر الثمرة على المسلكين فيما إذا كانت أطراف الشبهة دفعية ، بأن يمكن الإتيان بكل من الأطراف قبل الآخر ، كما إذا علم بنجاسة بعض المائعات التي يكون الاجتناب عن جميعها حرجيا.

أقول : ما ذكر في الأطراف الشبهة إذا كان تدريجيّة وإن كان صحيحا ، إلّا أن لازمه الأخذ بالاحتياط في الوقائع التي يبتلى بها إلى أن يلزم منه العسر والحرج سواء كان من مظنونات التكليف أو من غيرها ، بل قد يقال : لا توجب إلّا لتعيّن هذا النحو من الاحتياط في الوقائع بلا فرق بين القول بأن المرفوع بقاعدتي نفي الحرج والضرر التكليف أو الفعل المنطبق عليه عنوان الحرج والضرر ، ولا يخفى بناء على رفع الحكم الحرجي حيث إن امتثال جميع التكاليف في المظنونات والمشكوكات والموهومات حرجي ، والأمر يدور بين رفع اليد عن رعاية احتمال التكليف في المظنونات أو في الموضوعات والمشكوكات يكون رفع اليد عنه في الثاني أولى كما هو مفاد المقدمة الخامسة ، بل يتعيّن في تصحيح ما ذكروه من الأخذ بالاحتياط في مظنونات التكليف وجواز تركه في المشكوكات والموهومات من التشبّث بما ذكرنا سابقا من دعوى انحلال العلم الإجمالي بالعلم الإجمالي الآخر ، بأن أكثر الموارد من المظنونات ثبوت التكاليف فيها واقعا معلوم إجمالا بحيث يحتمل مع الأخذ

١٩٣

نعم ، لو كان معناه نفي الحكم الناشئ من قبله العسر ـ كما قيل ـ لكانت قاعدة نفيه محكمة على قاعدة الاحتياط ، لأنّ العسر حينئذ يكون من قبل التكاليف المجهولة ، فتكون منفية بنفيه.

ولا يخفى أنه على هذا لا وجه لدعوى استقلال العقل بوجوب الاحتياط في بعض الأطراف بعد رفع اليد عن الاحتياط في تمامها [١].

______________________________________________________

بالاحتياط فيها والرجوع في غيرها من المشكوكات والموهومات بالأصل الجاري فيها بملاحظة خصوصية نفس الواقعة أن لا يقع المكلّف في محذور مخالفة التكليف الواقعي لانحصار التكاليف الواقعية بالمظنونات ، والموارد التي يكون الأصل الجاري فيها مثبتا للتكليف مضافا إلى الموارد التي يكون التكليف في تلك الوقائع معلوما تفصيلا.

قد ظهر مما ذكرنا أنه لا حاجة في إثبات لزوم الاحتياط ، في الوقائع المظنون ثبوت التكاليف فيها وجواز الرجوع في غيرها إلى الأصل الجاري فيها بملاحظة خصوصية الواقعة ، إلى ضم مقدمة اخرى يعني قاعدة قبح ترجيح المرجوح على الراجح لما ذكرنا من عدم المورد لها في المقام لعدم الدوران بينها لانحلال العلم الإجمالي على ما مرّ.

[١] المراد من هذا الوجه جريان قاعدة نفي العسر والحرج في نفي لزوم الاحتياط التامّ لكون مفادها كمفاد قاعدة لا ضرر ، نفي الحكم والتكليف الناشئ منه الحرج ؛ فإنه إذا نفي وجوب الاحتياط التام بنفي التكليف الناشئ منه الضرر لا يبقى ما يوجب عقلا رعاية التكليف في سائر الأطراف أي مظنونات التكليف ، ولا بد في الالتزام بوجوب رعايتها من إثبات أن الشارع أوجب رعاية احتمال التكليف فيها كما التزم قدس‌سره بذلك في بيان المقدمة الثالثة.

١٩٤

بل لا بد من دعوى وجوبه شرعا ، كما أشرنا إليه في بيان المقدمة الثالثة ، فافهم وتأمل جيدا.

