دروس في مسائل علم الأصول - ج ٤

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-94850-6-5
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

عبد الرحمن بن الحجاج قال سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجلين أصابا صيدا وهما محرمان الجزاء بينهما أو على كل واحد منهما جزاء؟ قال : لا ، بل عليهما أن يجزي كل واحد منهما الصيد ، قلت : إن بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه ، فقال : إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا عنه فتعلموا (١) فإنّ الأمر بالاحتياط فيها في مورد إمكان تحصيل العلم بالتكليف كما هو ظاهرها ، أضف إلى ذلك أن الشبهة المزبورة الحكمية وجوبية ولا يلتزم الأخباري فيها بوجوب الاحتياط إلّا أن يقال الجزاء الواجب في الصيد العين لا القيمة ، فلا يكون الواجب مرددا بين الأقل والأكثر الاستقلاليين ، بل من الارتباطيين ولا يلتزم الأخباري في الارتباطيين بالبراءة ، نعم في كون الواجب من الارتباطيين في فرض إعطاء العين تأمل كما إذا أعطى بدنة من البدنتين المشتركتين بينه وبين آخر ، فإن إعطاء النصف من أحدهما متيقن في تعلق التكليف به فتدبر.

وأما الاستدلال بوجوب الاحتياط بموثقة عبد الله بن وضاح قال : كتبت إلى العبد الصالح عليه‌السلام «يتوارى القرص ويقبل الليل ثم يزيد الليل ارتفاعا وتستتر عنّا الشمس وترتفع فوق الليل (الجبل) حمرة ويؤذن عندنا المؤذنون فاصلي حينئذ وافطر إن كنت صائما ، أو أنتظر حتى تذهب الحمرة فوق الليل (الجبل) فكتب إليّ أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطة لدينك» (٢).

وفيه أنّ الشبهة المفروضة في المقام لو كانت موضوعية يجب الانتظار

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٥٤ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأول.

(٢) وسائل الشيعة ١٠ : ١٢٤ ، الباب ٥٢ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ... الحديث ٢.

٣٠١

ويؤيده أنه لو لم يكن للإرشاد يوجب تخصيصه لا محالة ببعض الشبهات إجماعا ، مع أنه آب عن التخصيص قطعا ، كيف لا يكون قوله : (قف عند الشبهة فإن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة) للارشاد؟ مع أن المهلكة ظاهرة في العقوبة ، ولا عقوبة في الشبهة البدوية قبل إيجاب الوقوف والاحتياط ، فكيف يعلل إيجابه بأنه خير من الاقتحام في الهلكة؟

لا يقال : نعم ، ولكنه يستكشف منه على نحو الإنّ إيجاب الاحتياط من قبل ، ليصح به العقوبة على المخالفة.

فإنه يقال : إن مجرد إيجابه واقعا ما لم يعلم لا يصحح العقوبة ، ولا يخرجها عن أنها بلا بيان ولا برهان ، فلا محيص عن اختصاص مثله بما يتنجز فيه المشتبه لو كان كالشبهة قبل الفحص مطلقا ، أو الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي ، فتأمل جيدا.

وأما العقل : فلاستقلاله بلزوم فعل ما احتمل وجوبه وترك ما احتمل حرمته ، حيث علم إجمالا بوجود واجبات ومحرمات كثيرة [١].

______________________________________________________

والامساك إلى إحراز دخول الوقت بمقتضى الاستصحاب في بقاء النهار وعدم دخوله وإن كانت الشبهة حكمية ، ولعل ذلك ظاهرها فعلى الإمام عليه‌السلام بيان أن دخول الليل باستتار القرص أو بذهاب الحمرة ، فعدوله عن الجواب بالتعيين والتصريح به إلى التعبير بالأخذ بالاحتياط لرعاية التقية لا محالة ، وعلى كلا التقديرين فلا دلالة لها على عدم اعتبار البراءة في الشبهة الموضوعية الوجوبية إذا لم يكن في البين أصل حاكم ، أو في الشبهة الوجوبية بعد الفحص وعدم الظفر بالدليل على الوجوب كما يعترف بذلك الأخباري أيضا.

الاستدلال في لزوم الاحتياط في الشبهات بحكم العقل

[١] قوله : «فيما اشتبه وجوبه أو حرمته مما لم يكن حجة على حكمه» متعلق ب

٣٠٢

.................................................................................................

______________________________________________________

«لزوم فعل ما احتمل وجوبه وترك ما احتمل حرمته» كما لا يخفى.

وحاصله أنه يستدل على لزوم الاحتياط في الشبهات الحكمية الوجوبية ، والشبهات الحكمية التحريمية بالعلم الإجمالي بالتكاليف في الوقائع التي لا تعلم أحكامها الواقعية ، وهذه الوقائع وإن يكن التكليف الواقعي في جملة منها منجّز بقيام الحجة عليه إلّا أنه يلزم رعاية احتمال التكليف في غير تلك الجملة تفريغا للذمة بعد اشتغالها بالعلم الإجمالي المذكور ، وأجاب الماتن قدس‌سره بأن العلم الإجمالي المزبور ينحل بقيام الطرق والاصول المثبتة للتكاليف في مواردها ، حيث يحتمل انحصار التكاليف المعلومة بالإجمال عليها بأن لا يكون في سائر الموارد التي تجري الاصول النافية فيها تكاليف كما هو شأن انحلال العلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي والشك البدوي.

لا يقال : العلم بالتكليف الفعلي في بعض أطراف العلم الإجمالي لا يوجب انحلال العلم الإجمالي الأول.

