دروس في مسائل علم الأصول - ج ٤

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-94850-6-5
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٤٣

بحيث لو وجد في ذاك الزمان أو المكان ولو دفعة لما امتثل أصلا ، كان اللازم على المكلف إحراز أنه تركه بالمرّة ولو بالأصل ، فلا يجوز الإتيان بشيء يشك معه في تركه ، إلّا إذا كان مسبوقا به ليستصحب مع الإتيان به.

نعم ، لو كان بمعنى طلب ترك كل فرد منه على حدة ، لما وجب إلّا ترك ما علم أنه فرد ، وحيث لم يعلم تعلق النهي إلّا بما علم أنه مصداقه ، فأصالة البراءة

______________________________________________________

جميعها فإدخال المقام في بحث الأقل والأكثر الارتباطيين غير تام.

النحو الثاني : من تعلق النهي بالطبيعي ، ما إذا كان النهي عن الطبيعي انحلاليا بأن يعتبر ثبوتا الحرمة لكل وجود منه لتحقق ملاك الحرمة في كل من وجوداته كما هو الحال في جل الخطابات في المحرمات ، وفي هذا القسم تجري أصالة البراءة بالإضافة إلى حرمة المشكوك ، فإن خطاب النهي عن الطبيعي على نحو الانحلال إنما يكون بيانا للحرمة بعد إحراز صغراها لعدم تكفل الخطاب الذي هو بمفاد القضية الحقيقية لتعيين صغرياتها ، ومع عدم إحرازها في مورد يكون العقاب على المخالفة على تقدير الصغرى من العقاب بلا بيان ، ولا أقل من أصالة البراءة وأصالة الحل فيه.

ثم إنه لا ينحصر النهي عن شيء على أحد النحوين المذكورين ، بل يمكن كونه بأحد نحوين آخرين.

أحدهما : كما إذا تعلق النهي بمجموع أفراد الطبيعي في زمان أو مكان ، بأن يكون المراد والمزجور عنه الإتيان بجميع الأفراد فلا يكون الإتيان ببعضها مع ترك البعض الآخر منهيا عنه ، ويجوز في الفرض الإتيان ببعض أفراده المحرز كونها أفرادا له ، فكيف الإتيان بالمشكوك مع ترك أفراده ، نعم يقع البحث في هذا الفرض في جواز الإتيان بجميع أفراده المحرز كونها أفرادا له مع ترك المشكوك ، فيقال : الظاهر عدم البأس بذلك ؛ لأنّ تعلق النهي بجميعها مع الاتيان بالمشكوك محرز وتعلقه بها

٣٤١

في المصاديق المشتبهة محكمة.

فانقدح بذلك أن مجرد العلم بتحريم شيء لا يوجب لزوم الاجتناب عن أفراده المشتبهة ، فيما كان المطلوب بالنهي طلب ترك كل فرد على حدة ، أو كان الشيء مسبوقا بالترك ، وإلّا لوجب الاجتناب عنها عقلا لتحصيل الفراغ قطعا ، فكما يجب فيما علم وجوب شيء إحراز إتيانه إطاعة لأمره ، فكذلك يجب فيما علم حرمته إحراز تركه وعدم إتيانه امتثالا لنهيه.

______________________________________________________

مع ترك المشكوك غير معلوم فتجري أصالة البراءة في ناحية تعلقه بها بدون الإتيان بالمشكوك ، والمقام عكس ما ذكر في الواجب الارتباطي المردد أمره بين الأقل والأكثر ؛ لأنّ ترك الأقل في الواجب الارتباطي يوجب العلم بمخالفة التكليف الوجوبي ، بخلاف ترك الجزء المشكوك جزئيته مع الاتيان بالباقي بخلاف المقام ، فإن الإتيان بالأفراد المحرزة مع المشكوك يوجب العلم بمخالفة النهي ، بخلاف الإتيان بها مع ترك المشكوك.

أقول : هذا إذا لم يكن في البين أصل موضوعي يثبت عدم كون المشكوك من أفراد الطبيعي ، وإلّا يحرز عدم كونه داخلا في تعلق النهي.

والنحو الآخر : أن يتعلق النهي عن جميع أفراد الشيء لحصول الأمر البسيط المطلوب من ترك الجميع ، كما إذا قيل بأن المطلوب وقوع الصلاة في غير ما لا يؤكل لا اعتبار المانعية لكل ما يدخل في الأجزاء أو توابع ما لا يؤكل لتجري أصالة البراءة عن مانعية المشكوك ، نعم لو كان المصلي بدأ صلاته في غير ما لا يؤكل لحمه يقينا ثم لبس في الأثناء ما يشك كونه مما لا يؤكل فيمكن القول بجوازه بالاستصحاب في بقاء وقوع صلاته في غير ما لا يؤكل ، بل لا يبعد جريان الاستصحاب فيما لم يكن مع المكلف ما لا يؤكل قبل الصلاة ، ثم لبس عند الدخول بها ما يشك في كونه مما

٣٤٢

غاية الأمر كما يحرز وجود الواجب بالأصل ، كذلك يحرز ترك الحرام به ، والفرد المشتبه وإن كان مقتضى أصالة البراءة جواز الاقتحام فيه ، إلّا أن قضية لزوم إحراز الترك اللازم وجوب التحرز عنه ، ولا يكاد يحرز إلّا بترك المشتبه أيضا ، فتفطن.

