دروس في مسائل علم الأصول - ج ٤

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-94850-6-5
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٤٣

وأما فيما احتاج إلى التكرار ، فربما يشكل من جهة الإخلال بالوجه تارة ، وبالتمييز أخرى ، وكونه لعبا وعبثا ثالثة.

وأنت خبير بعدم الإخلال بالوجه بوجه في الإتيان مثلا بالصلاتين المشتملتين على الواجب لوجوبه ، غاية الأمر أنه لا تعيين له ولا تمييز فالإخلال إنما يكون به ، واحتمال اعتباره أيضا في غاية الضعف ، لعدم عين منه ولا أثر في

______________________________________________________

التفصيلي ، وكيف ما كان إذا دار الأمر بين الامتثال التفصيلي بالظن الخاص والامتثال الإجمالي فللمكلّف الأخذ بالامتثال الإجمالي فإن غاية ما دلّ على اعتبار الظنّ انّه في اعتبار الشارع علم أو أنّه كالعلم ، وقد تقدم جواز الامتثال الاجمالي مع التمكّن من الامتثال بالعلم الوجداني التفصيلي ، نعم بناء على عدم جواز الامتثال الإجمالي مع التمكّن منه للإخلال بقصد التمييز يتعين على المكلف في الواقعة تشخيص الوظيفة بالظن المعتبر ، ولكن يجوز له الإتيان بالمحتمل الآخر لاحتمال كونه هو الواجب واقعا بلا فرق بين الإتيان بذلك المحتمل بعد الإتيان بالمظنون وجوبه أو الإتيان به قبل الإتيان بالمظنون ، فإن الإتيان به برجاء أنّه الواجب واقعا مع الإتيان بالمظنون من أرقى مراتب العبودية ، مثلا إذا سافر بأربعة فراسخ مريدا الرجوع قبل عشرة أيام يأتي بالصلاة التي استفاد باجتهاده أو تقليده وجوبها بقصد أنها الواجب في حقه ، ثمّ يأتي بالتمام لرجاء إدراك الواقع أو يأتي بالآخر رجاء أولا ثم يأتي بما هو الواجب في حقه باجتهاده أو تقليده ، وقد يقال : بتعيّن الإتيان بالمظنون أولا ثم الإتيان بالمحتمل الآخر رجاء بدعوى أنّه في العكس يكون الامتثال احتماليا ، وقد حكي عن الشيرازي قدس‌سره أنّه في مسألة المسافر المزبور يتعين عليه عند إرادته الاحتياط الإتيان بالقصر أولا ثم الإتيان بالتمام رجاء ، والمحكي عن الشيخ قدس‌سره تعين الاتمام أولا ثم الإتيان بالقصر رجاء واختلافهما ناش من الاختلاف المستفاد من الروايات الواردة من أن المستفاد

٤١

الأخبار ، مع أنه مما يغفل عنه غالبا ، وفي مثله لا بد من التنبيه على اعتباره ودخله في الغرض ، وإلّا لأخلّ بالغرض ، كما نبّهنا عليه سابقا.

وأما كون التكرار لعبا وعبثا ، فمع أنه ربما يكون لداع عقلائي ، إنما يضر إذا كان لعبا بأمر المولى ، لا في كيفية إطاعته بعد حصول الداعي إليها ، كما لا يخفى ، هذا كله في قبال ما إذا تمكن من القطع تفصيلا بالامتثال.

______________________________________________________

منها وجوب القصر أو التمام ، ولكن لا يخفى أنّه لا موجب للالتزام بأنّه يتعين الإتيان بالمظنون أولا ، فإنّه مع تقديم المحتمل الآخر يأتي به رجاء ثم يأتي بالمظنون بقصد أنّه الواجب في حقه فعلا بحسب الأدلة فلا يفوت منه قصد التمييز.

في دوران الأمر بين الامتثال الإجمالي والظني التفصيلي

وإذا دار الأمر بين الامتثال الإجمالي والظني المعتبر بدليل الانسداد المعبر عنه بالظن المطلق فقد يقال : إنّه بناء على أن نتيجة مقدمات الانسداد حجية الظن المطلق شرعا فاللازم على المكلف ترك الامتثال الإجمالي والأخذ بالامتثال الظني ؛ لأنّه لا يستكشف من مقدمات الانسداد حجية الظن المطلق شرعا إلّا إذا كان من مقدماتها عدم جواز الاحتياط لكونه مفوتا لقصد التمييز المعتبر في العبادات ، أو أنّ الاحتياط غير جائز فيها وفي غيرها لكونه موجبا لاختلال نظام العباد ، وأما بناء على أنّه ليس نتيجتها اعتبار الظن شرعا بل عدم وجوب الاحتياط التام برعاية التكاليف في مظنونات التكليف والمشكوكات والموهومات لكون الاحتياط كذلك موجبا للعسر والحرج فمقتضاها جواز التنزل إلى لزوم الاحتياط في المظنونات خاصة فلا بأس بجواز الامتثال الإجمالي وترك تحصيل الظن في الوقائع.

وقد ذكر صاحب القوانين رحمه‌الله أنّه لا يجوز للمكلّف في العبادات ترك الاجتهاد والتقليد والأخذ بالاحتياط فيها وتعجب الشيخ الانصاري قدس‌سره من هذا الحكم وذكر أنه

٤٢

وأما إذا لم يتمكن الا من الظن به كذلك ، فلا إشكال في تقديمه على الامتثال الظني لو لم يقم دليل على اعتباره ، إلّا فيما إذا لم يتمكن منه ، وأما لو قام على اعتباره مطلقا ، فلا إشكال في الاجتزاء بالظني ، كما لا إشكال في الاجتزاء بالامتثال الاجمالي في قبال الظني ، بالظن المطلق المعتبر بدليل الانسداد ، بناء على أن يكون من مقدماته عدم وجوب الاحتياط ، وأما لو كان من مقدماته بطلانه لاستلزامه

______________________________________________________

كيف يصحّ ممن لا يرى اعتبار الظن إلّا بمقدمات الانسداد ويذهب إلى بطلان عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد.

