دروس في مسائل علم الأصول - ج ٤

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-94850-6-5
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

التبعية.

وقد يستدل على عدم اعتبار العلم في الشبهة غير المحصورة بالإجماع ، ولا يخفى ما فيه فإن هذه المسألة لم يتعرض لها القدماء من أصحابنا ، فكيف يمكن دعوى الإجماع على حكمها ، وعلى تقديره فلا يمكن إثبات الإجماع التعبدي لاحتمال كون مدركهم أحد الوجوه المتقدمة ، كما يستدل على عدم اعتبار العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة ببعض الروايات ، كرواية أبي الجارود ، قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الجبن فقلت له : أخبرني من رأى أنه يجعل فيه الميتة؟ فقال : أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرّم في جميع الأرضين؟! إذا علمت أنه ميتة فلا تأكله ، وإن لم تعلم فاشتر وبع وكل ، والله إني لأعترض السوق ، فأشتري بها اللحم والسمن والجبن ، والله ما أظنّ كلهم يسمون هذه البربر وهذه السودان» (١) ولا يخفى ما فيه ، فإنه يجوز ارتكاب الماخوذ في أمثال ذلك لا لكون الشبهة غير محصورة ، بل لأنه مع عدم العلم بحرمة المأخوذ بعينه تجري فيه أصالة الطهارة أو الحلية ، ويحكم بكونه مذكى ليد المسلم ؛ لأنّ غير المأخوذ محرم عليه قطعا ، فإنه إما ملك للغير أو حرام ، كما ذكرنا ذلك في بحث جوائز السلطان ، نعم إذا علم الحرام في المأخوذ ولو تدريجيا جرى عليه حكم الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي.

بقي في المقام أمر ، وهو أنه ذكر بعض أنّ كثرة أطراف الشبهة توجب كون الشبهة غير محصورة فيما إذا لم يكن المعلوم بالإجمال كثيرا ، وأما مع كثرة المعلوم بالإجمال كما إذا علم أن ثلث الأواني المنتشرة في البلد بأنها نجسة فيجري عليها

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٥ : ١١٩ ، الباب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ، الحديث ٥.

٤٠١

نعم ربما تكون كثرة الأطراف في مورد موجبة لعسر موافقته القطعية باجتناب كلها أو ارتكابه ، أو ضرر فيها أو غيرهما مما لا يكون معه التكليف فعليا بعثا أو زجرا فعلا ، وليس بموجبة لذلك في غيره ، كما أن نفسها ربما يكون موجبة لذلك ولو كانت قليلة في مورد آخر ، فلا بد من ملاحظة ذاك الموجب لرفع فعلية التكليف المعلوم بالإجمال أنه يكون أو لا يكون في هذا المورد ، أو يكون مع كثرة أطرافه وملاحظة أنه مع أيّة مرتبة من كثرتها كما لا يخفى.

ولو شك في عروض الموجب ، فالمتبع هو إطلاق دليل التكليف لو كان ، وإلّا فالبراءة لأجل الشك في التكليف الفعليّ ، هذا هو حقّ القول في المقام ، وما قيل في ضبط المحصور وغيره لا يخلو من الجزاف.

الرابع : أنه إنما يجب عقلا رعاية الاحتياط في خصوص الأطراف مما يتوقف على اجتنابه أو ارتكابه حصول العلم بإتيان الواجب أو ترك الحرام المعلومين في البين دون غيرها ، وإن كان حاله حال بعضها في كونه محكوما بحكمه واقعا [١].

______________________________________________________

حكم الشبهة المحصورة ، ويسمى هذا بشبهة الكثير في الكثير ، والصحيح ملاحظة الموجب لتنجز العلم الإجمالي وجودا وعدما ، فإنه في مثل جوائز السلطان لا يضر العلم بكثرة الحرام بخلاف ما إذا علم المكلف بكثرة الحرام فيما يبتلي بجميع الأطراف ولو في طول الزمان.

في ملاقي بعض أطراف العلم

[١] لا ينبغي التأمل في أن العلم الإجمالي بالموضوع بين طرفين أو اكثر يوجب تنجز التكليف المترتب عليه بسقوط الاصول النافية في الأطراف فيما كان المعلوم بالإجمال تمام الموضوع له ، أو كان في البين ما يحرز به تمام الموضوع ، وأما إذا كان جزء الموضوع أو قيده فقط فلا يكون العلم الإجمالي به موجبا للتنجز ولا تساقط

٤٠٢

.................................................................................................

______________________________________________________

الاصول النافية ، كما إذا علم المكلف في جسدين أحدهما جسد إنسان ميت لم يغسل والآخر جسد حيوان ميتة ، فإن الملاقي لأحدهما وإن يكن نجسا إذا كان مع الرطوبة المسرية ، إلّا أن المكلف إذا مس أحدهما لا يوجب ذلك غسل مس الميت ؛ لأنه بالملاقاة المزبورة وإن تحرز النجاسة ، إلّا أنه لا يحرز بها تمام الموضوع لوجوب غسل مس الميت ، بل مقتضى الأصل أنه لم يمس ميت الإنسان ، وهذا بخلاف ما إذا كان العلم الإجمالي بموضوع مساوقا لإحراز حصول الموضوع لحكم آخر أيضا ، كما إذا علم إجمالا بطهارة أحد شيئين كانا في السابق متنجسين ، فإنه إذا فرض ملاقاة طاهر لأحدهما مع الرطوبة يحكم بنجاسة الطاهر ؛ لأنه مع العلم بالملاقاة يحرز تمام الموضوع لتنجس الطاهر ، فإنه لاقى شيئا محكوما بالنجاسة مع الرطوبة والملاقاة معها أمر وجداني ، وكون الملاقى بالفتح نجسا بالاستصحاب ، وهذا بحسب الكبرى واضح.