______________________________________________________

لا يؤكل إذا كان المعتبر في الصلاة عدم كون ما لا يؤكل معه ، فإنه على هذا التقدير يكون المعتبر في الصلاة بمعنى (واو) الجمع ، فالصلاة محرزة بالوجدان وعدم حصول ما لا يؤكل معه في زمان وقوعها بالأصل ، وبضميمة الوجدان إلى ما احرز بالاستصحاب يحرز وقوع متعلّق التكليف ، هذا على تقدير كون المأخوذ في الصلاة وصفا للمصلي وأما إذا كان المأخوذ في الصلاة وصف اللباس ، بأن لا يكون لباسه مما لا يؤكل لحمه ، فبناء على ما هو الصحيح من جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية يجري الاستصحاب في عدم كون الثوب مما لا يؤكل ولو بنحو العدم الأزلي ، ولكن ما ذكر إنما هو في مقام التصوير. وإلّا فظاهر النهي عن الطبيعي سواء كان النهي تكليفيا أو وضعيا في الانحلال ، وعليه فأصالة البراءة عن مانعية المشكوك للصلاة جارية.

لا يقال : الاستصحاب في عدم كون اللباس من غير مأكول اللحم أو عدم كون المصلي لابسا غير مأكول اللحم لا يفيد شيئا ، فإن المستفاد من موثقة ابن بكير قوله عليه‌السلام : لا تقبل تلك الصلاة حتى يصلي في غيره مما أحل الله أكله» (١) ، اشتراط كون الثوب ونحوه على تقدير كونه من الحيوان من مأكول اللحم ، والاستصحاب في عدم كونه من غير مأكول اللحم لا يثبت كونه مما يؤكل.

فإنه يقال : ظاهر الصدر كون ما لا يؤكل لحمه وتوابعه مع المصلي مبطل ، وكونه معه حرام وضعا ، ولا يعتبر في الصلاة كونها في أجزاء الحيوان ، وذكر مما أحل الله

__________________

(١) وسائل الشيعة ٤ : ٣٤٥ ، الباب ٢ من أبواب لباس المصلي ، الحديث الأول.

٣٤٣

الرابع : إنه قد عرفت حسن الاحتياط عقلا ونقلا ، ولا يخفى أنه مطلقا كذلك حتى فيما كان هناك حجة على عدم الوجوب أو الحرمة [١]. أو أمارة معتبرة على أنه ليس فردا للواجب أو الحرام ، ما لم يخل بالنظام فعلا ، فالاحتياط قبل ذلك مطلقا يقع حسنا ، كان في الأمور المهمة كالدماء والفروج أو غيرها ، وكان احتمال التكليف قويا أو ضعيفا ، كانت الحجة على خلافه أو لا ، كما أن الاحتياط الموجب لذلك لا يكون حسنا كذلك ، وإن كان الراجح لمن التفت إلى ذلك من أول الأمر ترجيح بعض الاحتياطات احتمالا أو محتملا ، فافهم.

______________________________________________________

أكله في الذيل باعتبار عدم المانع معه ، لا أن كونها فيما يؤكل لحمه شرط لها.

[١] لا ينبغي التأمل في أن حسن الاحتياط لا ينحصر على موارد جريان أصالة البراءة أو غيرها من الأصل النافي للتكليف ، بل يجري حتى فيما قامت الأمارة المعتبرة على نفي التكليف في الواقع ، فإنّه مع احتمال التكليف الواقعي يحسن عقلا بل شرعا رعاية احتماله بموافقة ذلك التكليف على تقديره واستيفاء ملاكه ، ويقال : إن حسن الاحتياط مقيّد بما إذا لم يكن موجبا لاختلال النظام ، ولكن لا يخفى أن عدم حسن الاحتياط مع استلزامه اختلال النظام لعدم تحققه لا عدم حسنه مع تحققه ، فإن الاحتياط هو الاتيان بما يحتمل كونه محبوبا وموافقته للتكليف الواقعي على تقديره ، ومع بلوغه إلى حد الاختلال يكون العمل مبغوضا من غير أن يكون احتياطا ، والملتفت إلى كون الاحتياط في جميع الوقائع كذلك له طريقان.

الأول : أن يأخذ بالاحتياط في جميع ما يبتلى به بلا فرق بين كون التكليف المحتمل في بعضها غير أهم أو احتماله ضعيفا إلى أن يصل إلى حد الاختلال ، ويتركه بعد ذلك فيكون الاحتياط في جميع الوقائع ولكن في فترة من الزمان.

الثاني : اختيار بعض الوقائع من الأول والاحتياط في مثلها مما كان التكليف

٣٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

المحتمل فيه أهم أو احتماله قويا ، وذكر الماتن وغيره أن اختيار الثاني لمن التفت إلى ما ذكر من أول الأمر أولى ، ولعل وجه الأولوية ما ورد عنهم عليهم‌السلام أن القليل من الخير مع دوامه أولى من الخير الكثير الذي لا يدوم.

نعم ، هذا مع فرض عدم وجوب الاحتياط كما هو المفروض في المقام لكون الموارد من موارد الأصل النافي أو الطريق النافي ، وأما مع العلم الإجمالي بالتكاليف في الوقائع ووصول النوبة إلى أصالة الاحتياط ، وكونه مستلزما لإخلال النظام أو الحرج ، فالمتعين هو الوجه الأول إلّا أن يدخل الفرض في مقدمات دليل الانسداد.