وفيه أنّ التعجب بناء على اعتبار الظن على الحكومة في مورده وأما بناء على الكشف فلا مورد للعجب.

في دوران الأمر بين الامتثال الإجمالي والظني المطلق

ولعل المحقق القمي رحمه‌الله يرى اعتبار الظن المطلق على الكشف لاعتبار قصد التمييز فيها وترك طريقي الاجتهاد والتقليد والأخذ بالاحتياط يوجب فقده.

أقول : أما احتمال أنّ حكم المحقق القمي ببطلان عمل تارك طريقي الاجتهاد والتقليد والأخذ بالاحتياط مبني على اعتبار قصد الوجه والتمييز فلا يحتمل ذلك في موارد عدم توقف الاحتياط على تكرار العبادة ، فإن اعتبار قصد الوجه والتمييز في أجزاء العمل وقيوده غير معتبر قطعا بل يلزم على المحقق القمي حينئذ الالتزام ببطلان الاحتياط في موارد الشّبهة البدويّة من الشبهة الموضوعيّة كما إذا أراد المكلف صوم يوم لاحتمال فوت الصوم عنه مع ظنه عدم الفوت ونحو ذلك مما لا يحتمل التزامه بذلك ، وكذلك لا يحتمل بأن يحتاط المجتهد في مسألة مع ظنه بأحد الطرفين من مسائل العبادات ، وأما دعوى عدم جواز الاحتياط في المسائل فإن الاحتياط فيها يوجب الاختلال في النظام فلا يخفى ما فيها ، فإن الاختلال في النظام

٤٣

العسر المخل بالنظام ، أو لأنه ليس من وجوه الطاعة والعبادة ، بل هو نحو لعب وعبث بأمر المولى فيما إذا كان بالتكرار ، كما توهم ، فالمتعين هو التنزل عن القطع تفصيلا إلى الظن كذلك.

وعليه : فلا مناص عن الذهاب إلى بطلان عبادة تارك طريقي التقليد والاجتهاد ، وإن احتاط فيها ، كما لا يخفى.

هذا بعض الكلام في القطع مما يناسب المقام ، ويأتي بعضه الآخر في مبحث البراءة والاشتغال ، فيقع المقال فيما هو المهم من عقد هذا المقصد ، وهو بيان ما قيل باعتباره من الأمارات ، أو صح أن يقال ، وقبل الخوض في ذلك ينبغي تقديم امور :

أحدها : أنه لا ريب في أنّ الأمارة غير العلمية ليس كالقطع [١].

______________________________________________________

يترتب على الاحتياط في جميع الوقائع من العبادات وغيرها ولا يلزم من الاحتياط في خصوص العبادات التي يبتلي بها المكلف ، ولذا يأخذ بعض الناس بالاحتياط فيها من صلاته وصومه وغسله وتيمّمه من غير اختلال لامور معاشه.

وعلى الجملة : الحكم ببطلان عبادة من يأخذ بالامتثال الإجمالي فيها غير صحيح ، نعم ذكر المحقق النائيني قدس‌سره عدم الجواز فيما إذا كان الاحتياط موجبا لتكرار العمل بدعوى أن المكلّف عند الامتثال الإجمالي يكون داعيه إلى العمل احتمال الأمر لا الأمر وقد تقدم ما فيه فلا نعيد.

الأمارات

في الأمارات غير العلميّة

[١] قد تقدم أنّ القطع بالتكليف الفعلي يوجب تنجّز التكليف المقطوع به ولا يمكن التصرف في منجزيته ، وأنّ العلم الإجمالي بالتكليف مقتض لتنجز التكليف المعلوم بالإجمال بالإضافة إلى عدم جواز مخالفته القطعية ولزوم موافقته

٤٤

في كون الحجية من لوازمها ومقتضياتها بنحو العلية ، بل مطلقا ، وأن ثبوتها لها محتاج إلى جعل أو ثبوت مقدمات وطروء حالات موجبة لاقتضائها الحجية عقلا ، بناء على تقرير مقدمات الانسداد بنحو الحكومة ، وذلك لوضوح عدم اقتضاء

______________________________________________________

القطعية على مسلك الماتن قدس‌سره وموجب لعدم جواز مخالفته القطعية ، ومقتض بالإضافة إلى موافقته القطعية على ما اخترناه ، وأمّا بكلا قسميه أي الظن النوعي والشخصي فلا يوجب بنفسه تنجز التكليف المظنون كما لا يكون مقتضيا له ، بل كونه طريقا منجزا يحتاج إلى الاعتبار أو أن تثبت مقدمات وتطرأ على المكلفين حالات توجب اعتبار الظن عقلا كما على تقرير مقدمات الانسداد بنحو الحكومة ، وعدم اقتضاء الظن للاعتبار بنفسه في ثبوت التكليف ظاهر ، وكذا في اعتباره في مرحلة سقوطه بعد ثبوته ، وان يظهر من بعض الكلمات ، يكتفى بالظن بالفراغ في مرحلة الامتثال على ما حكى الماتن قدس‌سره واحتمل في وجهه عدم لزوم دفع الضرر المحتمل عندهم.

أقول : الضرر المحتمل الذي ذكر البعض عدم لزوم الاجتناب عنه هو الضرر الدنيوي لا الضرر الاخروي ؛ ولذا يجب الاجتناب ورعاية احتمال التكليف في جميع أطراف العلم الإجمالي ، وكذا يجب الفحص في الشبهات الحكمية عن التكليف ولا يجوز الرجوع إلى الأصل النافي ، ولو كان الضرر الاخروي المحتمل غير لازم الدفع لكان اللازم الاكتفاء بمجرد احتمال الامتثال ولا يلزم خصوص الظن به.

وعلى الجملة : الظن في نفسه لا اعتبار به سواء تعلق بثبوت التكليف أو بسقوطه بعد إحراز ثبوته كيف ولو صادف احتمال الضرر أي استحقاق العقاب الواقع يثبت.