جريان الأصل النافي بالإضافة إلى تكليف لم يتم موضوعه بضم الوجدان إلى الأصل

وإنما وقع الخلاف في بعض الموارد في أنها الصغرى للكبرى المذكورة ، وأنّه بالعلم الإجمالي يحرز تمام الموضوع أم لا ، كما إذا علم المكلف بأن إحدى العينين في يده غصب فلا يجوز له التصرف فيها ، وإذا كان لأحدهما نماء منفصل بعد ذلك ولم يكن تناول النماء بالتصرف في أحدهما كتناول بيضة الدجاجة ، فهل يجب عليه الاجتناب عن ذلك النماء وأيضا ويحكم بضمان النماء أيضا ، أم لا يجب الاجتناب عن النماء ولا يحكم بضمانه.

فقد يقال كما عن المحقق النائيني قدس‌سره بلزوم الاجتناب عن النماء ، ودخوله في الضمان كالعين المتبوعة له ، وذكر في وجهه أن وضع اليد على عين عدوانا وضع لها

٤٠٣

.................................................................................................

______________________________________________________

على منافعها ونماءاتها ، ولذا لو استلم ثالث العين من الغاصب وحصل نماؤها بيده كان لمالكها الرجوع إلى كل منهما على قرار تعاقب الأيدي على مال الغير ، فأصالة عدم الضمان من ناحية العين التي لها نماء قد سقطت بالمعارضة مع أصالة عدم الضمان بالإضافة إلى العين التي لم يتجدد لها نماء ، هذا بالإضافة إلى الوضع ، وأما التكليف فلمبغوضية التصرف في النماء كالتصرف في نفس العين المتبوعة.

أقول لا يخفى ما فيه ، فإن النماء المتجدد مال آخر ، ولو كانت العين للغير يكون التصرف في النماء المفروض محرّما آخر غير التصرف في العين ، ولا تكون حرمة التصرف فيه عند وضع اليد على نفس العين ، بل عند حدوثه ولو في يد شخص ثالث ، كما أن وضع اليد عليها عدوانا يوجب ضمان نمائها أيضا عند حصوله ، فإنه ما دام لم يردها على مالكها فما يفوت من منافعها ونماءاتها عن مالكها يدخل في الضمان أيضا ، فيكون على العين المملوكة للغير عدوانا استيلاء على نمائها المتجدد عند تجدده ولو في يد ثالث ، كما هو مقتضى السيرة العقلائية في موارد ضمان اليد ، وعلى ذلك فحرمة التصرف والضمان في النماء عند تجدده على تقدير كون النماء ملك الغير ولو بتبع العين ، ومقتضى الاستصحاب عدم كون النماء عند حصوله ملكا للغير لتتعلق به الحرمة والضمان في النماء ، ولا يحتاج في جواز إثبات جواز التصرف في النماء وعدم الضمان فيه إلى إحراز كونه ملكا لنفسه ، كما يظهر عن الشيخ الأنصاري قدس‌سره ، حيث استظهر عدم جواز التصرف ، ولزوم الاحتياط في المال المشتبه من قوله عليه‌السلام على المروي «لا يحل مال إلّا من وجه أحله الله» (١) والوجه في عدم

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٥٦ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٨.

٤٠٤

.................................................................................................

______________________________________________________

الحاجة أن الرواية مع إرسالها لا تجري في الفرض ، فإن استصحاب عدم كون النماء للغير أو أصالة الحلية فيه إحراز لما أحله الله ، ولا مجال لدعوى معارضة أصالة عدم كون النماء ملك الغير بأصالة عدم كونه له ، وذلك فإن الموضوع للحرمة والضمان مال الغير ونفيه كاف في ثبوت الجواز ولا أثر لأصالة عدم كونه ملك نفسه بالاضافة إلى حرمة التصرف فيه ، والضمان حيث لا يثبت كونه ملك الغير ، وعلى تقدير المعارضة أو عدم الجريان تصل النوبة إلى أصالة البراءة عن الحرمة والضمان.

وقد يقال : هذا فيما إذا لم تكن الأطراف مسبوقة بملك الغير ، كما لو اصطاد كل من اثنين صيدا فغصب أحدهما من الآخر ، ثم اشتبه المغصوب بغيره وحصل لأحدهما نماء فإنه لا اشكال في الفرض على ما تقدم ، وأما إذا كانت مسبوقة بملك الغير كما إذا اشترى شجرة وغصب الاخرى ، واشتبهتا وحصل لاحدهما نماء فانه يجب في الفرض الاجتناب والتصرف في النماء يضمنه ، فإن الاستصحاب في عدم كون الشجرة التي منها النماء ، مقتضاه كون الثمرة ملك الغير ، ولا مجال لدعوى المعارضة بينه وبين الاستصحاب في بقاء الشجرة الاخرى على ملك الغير ، والوجه في عدم المجال ما تقدم من أن الاصول المثبتة للتكليف تجرى في أطراف العلم ، ومجرد العلم الإجمالي بالانتقاض لا يوجب المعارضة بينها كما هو الحال في تعارض الطرق والأمارات.

أقول : في التفصيل المزبور تأمل ، وذلك فإن عدم المعارضة في الاصول المثبتة يختص بموارد يتعين فيها العمل بتلك الاصول ، وأما مع العلم بعدم لزومه شرعا ولو بحسب الظاهر كالعلم الإجمالي بكون أحد المالين للغير فالمعارضة بحالها ، وعليه فلا بأس بالرجوع في النماء إلى الأصل النافي من غير فرق بين كون الأطراف مسبوقة

٤٠٥

.................................................................................................

______________________________________________________

بملك الغير أم لا.

ومما ذكرنا يظهر الحال في ملاقي بعض أطراف العلم بالنجاسة ، فإن خطاب النهي عن شرب المتنجس أو أكله كسائر الخطابات انحلالية ، ولو كان الملاقى (بالفتح) نجسا في الواقع يحدث بملاقاته فرد آخر من المتنجس محكوم بحرمة مستقلة وضعا أو تكليفا ، وبما أن حدوث فرد آخر بالملاقاة غير معلوم ، فيجري الاستصحاب ، وأصالة الطهارة في الملاقي (بالكسر) بلا معارض.