وأما الرجوع إلى الاصول فبالنسبة إلى الاصول المثبتة من احتياط أو استصحاب مثبت للتكليف فلا مانع عن إجرائها [١] عقلا مع حكم العقل وعموم

______________________________________________________

أقول : قد تقدم أن الوقائع التي تكاليفها مظنونة ، ثبوت التكاليف الواقعية فيها معلوم إجمالا ، فرعاية احتمال التكليف فيها مع الوقائع التي يكون مقتضى ملاحظة خصوصيتها لزوم رعاية التكليف فيها أيضا منضمة إلى موارد العلم التفصيلي فيها للتكاليف الواقعية توجب انحلال العلم الإجمالي بثبوت التكاليف في الشريعة ، بحيث لا يكون مانع في غيرها من الأخذ بالبراءة العقلية فلا سبيل إلى إحراز إيجاب الاحتياط شرعا كما ذكر فتدبر.

ثم لا يخفى أن وجوب الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي وإن يكن بحكم العقل من باب دفع الضرر المحتمل ، إلّا أنه إذا وصل امتثال التكليف في الاحتياط في الأطراف إلى حدّ الحرج يكون رفع التكليف في تلك الأطراف بنفي وجوب الاحتياط فيها كما أن وضعه فيها يكون بايجاب الاحتياط ، فيكون رفع التكليف فيها بالترخيص في ترك الاحتياط موجبا لانتفاء الموضوع لحكم العقل بمعنى أنه لا يحتمل الضرر بعد الترخيص فيصبح الرفع فيها حكما ظاهريا لا ينافي ثبوت التكليف الواقعي فيها كموارد الرفع في الشبهة البدوية وفائدة ثبوت التكليف الواقعي حسن الاحتياط في مورده.

دعوى انحلال العلم الإجمالي بالتكاليف بالاصول المثبتة

[١] ذكر قدس‌سره أنه كما يرجع بناء على انفتاح باب العلم والعلمي إلى الاصول

١٩٥

النقل. هذا ، ولو قيل بعدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي ،

______________________________________________________

المثبتة للتكليف في مواردها ، كذلك لا مانع من الرجوع إليها على الانسداد بلا فرق بين كون الأصل المثبت بحكم العقل كما في مسألة العلم بوجوب القصر أو التمام ، ومسألة وجوب الظهر أو الجمعة ، حيث إن العلم الإجمالي بوجوب إحداها يقتضي الاحتياط بالجمع بينهما ، أو كان أصلا شرعيا كالاستصحاب في بقاء التكليف أخذا بعموم النقل حتى بناء على ما سلكه الشيخ قدس‌سره من عدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة ، ولو كانت الحالة السابقة فيها ثبوت التكليف بدعوى أن شمول خطابات الاستصحاب لأطرافه فيه محذور المناقضة بين صدر تلك الخطابات وذيلها ، فإن عموم النهي في كل من الأطراف رفع اليد عن الحالة السابقة ، كما هو مقتضى صدرها يناقض ما في ذيلها من لزوم رفع اليد عن الحالة السابقة فيما علم فيه ارتفاع الحالة السابقة وهو المعلوم بالإجمال ، والوجه في عدم المحذور على هذا المسلك أيضا مع أن المجتهد يعلم إجمالا بانتقاض التكليف السابق في بعض الموارد التي يأخذ فيها بالحالة السابقة عدم كون شكّه في جميع الأطراف فعليا لكون الاستنباط أمرا تدريجيا ، وإذا وصل في مقام الاستنباط إلى واقعة يشك فيها في بقاء التكليف السابق في حال لغفلته عن سائر الوقائع التي لو وصل إليها وجد الحال فيها كهذه المسألة لا تكون تلك الوقائع مورد الاستصحاب فعلا كي يلزم النهي عن نقض الحالة السابقة في جميعها مع الأمر بالنقض في بعضها.

ومما ذكر يظهر أنه لا مجال لدعوى محذور المناقضة في الرجوع إلى الاصول النافية أيضا في مواردها لو لم يكن من الرجوع إليها مانع آخر عقلا أو شرعا ، وليس مانع كذلك لو كانت موارد الاصول المثبتة بضميمة ما علم تفصيلا أو نهض عليه علمي بمقدار المعلوم بالإجمال ، بل ولو كان أقل من ذلك المقدار أيضا ولكن بحيث

١٩٦

لاستلزام شمول دليله لها التناقض في مدلوله ، بداهة تناقض حرمة النقض في كل منها بمقتضى (لا تنقض) لوجوبه في البعض ، كما هو قضية (ولكن تنقضه بيقين آخر) وذلك لأنه إنما يلزم فيما إذا كان الشك في أطرافه فعليا.