ثم لا يخفى أنّ اعتبار الظن يكون بالشرع سواء كان الاعتبار تأسيسا أو إمضاء ،

٤٥

غير القطع للحجية بدون ذلك ثبوتا بلا خلاف ، ولا سقوطا وإن كان ربما يظهر فيه من بعض المحققين الخلاف والاكتفاء بالظن بالفراغ ، ولعله لأجل عدم لزوم دفع الضرر المحتمل ، فتأمل.

______________________________________________________

وأما ما ذكر الماتن من طروّ حالات وترتيب مقدمات يحكم العقل باعتباره معها كاعتبار القطع حال الانفتاح فهو غير صحيح ، فإنّه بناء على طروّها وتقرير مقدماتها لا يحكم العقل باعتبار الظن بل يحكم بالاحتياط في مظنونات التكليف المعبر عنه بالتبعيض في الاحتياط برعاية التكليف المحتمل فيها وعدم لزوم رعايته في المشكوكات والموهومات.

وعلى الجملة استحقاق العقوبة على مخالفة التكليف الواقعي في المظنونات بناء على تقرير مقدمات الانسداد على الحكومة غير مترتب على الظن بأن يكون هو المنجّز للتكاليف ، بل المنجّز لها العلم الإجمالي بثبوت التكاليف في الوقائع التي يبتلي بها المكلف ، والقاعدة الأولية وإن تقتضي رعاية احتمال التكاليف المعلومة بالإجمال حتى في الموهومات إلّا أن الاحتياط التام لكونه موجبا للعسر والحرج ونعلم أنّه غير مراد للشارع يرفع اليد عن رعايتها في المشكوكات والموهومات ويبقى لزوم رعايتها في المظنونات بحاله ، وسيأتي توضيح الفرق بين هذا التبعيض في الاحتياط وبين اعتبار الظن لكونه طريقا متبعا عند التكلم في مقدمات الانسداد كما هو على الكشف ، حيث يرفع اليد بالظن المطلق القائم على نفي التكليف عن الإطلاق أو العموم المقتضي لثبوت التكليف ويقع التعارض بين ظنين نوعيين يدلّ أحدهما على ثبوت التكليف ، والآخر على نفيه على ما يأتي.

٤٦

ثانيها : في بيان إمكان التعبد بالأمارة غير العلمية شرعا ، وعدم لزوم محال منه عقلا [١].

______________________________________________________

في إمكان التعبد بالأمارة

في بيان المراد من الإمكان في المقام

[١] لا ينبغي التأمل في أنّ البحث في إمكان التعبد بغير العلم من الأمارة غير العلمية وغيرها ليس بحثا عن الإمكان الذاتي في مقابل الامتناع الذاتي ، والمراد من الامتناع الذاتي أن يكون لحاظ الشيء كافيا في الجزم بامتناعه كلحاظ اجتماع النقيضين أو ارتفاعهما ، فإنّ الإمكان الذاتي للتعبد بغير العلم غير قابل للتأمل ، فإنّ لحاظه بمجرده لا يكون كافيا في الحكم بامتناعه ، وكذا ليس المراد منه مجرد الاحتمال كما في قولهم ـ على ما قيل ـ كلّ دم أمكن كونه حيضا فهو حيض ، وفي المحكي عن الشيخ الرئيس : كلما قرع سمعك من العجائب فذره في بقعة الإمكان ، حيث إن العاقل لا يعتقد بامتناع شيء وقوعا أو إمكانه كذلك بلا شاهد وبرهان ، بل المراد منه الإمكان الوقوعي ، ويكون البحث في أنّه يلزم من اعتبار أمارة غير علمية أو غير العلم ، وقوع ما هو محذور مطلقا المعبّر عنه بالممتنع ، أو ما هو محذور على الحكيم المعبّر عنه بالأمر القبيح كالأمر بارتكاب الفساد والاجتناب عن الصلاح أو التكليف بما لا يطاق ، أو لا يلزم شيء من ذلك ، وظاهر كلام الشيخ الأنصاري قدس‌سره أن عدم ثبوت امتناع الشيء ولزوم المحذور من وقوعه طريق عند العقلاء إلى إمكانه ، ولذا تصدى قدس‌سره لرفع المحاذير المتوهمة من لزوم التعبد بالظن ، واورد عليه الماتن قدس‌سره بما حاصله.

أنّ بناء العقلاء على الإمكان الوقوعي للشيء مع عدم ثبوت امتناعه من ترتيب آثار الإمكان ، وعلى تقدير بنائهم على الإمكان مع احتمال الامتناع فلا يصح الاعتماد

٤٧

في قبال دعوى استحالته للزومه ، وليس الإمكان بهذا المعنى ، بل مطلقا أصلا متبعا عند العقلاء ، في مقام احتمال ما يقابله من الامتناع ، لمنع كون سيرتهم على ترتيب آثار الإمكان عند الشك فيه ، ومنع حجيتها ـ لو سلم ثبوتها ـ لعدم قيام دليل قطعي على اعتبارها ، والظن به لو كان فالكلام الآن في إمكان التعبد بها

______________________________________________________

عليها ؛ لأنّها تحتاج إلى إحراز الإمضاء فإن كان طريق الإمضاء موجبا للعلم به يحرز معه إمكان التعبد بغير العلم ؛ لأنّ وقوع الشيء من طرق إثبات إمكانه وإن لم يثبت الإمضاء بالعلم كما هو الفرض ، فلا يفيد لأنّ الكلام في المقام في إمكان التعبد بغير العلم ومن غير العلم ما دلّ على اعتبار تلك السيرة وإمضائها ، وأعقب ذلك بأنّه لا يترتب على البحث في إمكان التعبد بغير العلم وامتناعه ثمرة فإنّه يتعين في الالتزام بأمارة غير علمية ثبوت التعبد بها بالعلم أو بما ينتهي إليه ، فإن احرز وقوع التعبد بها كذلك يستكشف إمكانه أيضا ، لأنّ وقوع الشيء طريق إلى العلم بإمكانه وإن لم يحرز التعبد بها كذلك يكون البحث في إمكان التعبد لغوا لأنّه لا يختلف الحال بين إمكانه وعدمه بعد فرض عدم وقوع التعبد به.

