دروس في مسائل علم الأصول - ج ٤

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-94850-6-5
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٤٣

فصل

لو شك في وجوب شيء أو حرمته ولم تنهض عليه حجّة ، جاز شرعا وعقلا ترك الأول وفعل الثاني [١].

______________________________________________________

من هذا الوصول ، والعقاب على مخالفة التكليف الواقعي يكون من العقاب بلا بيان ، ولا يقاس ذلك بموارد عدم القدرة على متعلق التكليف ، فإن التكليف معه قبيح ، وحكمه بقبح خطاب العاجز وتكليفه أجنبيّ عن قبح العقاب بلا بيان ، ومع الإغماض عن ذلك فدوران أمر الفعل بين الوجوب والحرمة لا يمنع من الرجوع إلى أدلّة البراءة الشرعية في ناحية احتمال كل من الوجوب والحرمة ؛ لأنّ عدم جريان الاصول النافية في أطراف العلم الإجمالي بالتكليف للزوم الترخيص في المخالفة القطعية للتكليف الواصل بين الأطراف ، وهذه المنافاة لا تحصل مع دوران الأمر بين المحذورين لعدم الوصول في التكليف الواقعي بحيث يدخل الفرض في الفرض الملحوظ عند جعل التكليف.

أصالة البراءة

[١] إذا علم عدم حرمة فعل ودار أمره بين كونه واجبا أو مباحا بالمعنى الأعم ، أو علم عدم وجوبه ودار أمره بين كونه حراما أو مباحا أو احتمل حرمة الأول ووجوب الثاني أيضا ، بأن دار أمره بين كونه واجبا أو حراما أو مباحا ، فالأقسام الثلاثة كلها مجرى أصالة البراءة عقلا ونقلا من غير فرق بين أن يكون منشأ الشك فقد النص أو إجماله أو تعارضه ، فيما إذا كان المتعارضان من غير الأخبار ، وأما إذا كانا خبرين فلا مورد لأصالة البراءة إذا كان لأحد الخبرين ترجيح ، أي يكون فيه مزية اعتبرها الشارع بجعل الخبر المشتمل لها حجّة ، فإنّه مع الدليل على الحكم الواقعي لا تصل

٢٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

النوبة إلى الأصل العملي ، بل مع عدم المزية لأحدهما أيضا لم يكن مجال لأصالة البراءة إذا قيل بالتخيير بين الخبرين المتعارضين لإمكان الوصول إلى الحجة المعتبرة وإحراز الواقع باختيار المكلف أحد الخبرين ، وما في كلام الماتن قدس‌سره لمكان وجود الحجة المعتبرة وهو أحد الخبرين لا يساعد على إرادة ما ذكرنا ، فإن شيئا من الخبرين المتعارضين لا يكون حجة في مدلوله المطابقي قبل الأخذ ، بل في مدلوله الالتزامي أيضا على ما يأتي بيانه في بحث التعادل والتراجيح.

ثم إنه قد ذكر الشيخ العراقي وبعض الأعلام أن مورد الخلاف بين المجتهدين هو أن الشبهات الحكمية التحريمية أو حتى الوجوبية أيضا سواء كانت الشبهة ناشئة من فقد الخطاب للحكم الواقعيّ أم من إجماله أو تعارضه من صغريات قاعدة قبح العقاب بلا بيان أم من صغريات قاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل بعد اتفاق الفريقين على كلا الكبريين ، ولا شبهة أيضا أنه لو جرت في مورد قاعدة قبح العقاب بلا بيان لكانت واردة على قاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل ، حيث لا يبقى مع جريانها فيه احتمال الضرر.

وبتعبير آخر كل من الكبريين لا يثبت موضوعها في مورد كما هو شأن كل ما يكون بمفاد القضية الحقيقية ، وإذا أحرز في مورد عدم البيان فيه للتكليف الواقعي وترتب عليه الحكم بقبح العقاب ينتفي الموضوع في كبرى قاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل.

وعلى الجملة يدعي الأخباري أن العلم الإجمالي بالتكاليف في الوقائع يوجب احتمال العقاب في ارتكاب الواقعة المشتبهة بالشبهة الحكمية ، فعلى المجتهد بيان انحلال هذا العلم الإجمالي أو إثبات أن الواقعة المشتبهة بعد الفحص

٢٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

عن مدرك التكليف فيها وإحراز عدم ثبوته فيها تجعل تلك الواقعة خارجة عن أطراف العلم الإجمالي بثبوت التكاليف في الوقائع.

وأيضا على المجتهد بيان أنه لم يرد من الشارع الإيجاب المولوي الطريقي بالاحتياط في المشتبهات بالشبهة الحكمية ولا يحسب تمسك المجتهد للبراءة في الشبهات التحريمية وغيرها بكبرى قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، أو بالخطابات من الآية والروايات التي بمضمون القاعدة استدلالا على موضع النزاع والخلاف من الطرفين ، كما أن استدلال الطرف الآخر للاحتياط في الشبهات بكبرى قاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل وما هو بمفادها من الأخبار لا يكون استدلالا على محط البحث من الطرفين.