فإنه يقال : إنما لا يوجب الانحلال إذا كان التكليف المعلوم في بعض الأطراف حادثا بأن كان غير المعلوم بالإجمال السابق ، وأما إذا لم يكن حادثا بل كان نفس ما علم إجمالا أولا ، كما إذا علم بنجاسة بعض الآنية ثم علم نجاسة بعضها معينا بتلك النجاسة واحتمل أن المعلوم بالإجمال أولا كان ذلك البعض ولا نجاسة في غيره ، فينحل العلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي والشك البدوي لا محالة ، واورد على هذا الانحلال بوجه آخر أشار الماتن إليه بقوله «إن قلت إنما يوجب العلم ...» ، والمراد أن الانحلال إلى العلم التفصيلي والشك البدوي كان صحيحا بناء على مقتضى قيام الطريق بالتكليف في مورد هو ثبوت التكليف فيه فعلا ، حيث يعلم بقيامه التكليف في ذلك المورد ، وأما بناء على أن مقتضى قيامه واعتباره تنجز التكليف الواقعي

٣٠٣

فيما اشتبه وجوبه أو حرمته ، مما لم يكن هناك حجة على حكمه ، تفريغا للذمة بعد اشتغالها ، ولا خلاف في لزوم الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي إلّا من بعض الأصحاب.

والجواب : إن العقل وإن استقل بذلك ، إلّا أنه إذا لم ينحل العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي وشك بدوي ، وقد انحل هاهنا ، فإنه كما علم بوجود تكاليف إجمالا ، كذلك علم إجمالا بثبوت طرق وأصول معتبرة مثبتة لتكاليف بمقدار تلك التكاليف

______________________________________________________

على تقدير أصابته الواقع والعذر فيما أخطأ ، فلا انحلال إلى العلم التفصيلي والشك البدوي ، فإن غاية قيامه واعتباره هو كون التكليف الواقعي في فرض الإصابة منجزا بمنجزين ، وفي الموارد الخالية عن الطريق منجزا بمنجز واحد ، وهو العلم الإجمالي المتقدم ذكره.

وأجاب قدس‌سره بأنه لا يختلف الحال ويثبت الانحلال حتى بناء على أن معنى اعتبار الطريق شرعا جعل المنجزية والمعذرية له ، ومثل لذلك بما إذا علم بحرمة إناء زيد لنجاسته بين إناءين أو أكثر وقامت البينة بتعيين إنائه ، فإنه لا ينبغي التأمل في أن قيامها كما إذا علم بأن إناء زيد ذاك الإناء في أنه لا يجب الاجتناب عن الباقي ، ولو لا هذا لما يفيد في الانحلال الالتزام بأن مقتضى الاعتبار جعل المدلول تكليفا ، فإن هذا التكليف حادث يكون بقيام الطريق أو الأصل المثبت ، ثم ذكر قدس‌سره في ذيل كلامه هذا الانحلال الحكمي إذا لم نقل بأن غالب الطرق المعتبرة وجملة من الاصول المثبتة مطابقة للتكاليف الواقعية في مواردهما ، بحيث نحتمل انحصار التكاليف الواقعية على مواردهما حتى لا تكون تكاليف اخرى في الوقائع المشتبهة الخالية عنهما ، حيث ينحل العلم الإجمالي الأول بالعلم الإجمالي الصغير حقيقة فلا يكون مانع عن الرجوع إلى الاصول النافية في سائر المشتبهات.

٣٠٤

المعلومة أو أزيد ، وحينئذ لا علم بتكاليف أخر غير التكاليف الفعلية في الموارد المثبتة من الطرق والأصول العملية.

إن قلت : نعم ، لكنه إذا لم يكن العلم بها مسبوقا بالعلم بالتكاليف.

قلت : إنما يضر السبق إذا كان المعلوم اللاحق حادثا ، وأما إذا لم يكن كذلك بل مما ينطبق عليه ما علم أولا ، فلا محالة قد انحل العلم الإجمالي إلى التفصيلي والشك البدوي.

______________________________________________________

أقول : انحلال العلم الإجمالي بحرمه إناء زيد بالبينة القائمة بتعيين إنائه لا يستلزم الانحلال في المفروض في المقام ، وذلك لثبوت الدلالة الالتزامية بأن الإناء الآخر ليس له ، وهذه الدلالة الالتزامية كدلالتها المطابقية ، وبما أن الإناء الذي ليس لزيد إما معلوم الطهارة أو محتمل نجاسته أيضا ، تجرى أصالة الطهارة أو الحلية فيه فلا موجب للاجتناب عنه ، وهذه الدلالة الالتزامية غير موجودة في الأمارات والطرق القائمة بالتكاليف في جملة من الوقائع بل لها دلالة مطابقية فقط ، وهي ثبوت تكاليف في مواردها ، نعم لو علم بمطابقة تلك الأمارات في معظمها للواقع بحيث يحتمل انحصار التكاليف في الشريعة على موارد العلم التفصيلي وتلك الأمارات والأصل المثبت يكون الانحلال بالعلم التفصيلي وبالعلم الإجمالي الصغير ، وكذا إذا بنى على العلم الإجمالي بالتكاليف في الشريعة إنما هو بالإضافة إلى موارد إمكان تحصيل العلم أو وجود الأمارات والطرق والاصول المثبتة دون غير تلك الموارد ، ومع إحراز كون واقعة من غيرها يرجع فيه إلى الاصول النافية كما أن هذا البناء هو الصحيح.

وقد يقال : في انحلال العلم الإجمالي وجهان آخران.