وقد يقال : بأنّه ليس مراد الشيخ قدس‌سره دعوى سيرة العقلاء على الإمكان في كلّ شيء احتمل امتناعه.

ليقال ، بمنع ذلك ، بل مراده البناء على إمكان الحكم الذي هو مدلول خطاب المولى ، فإنّه إذا ورد في خطابه ما هو ظاهر في وقوع التعبد بأمارة غير علمية كخبر العدل واحتمل عدم إمكان التعبد به في الأحكام أو الموضوعات يأخذون بظاهر الخطاب المزبور ، نظير ما ورد في خطاب الأمر بإكرام العلماء وشك في إمكان طلب إكرام غير العادل من العلماء ، فلا يجوز طرح عموم الخطاب بمجرد احتمال الامتناع بأن يقال : العموم المزبور إمكانه ثبوتا غير ثابت يحتمل في الخطاب التأويل ، نعم إذا

٤٨

وامتناعه ، فما ظنك به؟ لكن دليل وقوع التعبد بها من طرق إثبات إمكانه ، حيث يستكشف به عدم ترتب محال من تال باطل فيمتنع مطلقا ، أو على الحكيم تعالى ، فلا حاجة معه في دعوى الوقوع إلى إثبات الإمكان ، وبدونه لا فائدة في إثباته ، كما هو واضح.

وقد انقدح بذلك ما في دعوى شيخنا العلامة ـ أعلى الله مقامه ـ من كون

______________________________________________________

ثبت امتناع الحكم المدلول عليه بالخطاب ثبوتا لقبحه من الحكيم يطرح ذلك الظهور أو يؤوّل وقد تحصّل أنّ البحث في إمكان التعبد بالأمارة غير العلمية مرجعه أنّه يثبت عند العقل محذور من التعبد بالأمارة غير العلمية ليطرح الخطاب الظاهر فيه أو أنّه لم يثبت حتّى يؤخذ بمدلوله ، وهذا بحث اصولي تترتب عليه الثمرة.

أقول : لو كان المراد مما ذكر الشيخ من القاعدة عند العقلاء لكان هذا من إثبات إمكان التعبد بغير العلم بالوقوع ؛ لأنّ مع إحراز سيرتهم على الأخذ بظاهر كلام المولى وخطابه حتّى فيما كان مدلوله اعتبار أمارة يكون العقل حاكما بأنّه لو لم يمكن التعبد بأمارة غير علمية لكان على الشارع ردع الناس عن الأخذ بظاهر خطاباته ، ومع إحراز عدم ردعه بضميمة عدم إحراز امتناع التعبد يكون ذلك دليلا قطعيا على إمضاء السيرة ووقوع التعبد بأمارة غير علمية ولو في الجملة ، وإنّما قلنا بضميمة عدم إحراز الامتناع عند العقل ؛ لأنّه مع ثبوت الامتناع عنده لا حاجة إلى ردعه لكفاية اعتماده في الردع على حكم العقل بالامتناع.

وقد أورد المحقق النائيني على ما ذكر الشيخ بوجه آخر ، وهو أنّه على تقدير السيرة من العقلاء على ترتيب آثار إمكان الشيء عند عدم ثبوت امتناعه فهو فيما إذا كان المشكوك إمكانه التكويني لا الإمكان التشريعي ، والكلام في إمكان التعبد بالأمارة غير العلمية في إمكانه التشريعي ولا يخفى ما فيه ، فإن الإمكان أو الامتناع

٤٩

الإمكان عند العقلاء مع احتمال الامتناع أصلا ، والإمكان في كلام الشيخ الرئيس : (كلما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان ، ما لم يذدك عنه واضح البرهان) ، بمعنى الاحتمال المقابل للقطع والإيقان ، ومن الواضح أن لا موطن له إلّا الوجدان ، فهو المرجع فيه بلا بينة وبرهان.

وكيف كان فما قيل أو يمكن أن يقال في بيان ما يلزم التعبد بغير العلم من المحال أو الباطل ولو لم يكن بمحال امور [١] :

______________________________________________________

يكون من حكم العقل غاية الأمر المتصف بحكمه بالإمكان أو الامتناع يكون الشيء التكويني أو الأمر التشريعي ، من الحكم التكليفي أو الوضعي ، فلا يختلف ولا يتعدد الإمكان أو الامتناع وإنما الاختلاف في الموصوف بكل منهما.

في إمكان التعبد بالأمارة غير العلمية

[١] قيل يلزم من التعبد بالأمارة غير العلمية اجتماع المثلين من إيجابين أو تحريمين فيما أصاب أو ضدين من إيجاب وتحريم ومن إرادة وكراهة ومصلحة ومفسدة ملزمتين بلا كسر وانكسار في البين فيما أخطأ ، ولو فرض الكسر والانكسار في موارد خطأ الأمارة يلزم التصويب أي تبدل الحكم الواقعي إلى ما يقتضيه الانكسار ، والانكسار من الحكم الذي هو مدلول الأمارة أو حكم ثالث آخر كما قيل بأنّ التعبد بالأمارة يوجب بطلان الضدّين ، كما إذا كان فعل واجبا واقعا وقامت الأمارة على وجوب ضدّه ، كما يوجب التعبد بها تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة ، كما إذا قامت الأمارة على عدم وجوب ما هو واجب واقعا أو عدم حرمة ما هو حرام واقعا ، بأن قامت على كون الفعل الذي هو واجب واقعا أنّه محكوم بسائر الأحكام أو ما هو حرام واقعا على كونه محكوما بغير الحرمة.

وأجاب الماتن قدس‌سره عما قيل من لزوم الأمرين الأولين بأنّهما غير لازمين لاعتبار

٥٠

أحدها : اجتماع المثلين من إيجابين أو تحريمين مثلا فيما أصاب ، أو ضدين من إيجاب وتحريم ومن إرادة وكراهة ومصلحة ومفسدة ملزمتين بلا كسر وانكسار في البين فيما أخطأ ، أو التصويب وأن لا يكون هناك غير مؤديات الأمارات أحكام.