٣٤٥
٣٤٦

فصل

إذا دار الأمر بين وجوب شيء وحرمته لعدم نهوض حجة على أحدهما تفصيلا بعد نهوضها عليه إجمالا ففيه وجوه [١].

______________________________________________________

أصالة التخيير

[١] مورد الكلام في المقام أن يدور حكم الفعل بين الوجوب والحرمة من غير احتمال إباحته واقعا ، وإلّا لكان من مورد أصالة البراءة بل أولى بها مما تقدم الكلام فيه لعدم جريان ما ذكر وجها للاحتياط في الشبهات التحريمية على دوران حكم الفعل بين الوجوب والحرمة والإباحة ، وأيضا مورد الكلام ما إذا لم يكن واحد من الاحتمالين الوجوب أو الحرمة بعينه موردا للاستصحاب ، وإلّا لانحل العلم الإجمالي بالاستصحاب في التكليف السابق في الشبهات الموضوعية بل الحكمية بناء على اعتبار الاستصحاب فيها ، ثم إنه قد يكون كل من الوجوب والحرمة على تقديره واقعا توصليا أو كان الوجوب على تقديره واقعا تعبديا ، وفي كل من الفرضين قد تكون الواقعة مكررة ـ ولو بحسب عمود الزمان ـ أو لا يكون فيها تكرار ، والكلام يقع في مقامات ثلاثة ، الأول : ما إذا كان كل من الوجوب والحرمة توصليا مع عدم تكرار الواقعة ، الثاني : ما إذا كان أحدهما بعينه أو كلاهما تعبديا مع عدم تكرارها ، الثالث : ما إذا كان الدوران مع تكرار الواقعة.

أما المقام الأول : فالاحتمالات بل الأقوال فيه خمسة أولها : جريان البراءة في كل من احتمالي الحرمة والوجوب عقلا ونقلا ، وثانيها : الأخذ بجانب احتمال الحرمة بدعوى أن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ، وثالثها : التخيير في الأخذ بأحد الاحتمالين والالتزام به والعمل على طبقه ، نظير التخيير بين الخبرين المتعارضين ،

٣٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

ورابعها : التخيير في الواقعة بين الفعل والترك بتخيير عقلي قهري لعدم خلو الإنسان من الفعل أو الترك من غير أن يحكم الفعل بالبراءة عقلا وشرعا ، وخامسها : التخيير العقلي القهري مع الحكم بإباحة الفعل ظاهرا بأدلة الحل ، والأخير مختار الماتن قدس‌سره ولكن الصحيح على ما نذكر هو الوجه الأول ؛ لأنّ كلا من الوجوب والحرمة تكليف محتمل ولم يتم له البيان ، فيكون العقاب على خصوص أحدهما لو اتفق واقعا قبيحا كما يجري بالإضافة إلى كل من المحتملين ، قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «رفع عن امتي ما لا يعملون» (١). ودعوى أنه لا مجال في الواقعة لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، حيث لا قصور في المقام في ناحية البيان. فإن العلم الإجمالي بيان وإنما يكون عدم تنجز التكليف لعدم التمكن من الموافقة القطعية كالمخالفة القطعية ، ولذا لو كان متمكنا من الاحتياط كما إذا علم إجمالا بوجوب فعل أو حرمة الآخر لزم الإتيان بالأول ، وترك الثاني إحرازا لموافقة التكليف المعلوم بالإجمال لا يمكن المساعدة عليها ؛ لما تقدم من أن المراد من البيان في قاعدة قبح العقاب بلا بيان هو المصحح للعقاب على المخالفة ، ومن الظاهر أن العلم الإجمالي بالإلزام الجامع بين الوجوب والحرمة مع وحدة المتعلق كما هو المفروض في دوران الأمر بين المحذورين لا يصحح العقاب على مخالفة خصوص أحد المحتملين ، بخلاف ما إذا كان العلم الإجمالي بأحدهما مع تعدد المتعلق كما في المثال ، كما أن دعوى أنه لا مجال في المقام للبراءة الشرعية ؛ لأنّ جعل الحكم الظاهري إنما يصح إذا لم يعلم بمخالفته الواقع ، وأن يكون لذلك الحكم الظاهري أثر عملي.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٥ : ٣٧٠ ، الباب ٥٦ من أبواب جهاد النفس ، الحديث ٣.

٣٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وبتعبير آخر إنما تجري البراءة عن التكليف المجهول إذا كان وضعه الظاهري ممكنا ، والوضع الظاهري يكون بإيجاب الاحتياط. وهذا الوضع غير ممكن لعدم إمكان الوضع والاحتياط في الواقعة لا يمكن المساعدة عليها أيضا ؛ لأنّ البراءة الجارية في ناحية الوجوب المحتمل لا يعلم مخالفتها للواقع ، وكذلك أصالة البراءة الجارية في ناحية خصوص الحرمة المحتملة ، والعلم الإجمالي بمخالفة أحدهما للواقع مع عدم إمكان إحراز المخالفة وعدم امكان الموافقة القطعية غير مانع من جريان الأصل ، والأثر المترتب على البراءة ، في كل من المحتملين عدم لزوم رعاية كل منهما بخصوصه.