الأول : أن معنى اعتبار الأمارة اعتبارها علما بالواقع فتكون التكاليف الواقعية في موارد قيامها معلومة بالتفصيل ولو اعتبارا ، فيكون الشك في غير مواردها من

٣٠٥

إن قلت : إنما يوجب العلم بقيام الطرق المثبتة له بمقدار المعلوم بالإجمال ذلك إذا كان قضية قيام الطريق على تكليف موجبا لثبوته فعلا ، وأما بناء على أن قضية حجيته واعتباره شرعا ليس إلّا ترتيب ما للطريق المعتبر عقلا ، وهو تنجز ما أصابه والعذر عما أخطأ عنه ، فلا انحلال لما علم بالإجمال أولا ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

الموارد الخالية عن العلم والأمارة شكا بدويا فيجري فيها الاصول ولو كانت نافية ، وبيان ذلك أن العلم الإجمالي المركب من قضيتين شرطيتين على سبيل مانعة الخلو إذا خرج إلى قضية حملية معلومة بالتفصيل وإلى قضية حملية مشكوكة كما هو الحال في موارد انحلاله إلى علم تفصيلي وشك بدوي لا يبقى العلم الإجمالي لا محالة وكما لو علم بغصبية بعض الغنم من القطيع المركب من السود والبيض ثم علم بأن بعض أفراده معينا غصبا ، ـ بحيث يحتمل انحصار المغصوب من القطيع عليه ـ تجري أصالة عدم الغصب والحلية في غيرها ، كذلك فيما إذا قامت البينة على كون البعض المعين منها غصبا فإن البينة القائمة بحرمة البعض المعين علم تفصيلي بحرمته ، ويمكن أن يكون مراد الشيخ الأنصاري في جوابه الثاني هذا المعنى ، وأما جوابه الأول فيرجع إلى منعه عن فعلية التكاليف الواقعية في الوقائع في غير موارد الطرق والأمارات المثبتة للتكاليف على مقتضى ما سلكه في الجمع بين الأحكام الواقعية في الوقائع ، وبين اعتبار الأمارات والاصول ، فإن ثبوت الأحكام الواقعية في الوقائع من غير موارد الطرق والأمارات إنشائية فلا يكون العلم الإجمالي بالتكاليف فيها إجمالا من العلم الإجمالي المنجّز.

لا يقال : بناء على كون اعتبار الطريق اعتباره علما تكون الأمارة القائمة بالتكليف في كل مورد علما بالتكليف ، ولكن هذا العلم الحادث لا يوجب انحصار المعلوم بالإجمال على موارد قيامها ولا زوال العلم الإجمالي السابق الموجب

٣٠٦

قلت : قضية الاعتبار شرعا ـ على اختلاف ألسنة أدلته ـ وإن كان ذلك على ما قوّينا في البحث ، إلّا أن نهوض الحجة على ما ينطبق عليه المعلوم بالإجمال في بعض الأطراف يكون عقلا بحكم الانحلال ، وصرف تنجزه إلى ما إذا كان في ذاك الطرف والعذر عما إذا كان في سائر الأطراف ، مثلا إذا علم إجمالا بحرمة إناء زيد بين الإناءين وقامت البينة على أن هذا إناؤه ، فلا ينبغي الشك في أنه كما إذا علم أنه إناؤه في عدم لزوم الاجتناب إلّا عن خصوصه دون الآخر ، ولو لا ذلك لما كان يجدي القول بأن قضية اعتبار الأمارات هو كون المؤديات أحكاما شرعية فعلية ،

______________________________________________________

لتساقط الاصول النافية في أطرافها.

فإنه يقال : بما أن الأمارة تحكي عن نفس التكليف الذي كان طرفا للعلم به إجمالا فاعتبارها علما به يوجب تبدل العلم الإجمالي السابق إلى العلم التفصيلي التعبدي بحيث تصير الموارد الخالية عن الأمارات مشكوكة بدوا ، كما لو كان الانحلال بالعلم التفصيلي الوجداني ، فإن العلم التفصيلي التعبدي إبطال للترديد في مواردها من الأول فيكون الترديد في الموارد الخالية بدويا قهرا.

الوجه الثاني : أنه على تقدير كون اعتبار الأمارة جعل المنجزيّة والمعذريّة لها أو جعل حكم طريقي على طبق مدلولها الموجب لتنجز الواقع ، إلّا أنّه مع ذلك ينحل العلم الإجمالي المزبور حكميا ؛ لأنّ منجزية الأمارة القائمة بالتكليف لا تكون بإحراز قيامها ، بل لإمكان الوصول إليها فالمتصدي للاجتهاد عند علمه إجمالا بوجود التكاليف في الوقائع تكون الأمارة الموجودة في الوقائع الموجودة منجزة للتكاليف في مواردها ، فيكون العلم الإجمالي المزبور غير منجز بالإضافة إلى تلك الموارد ، وإذا احتمل عدم التكليف في الموارد الخالية عن الأمارة بالتكليف عند حصول العلم الإجمالي فلا يكون بأس بالرجوع إلى الأصل النافي فيها.

٣٠٧

ضرورة أنها تكون كذلك بسبب حادث ، وهو كونها مؤدّيات الأمارات الشرعية.

هذا إذا لم يعلم بثبوت التكاليف الواقعية في موارد الطرق المثبتة بمقدار المعلوم بالإجمال ، وإلّا فالانحلال إلى العلم بما في الموارد وانحصار أطرافه بموارد تلك الطرق بلا إشكال. كما لا يخفى.

وربما استدل بما قيل من استقلال العقل بالحظر في الأفعال الغير الضرورية قبل الشرع [١].

______________________________________________________

وعلى الجملة : إذا كان التكليف في بعض أطراف العلم الإجمالي على تقديره منجزا بمنجّز آخر عند حصوله لا يكون ذلك العلم الإجمالي منجّزا ، وعليه يبتنى الحكم بطهارة الملاقي بعض أطراف العلم الإجمالي ، حيث يلتزم بعدم الأثر للعلم الإجمالي الحاصل ثانيا بنجاسة الملاقي بالكسر أو الطرف الآخر الذي يكون عدلا للملاقى بالفتح.