______________________________________________________

الأمارة وذلك فإنّ اعتبارها عبارة عن جعل الحجية التي كانت للقطع بالتكليف بالذات وبحكم العقل للامارة فتكون الأمارة القائمة على التكليف الواقعي منجّزة له فيما أصاب ، فيكون المكلف مستحقا للعقاب على مخالفة ذلك التكليف الواقعي ومعذّرة فيما أخطأ كما أن المكلف يستحق المثوبة والعقاب على مخالفة الأمارة في موارد مخالفتها الواقع لانقياده وتجريه ، واعتبار الحجية للأمارة القائمة على التكليف لا يستلزم جعل حكم تكليفي على طبقها أصلا ، وذلك فإنّ الفعل الذي قامت الأمارة على حكمه الواقعي لا يكون فيه مصلحة أو مفسدة غير ما كان فيه قبل قيامها فلا موجب لجعل حكم نفسي آخر ، حيث إن جعله يكون بلا ملاك وكذا لا موجب لجعل حكم مولوي طريقي يتعلق بذلك الفعل ؛ لانّ شأن الحكم الطريقي لكون جعله تحفظا على امتثال التكليف الواقعي عند ثبوت التكليف الواقعي أو التعذير عنه ، والمفروض تنجّز الحكم الواقعي عند إصابة الأمارة التكليف الواقعي والتعذير عنه عند عدم إصابتها بنفس جعل الحجية لها التي هي من قسم الحكم الوضعي.

وعلى الجملة فلا معنى لتنجّز الواقع بعد فرض تنجّزه ولو فرض الأمر بالعمل بالأمارة يكون الأمر المزبور إما ارشادا إلى حجيتها أو إرشادا إلى موافقة التكليف الواقعي وإطاعته.

وقد اورد على ما ذكره الماتن قدس‌سره بوجهين :

أولهما : أنّه لو كان المجعول في اعتبار الأمارة جعل الحجية لها التي هي بمعنى

٥١

ثانيها : طلب الضدين فيما إذا أخطأ وأدى إلى وجوب ضد الواجب.

ثالثها : تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة فيما أدى إلى عدم وجوب ما هو واجب ، أو عدم حرمة ما هو حرام ، وكونه محكوما بسائر الأحكام.

والجواب : إن ما ادعي لزومه ، إما غير لازم ، أو غير باطل ، وذلك لأن التعبد

______________________________________________________

المنجّزية والمعذرية لزم التخصيص في الحكم العقلي بقبح العقاب بلا بيان ، فإنّه إن اعتبرت الأمارة القائمة بالتكليف الواقعي عند إصابتها الواقع علما به فيرتب على هذا الاعتبار استحقاق العقاب على مخالفة التكليف الواقعي لوصوله بتلك الأمارة ولا يقبح العقاب على مخالفته لوصول التكليف وكون المكلف عالما في اعتبار الشارع فلا موضوع في موردها لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ؛ وإما مع عدم اعتبارها علما وبقاء التكليف الواقعي على حاله من عدم البيان يكون المكلف معاقبا على مخالفته ، وهذا معنى التخصيص في حكم العقل ، ولكن هذا الإشكال ضعيف وذلك فإنّ الموضوع في قاعدة قبح العقاب بلا بيان عدم البيان لا عدم العلم وبجعل الحكم الطريقي أو اعتبار الحجية للأمارة يرتفع عدم البيان ، فإنّ المراد بالبيان مصحح العقاب ولذا يكون الأمر المولوي الطريقي بالاحتياط في الشبهة البدوية في مورد حتّى بعد الفحص موجبا لاستحقاق العقاب على مخالفة التكليف الواقعي ، وتخرج تلك الشبهة عن موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان بارتفاع موضوعها.

والوجه الثاني : ما ذكره المحقق الاصبهاني وهو أنّه لا عقاب على مخالفة الواقع مع عدم الحجة على الواقع عقلا أو شرعا فنفس جعل الحجية بنفس جعل العقاب المتوقف على وجود الحجيّة دورى.

وفيه أيضا أنّ الشارع يعتبر تأسيسا أو إمضاء مخالفة الأمارة المصيبة للتكليف الواقعي موضوعا لاستحقاق العقاب على مخالفة ذلك التكليف ، وهذا الاعتبار معنى

٥٢

بطريق غير علمي إنما هو بجعل حجيته ، والحجية المجعولة غير مستتبعة لإنشاء أحكام تكليفية بحسب ما أدى إليه الطريق ، بل إنما تكون موجبة لتنجز التكليف به إذا أصاب ، وصحة الاعتذار به إذا أخطأ ، ولكون مخالفته وموافقته تجريا وانقيادا مع

______________________________________________________

إنشاء الحجية للأمارة وإذا وصل هذا الاعتبار إلى المكلف يترتب على مخالفة الأمارة المصيبة للتكليف الواقعي استحقاق العقاب ، ولذا يكون الشك في حجية أمارة مساوقة للقطع بعدم حجيتها ، فإنشاء الحجية الموقوف عليها الاستحقاق الفعلي غير الاستحقاق الموقوف كما لا يخفى.

وقد ذكرنا مرارا أن اعتبار الأمارة عبارة عن كونها علما في اعتبار الشارع كما هو الحال أيضا في سيرة العقلاء حيث يعتبرون خبر الثقة أو ظاهر خطاب المتكلم علما بمراده ، وقد أورد المحقق الاصبهاني على ذلك أيضا بأن اعتبار الأمارة علما بتنزيلها منزلة العلم في الأثر العقلي فمرجعه إلى جعل الأثر العقلي للأمارة أي التنجيز الذي لا يقول بجعله من يقول باعتبار الأمارة علما ، وإن كان تحقيق الموضوع للأثر العقلي ، فمقتضاه أن يكون الأثر العقلي مترتبا على الأعم من الوصول الحقيقي والاعتباري ، لا أن يكون مترتبا على خصوص العلم الوجداني.