وقد يقال : المستفاد من بعض الروايات أن الاجتناب عن الملاقي (بالكسر) بعينه مقتضى وجوب الاجتناب عن ملاقيه (بالفتح) لا أنه حكم آخر يثبت لفرد آخر ، كما فيما رواه في الكافي عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : أتاه رجل فقال له : وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت فما ترى في أكله؟ قال : فقال له أبو جعفر عليه‌السلام «لا تأكله فقال له الرجل : الفأرة أهون عليّ من أن أترك طعامي لأجلها ، قال : فقال له أبو جعفر عليه‌السلام : إنك لم تستخف بالفأرة وإنما استخففت بدينك إن الله حرم الميتة من كل شيء» (١) ، ووجه الاستفادة أن السائل لم يرد أكل الفأرة ، بل أراد أكل السمن أو الزيت الملاقى لها ، فيستفاد من الجواب أن تحريم الميتة يدخل في الاجتناب عن السمن أو الزيت المزبورين في السؤال.

ولكن لا يخفى ، أن المراد من التحريم في الرواية الحكم بالنجاسة وكونها منجّسة لا الحرمة التكليفية ، بأن يكون مقتضى تحريم الشيء تكليفا الاجتناب عن ملاقيه ، ولذا لا بأس بأكل ملاقي الميتة من غير ذي النفس أضف إلى ذلك ضعف

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ : ٢٠٦ ، الباب ٥ من أبواب الماء المضاف ، الحديث ٢.

٤٠٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الرواية سندا.

والحاصل نجاسة الملاقي (بالكسر) غير نجاسة الملاقى (بالفتح) ، وكل منهما محكوم بحكم مستقل ، غاية الأمر إذا أحرز نجاسة أحد الشيئين إجمالا ، ثم لاقى أحدهما شيئا ثالثا ، يحكم بطهارة ذلك الثالث للشك في حدوث فرد آخر والأصل عدمه.

لا يقال : بعد الملاقاة يعلم إجمالا إما بنجاسة الملاقي (بالكسر) أو نجاسة الطرف الآخر ، فهذا علم إجمالي ثان يكون منجزا لنجاسة الملاقي على تقديرها.

فإنه يقال : حيث إنّ الأصل النافي قد سقط في الطرف الآخر عند حصول العلم الإجمالي الأول ، فلا مانع عن الرجوع إلى الأصل النافي في الملاقي ، نعم إذا كان للطرف الآخر أصل طولي لم يسقط من الأول كما إذا علم إجمالا بنجاسة ثوب أو ماء ثم وقع الثوب في إناء ثالث يجب الاجتناب عن الإناء الثالث ؛ لأنّ أصالة الطهارة والحلية فيها تسقطان بالمعارضة مع أصالة الحلية في الماء الذي كان طرفا للعلم الإجمالي الأول على ما تقدم بيان ذلك سابقا ، وأما ما أجاب به الشيخ قدس‌سره عن شبهة العلم الإجمالي الثاني بعد العلم بالملاقاة ، بأن العلم الثاني لا يمنع من جريان الأصل في الملاقي (بالكسر) لكون الشك في الملاقي ناشئا من الشك في نجاسة الملاقى (بالفتح) فيكون الأصل الجاري في الملاقي (بالكسر) في طول الأصل الجاري في الملاقى (بالفتح) لأنّ الأصل السببي حاكم على الأصل المسببي ولو جرت أصالة الطهارة في الملاقي لما كان لها مورد في ناحية الملاقي (بالكسر) ، وبعد سقوط الأصل في الملاقى (بالفتح) للمعارضة بينه وبين الأصل في الطرف الآخر تصل النوبة إلى جريان الأصل في الملاقي (بالكسر) بلا معارض ، فقد تقدم أن مجرد كون

٤٠٧

ومنه ينقدح الحال في مسألة ملاقاة شيء مع أحد أطراف النجس المعلوم بالإجمال ، وأنه تارة يجب الاجتناب عن الملاقى دون ملاقيه فيما كانت الملاقاة بعد العلم اجمالا بالنجس بينها [١].

______________________________________________________

الأصل طوليا في أحد الأطراف لا يوجب خروجه من أطراف المعارضة ، حيث ذكرنا أن الطولية إنما هي في فرض جريان الأصل الحاكم ، وأما مع عدم جريانه يكون الأصل في الطرف الآخر معارضا مع الأصل الطولي أيضا ، وقد أورد على الشيخ قدس‌سره بأن الساقط في الملاقى (بالفتح) وطرفه الآخر هو أصالة الطهارة لكون أصالة الطهارة فيه حاكما على أصالة الطهارة في الملاقي (بالكسر) ، ولكن أصالة الحلية في ناحيته غير حاكمة ، فأصالة الطهارة في الملاقي (بالكسر) تتعارض مع أصالة الحلية في الطرف الآخر الذي هو طرف للملاقي ، وهذا هو المعروف بالشبهة الحيدرية ، والصحيح في الجواب ما ذكرنا من أنه لا تجرى أصالة الطهارة في الملاقي إلّا بعد فعلية الملاقاة وإحرازها ، وقبل ذلك قد سقطت كل من أصالة الطهارة والحلية في ناحية الملاقى (بالفتح) وطرفه ، فإنه لم يكن في ذلك الزمان ملاقاة وإحرازها ليكون الشك في طهارة الملاقي أو حليته من أطراف الاصول المتعارضة ، وعليه فلا أساس صحيح للشبهة الحيدرية.