وعلى الجملة الوضع في خصوص أحد المحتملين ممكن ، يرفع احتماله بأصالة البراءة الجارية في كل منهما ، وإنما لا يمكن وضعهما معا ، ولا يعتبر في جريان البراءة في خصوص تكليف محتمل إمكان وضع تكليف آخر محتمل معه ، ثم إنه إن كان مراد الماتن من أصالة الإباحة أصالة البراءة في كل من الوجوب المحتمل والحرمة المحتملة فهو صحيح كما ذكرنا ، وإن أراد الحلية المقابلة للحرمة والوجوب فهي للعلم بعدمها واقعا غير ممكن ، والحلية المستفادة من قوله عليه‌السلام «كل شيء هو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه» (١) هي الحلية المقابلة للحرمة فقط ، ومع جريانها في المقام يبقي احتمال الوجوب ، فلا بد من نفي احتمال لزوم رعايته من التمسك بأصالة البراءة.

وأما الأخذ بجانب الحرمة المحتملة بدعوى أن دفع المفسدة أولى من جلب

__________________

(١) الكافي ٥ : ٣١٣ ، الحديث ٤٠. مع اختلاف يسير.

٣٤٩

الحكم بالبراءة عقلا ونقلا لعموم النقل ، وحكم العقل بقبح المؤاخذة على خصوص الوجوب أو الحرمة للجهل به ، ووجوب الأخذ بأحدهما تعيينا أو تخييرا ، والتخيير بين الترك والفعل عقلا ، مع التوقف عن الحكم به رأسا ، أو مع الحكم عليه بالإباحة شرعا ، أوجهها الأخير ، لعدم الترجيح بين الفعل والترك ، وشمول مثل (كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام) له ، ولا مانع عنه عقلا ولا نقلا.

______________________________________________________

المنفعة والالتزام بحرمة الفعل غير صحيح ، فإنه تشريع أولا ، ومع الغمض عنه ان ارتكاب الفعل مع احتمال حرمته في الشبهة الحكمية أو الموضوعية التحريمية جائز كما تقدم ، وجواز الارتكاب المزبور مقتضاه عدم لزوم رعاية المفسدة المحتملة مع العلم بعدم المصلحة في الفعل أصلا فما الظن بارتكاب فعل يحتمل فيه المصلحة وعدم المفسدة كما في المفروض في المقام.

وكذا احتمال التخيير بين الأخذ بالوجوب المحتمل أو الحرمة المحتملة ، فإنه لا دليل عليه ، وقيام الدليل عليه في الخبرين المتعارضين على تقديره لا يوجب التعدي إلى المقام ، فإنه لا يمكن التعدي إلى سائر الأمارات فضلا عما إذا لم يكن في البين إلّا احتمال الوجوب والحرمة ، وذكر الماتن قدس‌سره أن التخيير بين المتعارضين على مسلك السببية على القاعدة ولكنه أمر غير صحيح ، فإن مقتضى القاعدة التساقط عند التعارض من غير فرق بين مسلكي السببية والطريقية ؛ لما يأتي في باب التعارض من أن ثبوت المدلول الالتزامي لكل من الخبرين لنفي مدلول الآخر يوجب أن لا يتم الصلاح والفساد في ناحية الفعل الذي قام الخبران المتعارضان على حكمه ، هذا بناء على كون المراد من التخيير ، التخيير في المسألة الاصولية ، وأما بالاضافة إلى التخيير في المسألة الفرعية بأن يلتزم بتعلق تكليف بالجامع بين الفعل والترك فهو أمر غير

٣٥٠

وقد عرفت أنه لا يجب موافقة الأحكام التزاما ، ولو وجب لكان الالتزام إجمالا بما هو الواقع معه ممكنا ، والالتزام التفصيلي بأحدهما لو لم يكن تشريعا محرما لما نهض على وجوبه دليل قطعا ، وقياسه بتعارض الخبرين ـ الدالّ أحدهما على

______________________________________________________

معقول ، فإن حصول الجامع قهري لا يحتاج إلى التكليف ويكون التكليف به من طلب الحاصل ، وأما التخيير في مقام التزاحم بين التكليفين فهو راجع إلى حكم العقل في مقام الامتثال بعد ثبوت كل من التكليفين بفعلية الموضوع لكل منهما وكون صرف القدرة في موافقة أحدهما موجبا لارتفاع الموضوع للآخر.

ومما ذكرنا يظهر أنه لا بأس بجريان الاستصحاب في ناحية عدم جعل كل من الوجوب والحرمة إذا كانت الشبهة حكمية ، وعدم كون المورد من موضوع الوجوب وموضوع الحرمة فيما إذا كانت الشبهة موضوعية ، ولزوم المخالفة الالتزامية مع عدم لزوم المخالفة العملية القطعية مع عدم إمكان الموافقة كذلك لا محذور فيه ، كما إذا كان الواحد من الوجوب أو الحرمة حالة سابقة يؤخذ بها ويلزم العمل على طبقه ، ولا يبقى للأصل النافي في المحتمل الآخر موضوع أو منافاة مع الاستصحاب الجاري في ناحية المحتمل الآخر.