[١] قد يستدل على التوقف في الشبهات بأن الأصل في الأشياء قبل ورود الشرع الحظر ولا أقل من الوقف بمعنى عدم حكم العقل وتجويزه الارتكاب ، وما دلّ على جواز ارتكاب المشتبه شرعا معارض بما دل على لزوم التوقف والاحتياط فيؤخذ بحكم العقل بالحظر أو الوقف.

وفيه أولا : أنّ حكم العقل بالحظر أو الوقف محل خلاف فلا يمكن أن يستند إليه وإلّا لصح القول بالبراءة استنادا إلى القول بالإباحة في تلك المسألة.

وثانيا : قد تقدم ثبوت الإباحة شرعا ، وما دلّ على الاحتياط والتوقف لا يعارض ما دلّ على البراءة على ما تقدم من الجمع العرفي بين الأخبار.

وثالثا : لو سلم حكم العقل في الأشياء بالحظر أو الوقف ومعارضة ما دلّ على البراءة شرعا بما دلّ على الاحتياط والتوقف فليس لازم ذلك الأخذ بالحظر أو

٣٠٨

ولا أقل من الوقف وعدم استقلاله ، لا به ولا بالإباحة ، ولم يثبت شرعا إباحة ما اشتبه حرمته ، فإن ما دلّ على الإباحة معارض بما دل على وجوب التوقف أو الاحتياط.

وفيه أولا : إنه لا وجه للاستدلال بما هو محل الخلاف والاشكال ، وإلّا لصح الاستدلال على البراءة بما قيل من كون تلك الأفعال على الإباحة.

وثانيا : إنه ثبت الإباحة شرعا ، لما عرفت من عدم صلاحية ما دلّ على التوقف أو الاحتياط ، للمعارضة لما دلّ عليها.

وثالثا : أنه لا يستلزم القول بالوقف في تلك المسألة ، للقول بالاحتياط في هذه المسألة ، لاحتمال أن يقال معه بالبراءة لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وما قيل ـ من أن الإقدام على ما لا يؤمن المفسدة فيه كالإقدام على ما يعلم فيه المفسدة ـ ممنوع ، ولو قيل بوجوب دفع الضرر المحتمل ، فإن المفسدة المحتملة في المشتبه ليس بضرر غالبا ، ضرورة أن المصالح والمفاسد التي هي مناطات الأحكام ليست براجعة إلى المنافع والمضار ، بل ربما يكون المصلحة فيما فيه الضرر ، والمفسدة فيما فيه المنفعة ، واحتمال أن يكون في المشتبه ضرر ضعيف غالبا لا يعتنى به قطعا ، مع أن الضرر ليس دائما مما يجب التحرز عنه عقلا ، بل يجب ارتكابه أحيانا فيما كان

______________________________________________________

الإباحة ، بل يؤخذ بالبراءة العقلية ؛ لأنّ مسألة كون الأشياء على الحظر أو الإباحة راجعة إلى حكم العقل مع قطع النظر عن تشريع الأحكام والتكاليف ، ومسألة قبح العقاب بلا بيان حكم العقل بعد تشريع الأحكام والتكاليف ، والمقام من صغريات الثاني ، وأما دعوى أن المقام يدخل في صغرى لزوم دفع الضرر المحتمل أو قاعدة استقلال العقل بدفع احتمال المفسدة المحتملة في الارتكاب فقد تقدم الكلام في كل منهما فلا نعيد.

٣٠٩

المترتب عليه أهم في نظره مما في الاحتراز عن ضرره ، مع القطع به فضلا عن احتماله.

بقي أمور مهمة لا بأس بالإشارة إليها :

الأول : إنه إنما تجري أصالة البراءة شرعا وعقلا فيما لم يكن هناك أصل موضوعي مطلقا ، ولو كان موافقا لها فإنه معه لا مجال لها أصلا لوروده عليها [١].

______________________________________________________

[١] لا تجري أصالة البراءة العقلية ولا الشرعية مع الأصل الموضوعي ، وليس المراد من الأصل الموضوعي خصوص ما يحرز به موضوع الحلية أو الحرمة كالاستصحاب في بقاء المائع على كونه خمرا إذا احتمل انقلابه ، بل المراد ما يرتفع معه الشك في الحلية وحرمة الموضوع لأصالة البراءة سواء احرز مع ارتفاعه موضوع الحلية أو الحرمة الواقعية كما في المثال المتقدم ، أو احرز به نفس حلية الشيء أو حرمته ، كما إذا شك في حلية فعل كان في السابق حراما ويشك في ارتفاع حرمته كما في الشبهة الحكميّة كالاستصحاب في حرمة وطء الحائض بعد النقاء وقبل الاغتسال ، بناء على اعتبار الاستصحاب في الشبهات الحكمية ، فإن مع الاستصحاب في حرمة وطئها لا تصل النوبة إلى أصالة الحلية ، إما لوروده عليها كما عليه الماتن أو لحكومته عليها على ما نذكره ، وقد فرّعوا على ذلك عدم جريان أصالة الحلية في حيوان شك في حليته وقبوله للتذكية ، فنقول للمسألة صور.

الاولى : ما إذا شك في حلية حيوان وحرمته لأجل الشك في أنه قابل للتذكية بالشبهة الحكمية ، كما إذا تولد حيوان من الكلب والشاة وشك في أنه كالكلب غير قابل للتذكية أو أنه كالشاة ، وإذا ذبح هذا الحيوان بسائر الشرائط المعتبرة للتذكية لا يحكم بحلية لحمه ، لأنّ الاستصحاب في عدم التذكية يدرجه في غير المذكى المحكوم في الآية بحرمة أكله ، ولكن جريان هذا الاستصحاب موقوف على ثبوت

٣١٠

.................................................................................................