[١] ذكر قدس‌سره لملاقي بعض الأطراف فروضا ثلاثة ، وأنه يجب الاجتناب في الفرض الأول عن الملاقي (بالفتح) وطرفه دون الملاقي (بالكسر) وهذا يكون فيما إذا كانت الملاقاة بعد العلم إجمالا بوجود النجس بين الأطراف ، وذكر في الفرض الثاني لزوم الاجتناب عن الملاقي (بالكسر) والطرف الآخر دون الملاقى (بالفتح) وهذا يكون في صورتين ، إحداهما : ما إذا علم أولا بنجاسة الملاقي (بالكسر) والطرف الآخر أولا ، ثم علم بالملاقاة وأنه كان قبلها إما الملاقى (بالفتح) نجسا أو

٤٠٨

فإنه إذا اجتنب عنه وطرفه اجتنب عن النجس في البين قطعا ، ولو لم يجتنب عما يلاقيه ، فإنه على تقدير نجاسته لنجاسته كان فردا آخر من النجس ، قد شك في وجوده ، كشيء آخر شك في نجاسته بسبب آخر.

______________________________________________________

الطرف الآخر ، فإن حال الملاقى (بالفتح) في هذا الفرض كحال الملاقي (بالكسر) في الفرض الأول من عدم كون الأصل الجاري فيه من أطراف المعارضة ، وثانيتهما : ما إذا علم الملاقاة أولا ، ثم حدث العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى أو الطرف الآخر ، ولكن كان عند حدوث العلم الإجمالي الملاقى (بالفتح) خارجا عن محل الابتلاء وصار مبتلى به بعد حصول العلم.

أقول : ما ذكر في الاولى من الصورتين إنما يصح فيما إذا علم أولا بوقوع النجاسة إما في الملاقي (بالكسر) أو الطرف الآخر ، ثم حصل العلم بالملاقاة ، وأن نجسا آخر كان واقعا في الملاقى (بالفتح) أو الطرف الآخر ، وأما إذا علم فعلا أن منشأ نجاسة الملاقي بالكسر على تقديرها هي الملاقاة السابقة لكانت أصالة الطهارة في الملاقى (بالفتح) مثبتة لطهارة الملاقي فعلا ، وعلى ذلك فاللازم الاجتناب عن الطرف الآخر فقط فيكون هذا فرضا رابعا زائدا على الفروض الثلاثة ، ولا يقاس المقام بما إذا علم بنجاسة أحد شيئين ثم علم بأن النجس أحدهما أو الشيء الثالث ، حيث يجب في ذلك الاجتناب عن الجميع لا خصوص أحد الشيئين الأولين ، بدعوى أن جريان الأصل النافي في الشيء الثالث بلا معارض ، والوجه في عدم صحة القياس أنه في مثل ذلك يعلم ثانيا خطأ الأول وبطلانه من أصله ، فيكون الشك في كل من الأطراف بعد العلم الثاني شكا جديدا فتسقط الاصول النافية فيها بالمعارضة ، وبالنتيجة يجب الاجتناب عن الجميع ، وهذا بخلاف المفروض في المقام فإنه لا يعلم الخطأ في العلم الإجمالي الأول ، بل يحصل علم إجمالي ثان غاية

٤٠٩

ومنه ظهر أنه لا مجال لتوهم أن قضية تنجز الاجتناب عن المعلوم هو الاجتناب عنه أيضا ، ضرورة أن العلم به إنما يوجب تنجز الاجتناب عنه ، لا تنجز الاجتناب عن فرد آخر لم يعلم حدوثه وإن احتمل.

وأخرى يجب الاجتناب عما لاقاه دونه ، فيما لو علم إجمالا نجاسته أو نجاسة شيء آخر ثم حدث (العلم ب) الملاقاة والعلم بنجاسة الملاقى أو ذاك

______________________________________________________

الأمر لا يكون التكليف في أحد طرفيه على تقديره تكليفا فعليا منجزا بهذا العلم الإجمالي الثاني.

وأما المثال الثاني : فهو ما إذا علم بملاقاة شيء كالثوب لمائع ثم علم بنجاسة ذلك المائع أو شيء آخر ، ولكن كان المائع الملاقى (بالفتح) خارجا عن الابتلاء حين حصول العلم الإجمالي بالنجاسة وصار داخلا في الابتلاء بعد ذلك ، فإنه عند حصول العلم الإجمالي بالنجاسة تسقط أصالة الطهارة في كل من الملاقي (بالكسر) أو الشيء الآخر بالمعارضة ، وبعد دخول الملاقى (بالفتح) في الابتلاء تجري فيه أصالة الطهارة بلا معارض ، ولكن لا يخفى ما فيه فإن جريان أصالة الطهارة في الملاقى بالفتح عند العلم بنجاسته أو نجاسة شيء آخر لا يتوقف على بقائه حين حصول العلم أو دخوله في محل الابتلاء بنفسه ، فإن لطهارته ولو مع فقده قبل أن يخرج عن محل الابتلاء أثرا شرعيا وهو طهارة ملاقيه فعلا ، فالعلم الإجمالي بنجاسته أو الشيء الآخر يوجب سقوط أصالة الطهارة في كل منه وما لاقاه ، والطرف الآخر ، فيدخل هذا في القسم الثالث الذي أشار إليه بقوله : «وثالثة : يجب الاجتناب عنهما فيما لو حصل العلم الاجمالي بعد العلم الملاقاة ، ضرورة أنه حينئذ نعلم إجمالا إما بنجاسة الملاقي والملاقى أو بنجاسة الآخر كما لا يخفى ، فيتنجز التكليف بالاجتناب عن النجس في البين وهو الواحد أو الاثنان».

٤١٠

الشيء أيضا ، فإن حال الملاقى في هذه الصورة بعينها حال ما لاقاه في الصورة السابقة في عدم كونه طرفا للعلم الإجمالي ، وأنه فرد آخر على تقدير نجاسته واقعا غير معلوم النجاسة أصلا ، لا إجمالا ولا تفصيلا ، وكذا لو علم بالملاقاة ثم حدث العلم الإجمالي ، ولكن كان الملاقى خارجا عن محل الابتلاء في حال حدوثه وصار مبتلى به بعده.