المقام الثاني : ما إذا كان الفعل دائرا أمره بين الوجوب والحرمة مع كون أحدهما أو كلاهما تعبديا ، كما إذا دار أمر المرأة بين الطهر والحيض وبنى على حرمة الصلاة على الحائض ذاتا ، أو دار الأمر في تغسيل الأجنبي المرأة الميتة مع فقد المماثل والأرحام بين الوجوب والحرمة ، وغير ذلك من الموارد التي لا يمكن فيها الموافقة القطعية للتكليف الواقعي ، إلّا أنه يمكن مخالفته القطعية باختيار الفعل من غير قصد التقرب ، والصحيح في الفرض تنجيز العلم الإجمالي بسقوط الاصول النافية في ناحية كل من الوجوب والحرمة حيث لا ينحصر تنجيز التكليف الواقعي

٣٥١

الحرمة والآخر على الوجوب ـ باطل ، فإن التخيير بينهما على تقدير كون الأخبار حجة من باب السببية يكون على القاعدة ، ومن جهة التخيير بين الواجبين المتزاحمين ، وعلى تقدير أنها من باب الطريقية فإنه وإن كان على خلاف القاعدة ، إلّا أن أحدهما ـ تعيينا أو تخييرا ـ حيث كان واجدا لما هو المناط للطريقية من احتمال الإصابة مع اجتماع سائر الشرائط ، صار حجة في هذه الصورة بأدلة

______________________________________________________

على موارد إمكان الموافقة القطعية والمخالفة القطعية معا ، ولذا لو علم المكلف بوجوب أحد الضدين الذين لهما ثالث ليس له تركهما باختيار الثالث ، فإنه كما لا يصح من المولى الحكيم الترخيص القطعي في المخالفة القطعية للتكليف في صورة إمكان موافقته القطعية كذلك لا يصح مع عدم إمكان الموافقة القطعية ، فقد ظهر مما ذكر عدم جريان أصالة الإباحة في دوران الأمر بين وجوب الفعل تعبديا أو حرمته لمعارضتها بأصالة البراءة عن وجوبه.

وعلى الجملة أصالة الحلية والبراءة عن الحرمة تعارضها أصالة البراءة في وجوبه ، لكون جريانهما في ناحية كل منهما ترخيص قطعي في المخالفة القطعية للتكليف الواصل ، ولا يقاس بدوران أمر الفعل بين الوجوب والحرمة التوصليين ، ويلحق بالمقام في دوران الأمر بين كون شيء جزءا أو مانعا عن العبادة ، كما إذا شك في السجدة الثانية بعد الأخذ في القيام حيث يحتمل كونه دخولا في الغير فلا يعتني بالشك ولو رجع إلى السجدة تكون صلاته باطلة لزيادة السجدة عمدا ، أو أنه لا يعدّ دخولا في الغير فيجب الرجوع إليها ، فإن قلنا بعدم جواز إبطال الصلاة حتى في مثل الفرض فعليه إتمام الصلاة بأحد الاحتمالين ، وإعادة تلك الصلاة ثانيا ؛ لأنّ العلم الإجمالي بوجوب الرجوع مع قصد التقرب أو عدم جوازه وإن لا تكون موافقة قطعية بالأخذ بأحد الاحتمالين إلّا أنه يمكن إحراز موافقتها بالإعادة بعد إتمامها ولزوم

٣٥٢

الترجيح تعيينا ، أو التخيير تخييرا ، وأين ذلك مما إذا لم يكن المطلوب إلّا الأخذ بخصوص ما صدر واقعا؟ وهو حاصل ، والأخذ بخصوص أحدهما ربما لا يكون إليه بموصل.

نعم ، لو كان التخيير بين الخبرين لأجل إبدائهما احتمال الوجوب والحرمة ، وإحداثهما الترديد بينهما ، لكان القياس في محله ، لدلالة الدليل على التخيير بينهما على التخيير هاهنا ، فتأمل جيدا.

ولا مجال ـ هاهنا ـ لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فإنه لا قصور فيه ـ هاهنا ـ وإنما يكون عدم تنجز التكليف لعدم التمكن من الموافقة القطعية كمخالفتها ،

______________________________________________________

إعادتها ، مقتضى الاستصحاب في عدم تحقق الصلاة المأمور بها الموضوع لبقاء التكليف بها كما لا يخفى.

ثم إنه قد تعجب المحقق العراقي قدس‌سره مما ذكره الماتن في صورة كون أحد التكليفين أو كليهما تعبديا من لزوم اختيار أحد الاحتمالين والإتيان بالفعل بنحو التقرب أو الترك رأسا ، حيث التزم في بحث الاضطرار إلى ارتكاب أحد الأطراف بسقوط العلم الإجمالي عن التأثير رأسا ، فلا بأس بارتكاب باقي الأطراف بعد ارتكابه أحدها لاضطراره سواء كان الاضطرار إلى معين منها أو إلى غير معين ، وفيما نحن فيه حيث إن المكلف مضطر إلى ترك الموافقة القطعية فلا بأس بعدم رعايته العلم الإجمالي أصلا ، ولكن الظاهر أن عجبه قدس‌سره في غير محله ، وبيان ذلك أن الماتن قدس‌سره قد بنى في بحث الاضطرار إلى بعض أطراف العلم معينا أو غير معين ، على أن المعين أو ما يدفع به الاضطرار محلل واقعا عند الارتكاب كما هو مقتضى حديث رفع الاضطرار ، وقولهم عليهم‌السلام : ما من محرم إلّا وقد أحلّه الاضطرار (١) ، وبعد فرض أن ما

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٣ : ٢٢٨ ، الباب ١٢ من أبواب كتاب الإيمان ، الحديث ١٨.

٣٥٣

والموافقة الاحتمالية حاصلة لا محالة ، كما لا يخفى.