______________________________________________________

أمرين ، أحدهما : أن تكون قابلية الحيوان للتذكية أمرا تكوينيا دخيلا في تحقق التذكية ، بأن تكون التذكية أمرا بسيطا مسببا من عدة امور أحدها قابليته لها أو كانت التذكية نفس تلك الامور التي منها قابلية الحيوان لها ، وثانيهما : أن لا يكون في البين عموم أو إطلاق يثبت أن كل حيوان يقع عليه التذكية بحيث يكون الحكم بعدم قابلية حيوان لها محتاجا إلى دليل على خروجه عن العموم والإطلاق.

في الشك في قابلية الحيوان للتذكية

والثانية وقد يقال : إنه إذا كانت التذكية أمرا بسيطا مسببا عن عدة امور منها قابلية الحيوان فلا بأس بجريان الاستصحاب في عدمها عند الشك في قابلية الحيوان مع فرض عدم عموم أو إطلاق مثبت لقابليته للتذكية ، وأما إذا كانت التذكية عبارة عن نفس تلك الامور التي منها قابلية الحيوان فلا مجرى للاستصحاب ؛ لأنّ غير القابلية من الامور الدخيلة محرزة بالوجدان ، والقابلية أو عدمها ليست لها حالة سابقة ليجري الاستصحاب فيها أو في عدمها حتى بناء على القول بجريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية ؛ لأنّ القابليّة وعدمها من لوازم الماهية لا الوجود ، والأصل الجاري في العدم الأزلي يختص بالثاني فيرجع إلى أصالة الطهارة والحل في المذبوح بسائر الشرائط ، وفيه أنه يجري الاستصحاب في عدم التذكية حتى بناء على أنها مركبة من عدة امور منها قابلية الحيوان ، حيث إنه لم يثبت أن القابلية كالزوجية من لوازم الماهية بل يحتمل كونها من لوازم الوجود ، بل لو كانت من لوازم الذات فالأمر كذلك لأنّ الدخيل في التذكية القابلية بالحمل الشائع ، فإن التذكية أمر خارجي يقع على الحيوان الخارجي والقابلية بهذا الحمل مسبوق بالعدم ولو بنحو السالبة بانتفاء الموضوع.

٣١١

.................................................................................................

______________________________________________________

وقد يقال : ليست قابلية الحيوان للتذكية إلّا أن لا يحكم الشارع عليه بالنجاسة بعد فري أوداجه بالحديد وتوجيهه إلى القبلة وكون الذابح مسلما ذاكرا اسم الله عليه ، بل يحكم بالطهارة ، وإذا حكم بحلية أكل لحمه وشحمه بعد هذا الذبح فهو حيوان مأكول اللحم ، حيث تكون حلية أكل لحمه وشحمه فعلية بعد الذبح المزبور ، وعليه فيحرز بأصالة الطهارة الجارية في الحيوان بعد ذبحه أنه قابل لها كما يحرز بالاستصحاب في عدم جعل الحرمة لأكل لحمه وشحمه بعده أو بأصالة الحلية أنه مأكول اللحم.

ويمكن أن يقال : إن حكم الشارع بالطهارة في حيوان بعد ذبحه أو صيده وعدم حكمه بها في حيوان آخر إنما بلحاظ الخصوصية الخارجية في الأول ، وعدمها في الثاني ، ويعبّر عنها بقابلية الحيوان للتذكية ، وعلى ذلك فعدم اعتبار النجاسة للحيوان بعد ذبحه كما ذكرنا كاشف عن قابليته للتذكية ، كما أن الحكم بحلية أكل لحمه وشحمه كذلك ، وأصالة الطهارة أو الحلية بما أنها تعبد بالطهارة ظاهرا أو الحلية كذلك فلا تكشف عن القابلية فيه فيجري الاستصحاب في ناحية عدم تذكية المشكوك حتى بناء على أنّ التذكية عنوان لعدة امور يدخل فيها قابلية الحيوان شرطا أو جزءا ، ومما ذكر يظهر أنه لا يفيد في إثبات التذكية أصالة الحلية مع أنها غير ثابتة في الشبهات الحكمية.

والمتحصل مع فري الأوداج في مثل الكلب لا يصدق أنه مذكى ، لا أنّه مذكى ولا يترتب عليه حكم المذكي للتخصيص ، وعدم صدقها عليه يكشف عن أخذ خصوصية للحيوان في التذكية ، والأصل عدم تلك الخصوصية في الحيوان المشكوك المزبور في المقام. نعم لو ثبت ببعض الخطابات الشرعية بإطلاقها أو

٣١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

عمومها قابلية كل حيوان للتذكية فلا يكون لجريان الاستصحاب في ناحية عدمها مجال. فقد يستظهر ذلك من قوله سبحانه (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ)(١) بدعوى ان التذكية من الامور العرفية الثابت لها قيود شرعا ، فمع صدق العنوان في حيوان يحكم بحلية أكل لحمه نظير ذلك بخطاب حلّ البيع أو غيرها من العناوين العرفية التي جعلت موضوعات للأحكام الشرعية.

والحاصل أن التذكية لها معنى عرفي فيحمل عليه قوله سبحانه : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) غاية الأمر قد ثبتت لها بعض القيود شرعا ومع صدق العنوان على ذبح حيوان يكون الإطلاق متبعا فيه.