______________________________________________________

ثم لا يخفى أنه كما لا تجرى الاصول النافية في أطراف العلم الإجمالي بالتكليف أو حصول الموضوع له بينها لما ذكرنا من أن العلم الإجمالي بأحدهما فرض وصول التكليف فيكون الترخيص فيها ترخيصا قطعيا في التكليف الواصل وهو قبيح من المولى الحكيم ، وعبّرنا عن ذلك بالمضادة بين التكليف الواصل والترخيص في الأطراف من جهة المنتهى والغرض من التكليف ، كذلك لا تجرى الاصول النافية في أطراف الطريق الإجمالي القائم بالتكليف أو الموضوع بينها ، كما إذا قامت البينة بوقوع نجس في أحد إناءين ونحتمل خطئها وعدم إصابة النجس لشيء منهما ، فإنه لا مجال في مثل الفرض لتوهم وقوع المعارضة بين ما دل على اعتبار ذلك الطريق وبين خطابات الاصول النافية في كل من الإناءين ، والوجه في عدم المجال هو أن مقتضى إطلاق اعتبار الطريق العلم بنجاسة أحدهما ، فالنجاسة على تقديرها تكون واصلة فلا يمكن مع وصولها الترخيص في الأطراف.

وبتعبير آخر إطلاق اعتبار الطريق يثبت القرينة العقلية على تقييد اعتبار خطاب الاصول النافية في أطرافه لعدم شمول خطاب الأصل النافي لكلا الإناءين ؛ لأنّ نجاسة أحدهما معلومة وشموله للآخر منهما غير معقول للعلم بطهارة الآخر واقعا ، وإن اريد المعين فالحكم بطهارة المعين منهما ترجيح بلا مرجح على قرار ما تقدم.

وعلى الجملة : لا فرق بين العلم الإجمالي الوجداني وبين الطريق المعتبر القائم

٤١١

وثالثة يجب الاجتناب عنهما ، فيما لو حصل العلم الإجمالي بعد العلم بالملاقاة ، ضرورة أنه حينئذ نعلم إجمالا : إما بنجاسة الملاقي والملاقى أو بنجاسة الآخر كما لا يخفى ، فيتنجز التكليف بالاجتناب عن النجس في البين ، وهو الواحد أو الاثنان.

المقام الثاني : في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين.

والحق أن العلم الإجمالي بثبوت التكليف بينهما أيضا يوجب الاحتياط عقلا [١] بإتيان الأكثر ، لتنجزه به حيث تعلق بثبوته فعلا.

______________________________________________________

بالتكليف بين الأطراف غاية الأمر تكون القرينة على تقييد خطاب الأصل النافي في الأول نفس العلم الإجمالي ، وفي الطريق المعتبر بملاحظة اعتباره ، حيث إن معنى اعتباره كونه علما بالتكليف ، نعم لتوهم المعارضة وجه بناء على أن المجعول جعل المنجزية لها ولكنه مدفوع أيضا ، فإنه إذا لم يكن للأصل العملي مع الطريق التفصيلي مجال فلا يكون له المجال مع الطريق الإجمالي أيضا كما يأتي في وجه تقديم الأمارات على الاصول.

وحاصله أن مفاد خطاب الأصل يدفع بدليل اعتبار الأمارة حتى لو قلنا بأن مفاد دليل اعتباره جعل المنجزية ، وذلك فإن الجهل بالواقع غير مأخوذ في اعتبار الأمارة بل مدلولها جعل المنجزية لها ، حيث ما أمكن جعل المنجزية ومع شمول الاعتبار للأمارة القائمة بين الأطراف لا يمكن للمولى الحكيم الترخيص في مخالفه التكليف الواصل منجزيته إلى المكلف.

في دوران متعلق التكليف بين الأقل والأكثر الارتباطيين

[١] لا يخفى أن الشك فيما إذا تعلق بنفس التكليف يكون مجرى لأصالة البراءة بخلاف ما إذا علم التكليف ، وكان الشك والتردد في متعلّقه ، فإنه يكون مجرى

٤١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

لقاعدة الاشتغال ، ويقال الكلام في الأقل والأكثر الارتباطيين بحث صغروي وإن الشك فيهما يرجع إلى الشك في التكليف ليرجع إلى أصالة البراءة ، أو أن التردد في متعلقه فقط فيكون مجرى لقاعدة الاشتغال ، ثم إن لدوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين صورتين.

الاولى : ما كان الشك في جزئية شيء للمأمور به بأن تردد التكليف الواحد ثبوتا بين تعلّقه بمجموع امور يكون لا بشرط بالإضافة إلى المشكوك ، وبين تعلقه بذلك المجموع مع ذلك المشكوك.

والصورة الثانية : احتمال شرطية شيء أو مانعيته لمتعلق التكليف ، بأن يدور متعلق التكليف بين كونه مطلقا بالإضافة إلى المشكوك أو مقيدا بوجوده أو عدمه مع العلم بأن نفس المشكوك لا يدخل في متعلق ذلك التكليف ، ويلحق بالصورة الثانية : دوران متعلق التكليف بين كونه جنسا أو نوعا أو مرددا بين كونه نوعا أو صنفا.

وبتعبير آخر يكون متعلق التكليف مرددا بين كونه فعلا عاما أو خاصا ، ومما ذكر يظهر أن دوران الوظيفة يوم الجمعة بين الظهر أو الجمعة أم دورانها بين القصر والتمام لا يدخل في مباحث الأقل والأكثر ، حيث إن الأولين متباينان بالعنوان والقصر والتمام متباينان بشرط لا وبشرط شيء ، فتدخلان في دوران متعلق التكليف بين المتباينين.