ثم إن مورد هذه الوجوه ، وإن كان ما إذا لم يكن واحدا من الوجوب والحرمة على التعيين تعبديا ، إذ لو كانا تعبديين أو كان أحدهما المعين كذلك ، لم يكن إشكال في عدم جواز طرحهما والرجوع إلى الإباحة ، لأنها مخالفة عملية قطعية على ما أفاد شيخنا الأستاذ قدس‌سره ، إلّا أن الحكم أيضا فيهما إذا كانا كذلك هو التخيير عقلا بين إتيانه على وجه قربي ، بأن يؤتى به بداعي احتمال طلبه ، وتركه كذلك ، لعدم الترجيح وقبحه بلا مرجح.

______________________________________________________

يرتكبه لدفع اضطراره محلّلا يكون التكليف في سائر الأطراف مشكوكا من حيث التعلق من الأول بخلاف ما نحن فيه ، فإن الاضطرار لم يفرض فيه ، بل لا يمكن الموافقة القطعية لعدم إمكان الجمع بين الفعل بقصد التقرب والترك رأسا مع علم المكلف تفصيلا بعدم جواز الاقتصار على الفعل المجرد من قصد التقرب عند ارتكابه ؛ لأنه إما إتيان بالحرام أو ترك للواجب ، وهذا المحذور غير جار في ارتكاب سائر أطراف العلم الإجمالي عند الاضطرار إلى ارتكاب بعضها ، ولا يقاس أيضا الاضطرار إلى بعض الأطراف بتلف بعض الأطراف ، حيث إن العلم الإجمالي ببقاء التكليف في التالف ، إلى تلفه ليس لحصول الغاية للتكليف ، بل من قبيل العلم الإجمالي بتعلق التكليف به أو بالطرف الآخر أيضا بالنحو الذي تعلق به ، وما ذكره قدس‌سره في التفرقة بين الاضطرار والتلف ، وإن يكن محل التأمل بل المنع ، إلّا أنه لا يقاس المقام بمسألة الاضطرار كما ذكرنا.

المقام الثالث : في دوران الأمر بين المحذورين مع تكرار الواقعة ، فنقول قد يكون الإلزام المتعلق بالواقعة المتأخرة كالواقعة الفعلية فعليا كما هو مفاد الواجب المعلق ، مثلا إذا حلف على وطء زوجته في ليلة جمعة وعلى تركه في جمعة اخرى ،

٣٥٤

فانقدح أنه لا وجه لتخصيص المورد بالتوصليين بالنسبة إلى ما هو المهم في المقام ، وإن اختص بعض الوجوه بهما ، كما لا يخفى.

ولا يذهب عليك أن استقلال العقل بالتخيير إنما هو فيما لا يحتمل الترجيح في أحدهما على التعيين ، ومع احتماله لا يبعد دعوى استقلاله بتعيينه كما هو الحال في دوران الأمر بين التخيير والتعيين في غير المقام ، ولكن الترجيح إنما يكون لشدة الطلب في أحدهما ، وزيادته على الطلب في الآخر بما لا يجوز الإخلال بها في صورة المزاحمة ، ووجب الترجيح بها ، وكذا وجب ترجيح احتمال ذي المزية في صورة الدوران.

ولا وجه لترجيح احتمال الحرمة مطلقا ، لأجل أن دفع المفسدة أولى من ترك المصلحة ، ضرورة أنه رب واجب يكون مقدّما على الحرام في صورة المزاحمة بلا كلام ، فكيف يقدّم على احتماله احتماله في صورة الدوران بين مثليهما؟ فافهم.

______________________________________________________

واشتبهت الجمعتان فإنّه في مثل ذلك يكون لزوم الوفاء بالحلف فعليا مع تحقق الحلف ، والتأخر في زمان الوفاء والوطء في كل من الليلتين ، وإن دار أمره بين الوجوب والحرمة إلّا أنه لا يجوز للمكلف الفعل في كل منهما أو الترك فيهما معا ؛ لأنه يحرز معه المخالفة القطعية لأحد التكليفين ، واحراز الموافقة القطعية معها لا يوجب جوازها لما ذكرنا من أن الحاكم بلزوم الموافقة القطعية هو العقل بملاك دفع الضرر المحتمل ، ولا يحكم به العقل مع لزوم المخالفة القطعية التي هي للتكليف الآخر.

وقد ذكر المحقق النائينى قدس‌سره بلزوم رعاية الموافقة القطعية في ناحية أحد التكليفين إذا كان أهم من الآخر أو محتمل الأهمية ، بدعوى أنه كما يقع التزاحم بين التكليفين في مقام الامتثال فيقدم فيه جانب التكليف الأهم أو محتمل الأهمية ،

٣٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

كذلك يقع التزاحم بينهما في مقام إحراز الموافقة القطعية فيهما ، وما ذكر في ناحية تقديم الأهم أو محتمل الأهمية في الأول يقتضي رعايته في الثاني أيضا.