وأما إذا لم يكن كذلك ، بل لم يكن الشك فعلا إلّا في بعض أطرافه ، وكان بعض أطرافه الآخر غير ملتفت إليه فعلا أصلا ، كما هو حال المجتهد في مقام استنباط الأحكام ، كما لا يخفى ، فلا يكاد يلزم ذلك ، فإن قضية (لا تنقض) ليس حينئذ إلّا

______________________________________________________

لم يكن لاستكشاف الإيجاب الشرعي للاحتياط فيها مجال.

أقول : ظاهر كلامه فرض اعتبار الاستصحاب وجواز الأخذ بعموم خطاباته في موارد إحراز الحالة السابقة مع أن خطاباتها من قبيل الأخبار الآحاد ، والمفروض عدم ثبوت اعتبارها مع الغمض عن دليل الانسداد المقرر بنحو الكشف ، نعم يمكن دعوى أن انحلال العلم الإجمالي الكبير بدعوى ثبوت التكاليف في موارد الاصول المثبتة غير موقوف على ثبوت اعتبارها نظير ما تقدم من الانحلال في موارد الأخبار المأثورة في التكاليف مع عدم ثبوت اعتبارها ، ولكن عبارة الماتن لا تساعد على ذلك.

وأما ما ذكره من أنّ الاستنباط تدريجي والمجتهد عند استنباط الحكم في بعض المسائل غافل ولا يلتفت إلى سائر الوقائع فلا يكون علم فعلي بالحالة السابقة فيها وشك فعلي في بقائها ليلزم العلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة لا يخفى ما فيه ، فإنّ المجتهد وإن لم يلتفت إلى جميع الموارد دفعة إلّا أنه بعد تمام الاستنباط يعلم إجمالا بأن الحالة السابقة في بعض ما أخذ فيه بالاستصحاب منتقض فيسقط اعتباره فيها ، ولا يقاس هذا بما إذا علم المجتهد بعد كتابة رسالته بأنّ بعض فتاواه وقع فيها الاشتباه والخطأ ، فإنّه لا يبطل العمل برسالته بالعلم بذلك ، فإنّ الخطأ

١٩٧

حرمة النقض في خصوص الطرف المشكوك ، وليس فيه علم بالانتقاض كي يلزم التناقض في مدلول دليله من شموله له ، فافهم.

ومنه قد انقدح ثبوت حكم العقل وعموم النقل بالنسبة إلى الأصول النافية أيضا ، وأنه لا يلزم محذور لزوم التناقض من شمول الدليل لها لو لم يكن هناك مانع عقلا أو شرعا من إجرائها ، ولا مانع كذلك لو كانت موارد الأصول المثبتة بضميمة ما علم تفصيلا ، أو نهض عليه علمي بمقدار المعلوم إجمالا ، بل بمقدار لم يكن معه مجال لاستكشاف إيجاب الاحتياط ، وإن لم يكن بذاك المقدار ، ومن الواضح أنه يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال.

وقد ظهر بذلك أن العلم الإجمالي بالتكاليف ربما ينحل ببركة جريان الاصول المثبتة وتلك الضميمة [١].

______________________________________________________

المعلوم في الوقائع التي أفتى فيها بعدم التكليف غير محرز فلا يوجب هذا الخطأ إلّا المخالفة الالتزامية ، ولا محذور فيها إذا لم يكن بنحو التشريع وما يوجب عودة النظر العلم بالخطإ الموجب لإيقاع المراجعين في المخالفة العملية وهذا غير معلوم.

بطلان دعوى انحلال العلم الإجمالي بالتكاليف بالاصول المثبتة

[١] لا يخفى أنه مع العلم الإجمالي في موارد الأخبار المأثورة المتضمّنة لبيان التكاليف الواقعيّة ، وأنّ كثيرا منها موافق للتكليف الواقعي كيف ينحلّ العلم الإجمالي بالاصول المثبتة بضميمة الموارد التي تكون التكاليف الواقعية فيها معلومة تفصيلا مع قلة تلك الموارد بالإضافة إلى غيرها ، والمفروض في دليل الانسداد عدم قيام دليل علمي في الوقائع التي هي موارد تلك الأخبار ، ومع عدم الانحلال لا مورد لأصالة البراءة إلّا في الأطراف الخارجة عن العلم الإجمالي الصغير التي ذكرناها ، وما

١٩٨

.................................................................................................