وقد ظهر أنه لا مجال للاستدلال على البراءة في الشبهات الحكمية بالأدلة الأربعة ، وجعل حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان دليلا عقليا لها إذا الأخباري لا ينكره ، وإنما ينكر صغراه ، بل يتعين على القائل بالبراءة فيها إثبات الصغرى بنفي تنجيز العلم الإجمالي بإثبات انحلاله أو خروج الواقعة بعد الفحص واليأس عن الظفر بالدليل على التكليف فيها عن أطرافه ، وقيل إثبات هذا الانحلال لا يفيد التشبث بالخطابات الشرعية الدالة على الترخيص في الشبهات ، فإن هذه الخطابات لا تفيد في الانحلال ، ولذا لا يمكن الأخذ بها في أطراف العلم الإجمالي بالتكليف في الشبهات الموضوعية ، وإنما يصح التمسك بها لنفي الإيجاب الشرعي المولوي الطريقي في الشبهة البدوية الذي يدعيه الأخباري استظهارا من بعض الخطابات ، كالأخبار الدالة على التوقف في الشبهات والأخذ بالاحتياط فيها.

كما ظهر أنه لا يمكن أيضا الاستدلال على البراءة بالإجماع ، ووجه الظهور احتمال اتكالهم في حكمهم بالبراءة فيها على انحلال العلم الإجمالي المزبور وبعد

٢٤٣

وكان مأمونا من عقوبة مخالفته ، كان عدم نهوض الحجة لأجل فقدان النص أو إجماله ، واحتماله الكراهة أو الاستحباب ، أو تعارضه فيما لم يثبت بينهما ترجيح ، بناء على التوقف في مسألة تعارض النصين فيما لم يكن ترجيح في البين.

______________________________________________________

انحلاله تكون الشبهة من صغريات قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

أقول : إذا فرضنا انحلال العلم الإجمالي بالتكاليف ، أو خروج الواقعة التي فحص المجتهد عن الدليل فيها على التكليف الواقعي فلم يظفر به عن أطراف العلم الإجمالي فلا يكفي ذلك في جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان فيها حتى مع فرض عدم ثبوت الاحتياط الشرعي بالأخبار التي تمسك بها الأخباريون ، بل لا بد من إثبات أن احتمال التكليف الواقعي بنفسه بعد الفحص عن الدليل عليه وعدم الظفر به لا يدخل في البيان ، ووصول التكليف مع عدم ثبوت الاحتياط الشرعي في تلك الواقعة لتكون صغرى لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وبتعبير آخر البيان في قاعدة قبح العقاب بلا بيان لا يعم هذا الاحتمال مع عدم ثبوت الاحتياط الشرعي.

والحاصل يقع الكلام في جهتين.

الاولى : ثبوت البراءة العقلية في الشبهات الحكمية التحريمية والوجوبية ولو في الجملة في مقابل الأخباري الذي ينكر ثبوتها مطلقا أو في الشبهات التحريمية.

والثانية : في أن البراءة الشرعية أوسع من البراءة العقلية بأن تجري البراءة الشرعية في موارد لا مجرى فيها للبراءة العقلية ، وما في عبارة الماتن من أنه : «لو شك في وجوب شيء أو حرمته ولم تنهض عليه حجة جاز شرعا وعقلا ترك الأول وفعل الثاني» ، مقتضاه أن احتمال التكليف بعد الفحص عن الدليل عليه وعدم الظفر به لا يكون بنفسه منجزا ، ويستدل على ذلك بالأدلة الأربعة.

٢٤٤

وأما بناء على التخيير ـ كما هو المشهور ـ فلا مجال لأصالة البراءة وغيرها ، لمكان وجود الحجة المعتبرة ، وهو أحد النصين فيها ، كما لا يخفى ، وقد استدلّ على ذلك بالأدلة الأربعة :

أما الكتاب : فبآيات أظهرها قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [١].

______________________________________________________

[١] قد ذكر الماتن قدس‌سره أنه يستدل على البراءة في المشتبهات بالشبهة الحكمية البدوية بآيات أظهرها بحسب مقام الاستدلال قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(١) حيث قال الشيخ قدس‌سره : إن الآية إخبار بعدم وقوع العذاب في الامم السابقة قبل وصول التكليف ، وبيان التكاليف عليهم ببعث الرسل ، وبما أن الأخباري القائل بالتوقف ووجوب الاحتياط في الشبهات الحكمية يلتزم بالملازمة بين عدم وقوع العذاب وعدم استحقاقه ، فيكون المستفاد من الآية عدم استحقاق العقاب على مخالفة التكليف قبل بيانه ووصوله إلى العباد ، وأورد عليه الماتن بوجهين.

الأول : أنّه على فرض تسليم الأخباري بالملازمة بين عدم فعلية العقاب وعدم استحقاقه يكون الاستدلال على البراءة جدليا يقصد به إسكات الخصم ولا يثبت به جواز الارتكاب ، الثاني : أن الأخباري لا يلتزم بالملازمة ليكون الإخبار بعدم وقوع العذاب كاشفا عنده عن عدم استحقاقه ، كيف فإنّ الشبهات عنده لا تزيد على المحرمات والواجبات ، والأخباري لا ينكر عفوه سبحانه وعدم مؤاخذة العبد بالعذاب على ارتكابه الحرام أو ترك الواجب فعدم الوقوع فيهما لا يقتضي نفي الاستحقاق فكيف بالمشتبهات.

وأورد الشيخ قدس‌سره على الاستدلال على البراءة بالآية بوجه آخر ، وهو أنّ الإخبار

__________________

(١) سورة الإسراء : الآية ١٥.

٢٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

عن الامم السابقة بعدم استحقاقهم العذاب الدنيوي قبل البيان لا يلازم عدم الاستحقاق بالإضافة إلى العقاب الاخروي الذي هو مورد الكلام في المقام.