وفيه أنّ التنزيل فيما كان المنزل بنفسه قابلا للاعتبار والجعل يكون بجعله لا جعل أثر المنزل عليه على المنزل ، والموضوع لاستحقاق العقوبة على مخالفة التكليف تمامية البيان لذلك التكليف بحيث يخرج المورد به عن اللابيان الموضوع لقبح العقاب ، وكما تقدم أن ترتب الاستحقاق على مخالفة التكليف المعلوم لكون العلم بيانا وباعتبار الأمارة القائمة بالتكليف علما يتمّ كونها بيانا أي مصححا للعقاب.

وعلى الجملة مقتضى السيرة العقلائية في باب الأمارات اعتبارهم تلك الأمارات علما ، ولذا يطلقون عليها العلم والشارع قررهم على اعتبارهم في

٥٣

عدم إصابته ، كما هو شأن الحجة غير المجعولة ، فلا يلزم اجتماع حكمين مثلين أو ضدين ، ولا طلب الضدين ولا اجتماع المفسدة والمصلحة ولا الكراهة والإرادة ، كما لا يخفى.

وأما تفويت مصلحة الواقع أو الإلقاء في مفسدته فلا محذور فيه أصلا ، إذا كانت في التعبد به مصلحة غالبة [١] على مفسدة التفويت أو الالقاء.

______________________________________________________

الشرعيات أيضا ، ويشهد لكونها علما في اعتبار الشارع أيضا أنّ الاعتماد عليها لا يكون تخصيصا أو تقييدا في مثل قوله سبحانه (لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(١)(إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)(٢) حيث إنّ مثلهما آب عن التخصيص ، واعتبار مثل الظن بالقبلة إذا لم يعلم وجهه من قبيل الاكتفاء بالامتثال الظني في التكليف المحرز بالعلم التفصيلي ، حيث ذكرنا جواز الاكتفاء من الشارع في مثله حتى بالامتثال الاحتمالي كما في مورد قاعدتي الفراغ والتجاوز لا من باب جعل الظن أمارة فتدبر.

[١] وتوضيح الجواب عن المحذور الثالث وهو لزوم تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة هو أنّ الحكم الواقعي المتعلق بالفعل جعله ناش عن مصلحة أو مفسدة في ذلك الفعل ، وأما اعتبار الأمارة القائمة على الحكم الواقعي فناشئ عن الصلاح في نفس الاعتبار لها ، وإذا كانت مصلحة في اعتبارها فلا محذور في تفويت المصلحة أو ابتلاء المكلف في المفسدة في بعض الأحيان.

وبتعبير آخر أنّ الأمارة القائمة بوجوب فعل أو حرمته أو إباحته إما أن تكون معتبرة بنحو السببية والموضوعية ، بأن يكون قيامها بحكم فعل موجبا لحدوث مصلحة أو مفسدة في ذلك الفعل أو زوال المصلحة أو المفسدة عنه ، بحيث يكون

__________________

(١) سورة الإسراء : الآية ٣٦.

(٢) سورة يونس : الآية ٣٦.

٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

قيامها على خلاف الواقع من الجهات المحسنة والمقبّحة فلا يكون في البين تفويت مصلحة أو إلقاء في المفسدة ، وإنّما يوجب اعتبارها كذلك التصويب المعتزلي المجمع على بطلانه ، وإمّا أن تكون معتبرة بالالتزام بالمصلحة السلوكية كما يظهر هذا الالتزام من كلمات الشيخ قدس‌سره والمراد بالمصلحة السلوكية أن لا يكون تغيّر في صلاح الفعل أو فساده ، بل يكون العمل بالأمارة فيه مصلحة يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع ، كما إذا قامت الأمارة بوجوب القصر في مورد يكون الواجب فيه واقعا هو التمام ، فإنّ العمل بتلك الأمارة بالإتيان بالصلاة قصرا فيه صلاح مساو لما فات عن المكلف من مصلحة الصلاة تماما ، وهذا فيما إذا لم ينكشف الخلاف في الأمارة المزبورة أصلا ، وأما إذا انكشف الخلاف بعد خروج الوقت يتدارك بها مصلحة فوت الصلاة تماما في الوقت خاصة ، ولذا يجب قضائها تماما وإذا انكشف الخلاف في الوقت يتدارك بها مصلحة فوت التمام في أول الوقت خاصة ، ولذا تجب إعادتها قبل خروج الوقت ويلتزم بأن هذا النحو من اعتبار الأمارة الذي اختاره الشيخ في ظاهر كلامه لا محذور فيه إلّا أنّه لا دليل على الاعتبار بهذا النحو.

أقول : هذا النحو من الاعتبار أيضا يوجب التصويب فيما إذا لم ينكشف الخلاف أصلا أو انكشف بعد الوقت فيكون الوجوب في الوقت تخييرا ، أو تخييرا بين الإتيان بالقصر في الوقت والتمام بعد خروجه أو الاتيان بالتمام في الوقت فإنّه لا معنى لسلوك الأمارة إلّا العمل على طبق مدلولها وهو الإتيان بالفعل الذي قامت على وجوبه ، وهذا فيما قامت الأمارة على وجوب فعل وكان الواجب في الواقع فعلا آخر ، وأما إذا قامت على إباحة فعل كان في الواقع حراما أو واجبا كان سلوك الأمارة بالفعل في الأول أيضا ، وبالترك في الثاني ، ومع عدم انكشاف خلافها أصلا كيف

٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

يتصور بقاء المفسدة في الأول والمصلحة في الثاني مع فرض المصلحة السلوكية التي هي بالفعل في الأول والترك في الثاني؟