ويقع البحث أولا في الصورة الاولى : يعني الشك في جزئية شيء لمتعلق التكليف ، وقد يقال مع العلم الإجمالي بتعلق الوجوب بالأقل أو الأكثر الارتباطيين لا انحلال في ناحية العلم في التكليف لا حقيقة ولا حكما ولا عقلا ولا شرعا ، فيجب الاحتياط بالاتيان بالأكثر كما قد يقال بانحلال العلم المزبور عقلا وشرعا فتجري في

٤١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

ناحية وجوب الأكثر البراءة العقلية والنقلية ، كما يظهر ذلك من كلمات الشيخ الانصاري في الرسالة ، وقد ذهب جمع منهم المحقق الخراساني والمحقق النائيني قدس‌سرهما إلى أنه لا انحلال في ناحية العلم بالتكليف حقيقة ، ولكن مع ذلك لا يجب الاحتياط بالاتيان بالأكثر للانحلال الحكمي المستفاد من خطابات البراءة الشرعية ، والكلام في جريان البراءة العقلية وعدمه ، وقد وجّه الشيخ قدس‌سره الانحلال عقلا بأن تعلق التكليف بالأقل وترتب العقاب على تركه محرز ؛ لأنه إما واجب نفسيا أو غيريا فلا بد من الإتيان به ، وأما تعلق التكليف بالجزء المشكوك وترتب العقاب على ترك الأكثر بتركه فهو غير معلوم ، فيكون مجرى قبح العقاب بلا بيان كسائر موارد الشك في التكليف ، وقد أورد الماتن على ما ذكره بوجهين ، الأول : كون الانحلال بالنحو المذكور خلفا ، والثاني : استلزامه عدم الانحلال وما يلزم من وجوده عدمه مستحيل ، وذلك فإن تنجّز التكليف بالأقل ولزوم الاتيان به على كل تقدير يتوقف على تنجز التكليف الواقعي حتى ما لو كان متعلقا بالأكثر لتوقف لزوم الاتيان بالمقدمة على تنجز التكليف بذيها ، ففرض لزوم الاتيان بالأقل على كل تقدير فرض لتنجز التكليف الواقعي ولو كان متعلقا بالأكثر ، ولو كان لزوم الاتيان بالأقل على كل تقدير موجبا لعدم تنجز التكليف ولو كان بالأكثر لكان خلفا بالإضافة إلى فرض تنجز التكليف على كل تقدير.

وأيضا عدم تنجز التكليف على تقدير تعلقه بالأكثر يستلزم عدم كون وجوب الأقل منجزا على كل تقدير ؛ لأنه لا يترتب على ترك المقدمة شيء فيما إذا جاز ترك ذيها ، وعدم كون وجوب الأقل منجزا على كل تقدير ، يستلزم عدم الانحلال فيلزم من الانحلال عدمه ، أي يلزم من عدم تنجز التكليف ولو كان متعلقا بالأكثر عدم كون

٤١٤

.................................................................................................

______________________________________________________

الأقل متيقنا في لزوم الإتيان به وعدم كونه متيقنا يستلزم عدم الانحلال ، فالانحلال يستلزم عدمه.

أقول : لا يتم ما ذكره الشيخ قدس‌سره في المقام ولا ما ذكره الماتن في الايراد عليه ، اما الأول : فلان الأجزاء في الواجب الارتباطي لا تكون واجبة بالوجوب الغيري ليقال بأن الأقل متعلق للوجوب نفسيا أو غيريا ، فإن المقدمية بين الجزء والكل غير واردة على ما تقرر في بحث مقدمة الواجب ، بل الجزء يتعلق به الوجوب النفسي في ضمن تعلقه بسائر الأجزاء ، فالغيرية والنفسية تستلزم عدم الانحلال ؛ لأنه يعتبر في الانحلال أن يكون المنحل إليه أي المعلوم بالتفصيل من سنخ المعلوم بالإجمال ومع عدمه يبقى العلم الإجمالي بحاله.

وأما ما ذكره الماتن قدس‌سره من توقف الانحلال على تنجز التكليف الواقعي على كل تقدير فغير تام ، فإن الانحلال إلى العلم التفصيلي للعلم بتعلق الوجوب النفسي بالأقل لا محالة ، حيث إن الوجوب لو كان متعلقا بالأكثر لكان الأقل أيضا متعلقا بذلك الوجوب في ضمن تعلقه بالأكثر ، وإذا احرز تعلق الوجوب المعلوم بالإجمال بالأقل فيستحق المكلف العقاب في فرضين يقينا ، الأول : ما إذا تعلق الوجوب النفسي بالأقل خاصة وترك المكلف الاتيان بالأقل ، والثاني : أن يتعلق الوجوب بالأكثر وكان مخالفته بترك الأقل ، وأما إذا تعلق بالأكثر وخالفه بترك الجزء المشكوك فالاستحقاق غير محرز.

وبتعبير آخر يمتاز كل واحد من سائر الأجزاء عن الجزء المشكوك ، فإن المكلف يستحق العقاب بمخالفة التكليف بترك كل من سائر الأجزاء ، بخلاف ترك الجزء المشكوك فيه ، فإن تعلق الوجوب النفسي ولو ضمنيا غير محرز ، كما أن

٤١٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الاستحقاق على فرض تركه غير محرز ولم يتم له بيان ، والحاصل لا يتوقف الانحلال على ما ذكره ، بل على كون الأقل متعلق الوجوب لا محالة ، وعدم استحقاق العقاب على مخالفة التكليف على تقدير تعلقه بالأكثر بترك الجزء المشكوك من أثر الانحلال والتكليف النفسي وإن يكن واحدا حقيقة إلّا أن له في ناحية متعلقه سعة ، ودخول الأقل وأخذه في متعلق الوجوب محرز ، ولكن أخذ المشكوك ليتعلق به الوجوب غير معلوم ، وهذا التبعيض في ناحية المتعلق يستدعي في التكليف الواحد التبعيض في تنجزه ولا محذور فيه.