واجيب عن هذا الإيراد بأن العذاب الدنيوي أخف وأهون بالإضافة إلى العقاب الاخروي ، وإذا لم يكن العبد مستحقا لعذاب دنيوى مع عدم بيان التكليف وإيصاله إليه فلا يستحق العذاب الاخروي بالأولوية ، وقال : الوجه في دلالة الآية على نفي الاستحقاق بأن التعبير بجملة ما كان وما كنا وأمثالهما يدلّ بمقتضى الفهم العرفي على أن الفعل لا يليق بالمخبر ولا يناسب صدوره عنه ، ويظهر ذلك باستقراء موارد استعمالاتها كقوله سبحانه : (ما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ)(١) و (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ)(٢) و (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ)(٣) و (ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً)(٤) إلى غير ذلك ، فالفعل الماضي في مثل هذه الموارد منسلخ عن الزمان ، فالمراد أن التعذيب قبل البيان لا يليق بالله سبحانه ولا يناسب حكمته وعدله ، فلا يبقى فرق في عدم الاستحقاق بين العذاب الدنيوي والاخروي حيث إنه لا موجب لعدم لياقة الفعل لله سبحانه مع عدم وصول التكليف إلى العباد إلّا كون العقاب بلا مصحح.

أقول : عدم مناسبة الفعل للفاعل في بعض موارد استعمال الجملة مستفاد من قرينة خارجية وإلّا فمعناها عدم وقوع الفعل فلاحظ موارد استعمالاتها ، نظير قوله

__________________

(١) سورة التوبة : الآية ١١٥.

(٢) سورة آل عمران : الآية ١٧٩.

(٣) سورة الأنفال : الآية ٣٣.

(٤) سورة الكهف : الآية ٥١.

٢٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

سبحانه : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ)(١) وعدم وقوع الفعل أي العذاب الدنيوي بل الاخروي يمكن أن يكون للعفو نظير العفو عن الصغائر إذا اجتنب الشخص عن الكبائر ، ولا يلازم نفي الاستحقاق ، ويمكن أن يكون عدم العذاب قبل بعث الرسل حتى بالإضافة إلى الأفعال التي قبحها عقلي مع كون العذاب الدنيوي أهون من جهة إعطاء الفرصة لعلّهم يرتدعون عند مجيء الرسول وتأكيد النهي عنها من قبله ، وهذا لا يلازم نفي الاستحقاق ، وقد استدلّ الأخباريون بالآية على نفي الملازمة بين حكم العقل والشرع بدعواهم عموم الآية حتى بالإضافة إلى المستقلات العقلية ، واورد على استدلالهم بأن الآية تدلّ على عدم الوقوع لا على نفي الاستحقاق ، فيمكن أن يكون عدم تعذيبهم حتى بالإضافة إلى تلك المستقلات العقلية للرأفة وإعطاء الفرصة في الارتداع إلى مجيء النبي من الله عزوجل ، والمدّعى في المستقلّات العقلية ثبوت استحقاق العقاب ، ولذا ذكر المحقق القمي قدس‌سره أنه من جمع بين الاستدلال بالآية على البراءة في الشبهات وبين الردّ على الأخباري في استدلاله على نفي الملازمة بين حكم العقل والشرع ، فقد جمع بين المتناقضين ، حيث إن مقتضى الردّ عليهم عدم دلالة الآية على نفي الاستحقاق ، والاستدلال بها على البراءة مقتضاه دلالتها على نفي الاستحقاق ، واستظهر الشيخ قدس‌سره من استدلال الأخباري بالآية على نفي الملازمة أنهم يلتزمون بين نفي وقوع العذاب ونفي الاستحقاق به ، واستدل بها على البراءة على مسلكهم في الشبهات التحريمية ، بدعوى أن بعث الرسول كناية عن وصول التكليف حيث يكون في الغالب وصوله

__________________

(١) سورة الأنفال : الآية ٣٣.

٢٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

إلى العباد بابلاغ النبي ، فمفاد الآية أن الله سبحانه لم يكن يعذّب قوما قبل وصول التكليف إليهم ، وإذا لم يكن في البين استحقاق العقاب كما يعترف به الأخباري تكون النتيجة عدم استحقاق العقاب على مخالفة تكليف لم يصل إلى العبد ، وهذا مفاد أصالة البراءة في الشبهة البدوية التحريمية والوجوبية بعد الفحص وعدم الظفر بالدليل عليه.

ولكن لا يخفى أن ظاهر الآية أنه ما لم يكن إبلاغ الرسل لم يكن عذاب ، ولا يعم وصول التكليف من طريق العقل ، فالصحيح في الرد على الأخباري أن نفي الوقوع لا يدلّ على عدم الاستحقاق.

والمتحصل أنه إذا لم يكن للآية دلالة على نفي الاستحقاق كما ذكرنا فلا يصح الاستدلال بها على البراءة في الشبهات ، وعلى تقدير الإغماض عن ذلك فلا يكون مفادها بحيث تنفي وجوب التوقف والاحتياط في الشبهات ، مستظهرا ذلك من الأخبار الواردة في الوقوف عند الشبهة والاحتياط إذا احتمل وجوب الفعل.

ومما ذكر يظهر الحال في الاستدلال على البراءة بقوله سبحان : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها)(١) بناء على أن المراد من الصلة الإعلام والبيان ، فيكون مدلولها أن الله لا يكلف نفسا بتكليف إلّا تكليفا بيّنه وأعلمه ولو بقرينة ما ورد في تفسير الآية حيث أجاب الإمام عليه‌السلام عن كون الناس مكلفين بالمعرفة ، قال : لا ، على الله البيان : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ،) و (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها ،)(٢) ووجه الظهور أن

__________________

(١) سورة الطلاق : الآية ٧.

(٢) الكافي ١ : ١٦٣ ، الحديث ٥.