وعلى الجملة يتعيّن في اعتبار الأمارة بالطريقيّة المحضة ، بمعنى أنّ قيام الأمارة بوجوب فعل أو حرمته أو إباحته لا يوجب انقلابا في ملاك ذلك الفعل أصلا ، ولا يحدث في العمل على طبق الأمارة مصلحة بمقدار ما يفوت من مصلحة الواقع أو يتدارك مقدار ما يبتلى به المكلّف بالمفسدة الواقعية ، بل اعتبار الأمارة علما أو جعل الحجية لها أو جعل الحكم الطريقي على طبق مدلول الأمارة فيه مصلحة ولا تكون هذه المصلحة شخصية ، بمعنى ثبوت الصلاح في ثبوت مصلحة في كلّ مورد من موارد قيامها ، بل يصح الاعتبار والجعل مع المصلحة النوعية بأن تكون تلك المصلحة التحفظ على التكاليف الواقعية من حيث الرعاية والامتثال بأن يرى الشارع أنه لو لم يعتبر الأمارة الفلانية وأوكل في وصول المكلف إلى التكاليف الواقعية إلى اعتقاده الجزمي يكون اعتقاده الجزمي بالتكاليف الواقعية أقل إصابة من صورة اتباعه تلك الأمارة ولو مع تمكّنه من الاحتياط في الوقائع ، إلّا أن صعوبة الاحتياط في الوقائع يوجب إهماله في تلك التكاليف ، فتعتبر الأمارة لتسهيل الأمر والمصلحة النوعية المعبّر عنها بتسهيل الأمر الجارية حتّى في اعتبار الاصول النافية ، وهذه المصلحة النوعية المترتبة على اعتبار الأمارة أو الأصل تجتمع مع المفسدة الشخصية وفوت المصلحة ، ولا قبح فيه على الحكيم كما يظهر ذلك في القوانين المشروعة من العقلاء في مجتمعاتهم من رؤسائهم ، ولعل ما ذكر الماتن قدس‌سره من قوله : «وأما تفويت مصلحة الواقع أو الإلقاء في مفسدته فلا محذور فيه أصلا إذا كانت في التعبد به مصلحة غالبة على مفسدة التفويت أو الالقاء» راجع إلى ملاحظة المصلحة

٥٦

نعم لو قيل باستتباع جعل الحجية للأحكام التكليفية أو بانه لا معنى لجعلها إلّا جعل تلك الأحكام [١]. فاجتماع حكمين وإن كان يلزم ، إلّا أنهما ليسا بمثلين أو

______________________________________________________

النوعية التي لا محذور مع رعايتها فوت مصلحة شخصية أو الإلقاء في المفسدة كذلك.

في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري

[١] يعني لو قيل بأن جعل الحجية للأمارة يلزمها جعل مدلول الأمارة حكما تكليفيا أو أنه لا معنى لجعل الحجية لها إلّا بجعل مدلول الأمارة حكما تكليفيا فاجتماع حكمين وإن يلزم في فعل واحد إلّا أنهما ليسا بمثلين عند إصابة الأمارة الواقع ولا بضدين عند خطئها ، والوجه في ذلك أن الحكم الواقعي حكم تكليفي نفسي ينشأ عن مصلحة أو عن مفسدة في متعلّقه ، ولذا تتعلّق بذلك المتعلّق الإرادة والكراهة من المولى ، والمجعول في اعتبار الأمارة حكم طريقي ينشأ من مصلحة في نفس ذلك الحكم ، حيث يوجب تنجيز الواقع أو العذر عنه من غير أن يتعلق بمتعلقه إرادة أو كراهة فيما إذا لم يتعلقا به مع قطع النظر عن قيام الأمارة واعتبارها فلا يلزم اجتماع إرادتين بالإضافة إلى فعل ولا اجتماع الإرادة والكراهة فيه ، وإنما يلزم إنشاء حكم واقعي حقيقي يكون على وفقه إرادة الفعل أو الكراهة عنه ، وإنشاء حكم طريقي آخر ، فلا يكون بين الحكمين محذور اجتماع المثلين إذا اتفقا ، ولا اجتماع الضدين إذا اختلفا ، ولا اجتماع إرادة وكراهة في فعل واحد حيث لا إرادة ولا كراهة إلّا بالنسبة إلى متعلق الحكم الواقعي النفسي.

ثم إنه قدس‌سره ذكر الإشكال في الالتزام بفعلية التكليف الواقعي في بعض موارد الاصول العملية كأصالة الإباحة الشرعية ، ووجهه أن الإذن في الإقدام والاقتحام وارتكاب الفعل وإن كان لمصلحة في الإذن ينافي الحرمة الواقعية النفسية الفعلية ،

٥٧

ضدين ، لان أحدهما طريقي عن مصلحة في نفسه موجبة لإنشائه الموجب للتنجز ، أو لصحة الاعتذار بمجرده من دون إرادة نفسانية أو كراهة كذلك متعلقة بمتعلقه فيما يمكن هناك انقداحهما ، حيث إنه مع المصلحة أو المفسدة الملزمتين

______________________________________________________

كما إذا كان المأذون حراما واقعيا حيث إن الإذن الطريقي وإن يكون لمصلحة في نفس الإذن لا لعدم مصلحة ملزمة أو مفسدة ملزمة في المأذون فيه ، كما هو الحال في الإذن الواقعي النفسي ، إلّا أن الطريقي منه أيضا ينافي الحرمة الواقعية الفعلية فلا محيص في مثله من الالتزام بأنه لا إرادة ولا كراهة في نفس المولى عند تحقق الإذن في الارتكاب لا بمعنى أن الحرمة الواقعية ليست بفعلية مطلقا بل هي فعلية ما دام لم ينقدح في نفس المولى الإذن في الارتكاب لمصلحة في نفس الإذن.