______________________________________________________

ذكر قدس‌سره من أنه لو لم ينحل بذلك كان خصوص موارد الاصول النافية مطلقا ولو من مظنونات عدم التكليف محلا للاحتياط فعلا ، ويرفع اليد عن الاحتياط في موارد الاصول النافية كلا أو بعضا بمقدار رفع اختلال النظام أو انتفاء رفع العسر على ما عرفت ، ولا يرفع اليد عن الاحتياط في مطلق محتملات التكليف حتى لو كانت من موارد الاصول المثبتة فإنه تؤخذ بالاصول المثبتة لا محالة ، لا يخفى ما فيه ، فإن موارد الأخبار المشار إليها للعلم الإجمالي المنجز فيها لا تكون من موارد الاصول النافية ومع خروجها عنها لا يكون في الرجوع إليها وترك الاحتياط فيها محذور. نعم ، لو كانت واقعة بنفسها مورد العلم الإجمالي الخاص كمسألة دوران الأمر بين القصر والتمام فلا مجال فيها للأصل النافي.

وقد ظهر من جميع ما ذكرنا أنه على تقدير الالتزام بانسداد طريق العلم والعلمي بالإضافة إلى الأحكام الشرعية وغالب الوقائع التي تكون موارد ابتلاء المكلفين فاللازم الأخذ بالاحتياط في موارد الأخبار المأثورة المتضمنة للتكاليف ، وفي غيرها إن لم يكن في المسألة علم إجمالي بالتكليف يرجع إلى الأصل النافي يعني البراءة العقلية ، ولا يلزم من ذلك محذور آخر غير أن عمل المكلف في غالب الوقائع يكون بنحو الاحتياط من غير أن يعلم التكليف الواقعي فيها ، ولذا يدّعي أن هذا في نفسه محذور ، ونعلم أن الشارع لا يرضى في شريعته أن يكون الطريق إلى معرفتها مسدودا وعمل المكلفين بها على الاحتياط فيها ؛ ولذا يستكشف أن الشارع جعل الظن ولو في الجملة طريقا إلى معرفتها هذا مبنى مذهب الكشف لا مجرد اعتبار قصد الوجه والتمييز عند هذا القائل فإن هذا الاعتبار مع ضعف القول به مختص بالعبادات ، ولا يجري في غيرها من الواجبات ، والقائل بالحكومة لا يرى

١٩٩

فلا موجب حينئذ للاحتياط عقلا ولا شرعا أصلا ، كما لا يخفى.

كما ظهر أنه لو لم ينحل بذلك ، كان خصوص موارد أصول النافية مطلقا ـ ولو من مظنونات [عدم] التكليف ـ محلا للاحتياط فعلا ، ويرفع اليد عنه فيها كلا أو بعضا ، بمقدار رفع الاختلال أو رفع العسر ـ على ما عرفت ـ لا محتملات التكليف مطلقا.

وأما الرجوع إلى فتوى العالم فلا يكاد يجوز ، ضرورة أنه لا يجوز إلّا للجاهل لا للفاضل الذي يرى خطأ من يدعي انفتاح باب العلم أو العلمي ، فهل يكون رجوعه إليه بنظره إلّا من قبيل رجوع الفاضل إلى الجاهل؟

______________________________________________________

نفسه ملزما لجعل الظن طريقا بعد استقلال العقل بأنه يقبح من الشارع الحكيم إرادته من المكلفين في معظم الوقائع أزيد من الموافقة الظنية ، ولا يجوز للمكلفين الاقتصار في امتثال التكاليف على الإطاعة الاحتمالية أو الوهمية ، وقد ذكرنا أنه لا تصل النوبة إلى هذا الحكم أيضا ، وأن موارد الاحتياط هي الوقائع التي ورد فيها الخبر المأثور في الكتب المعروفة بثبوت التكليف في كل منها ، وفي غيرها مع عدم إحراز الحكم الواقعي يؤخذ بالأصل يعني أصالة الاحتياط لو كانت الواقعة بنفسها مورد العلم الإجمالي بالتكليف وإلّا فالأصل هي البراءة لاحتمال انحصار التكاليف في موارد الأخبار المأثورة والموارد الملحقة بها لعدم احتمال الفرق بينها وبين ما ورد فيه الخبر ، ودعوى الإجماع على أن الشارع جعل لأحكامه وتكاليفه في الوقائع في كل زمان طريقا للإجماع على عدم رضا الشارع بالامتثال الإجمالي في معظم أحكامه لا يمكن المساعدة عليها ، فإن مسألة انسداد باب العلم والعلمي في معظم الأحكام معنون في كلمات المتأخرين ، وكون المدرك لما ذكروه ما تقدم فأين يستفاد عدم رضا الشارع بالاحتياط وبطلان عمل تارك طريقي الاجتهاد والتقليد ودعوى الظن

٢٠٠