٢٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

غاية مدلولها هو أن التكليف الذي لا يتمكن العباد من معرفته ، فهذا التكليف مرفوع عنهم ، وأما التكاليف التي بيّنت للناس واختفى بعضها عن بعض الناس بممانعة بعض الظالمين عن وصولها إلى العباد ، مع وصول الأمر إليهم بالاحتياط في موارد احتمالها كما يدعي الاخباري فليس في الآية دلالة على عدم أخذ العباد بها.

وناقش المحقق النائيني أولا : بأن الآية لا دلالة لها حتى على ما تقدم ، فإن المحتملات من الموصول وصلته ، ثلاثة ، الأول : أن يكون المراد بالموصول التكليف ومن الإيتاء الوصول والإعلام ، والثاني : أن يكون المراد من الموصول المال ومن الإيتاء الملك يعني لا يكلف الله نفسا بمال إلّا بعد ملكه ، والثالث : أن يكون المراد مطلق الشيء ومن الإيتاء الإقدار عليه ، يعني لا يكلف الله الناس إلّا بشيء مقدور لهم ، والمعنى الثاني يدخل في الثالث لا الأول ، وذلك فإن تعلّق الفعل أي لا يكلّف الله بالموصول بمعنى التكليف ، تعلّق الفعل بالمفعول المطلق لا المفعول به ؛ لأنّ التكليف لا يتعلق بالتكليف ، وتعلّقه بالمال والشيء من تعلّق الفعل بالمفعول المطلق ولا جامع بين التعلقين ، كما أن المراد من الإيتاء على الأول بمعنى الإعلام وعلى الثاني والثالث بمعنى الإقدار ولا جامع بين الإعلام والإقدار ، ولو لم تكن الآية بالمعنى الثاني والثالث بقرينة ما قبلها فلا أقلّ من عدم ظهورها في المعنى الأول ، ولا دلالة في استشهاد الإمام عليه‌السلام في الرواية بالآية على كون المراد من الصلة الإعلام والمراد من الموصول التكليف ، وذلك فإن المراد من المعرفة في السؤال في الرواية المعرفة التفصيلية بصفات الباري وأحوال الحشر والنشر إلى غير ذلك مما لا يتمكن العباد من معرفته التفصيلية إلّا بعد بيانها للعباد كعدم تمكنهم من الصلاة والحج قبل بيان الشارع اجزاءهما وشرائطهما ، وبما أن الله سبحانه لا يجعل التكليف بما

٢٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

لا يطاق ولا يكلّف الله نفسا إلّا بما أقدرها عليه يكون التكليف بالاعتقاد التفصيلي بعد المعرفة التفصيلية المتوقفة على بيان الشارع ، والقرينة على كون المراد من المعرفة المعرفة التفصيلية أنه لو توقف التكليف بالمعرفة الإجمالية على بيان الله سبحانه لم تحصل الداعوية لذلك التكليف أصلا.

ثم ذكر قدس‌سره أنه يمكن أن يقال إن المراد بالموصول أعم من التكليف وموضوعه ومتعلّقه ، والمراد من الإيتاء معناه العام أي الإعطاء ، فإعطاء التكليف من الله للعباد عبارة عن إيصال بيانه إليهم ، وإعطاء المال لهم إيصاله إليهم بأن يكونوا مالكين وإعطاء الفعل بصيرورتهم قادرين عليه ، وما قيل في الفرق بين المفعول المطلق والمفعول به من أنه يكون لذات المفعول به نحو وجود وتحقق قبل ورود الفعل عليه ، ويكون الفعل موجبا لتحقق وصف له كما في قولك : اضرب زيدا ، وعلى هذا الفرق يبتنى إشكال الزمخشري في قوله سبحانه : (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ) من عدم امكان كون السماوات مفعولا به ؛ لأنه لا وجود للسماوات قبل ورود الخلق عليها ، وعليه لا يمكن جعل الموصول المراد به المفعول به عاما بالإضافة إلى التكليف ، حيث إن قول القائل كلف تكليفا أو لا يكلف تكليفا من المفعول المطلق ، يمكن الجواب عنه ، بأن المفعول المطلق النوعي أو العددي يمكن جعله مفعولا به إذا اريد منه معناه الاسم المصدري ، وذكر في آخر كلامه : ولكن مفاد الآية مع ما ذكر لا يرتبط بالبراءة ؛ لأنّ الكلام في البراءة ما إذا شك في تكليف فعلي بيّنه الشارع ووصل إلى بعض ولم يصل إلينا.

أقول : المتمسك بالآية للبراءة لم يدّع أن مفادها عدم جعل الله سبحانه تكليفا لم يصل بيانه إلى العباد ، فإن كون هذا القسم من التكليف والحكم مما سكت الله عن جعله ولا يحتاج إلى الاستدلال بالآية ولا يرتبط بالبراءة ، فإن الغرض من جعل

٢٥٠

وفيه : إن نفي التعذيب قبل إتمام الحجة ببعث الرسل لعله كان منّة منه تعالى على عباده ، مع استحقاقهم لذلك ، ولو سلم اعتراف الخصم بالملازمة بين الاستحقاق والفعلية ، لما صح الاستدلال بها إلّا جدلا ، مع وضوح منعه ، ضرورة أن ما شك في وجوبه أو حرمته ليس عنده بأعظم مما علم بحكمه ، وليس حال الوعيد بالعذاب فيه إلّا كالوعيد به فيه ، فافهم.