أقول : لو كان الترخيص الطريقي في الارتكاب منافيا للمنع النفسي الواقعي وموجبا لانتهاء فعليته بثبوت الترخيص الطريقي في الارتكاب ، لجرى هذا الكلام بعينه في موارد الأمارة أيضا إذا قامت بإباحة فعل كان في الواقع حراما ، فلا وجه لجزمه بعدم المنافاة في الأمارات ولو بناء على جعل مداليلها حكما طريقيا وجزمه بالمنافاة في أصالة الحلية ، ويلزمه أيضا أنه لو لم يكن جعل أصالة الإباحة ونحوها من الاصول الشرعية التي مفاد خطاباتها الإذن في الارتكاب أو الترك في الشبهات التحريمية والوجوبية لكانت الشبهات مجرى الاحتياط العقلي ، نظير أطراف الشبهة في العلم الإجمالي ؛ لأن العقل لا يرخص في ارتكاب فعل يعلم على تقدير حرمته بأن حرمته فعلية أو على تقدير وجوبه بأن وجوبه فعلي ، والصحيح أنه لا منافاة بين الترخيص الطريقي الذي هو عبارة عن إنشاء الترخيص في الارتكاب ليكون عذرا للمكلّف عند عدم وصول التكليف الواقعي ، وبين المنع الواقعي النفسي الفعلي ، فإن الترخيص الطريقي لا يكون في الحقيقة الرضا بالارتكاب لينافيه المنع الواقعي ، ولعل

٥٨

في فعل ، وإن لم يحدث بسببها إرادة أو كراهة في المبدأ الأعلى ، إلّا أنه إذا أوحى بالحكم الناشئ من قبل تلك المصلحة أو المفسدة إلى النبي ، أو ألهم به الولي ، فلا محالة ينقدح في نفسه الشريفة بسببهما ، الإرادة أو الكراهة الموجبة للإنشاء بعثا أو زجرا ، بخلاف ما ليس هناك مصلحة أو مفسدة في المتعلق ، بل إنما كانت في

______________________________________________________

الذي أوقع الماتن قدس‌سره فيما ذكره حسبان أن الإذن الظاهري الطريقي في موارد الاصول إظهار رضاه بالارتكاب حقيقة ، كما يفصح عن ذلك قوله : «وكونه فعليا ، إنما يوجب البعث أو الزجر في النفس النبوية أو الولويّة فيما إذا لم ينقدح فيها الإذن لمصلحة فيه».

والحاصل أن الترخيص الطريقي أمر إنشائي محض وقسم من الحكم الذي لا تكون المصلحة إلّا في جعله وقابل للجمع مع التحريم الواقعي وفعليته مع عدم وصوله إلى المكلّف ، كما هو الفرض في موارد الأحكام الظاهرية العذرية حيث لا يكون الحكمان متنافيين في جهة مبدئهما ولا في جهة المنتهى ، وقد ذكرنا مرارا أن المراد من فعلية التكليف الواقعي تحقق الموضوع له بقيوده المفروضة له في مقام جعله ، وأما تعلق إرادة المولى بفعل العبد في موارد وجوب الفعل أو بتركه في موارد تحريمه أمر لا أساس له ، فإن فعل العبد بما هو فعله خارج عن اختيار المولى بما هو مولى ، والاشتياق إلى فعل الغير أو الكراهة عنه غير إرادة الفعل أو الترك ، وتعلق إرادة الله سبحانه بفعل العباد بما هو قادر وخالق يوجب خروج أفعال العباد عن الاختيار ولزوم الجبر الذي التزم به الجبريون ، وإنما تتعلق إرادة المولى بفعله وهو الإيجاب والتحريم لفرض إمكان كونه داعيا للعبد إلى الفعل أو الترك بوصولهما إليه ، والحكم الظاهري مجعول في فرض عدم الوصول لمصلحة في نفس جعله ، ويدل على أن فعلية الحكم الواقعي لا تدور مدار تعلق إرادة المولى بالفعل أو الترك أن الإباحة

٥٩

نفس إنشاء الأمر به طريقيا.

والآخر واقعي حقيقي عن مصلحة أو مفسدة في متعلقه ، موجبة لإرادته أو كراهته ، الموجبة لإنشائه بعثا أو زجرا في بعض المبادئ العالية ، وإن لم يكن في المبدأ الأعلى إلّا العلم بالمصلحة أو المفسدة ـ كما أشرنا ـ فلا يلزم أيضا اجتماع إرادة وكراهة ، وإنما لزم إنشاء حكم واقعي حقيقي بعثا وزجرا ، وإنشاء حكم آخر طريقي ، ولا مضادة بين الإنشاءين فيما إذا اختلفا ، ولا يكون من اجتماع المثلين فيما اتفقا ، ولا إرادة ولا كراهة أصلا إلّا بالنسبة إلى متعلق الحكم الواقعي ، فافهم.

______________________________________________________

الواقعية تكون فعلية مع عدم فرض إرادة من المولى متعلقه بالفعل أو الترك.

وأما ما ذكره المحقق الاصبهاني قدس‌سره في وجه عدم تعلق الإرادة من الله سبحانه بأفعال العباد وكذلك لا تتعلق الإرادة بها في نفس النبوي والولوي بأن الشوق إنما يتعلق بالشيء إذا كان فيه جهة راجعة إلى المشتاق وأفعال العباد لا يعود صلاحها وفسادها إلّا إليهم ، فلا معنى لانقداح الإرادة في النفس النبوية والولوية فضلا عن المبدأ الأعلى فحصول الشوق الأكيد بالإضافة إلى فعل المكلفين على حد حصول المعلول بلا علة.

فقد ذكرنا في بحث الطلب والإرادة أن الإرادة ليست شوقا مؤكدا ، والشاهد صدور الفعل واختياره عن شخص من غير أن يكون اشتياق له بالإضافة إلى نفس ذلك الفعل ، أو إلى ما يترتب عليه ، بل الإرادة استعمال القدرة في أحد طرفي الشيء فإرادة الله سبحانه تتعلّق بكون العباد مختارين في أفعالهم التي تقع موردا للاحكام وللتكاليف كما تتعلق بالتكاليف التي جعلها في حقهم ، واستعمال العباد القدرة المعطاة لهم بحكمته سبحانه في أحد طرفي الفعل مستند إليهم لا إلى الله سبحانه وإن أردت التوضيح فراجع بحث الطلب والإرادة.

٦٠