وبتعبير آخر التبعض في التكليف الواحد مع كون متعلقه متعددا بحسب تنجزه لا محذور فيه عقلا ولا يستلزم خلفا ، ولا عدم الانحلال ، حيث إن التبعّض بحسب التنجز غير التبعّض بحسب الثبوت والسقوط واقعا.

لا يقال : لا مجال في المقام للرجوع إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان في ناحية تعلق الوجوب بالأكثر ولا يدفع احتمال العقاب على مخالفته من جهة ترك الجزء المشكوك ، بل المرجع قاعدة الاشتغال ؛ لأنّ التكليف تعلقه بالأقل محرز سواء كان نفسيا أو ضمنيا فيكون منجزا ، ولا بد من إحراز سقوطه سواء كان نفسيا أو ضمنيا وإذا ترك المكلف الجزء المشكوك واقتصر على الأقل يحتمل أن لا يسقط التكليف المتعلق بالأقل لكونه متعلقا بالأكثر ثبوتا ، حيث إن التكليف الضمني لا يسقط إلّا مع الاتيان بتمام الواجب ، والشك في سقوط التكليف المعلوم مورد لقاعدة الاشتغال ، فإنه يقال : إحراز سقوط التكليف سقوطا واقعيا غير لازم في حكم العقل ، بل اللازم في حكمه أن لا يحتمل العقاب ، فإن العلم بمخالفة التكليف المحرز المعلوم إجمالا بترك الأقل بيان بالإضافة إلى وجوبه ، وأما إحراز سقوطه الواقعي مع فرض تبعض

٤١٦

وتوهم انحلاله إلى العلم بوجوب الأقل تفصيلا والشك في وجوب الأكثر بدوا ـ ضرورة لزوم الإتيان بالأقل لنفسه شرعا ، أو لغيره كذلك أو عقلا ، ومعه

______________________________________________________

التكليف في تنجزه فغير لازم في حكم العقل ، لا يقال : لو كان التكليف متعلقا بالأكثر بحسب الواقع فلا يكون الإتيان بالأقل من الإتيان بمتعلق الأمر الضمني ، فإن الإتيان بمتعلقه يكون في ضمن الإتيان بمتعلق الأمر النفسي كما هو مقتضى الارتباطية في التكليف ، فإنه يقال هذا أي الانحصار على صورة الإتيان بالكل مبني على عدم إمكان تبعض التكليف الواحد في التنجز وتعين إحراز سقوطه ثبوتا لأجل أن التكليف الواحد بحسب الواقع لا يقبل التبعض في الثبوت والسقوط.

لا يقال : لا يوجد في الخارج الأقل لا بشرط الذي هو أحد طرفي العلم الإجمالي في المقام ، بل ما يؤتى به خارجا إما بشرط لا بحسب الخارج أو بشرط شيء بحسبه ، نعم ما يوجد خارجا (بشرط لا) ربما يمكن تبديله بحسبه إلى بشرط الشيء المشكوك جزئيته ، كما إذا أمر المولى بالاتيان بمجموع عدة امور يحصل بها غرض واحد ، ويشك في دخل شيء معها في حصول ذلك الغرض الموجب لأمره بها ، بحيث لو كان المشكوك دخيلا يمكن تداركه ولو بالاتيان به بعد تحقق تلك الامور خارجا ، ففي مثل هذا يمكن دعوى تنجز التكليف بالإضافة إلى الأقل ، حيث إن تركه مخالفة للتكليف المعلوم إجمالا يقينا ، وترتب العقاب على تركه محرز سواء كان وجوبه نفسيا أو ضمنيا ، وأما إذا لم يمكن تبديل ما وقع خارجا بشرط لا إلى بشرط شيء فلا يمكن دعوى أن المكلف قد أتى بالمعلوم إجمالا ، يعني بالأقل المردد كون وجوبه نفسيا أو ضمنيا ، كما إذا شك في كون السورة جزءا من الصلاة بعد قراءة الحمد وقبل الركوع ، حيث إنه إذا صلى بلا سورة لا يمكن له دعوى أنه قد أتى بالأقل ، حيث إن الأمر الضمني على تقدير وجوب الأكثر تعلق بالركوع بعد قراءة

٤١٧

لا يوجب تنجزه لو كان متعلقا بالأكثر ـ فاسد قطعا ، لاستلزام الانحلال المحال ، بداهة توقف لزوم الأقل فعلا إما لنفسه أو لغيره على تنجز التكليف مطلقا ، ولو كان متعلقا بالأكثر ، فلو كان لزومه كذلك مستلزما لعدم تنجزه إلّا إذا كان متعلقا بالأقل كان خلفا ، مع أنه يلزم من وجوده عدمه ، لاستلزامه عدم تنجز التكليف على كل

______________________________________________________

السورة وبالحمد قبل السورة ، حيث إنّه في الواجبات الارتباطية كالصلاة يكون الاتيان بالجزء البعدي شرطا في الجزء القبلي والقبلي شرطا في الجزء البعدي ، فلا يحرز حصول متعلق الطلب المحرز نفسيا أو ضمنيا ، بل مقتضى قاعدة الاشتغال في ناحية الأمر المعلوم تعلقه بالأقل نفسيا أو ضمنيا هو الإتيان بالأكثر.

فإنه يقال : الوجوب المتعلق بالأقل على تقدير كونه ضمنيا فالأقل مشروط بالمشكوك ثبوتا لا محالة ، كما ذكر ، إلّا أن عدم البيان لوجوب الأكثر المساوق لعدم البيان لاشتراط الأقل بالمشكوك موضوع لقبح العقاب على ترك الأكثر المساوق لقبحه على عدم رعاية الشرط في ناحية الأقل بلا فرق بين ما أمكن تبديل المأتي به خارجا بنحو بشرط لا ، إلى بشرط شيء أم لا.