______________________________________________________

الحكم والتكليف كونه داعيا للعباد إلى العمل بعد وصوله إليهم ، وكذا لم تكن دعواه أن مفادها التكليف غير الواصل إلى شخص لم يجعل في حقه ، بل جعل في حق من وصل إليه خاصة ؛ لأنّ هذا الاختصاص في الجعل أمر غير معقول ، حيث إن لازمه أخذ العلم وبيان التكليف في موضوع ذلك التكليف ، ومع ذلك لا يرتبط بالبراءة ، بل المتمسك بها للبراءة يدعي أن المراد من نفي التكليف السؤال عن العمل به والمؤاخذة على مخالفته والمؤاخذة والسؤال عن العمل يكون في حقّ من وصل إليه ذلك التكليف ، وفي هذا المفاد تكون (ما) الموصولة مفعولا به (ما آتاها) بمعنى أعلمها أو معنى يدخل فيه الإعلام والإبلاغ ، والجواب عن هذا الاستدلال يتعين في أمرين ، الأول : أن ظاهر (آتاها) بمعنى أقدرها لا أعلمها وهذا المعنى لا يدخل فيه الإعلام ، والثاني : أن عدم السؤال عن تكليف وعدم المؤاخذة على مخالفته مع عدم إعلامه وبيانه تأكيد للبراءة العقلية المعبّر عنها بقبح العقاب بلا بيان ، وقد تقدم أنها لا تفيد في مقابل دعوى الأخباري وصول البيان بأمر الشارع بالتوقف في الشبهات عن الارتكاب والأمر بالاحتياط فيها.

ومما ذكر يظهر أن الآية أظهر في الدلالة على البراءة العقلية من آية (ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ) فإن الأخبار بعدم المؤاخذة تعم كل مكلف بخلاف الآية السابقة فإنها كانت بالإضافة إلى العذاب الدنيوي في الامم السابقة.

٢٥١

وأما السنة : فبروايات منها : حديث الرفع حيث عدّ «ما لا يعلمون» من التسعة المرفوعة [١] فيه.

______________________________________________________

[١] من الأخبار التي يتمسك بها على البراءة في الشبهات الحكمية ما ورد في حديث الرفع المروي في الخصال بسند لا بأس به من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله رفع عن امتي تسعة ، إلى أن قال : وما لا يعلمون (١).

وقد أورد الشيخ قدس‌سره على الاستدلال به بما حاصله ، أن المراد من الموصول في فقرة «ما لا يعلمون» بقرينة أخواتها الفعل ، والفعل في كل من الشبهة الحكمية والموضوعية وإن كان مجهولا ، إلّا أن نسبة عدم العلم إليه في الشبهة الحكمية باعتبار حكمه لا باعتبار نفسه بخلاف الشبهة الموضوعية ، فإن الجهل فيها في نفس الفعل بأن لا يعلم مثلا أن شرب هذا ، شرب الخمر أو الخل ، وحيث إن ظاهر الحديث كما هو في كل وصف أنه بلحاظ نفس الموصوف لا متعلّقه يكون الجهل في «ما لا يعلمون» بلحاظ نفس الفعل والحكم في الشبهات الحكمية وإن يكن بنفسه مما لا يعلم ، إلّا أن إرادته مع الفعل يستلزم استعمال الموصول في المعنيين.

والحاصل أن الأمر يدور بين أن يكون المراد من الموصول الفعل أو الحكم ، وبما أن السياق قرينة على إرادة الفعل ينحصر مدلول الحديث على البراءة في الشبهة الموضوعية.

أقول : ليس ببالي أن هذا الإشكال مذكور في كلام الشيخ ولا يخفى ما فيه ، فإن (ما) الموصولة لم تستعمل في فقرات الحديث إلّا في معنى واحد وتختلف بعد تقييدها ، حيث إنها بعد ذكر الصلة لا تنطبق إلّا على الأفعال كما في «ما اضطروا إليه

__________________

(١) الخصال : ٤١٧ ـ باب التسعة ، الحديث ٩.

٢٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وما استكرهوا عليه» ، وتنطبق على الفعل والموضوع والحكم كما في «ما لا يعلمون» ، وانطباق المعنى على الفعل والحكم ليس من استعمال اللفظ في معنيين ولا مورد لدعوى استعمال الموصول في معنى الفعل بقرينة سائر فقرات الحديث ، وظاهر الماتن أنه طبق «ما لا يعلمون» على التكليف المجهول في الشبهات بلا فرق بين الحكم الجزئي المجهول كما في الشبهات الموضوعية أو الحكم الكلي كما في الشبهات الحكمية.

نعم قد يقال : إن إسناد الرفع إلى «ما اضطروا إليه وما استكرهوا عليه والخطأ» إسناد مجازي ؛ لأنّ الفعل الاضطراري أو الإكراهي أو الخطأ وغيره واقع خارجا فلا بدّ من أن يكون المراد رفع الأثر والحكم والمؤاخذة ، ومقتضى وحدة السياق أن يكون المرفوع أيضا في «ما لا يعلمون» بنحو الإسناد المجازي هو أثر الفعل والمؤاخذة عليه ، فيختص مدلولها بالشبهة الموضوعية ، فإن استحقاق العقوبة يترتب على ارتكاب الفعل ولا يكون من المترتب على نفس التكليف والإلزام.