وفيه أن التذكية في الحيوان اعتبار شرعي في الحيوان ولم يثبت أن معناها العرفي موضوع للحكم بالحلية مع قوله سبحانه (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) استثناء عما نهى قبل ذلك من (الْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ ،)(٢) والظاهر أنه بيان للسبب الذي يجوز معه أكل الحيوان المحلل أكله نظير قوله سبحانه : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ ،)(٣) وقوله : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ)(٤) لا في مقام بيان تمييز الحيوانات التي يحل أكل لحمها بعد التذكية والتي لا يحل أكلها ولو بعد التذكية.

في الشك في تذكية الحيوان

والثالثة : نعم يمكن استظهار قابلية كل حيوان ذي جلد للتذكية من بعض

__________________

(١) سورة المائدة : الآية ٣.

(٢) سورة المائدة : الآية ٣.

(٣) سورة الأنعام : الآية ١١٨.

(٤) سورة المائدة : الآية ٤.

٣١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

الروايات كصحيحة على بن يقطين قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام «عن لباس الفراء والسمور والفنك وجميع الجلود قال : لا بأس بذلك» (١) ، فإنها بضميمة ما دلّ على النهي عن الانتفاع بالميتة تكون دالة على قبول كل حيوان ذي جلد للتذكية ، وكذا يستفاد قابلية السباع لها من موثقة سماعة قال : «سألته عن جلود السباع أينتفع بها؟ قال : إذا رميت وسميت فانتفع بجلده ، وأما الميتة فلا» (٢).

وعلى الجملة : إذا أمكن استظهار كون الحيوان المزبور في المقام قابل للتذكية وسقط الاستصحاب في ناحية عدمها ، يحكم بكونه محلل الأكل أخذا بحديث الرفع و : «كل شيء حلال حتى تعرف أنه حرام» وإلّا فمقتضاه عدم كون الحيوان مذكى فلا يجوز أكل لحمه ، نعم لا يحكم بنجاسته فإن الاستصحاب في ناحية عدمها لا يثبت أنه ميتة ، والنجاسة مترتبة في الأدلة على الميتة لا على عدم كون الحيوان مذكى ، هذا كله في الشبهة الحكمية فيما إذا شك في قبول الحيوان التذكية ، وأما إذا أحرز كون حيوان قابل للتذكية وشك في كونه محلل الأكل أو محرم الأكل بالشبهة الحكمية فلا بأس بأكل لحمه وشحمه أخذا في الاستصحاب في ناحية جعل عدم الحرمة له بعد ذبحه وتذكيته ، ودعوى أن هذا الاستصحاب معارض بالاستصحاب في عدم جعل الحلية لأكل لحمه فقد تقدم عدم المعارضة حيث لا يلزم من الاستصحابين مخالفة عملية للتكليف المعلوم بالإجمال ، وعلى تقدير المعارضة يرجع في احتمال حرمة أكل لحمه بحديث الرفع ونحوه مما يكون مقتضاه الترخيص

__________________

(١) وسائل الشيعة ٤ : ٣٥٢ ، الباب ٥ من أبواب لباس المصلي ، الحديث الأول.

(٢) وسائل الشيعة ٣ : ٤٨٩ ، الباب ٤٩ من أبواب النجاسات ، الحديث ٢.

٣١٤

كما يأتي تحقيقه فلا تجري ـ مثلا ـ أصالة الإباحة في حيوان شك في حليته مع الشك في قبوله التذكية ، فإنه إذا ذبح مع سائر الشرائط المعتبرة في التذكية ، فأصالة عدم التذكية تدريجه فيما لم يذك وهو حرام إجماعا ، كما إذا مات حتف أنفه ، فلا حاجة إلى إثبات أن الميتة تعم غير المذكى شرعا ، ضرورة كفاية كونه

______________________________________________________

في الارتكاب.

كما أنه لا مجال لدعوى أن مقتضى الاستصحاب في المفروض عدم جواز أكل لحمه وشحمه لأنّ الحيوان يحرم أكله حال حياته ، ويحتمل بقاء تلك الحرمة بعد تذكيته أيضا ، والوجه في عدم المجال أن حرمة أكل لحمه وشحمه لكون المقطوع من الحيوان حتى إذا كان محلل الأكل لكونه من الجزء المبان من الحي ، وحرمة أكل الحيوان حيا فيما إذا أمكن كالسمك الصغار لم تثبت حرمته ، وعلى تقدير الإغماض وحرمة التسليم فالاستصحاب في بقاء الحرمة معارض بالاستصحاب في عدم جعل الحرمة لأكل لحمه بعد تذكيته.

ولا فرق في الرجوع بأصالة عدم جعل الحرمة لأكل لحم الحيوان وشحمه بعد إحراز كونه قابلا للتذكية وكونه مذكى والشك في حليته وحرمته بين أن تكون الشبهة حكمية أو موضوعية ، بل يجري في الشبهة الموضوعية أصالة الحل التي استظهرنا من رواياتها عدم عمومها للشبهة الحكمية ، فقد ذكرنا الحكم في الصور الثلاث.

وأمّا الصورة الرابعة : وهي ما إذا احرز أن الحيوان كان قابلا للتذكية ويشك في بقائه على القابلية بالشبهة الحكمية ، كما إذا لم يحرز أن الجلل في الحيوان يوجب ارتفاع قابليته للتذكية أم لا ، ففي هذه الصورة يجري الاستصحاب في بقائه على ما كان بلا فرق بين القول باعتبار الاستصحاب في الشبهات الحكمية أو قيل بعدم اعتباره للمعارضة أو لحكومة الاستصحاب في عدم الجعل على الاستصحاب في

٣١٥

.................................................................................................

______________________________________________________

بقاء المجعول ، وذلك لأنّ القابلية على تقدير اعتبارها في التذكية جزءا أو شرطا أمر تكويني يشك في بقائها وبضمها إلى سائر ما يعتبر في التذكية وجدانا يتم الموضوع لطهارة الحيوان وحلّه.