وفيه ما لا يخفى فإن الموجب لتقديم الأهم أو محتمل الأهمية لا يجرى في عدم إمكان الموافقة القطعية في كل من التكليفين المعلوم إجمالا ثبوتهما ، فإن الموجب لتقديم الأهم إما إحراز الإطلاق في خطابه والتقييد في خطاب التكليف الآخر ، أو للشك في تقييد إطلاق خطابه مع العلم بثبوت التقييد في خطاب التكليف الآخر ، أو القطع بالمعذورية مع صرف القدرة في الأهم أو محتملها ، وهذا يجري في ناحية عدم التمكن من إحراز الموافقة بالإضافة إلى كلا التكليفين ، فإن الحاكم بلزوم إحرازها هو العقل بملاك دفع الضرر المحتمل ، وليس له حكم بذلك مع استلزام إحرازها إحراز المخالفة القطعية بالإضافة إلى التكليف الآخر ؛ ولذا لا يثبت التخيير مع تساوي التكليفين في الملاك ، بل يلزم الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية في كل منهما ، وكذا الحال في تردد أفراد الواجب والحرام ، وأما إذا لم يكن التكليف بالواقعة المتأخرة فعليا ، كما هو مفاد الواجب المشروط كما إذا رأت المرأة الدم مرتين مع عدم تخلل أقل الطهر بينهما وزيادتهما على عشرة أيام ، فإن الصلاة في كل من الدمين وإن دار أمرها بين الوجوب والحرمة ذاتا ، فهل هذا مثل ما إذا كان التكليف بكل من الفعلين فعليا فلا يجوز ترك الموافقة الاحتمالية في كل منهما أو يحسب كل منهما واقعة مستقلة ، الأصح هو الأول كما يأتي من عدم الفرق بين التدريجيات والدفعيات في تساقط الاصول النافية من أطراف العلم ، هذا مع قطع النظر عما ورد في المثال من الحكم بكون الدم الأول حيضا ، والثاني استحاضة.

٣٥٦

فصل

لو شك في المكلف به مع العلم بالتكليف من الإيجاب أو التحريم فتارة لتردّده بين المتباينين [١].

______________________________________________________

أصالة الاحتياط

تنجيز العلم الإجمالي في المتباينين

[١] قد يكون التكليف في موارد العلم الإجمالي بنوعه معلوما كان الشك في متعلقه ، كما إذا ترددت الوظيفة يوم الجمعة بين الظهر وبينها ، وقد يكون التكليف بجنسه معلوما كما إذا لم يعلم أن التكليف المعلوم بالإجمال وجوب متعلق بهذا الفعل أو حرمة متعلقة بذاك الفعل ، وتردّد المتعلق بين الفعلين مع العلم بنوعه تارة يفرض بين المتباينين سواء كان تباينهما بالذات كصلاتي الظهر والجمعة أو بالاعتبار كالقصر والتمام ، حيث إن القصر يشترط فيه عدم لحوق الركعتين الأخيرتين ، والتمام يعتبر فيه لحوقهما ويفرض في الأقل والأكثر الارتباطيين ، حيث إن الأقل هو الفعل لا بشرط الزائد ، والأكثر هو المشروط بالزائد ، وقد ذكر الماتن قدس‌سره أن العلم بجنس التكليف مع إمكان موافقته القطعية ومخالفتها كذلك ، وكذا العلم بالتكليف بنوعه مع تردد متعلّقه بين المتباينين يكون منجزا للتكليف المعلوم بالإجمال فيما إذا كان التكليف فعليا مطلقا حتى مع العلم الإجمالي بمعنى تعلق إرادة المولى بفعل العبد أو كراهته حتى في هذا الحال ، وتكون فعليته كذلك موجبة لتخصيص أدلة الاصول النافية وحملها على غير أطراف هذا العلم بالتكليف ، حيث لا يمكن الترخيص فيها مع الفعلية للمناقضة ، بخلاف ما إذا لم يكن التكليف المعلوم فعليا مطلقا بأن كانت فعليته ما دام لم يرخص في الارتكاب ظاهرا ، كما هو الحال في صورة العلم به

٣٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

تفصيلا ، حيث إن التكليف لو كان فعليا مع قطع النظر عن العلم التفصيلي به لكان فعليا معه أيضا لا محالة ، لعدم الموضوع للحكم الظاهري معه بخلاف العلم الإجمالي فإنه يمكن أن لا يكون التكليف فعليا معه لثبوت الموضوع للحكم الظاهري في أطرافه.

أقول : ما ذكر قدس‌سره من أنّه مع فعلية التكليف الواقعي مطلقا لا مجال للاصول النافية في أطراف العلم ، بخلاف ما إذا كانت فعليته غير مطلقة ، فإن الفعلية غير المطلقة لا تنافي جعل الحكم الظاهري والترخيص في أطراف العلم الإجمالي لا يمكن المساعدة عليه ، فإنه لا سبيل لنا نوعا إلى إحراز الفعلية المطلقة في التكاليف الواقعية مع عموم خطابات الاصول أو اطلاقاتها ، فإن مدلولات الخطابات الشرعية عند الماتن قدس‌سره الأحكام الإنشائية ، وتكون ظاهرة في فعليتها مع عدم القرينة على الخلاف ، والعموم والإطلاق في أدلة الاصول وخطاباتها قرينة على الخلاف ، أضف إلى ذلك أن الفعلية تكون في جميع الأحكام الواقعية حتى إذا لم يكن التكليف إلزاميا ، فالفعلية بالمعنى الذي فسّرها بإرادة المولى الفعل من العبد لا أساس لها أصلا ، فإن حب المولى وبغضه وإن يتعلق بفعل العبد ، ولكن الحب أو البغض لا يكون من الإرادة ، والإرادة من المولى تتعلق بالمقدور ، وفعل العبد غير مقدور للمولى بما هو مولى ، ولو تعلقت إرادته سبحانه بفعل العباد لخرجت أفعالهم عن كونها اختيارية لهم ، وإنما تتعلق إرادة المولى بإيجابه وتحريمه وغيرهما من أحكامه ، والمفروض في المقام ثبوت الإيجاب أو التحريم من قبل المولى لفعلية الموضوع لهما ، ويقع البحث في أن هذا العلم يكون وصولا للتكليف المعلوم بالإجمال ليكون التكليف منجزا بحيث مع وصوله يقبح من المولى الحكيم