ولكن لا يخفى ما فيه ، فإن رفع ما اضطروا إليه وما استكرهوا عليه والخطأ وغيرها ليس رفعا تكوينيا بل المراد رفعها في مقام التشريع ، والرفع في مقام التشريع عبارة عن جعل الحكم والتكليف مضيقا بحيث لا يثبت الحكم المجعول والتكليف ما يصدر عنه الإكراه والاضطرار ، فالفعل المضطر إليه أو المستكره عليه أو الصادر عن الخطأ لا يكون متعلقا للحرمة ، وهكذا ، وحيث إن الرفع الواقعي في مقام التشريع بالإضافة إلى «ما لا يعلمون» غير ممكن في الشبهات الحكمية وغير واقع في الشبهات الموضوعية ، يكون الرفع الحقيقي بالإضافة إلى «ما لا يعلمون» رفعا ظاهريا ، والرفع الظاهري عبارة إما عن عدم فعلية التكليف الواقعي كما هو مسلك

٢٥٣

.................................................................................................

______________________________________________________

الماتن ومن تبعه ، وإما عبارة عن الترخيص الظاهري في الارتكاب في الشبهات التحريمية والترك في الشبهات الوجوبية بناء على ما تقدم من عدم المنافاة بين الحكم الظاهري الطريقي الترخيصي مع التكليف الواقعي في فرض عدم وصوله ، فالرفع الظاهري في «ما لا يعلمون» حقيقي ، والقرينة على عدم إرادة النفي الحقيقي الواقعي في الشبهات الحكمية هو أن الحكم الواقعي والتكليف الواقعي لا يمكن أن يتقيد بصورة العلم ، كما أن الأخبار الواردة في وجوب تعلم الأحكام قرينة خارجية على عموم الأحكام الواقعية والمجعولة في الشريعة وثبوتها حتى في فرض الجهل بها ، وكذا في الأمر بالاحتياط والتوقف في الشبهات الشامل بإطلاقها أو عمومها للشبهات الموضوعية قرينة على أن الرفع في «ما لا يعلمون» حتى في الشبهات الموضوعية رفع ظاهري ، بل نفس ما ورد في الشبهة الموضوعية من الترخيص في الارتكاب صريحة في ثبوت الحكم والتكليف بها واقعا مع الترخيص الظاهري ، نظير قوله عليه‌السلام «كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبدا حتى تعرف الحرام» (١) ، و «كل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر» (٢) ، فإن فرض العلم بالحرمة أو القذارة ظاهره فرض ثبوتهما مع مصادفة احتمالهما مع قطع النظر عن العلم بهما ، أضف إلى ذلك أن الموصول في «ما لا يعلمون» بلحاظ صلته ينطبق على الحكم والتكليف في الشبهات الموضوعية والحكمية ، ويكون رفعها بالترخيص في الارتكاب والترك الملازم لنفي وجوب الاحتياط ، ويترتب على نفيه انتفاء استحقاق العقاب.

وما يقال من أن الرفع يقابل الوضع ويطلق الوضع في موارد كون الموضوع ثقيلا

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٧ : ٨٧ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث الأول.

(٢) مستدرك الوسائل ٢ : ٥٣٨.

٢٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وهو الفعل كما ترى ، فإن الرفع في مقام يقابل الوضع بمعنى الجعل ، وبما أن التكليف في جعله ثقل يوجب تحمل المكلف مشقة الفعل أو الاجتناب ، يكون المراد من الرفع نفي الجعل إما واقعا كما في «ما اضطروا إليه وما استكرهوا عليه» أو ظاهرا كما في «ما لا يعلمون».

وعلى الجملة بما ان الوضع أو الرفع في الحديث بلحاظ مقام الجعل والتشريع يكون الوضع بجعل التكليف والرفع بنفيه كما هو ظاهر ، نعم قد يقال : ظاهر الرفع إزالة الشيء بعد وجوده ، وهذا ينحصر على موارد النسخ ولذا يقال : إن المراد من الرفع في المقام هو الدفع بعدم إيجاب التحفظ والاحتياط أو بلحاظ مقام الإثبات ، حيث يعم الخطاب الأولي لبعض الموارد في بعض فقرات الحديث كالاضطرار والإكراه أو بلحاظ أن التسعة ولو في بعضها كانت موضوعة عن الأمم السابقة.

وعلى الجملة فإسناد الرفع إلى «ما لا يعلمون» لا عناية فيه كما لا عناية في إسناده إلى «ما استكرهوا عليه ، وما اضطروا إليه» بل لو كان المنفي الفعل الاضطراري والإكراهي في التكوين ادعاء لا في مقام التشريع والجعل كما ذكرنا فلا محذور في كون إسناد شيء إلى أمرين ، ويكون إسناده إلى أحدهما حقيقة وإلى الآخر مجازا ، كما في قولك عند سقوط المطر الكثير الشديد يجري النهر والميزاب ، أو يجري الماء والميزاب ، فإن استعمال اللفظ في أكثر من معنى غير إضافة معنى إلى أمرين ، ولا يحتاج في الثاني إلى كون المستعمل أحول العينين ، نعم المراد بالرفع الدفع وعدم الجعل حقيقة.

وقد يقال : باختصاص فقرة «رفع ما لا يعلمون» إلى الشبهات الموضوعية بتقريب أن الرفع في الحديث لم يسند إلى كل واحد واحد من الامور التسعة بنسبة مستقلة ليمكن أن يكون الإسناد في بعضها حقيقيا وفي بعضها بالمجاز ، كما في

٢٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

المثال. بل الرفع اسند إلى عنوان التسعة بنسبة واحدة ، ولا يجوز في النسبة الواحدة إلّا كونها حقيقيا أو مجازيا ، وحيث لا يمكن أن يكون الإسناد في «ما اضطروا إليه وما استكرهوا عليه» حقيقيا ، وأنه لا بد من تقدير الأثر والمؤاخذة يكون الأمر فيما لا يعلمون أيضا كذلك ، ومعه يختص ما لا يعلمون بالشبهة الموضوعية ؛ لأنّ استحقاق العقاب والمؤاخذة يكون على الفعل أو الترك لا على التكليف ، ولكن لا يخفى أن عنوان التسعة انحلالي ومع الانحلال لا يفرق بين ذكر كل واحد من التسعة بنحو الانحلال أو بنحو الاستقلال.