وقد يقال : بكون القابلية شرطا لا جزءا من تذكية الحيوان ، فإن التذكية فعل الفاعل في ظاهر الخطابات كما في قوله سبحانه (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) حيث إن ظاهر إسناد التذكية إلى الفاعلين ، وقوله عليه‌السلام في موثقة ابن بكير : «ذكّاه الذبح» (١) وقوله عليه‌السلام في جواب من سأله «أو ليس مما ذكّي بالحديد ، قال : بلى» (٢) ، ولكن لا يمكن المساعدة عليه فإنه يمكن إسناد السبب إلى شخص إذا كان تمامه بفعله كما يمكن إسناد المسبب إليه إذا كان سببه أو تمام سببه بفعله.

الصورة الخامسة : ـ ولم يتعرض لها الماتن قدس‌سره ـ ما إذا شك في اعتبار شيء في التذكية من غير جهة القابلية لها ، كما إذا شك في أن الذبح بالحديد معتبر فيها أو أنها تحصل بغير الحديد أيضا ، ومع ثبوت الإطلاق لرفع هذا الشك فهو ، وإلّا فقد يتوهم جريان أصالة البراءة في شرطية الحديد أو قيديته يمنع من جريان الاستصحاب في ناحية عدم التذكية إذا ذبح بغير الحديد ، ولكن لا يخفى أنه لا مورد في المفروض في هذه الصورة لا لأصالة البراءة ولا لاستصحاب عدم التذكية ، وأما عدم جريان الاستصحاب في عدم التذكية للشك في معناها الاعتباري فإن المقام داخل في الشبهة المفهومية ، وأما عدم جريان أصالة البراءة في اعتبار قيدية الحديد فإن اعتبار

__________________

(١) وسائل الشيعة ٤ : ٣٤٥ ، الباب ٢ من أبواب لباس المصلي ، الحديث الأول.

(٢) المصدر السابق : الحديث ٢.

٣١٦

مثله حكما ، وذلك بأن التذكية إنما هي عبارة عن فري الأوداج الأربعة مع سائر شرائطها ، عن خصوصية في الحيوان التي بها يؤثر فيه الطهارة وحدها أو مع الحلية ، ومع الشك في تلك الخصوصية فالأصل عدم تحقق التذكية بمجرد الفري بسائر شرائطها ، كما لا يخفى.

نعم لو علم بقبوله التذكية وشك في الحلّية ، فأصالة الإباحة فيه محكمة ، فإنه حينئذ إنما يشك في أن هذا الحيوان المذكّى حلال أو حرام ، ولا أصل فيه إلّا أصالة الإباحة ، كسائر ما شك في أنه من الحلال أو الحرام.

______________________________________________________

التذكية لفري الأوداج بالحديد مقطوع ، والشك في اعتبارها في فريها بغير الحديد ، وبتعبير آخر إذا كان الحكم انحلاليا وشك في اعتبار قيد لموضوعه الانحلالي فمع عدم الإطلاق ـ كما هو المفروض ـ يثبت الحكم للأفراد الواجدة لذلك القيد ، وجعله على الأفراد الفاقدة غير محرز ، والأصل عدم جعله واعتبار التذكية يدخل في اعتبار الحكم الانحلالي وجعله ولا يقاس المقام بتردد متعلق التكليف بين المطلق والمقيد حيث تجري فيه أصالة البراءة عن تعلقه بالمقيد حيث إن الوجوب يتعلق بصرف الوجود من الطبيعي لا بشرط أو بالطبيعي المقيّد.

بقي في المقام أمر وهو أن الموضوع للنجاسة هو الميتة والمراد منها مقابل المذكى ، والمذكى هو ما استند موته إلى التذكية فيكون المراد من الميتة ما استند موته إلى غير التذكية ، والاستصحاب في موارد جريان عدم تذكية الحيوان يحرز كونه غير مذكى فلا يجوز أكل لحمه وشحمه ، ولا يجوز لبس جلده ونحوه في الصلاة ؛ لأنّ المذكى موضوع لجواز الأكل وجواز اللبس في الصلاة ، وحيث إن الاستصحاب لا يثبت استناد موته إلى غير التذكية فيرجع في طهارته إلى أصالة الطهارة بل إلى عدم كونه ميتة.

٣١٧

هذا إذا لم يكن هناك أصل موضوعي آخر مثبت لقبوله التذكية ، كما إذا شك ـ مثلا ـ في أن الجلل في الحيوان هل يوجب ارتفاع قابليته لها ، أم لا؟ فأصالة قبوله لها معه محكمة ، ومعها لا مجال لأصالة عدم تحققها ، فهو قبل الجلل كان يطهر ويحل بالفري بسائر شرائطها ، فالأصل أنه كذلك بعده.

ومما ذكرنا ظهر الحال فيما اشتبهت حليته وحرمته بالشبهة الموضوعية من الحيوان ، وأن أصالة عدم التذكية محكمة فيما شك فيها لأجل الشك في تحقق ما اعتبر في التذكية شرعا ، كما أن أصالة قبول التذكية محكمة إذا شك في طروء ما يمنع عنه ، فيحكم بها فيما أحرز الفري بسائر شرائطها عداه ، كما لا يخفى ، فتأمل جيدا.

______________________________________________________

أقول : قد ذكرنا في بحث الفقه أنه لا بد من رفع اليد عن هذه القاعدة في الحيوان الذي تكون تذكيته بالذبح أو النحر ، فمع جريان الاستصحاب في عدم تذكيته يحكم بنجاسته وتفصيل الكلام في بحث نجاسة الميتة.