٣٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الترخيص القطعي في مخالفته القطعية ، ويلزم موافقته القطعية أم يمكن مع هذا العلم الأخذ بالإطلاق والعموم من خطابات الاصول النافية في كل من أطراف العلم أو بعضها لتكون النتيجة لزوم الموافقة القطعية أو عدم جواز المخالفة القطعية ، وذكر العراقي قدس‌سره أنه مع العلم الإجمالي بالتكليف يحكم العقل باشتغال الذمة به حتى يحصل الفراغ منه ، ولا يمكن للشارع الترخيص في الارتكاب في جميع الأطراف أو ترك جميعها في الواجبات ، حيث إن الترخيص فيهما كذلك ترخيص في المعصية كما لا يجوز الترخيص في بعضها ، حيث إن مورد الترخيص يحتمل انطباق المعلوم بالإجمال عليه فيكون الترخيص على تقدير مصادفة احتماله ترخيصا في المعصية أيضا فيقبح من المولى الحكيم وينافي حكم العقل بالاشتغال ، وبتعبير آخر ليس المدعى مناقضة الترخيص في جميع الأطراف أو بعضها مع فعلية التكليف ، يعني الفعلية التي تقدمت في كلام الماتن ، فإن الفعلية المزبورة لا تجتمع مع الترخيص حتى في الشبهة البدوية ، وعلى المولى مع تلك الفعلية الإيصال إلى المكلف ولو بجعل الاحتياط في مورده ، بل المراد من الفعلية ما هو المستفاد من الخطابات الشرعية في حرمة الأفعال أو وجوبها كون الغرض من التكليف التصدي لما فيه إمكان انبعاث العبد إلى الفعل أو منعه عنه بوصوله إليه ، وبما أن العلم الإجمالي بالتكليف وصول فيستقل العقل بالاشتغال ، ولزوم تحصيل الفراغ عن عهدته والترخيص في كلها أو بعضها غير ممكن ، لكونه ترخيصا في المعصية أو ما يحتمل كونه معصية ، ولا ينتقض بموارد انحلال العلم الإجمالي ؛ لأنه لا وصول مع الانحلال حتى يحكم العقل بالاشتغال ، كما لا ينتقض بموارد جريان قاعدة الفراغ أو التجاوز ونحوهما ، ليقال : إنّه في مورد العلم التفصيلي بالتكليف يمكن أن لا تجب الموافقة

٣٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

القطعية ، فكيف بالمعلوم بالإجمال ، وذلك فإن مفاد قاعدتي الفراغ والتجاوز جعل البدل بالتعبد بحصول الامتثال وحكم العقل بالاشتغال حتى يحرز الامتثال الأعم من الامتثال الوجداني والتعبدي ، ولا يستفاد من خطابات الاصول النافية جعل البدل والتعبد بحصول التكليف لا بالدلالة المطابقية ولا الالتزامية كما لا يخفى.

أقول : ما ذكر الماتن قدس‌سره من كون المراد من فعلية التكليف تعلق الإرادة الحقيقية من المولى بفعل العبد وإن لا يصح ، فإن فعل العبد بما هو فعل العبد غير مقدور للمولى بما هو مولى ، وتعلق مشيئة الله سبحانه بأفعال العباد أو الترك منهم ، وان كان تعلّقها بفعل العباد موجبا لحصول الأفعال أو الترك منهم لا محالة ، إلّا أن ذلك يوجب وقوع الاضطرار وارتفاع اختيارهم حقيقة كما هو مقرر في محله ، إلّا أنه مع الغمض عن ذلك فلا يرد ما ذكره قدس‌سره من وجوب الإيصال ؛ لأنّ إطلاق الإرادة أمر إضافي فيمكن إطلاقها بالإضافة إلى موارد العلم الإجمالي ، وعدم الإطلاق بالإضافة إلى الشبهة البدوية فلا يجب عليه الإيصال ، بل له الترخيص في موردها ، وما ذكره من أنه لا يمكن للشارع الترخيص في بعض أطراف العلم ؛ لأنه ترخيص في المعصية لو اتفق مصادفته المعلوم بالإجمال لا يخفى ما فيه ، فإن حكم العقل بلزوم رعاية احتمال التكليف في جميع الأطراف لاحتمال الضرر في ترك رعايته في بعضها ومع ترخيصه الظاهري ، لا احتمال للضرر. ويشهد لذلك موارد الانحلال الحكمي لا الحقيقي ، ليقال بأنه لا علم بالتكليف في موارد الانحلال والتعبد الظاهري بالامتثال بالاستصحاب أو قاعدتي الفراغ والتجاوز مرجعه أو لازمه عدم أخذ المكلف بالمخالفة الواقعية لو اتفقت ؛ لأنه لا معنى لجعل البدل الظاهري غير هذا المعنى ، وعلى ذلك وبعد البناء على أن فعلية التكليف الواقعي إنما هو بفعلية الموضوع له

٣٦٠