وذكر النائيني قدس‌سره أنه لا عناية في إرادة الدفع من الرفع ، فإن الرفع والدفع بمعنى واحد بناء على ما هو الصحيح من حاجة الممكن إلى العلة في البقاء كما في حاجته إليها في الحدوث ، وأن علة الحدوث بنفسها لا تكفي في البقاء ، فإنه بناء على ذلك يكون الرفع أيضا لمزاحمة المانع لمقتضى الشيء في الأكوان المتجددة ولا يصح إطلاقه إذا كان انتفاء الشيء بانتفاء مقتضيه كما هو الحال في إطلاق الدفع أيضا ، وبتعبير آخر لا يطلق الدفع إلّا إذا كان المانع مزاحما لمقتضي الشيء في تأثيره والحال في الرفع أيضا كذلك ، نعم لو قيل بعدم حاجة الممكن في بقائه إلى علة يكون الرفع مغايرا للدفع ، ولكن هذا القول غير صحيح ، فإسناد الرفع بمعناه الحقيقي إلى «ما لا يعلمون» بلا عناية.

وأورد المحقق العراقي قدس‌سره بأنه لو كان كلمة (رفع) موضوعا لانتفاء الشيء من جهة مانعة أي المانع لمقتضيه يكون الأمر كما ذكره ، حيث يكون لفظ الدفع والرفع مترادفين ، وأما إذا فرض أنه موضوع لانتفاء الشيء من جهة المانع لمقتضيه مع سبق وجوده فتصحيح صدق الرفع على الدفع بتدريجية إفاضة الفيض على الشيء يكون

٢٥٦

فالإلزام المجهول مما لا يعلمون ، فهو مرفوع فعلا وإن كان ثابتا واقعا ، فلا مؤاخذة عليه قطعا.

لا يقال : ليست المؤاخذة من الآثار الشرعية ، كي ترتفع بارتفاع التكليف المجهول ظاهرا ، فلا دلالة له على ارتفاعها.

فإنه يقال : إنها وإن لم تكن بنفسها أثرا شرعيا ، إلّا أنها مما يترتب عليه بتوسيط ما هو أثره وباقتضائه ، من إيجاب الاحتياط شرعا ، فالدليل على رفعه دليل على عدم إيجابه المستتبع لعدم استحقاقه العقوبة على مخالفته.

______________________________________________________

من إثبات اللغة بالعرفان.

أقول : المتبادر من الرفع قطع استمرار الشيء ومن الدفع المنع عن الحدوث فلا بد من أن يكون في استعمال الرفع في مورد الدفع من عناية ، وكأنه قطع الاستمرار ، غاية الأمر بناء على عدم حاجة الممكن في بقائه إلى علة يكون قطع استمرار وجود الشيء بإيجاد القالع والمزيل لوجوده ، وبناء على حاجته إلى العلة في بقائه ـ كما هو الصحيح ـ يكون بإيجاد المانع عن المقتضى لوجوده في الزمان اللاحق ، ولكن هذا في غير الاعتباريات ، فإن ثبوت الأمر الاعتباري بجعله واعتباره سعة وضيقا ، كما أن عدم المنشأ يكون بعدم جعله واعتباره ، سواء قيل في الممكن بحاجته في بقائه إلى العلة أو قيل باستغنائه عنها ، فيكون المراد من رفع الحكم في الحقيقة بنسخه ، والإزالة بمعنى إلغاء الاعتبار ، وهذا لا يتحقق في الأحكام الشرعية حقيقة والمتصور في الأحكام الشرعية عدم جعل الحكم وسيعا من الأول بالإضافة إلى الزمان الثاني ، أو الحالة الطارئة ، وهذا بالاضافة إلى الأحكام الشرعية في مقام الجعل ، وأما بحسب مقام الفعلية يكون ارتفاع الحكم بارتفاع موضوعه وبقائه ببقاء موضوعه ، وعلى كل تقدير فلا بد من لحاظ العناية في التسعة المرفوعة الواردة في

٢٥٧

لا يقال : لا يكاد يكون إيجابه مستتبعا لاستحقاقها على مخالفة التكليف المجهول ، بل على مخالفة نفسه ، كما هو قضية إيجاب غيره.

فإنه يقال : هذا إذا لم يكن إيجابه طريقيا ، وإلّا فهو موجب لاستحقاق العقوبة على المجهول ، كما هو الحال في غيره من الإيجاب والتحريم الطريقيين ، ضرورة أنه كما يصح أن يحتج بهما صح أن يحتج به ، ويقال لم أقدمت مع إيجابه؟ ويخرج به عن العقاب بلا بيان والمؤاخذة بلا برهان ، كما يخرج بهما.

وقد انقدح بذلك ، أن رفع التكليف المجهول كان منّة على الأمة ، حيث كان له تعالى وضعه بما هو قضيته من إيجاب الاحتياط ، فرفعه ، فافهم.

ثم لا يخفى عدم الحاجة إلى تقدير المؤاخذة ولا غيرها من الآثار الشرعية في «ما لا يعلمون» [١].

______________________________________________________

الحديث حيث إنها لم تكن مجعولة على الامة حتى ترفع ، كما هو الحال في قوله عليه‌السلام : رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يفيق (١) ، وكأن استعمال الرفع عن الامة بلحاظ ثبوتها في الامم السابقة في الجملة كما أن الرفع عن الصبي بلحاظ ثبوته في حق البالغين من العاقلين.