وعلى الجملة مع حكم العقل بقبح العقاب على مخالفة التكليف الواقعي لو كان متعلقا بالأكثر وكانت مخالفته بترك المشكوك لم يبق مجال لقاعدة الاشتغال ، فإن موضوعها احتمال العقاب ، والفرق بين ما نحن فيه والمتباينين أن أحد طرفي العلم الإجمالي في المتباينين كان كالطرف الآخر في احتمال تعلق التكليف به من غير أن يكون في البين تعين لأحدهما بخصوصه ، ولذا كان المتعين لرعاية التكليف المعلوم إجمالا في كل منهما بخلاف العلم الإجمالي المزبور في المقام ، فإن كون وجوب الأقل متيقنا يوجب أن لا تجرى في ناحيته قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، بخلاف احتمال وجوب الأكثر ، فإن عدم جواز تركه بترك المشكوك مما لا سبيل للعقل إليه.

٤١٨

حال المستلزم لعدم لزوم الأقل مطلقا ، المستلزم لعدم الانحلال ، وما يلزم من وجوده عدمه محال.

نعم إنما ينحل إذا كان الأقل ذا مصلحة ملزمة ، فإن وجوبه حينئذ يكون

______________________________________________________

فتحصل أن الانحلال في المقام حتى بحسب البراءة العقلية متحقق ولكنه حكمي لا حقيقي ، بمعنى أن الوجوب المعلوم بالإجمال لا يخرج عن تردده عن كونه متعلقا بالأقل أو الأكثر قد ظهر مما ذكرنا في تقريب البراءة العقلية بالإضافة إلى وجوب الأكثر يظهر أن التبعض في التنجز عقلا لا يختص بموارد تردد الوجوب بين النفسي والضمني ، بل يجري في مورد تردد الوجوب بين النفسي والغيري أيضا ، وحتى لو لم نقل بالوجوب الغيري الشرعي للمقدمة ، كما إذا علم المكلف بتعلق نذره إما بصلاة ركعتين قبل الزوال أو الوضوء قبله ، حيث إن ترتب العقاب على ترك الوضوء قبله أو مع تركه قبله محرز وجدانا ، سواء كان المنذور قبل الزوال الوضوء أو الصلاة ، فإن الصلاة قبله لا تكون بدون الوضوء وأما إذا توضأ قبله فلا يحرز ترتب استحقاق العقاب على تركها لعدم تمام البيان بالإضافة إلى وجوبها فتدبر.

في انحلال العلم الإجمالي عقلا في موارد دوران الواجب بين الأقل والأكثر الارتباطيين

ثم إنه قد التزم العراقي قدس‌سره في دوران الأمر بين كون الواجب هو الأقل أو الأكثر ، بأن شك في جزئية شيء لمتعلّق الأمر وعدمها بالانحلال الحقيقي ، وقال في تقريبه ما حاصله ، إن تعلق الوجوب وانبساطه على الأقل معلوم تفصيلا ، والشك في انبساط ذلك الوجوب على المشكوك وأن اللابشرطية أو بشرطية الشيء لم تؤخذ قيدا لمتعلق الوجوب ، بل يتعلق الوجوب بذات الأقل أو ذات الأكثر ، حيث إن المولى عند ما لاحظ متعلق وجوبه بلحاظ الغرض الكامن فيه يرى تارة دخالة شيء في

٤١٩

معلوما له ، وإنما كان الترديد لاحتمال أن يكون الأكثر ذا مصلحتين ، أو مصلحة أقوى من مصلحة الأقل ، فالعقل في مثله وإن استقل بالبراءة بلا كلام ، إلّا أنه خارج عما هو محل النقض والإبرام في المقام.

______________________________________________________

متعلقه كدخالة غيره من الأجزاء ، فينشأ الوجوب الواحد بحيث ينبسط على الجميع فيعبر عن ذلك بأن المتعلق بالإضافة إلى ذلك الشيء بشرط شيء ، واخرى عدم دخالته فيه بلحاظ حصول الغرض بدونه فينشأ الوجوب بذات الأقل ولا ينبسط الوجوب المنشأ لذلك الشيء ، ويعبر عن ذلك بلا بشرطية المتعلّق ، وعلى ذلك فجعل الوجوب الواحد وانبساطه على الأقل معلوم تفصيلا ، وانبساطه على ذلك الشيء غير معلوم لا تفصيلا ولا إجمالا ، فتجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان في ناحية تعلقه بالمشكوك.

أقول : انبساط الوجوب المنشأ على ذات الأقل وإن كان محرزا في الجملة أي في الموارد التي لا يلاحظ الترتيب الخاص بين الأجزاء ، إلّا أن الوجوب المنبسط على الأقل بما أنه دائر أمره بين الاستقلالية والضمنية فلا يحرز سقوط ذلك التكليف عن الأقل على تقدير جزئية المشكوك ، فيبقى في البين دعوى أن الشك يرجع إلى سقوط ذلك الوجوب المنبسط على الأقل بالإتيان به ، فلا يقاس المقام بدوران أمر الواجب بين الأقل والأكثر الاستقلاليين وينتهي الأمر إلى تقريب التبعض في التكليف في مرحلة التنجز لو كان متعلقا بالأكثر وهذا انحلال حكمي لا حقيقي.

وأما في الموارد التي تعتبر الترتيب بين الأجزاء يكون الدخيل في حصول الغرض حصول الجزء بنحو خاص كما في أجزاء الصلاة ، فذات الملحوظ في مقام إنشاء الوجوب يختلف فيكون المأخوذ في متعلّقه على تقدير جزئية السورة بعد الحمد الركوع الخاص ، وهو الركوع بعد قراءة السورة وعلى تقدير عدم جزئيتها ذات

٤٢٠