وربما يقال : إن الموضوع للنجاسة كحرمة الأكل وعدم جواز الصلاة هو غير المذكى لا عنوان الميتة ، ويستظهر ذلك من رواية قاسم الصيقل حيث ورد فيها «فإن كان ما تعمل وحشيا ذكيا فلا بأس» (١) والمراد بنفي البأس الطهارة ، والمفهوم أنه إن لم يكن ما تعمل ذكيا فما تعمل نجس وعليه فالاستصحاب في عدم التذكية يثبت أنه نجس.

وفيه أنّه مع الغمض عن ضعفها سندا لا دلالة لها على أن الموضوع للنجاسة عدم كون الحيوان مذكى ، فإن القضية الشرطية فيها مفروضة في كلام السائل ونفي البأس

__________________

(١) وسائل الشيعة ٣ : ٤٨٩ ، الباب ٤٩ من أبواب النجاسات ، الحديث الأول.

٣١٨

الثاني : أنه لا شبهة في حسن الاحتياط شرعا وعقلا [١].

______________________________________________________

فيها عن الصلاة مع إصابة الثوب ليس لها مفهوم ، بل هي في مقابل ما فرضه السائل من عمله قبلا من جلود الحمر الميتة وكتابة ذلك إلى أبيه عليه‌السلام وأمره باتخاذ الثوب الآخر لصلاته ، ومقتضى الجواب لا يلزم اتخاذ الثوب الآخر مع العمل من جلود الحمر الوحشية الذكية ، وإلّا فلم يكن لأخذ قيد الوحشية في الجواب وجها كما لا يخفى.

في جريان الاحتياط في العبادات

[١] لا ينبغي التأمل في حسن الاحتياط شرعا وعقلا فإنه ورد الترغيب والإرشاد إليه في الخطابات الشرعية واستقل العقل بأن الاحتياط يوجب استحقاق الثواب للإطاعة أو الانقياد في الشبهات الحكمية والموضوعية التحريمية والوجوبية في العبادات وغيرها ، ولكن ربما يشكل في إمكان الاحتياط في العبادات في الشبهة الوجوبية فيما دار أمر العبادة بين الوجوب وغير الاستحباب ، والوجه في الاشكال أن الاحتياط في الشبهة الوجوبية يتحقق بالإتيان بالواجب الواقعي على تقديره بتمام قيوده والامور المعتبرة فيه ، غير أنه لا يعلم وجوبه واقعا ، وهذا لا يتحقق في الشبهة الوجوبية في العبادة المشار إليها ؛ لأنّ من القيود المعتبرة في العبادة قصد التقرب عند الإتيان بالمعنى المتقدم في بحث التعبدي والتوصلي أي الإتيان بها بداعي الأمر بها ، وهذا لا يمكن إلّا إذا تردد أمر العبادة بين الوجوب والاستحباب ، حيث يؤتى بالفعل بداعي ذلك الأمر الواقعي وإن لم يعلم أنه الوجوب أو الاستحباب ، وأما مع عدم إحراز الأمر بها أصلا ـ كما في تردد أمرها بين الوجوب وغير الاستحباب ـ فلا يمكن الإتيان بها بداعوية الأمر ، بل أقصاه الإتيان بها بداعوية احتمال الأمر.

وقد اجيب عن هذا الإشكال بإمكان الإتيان بها المحتمل كونها واجبة واقعا بداعوية الأمر بالاحتياط ، حيث إن حكم العقل بحسن الاحتياط كاشفا بنحو اللم عن

٣١٩

في الشبهة الوجوبية أو التحريمية في العبادات وغيرها ، كما لا ينبغي الارتياب في استحقاق الثواب فيما إذا احتاط وأتى أو ترك بداعي احتمال الأمر أو النهي.

وربما يشكل في جريان الاحتياط في العبادات عند دوران الأمر بين الوجوب وغير الاستحباب ، من جهة أن العبادة لا بد فيها من نية القربة المتوقفة على العلم بأمر الشارع تفصيلا أو إجمالا.

وحسن الاحتياط عقلا لا يكاد يجدي في رفع الإشكال ، ولو قيل بكونه موجبا لتعلق الأمر به شرعا ، بداهة توقفه على ثبوته توقف العارض على معروضه ، فكيف يعقل أن يكون من مبادئ ثبوته؟

وانقدح بذلك أنه لا يكاد يجدي في رفعه أيضا القول بتعلق الأمر به من جهة ترتب الثواب عليه ، ضرورة أنه فرع إمكانه ، فكيف يكون من مبادئ جريانه؟

هذا مع أن حسن الاحتياط لا يكون بكاشف عن تعلق الأمر به بنحو اللّم ، ولا ترتب الثواب عليه بكاشف عنه بنحو الإنّ ، بل يكون حاله في ذلك حال الإطاعة ،

______________________________________________________

مطلوبيته شرعا ، كما أن ترتب الثواب عليه كاشف عن تلك المطلوبية بنحو الإن ، وقد أشار الماتن قدس‌سره إلى هذا الجواب وردّه بأن حسن الاحتياط لا يجدي في رفع الإشكال ؛ وذلك فإن تعلق الأمر الاستحبابي بالاحتياط لا يصحح انطباق عنوان الاحتياط على ما لا يكون عنوانه منطبقا عليه بدون ذلك الأمر ، فإن الأمر المتعلق بعنوان نظير العرض من معروضه ، وكما أن المعروض لا يتمكن أن يتوقف في حصوله على عارضه وإلّا لدار ؛ لتوقف العارض في حصوله على المعروض ، كذلك انطباق متعلق الأمر على عمل لا يمكن أن يتوقف على سراية الأمر به إلى ذلك العمل الخارجي ، بل يعتبر أن ينطبق متعلق الأمر عليه مع قطع النظر عن ذلك الأمر

٣٢٠