مفاد حديث الرفع في ما اضطروا إليه وما استكرهوا عليه

[١] قد تحصل مما تقدم أن الرفع في «ما لا يعلمون» يعم الشبهة الموضوعية والحكمية ، حيث إن الحكم الجزئي في الأول والكلّي في الثاني لا يعلم ، ويكون رفعه ظاهريا بمعنى عدم وضعه الظاهري بإيجاب الاحتياط في الواقعة بخلاف الرفع في سائر الفقرات ، فإن الرفع فيها واقعي بمعنى عدم جعل التكليف والوضع بالإضافة

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ : ٤٥ ، الباب ٤ من أبواب مقدمة العبادات ، الحديث ١١.

٢٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

إلى «ما اضطروا إليه ، وما استكرهوا عليه» ، وهكذا ومن الظاهر أن الاضطرار والإكراه يطرءان على الفعل أو الترك وإذا كان المكلف مضطرا إلى عمل محرم لو لا الاضطرار إليه أو مكرها عليه فترتفع حرمته.

وبتعبير آخر في الموارد التي يكون الفعل متعلق التكليف لو لا الاضطرار والإكراه لا يكون مع طريانهما متعلقا له ، وكذا الحال فيما إذا كان الفعل موضوعا لحكم يكون في ثبوته له ثقل فلا يترتب ذلك الحكم على ارتكابه إذا كان ارتكابه للاضطرار أو الإكراه سواء كان ذلك الفعل فعلا خارجيا كشرب الخمر الموضوع لجريان الحدّ والكفارة الموضوع لوجوبهما الإفطار ، أو كان فعلا اعتباريا كإكراهه على بيع داره أو طلاق زوجته ، نعم حيث كان الرفع للامتنان فلا يشمل مثل بيع داره للاضطرار إلى ثمنها.

هذا كله بالإضافة إلى الفعل المتعلق به التكليف أو الفعل الموضوع لحكم تكليفي أو وضعي فإن تعلق الإكراه أو الاضطرار بهما ظاهر ، وأما إذا اكره على ترك فعل تعلق التكليف بإيجاده أو كان تركه موضوعا لحكم آخر ففي شمول «ما اضطروا إليه وما استكرهوا عليه» إشكال ، كما إذا اكره المكلف على ترك صلاته في وقتها ووجه الإشكال أن ترك الصلاة في وقتها غير متعلق للحرمة ، ليقال ترتفع الحرمة عنه مع الإكراه عليه ، فإن الوجوب تعلق بإيجادها والواقع عليه الإكراه تركها ، نعم لو قيل بأن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده فيمكن دعوى أن مقتضى رفع الإكراه ارتفاع الحرمة عن تركها ، ورفع الحرمة عن تركها يكون برفع الوجوب عن فعلها ، ولكن من ينكر النهي عن الترك ويلتزم بأن المرفوع هو الحكم عما طرأ عليه الإكراه والاضطرار يشكل عليه التمسك بالحديث.

٢٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

بل عن المحقق النائيني قدس‌سره أن حديث الرفع لا يعم ما إذا كان ترك فعل موضوعا لتكليف أو حكم وضعي ، كما إذا نذر شرب ماء دجلة فاكره على تركه أو اضطر إلى تركه أو نسى شربه ، فإنه لو لم يكن في خطاب حنث النذر وترتب الكفارة ظهور في أنها تترتب على التعمد والالتفات إلى الحنث ، لقلنا بترتب الكفارة على ترك شربه ولو كان عن إكراه أو اضطرار أو نسيان ، وذلك فإن شأن الرفع تنزيل الموجود معدوما لا تنزيل المعدوم منزلة الموجود ، فإن تنزيل المعدوم موجودا وضع لا رفع ، والمفروض أنه لم يصدر عن المكلف فعل وإذا لم يمكن أن يكون عدم الشرب مرفوعا بجعله كالشرب فلا مجال لدعوى عدم تحقق عنوان الحنث لينتفي وجوب الكفارة ، ولكن لا يخفى ما فيه فإن جريان رفع الإكراه والاضطرار في الموارد التي يكون ترك الفعل موضوعا لحكم تكليفي أو وضعي مما لا ينبغي التأمل فيه ، فإن عنوان الفعل لم يذكر في الحديث ليدعي انصرافه إلى الارتكاب ، بل المذكور فيه عنوان ما استكرهوا عليه وما اضطروا إليه ويتعلق كل منهما على ترك فعل كما يتعلق على ارتكابه ، ومعنى رفع ما اضطروا إليه وما استكرهوا عليه ليس بمعنى تنزيل الفعل منزلة عدمه ونقيضه ، بل رفعه في مقام التشريع عدم جعل الأثر المجعول له لو لا الإكراه أو الاضطرار وحنث النذر ومخالفته الموضوع لوجوب الكفارة ينطبق على ترك المنذور واختيار نقيضه سواء كان المنذور فعلا أو تركا ، وأما بالإضافة إلى موارد إيجاب الفعل وطريان الاضطرار أو الإكراه على تركه فلا ينبغي التأمل أيضا في جريان رفع ما استكرهوا عليه وما اضطروا إليه فيه ، كما إذا اكره على ترك صلاته في وقتها فإن الرفع والوضع كما يتعلق بمقام التشريع وجعل الحكم كذلك يتعلق بمقام امتثاله حيث إن الامتثال أيضا قابل للرفع والوضع كما في موارد حكومة لا تعاد

٢٦٠