دروس في مسائل علم الأصول - ج ٤

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-94850-6-5
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٤٣

وأما المقدمة الخامسة : فلاستقلال العقل بها ، وأنه لا يجوز التنزل ـ بعد عدم التمكن من الإطاعة العلمية [١]. أو عدم وجوبها ـ إلّا إلى الإطاعة الظنية دون الشكية أو الوهمية ، لبداهة مرجوحيتها بالإضافة إليها ، وقبح ترجيح المرجوح على الراجح ، لكنك عرفت عدم وصول النوبة إلى الإطاعة الاحتمالية ، مع دوران الأمر بين الظنية والشكية أو الوهمية ، من جهة ما أوردناه على المقدمة الأولى من انحلال العلم الإجمالي بما في أخبار الكتب المعتبرة ، وقضيته الاحتياط بالإلزام عملا بما فيها من التكاليف ، ولا بأس به حيث لا يلزم منه عسر فضلا عما يوجب اختلال النظام.

وما أوردنا على المقدمة الرابعة من جواز الرجوع إلى الأصول مطلقا ، ولو كانت نافية ، لوجود المقتضي وفقد المانع لو كان التكليف في موارد الأصول المثبتة وما علم منه تفصيلا ، أو نهض عليه دليل معتبر بمقدار المعلوم بالإجمال ، وإلّا فإلى الأصول المثبتة وحدها ، وحينئذ كان خصوص موارد الأصول النافية محلا لحكومة العقل ، وترجيح مظنونات التكليف فيها على غيرها ، ولو بعد استكشاف وجوب الاحتياط في الجملة شرعا ، بعد عدم وجوب الاحتياط التام شرعا أو عقلا ـ على ما عرفت تفصيله ـ هذا هو التحقيق على ما يساعد عليه النظر الدقيق ، فافهم وتدبر جيدا.

______________________________________________________

بذلك كدعوى الجزم غير صحيحة وعلى تقدير الظن فالكلام في اعتبار الظن حيث لم يتم على اعتباره دليل ، وما لم يحرز الاعتبار فالاصل عدم الاعتبار.

في قاعدة قبح ترجيح المرجوح على الراجح

[١] ذكروا أنه إذا لم يمكن الموافقة القطعية للتكاليف المعلومة بالإجمال أو لم تجب ، ودار الأمر بين الموافقة الظنية وبين الاحتمالية والوهمية فاللازم رعاية الطاعة

٢٠١

فصل

هل قضية المقدمات على تقدير سلامتها هي حجية الظن بالواقع ، أو بالطريق ، أو بهما؟ أقوال :

والتحقيق أن يقال : إنه لا شبهة في أن همّ العقل في كلّ حال إنما هو تحصيل الأمن من تبعة التكاليف المعلومة ، من العقوبة على مخالفتها ، كما لا شبهة في استقلاله في تعيين ما هو المؤمّن منها ، وفي أن كلما كان القطع به مؤمّنا في حال الانفتاح كان الظن به مؤمّنا حال الانسداد جزما ، وإن المؤمّن في حال الانفتاح هو القطع بإتيان المكلف به الواقعي بما هو كذلك ، لا بما هو معلوم ومؤدى الطريق ومتعلق العلم ، وهو طريق شرعا وعقلا ، أو بإتيانه الجعلي ، وذلك لأن العقل قد استقل بأن الإتيان بالمكلف به الحقيقي بما هو هو ، لا بما هو مؤدى الطريق مبرئ للذمة قطعا.

كيف؟ وقد عرفت أن القطع بنفسه طريق لا يكاد تناله يد الجعل إحداثا وإمضاء ، إثباتا ونفيا ، ولا يخفى أن قضية ذلك هو التنزل إلى الظن بكل واحد من الواقع والطريق ، ولا منشأ لتوهم الاختصاص بالظن بالواقع إلّا توهم أنه قضية

______________________________________________________

الظنية وعدم جواز الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية بعد قيام الدليل على عدم إهمالها رأسا ، وذلك لقبح ترجيح المرجوح ، وعلى ذلك فاللازم على المجتهد تحصيل الظن بالتكليف في كل واقعة ليعمل به هو أو مقلدوه ، ومع عدم إمكان تحصيل الظنّ أو عدم حصوله يكون المرجع الأصل النافي ، إلّا إذا كان في خصوص المسألة علم إجمالي بالتكليف فيها ، وقد ذكر الماتن قدس‌سره وغيره بأنه عند الدوران يتعيّن تقديم الإطاعة الظنية لاستقلال العقل بقبح ترجيح المرجوح على الراجح ، إلّا أنه لا تصل

٢٠٢

اختصاص المقدمات بالفروع ، لعدم انسداد باب العلم في الأصول ، وعدم إلجاء في التنزل إلى الظن فيها ، والغفلة عن أن جريانها في الفروع موجب لكفاية الظن بالطريق في مقام يحصل الأمن من عقوبة التكاليف ، وإن كان باب العلم في غالب الأصول مفتوحا ، وذلك لعدم التفاوت في نظر العقل في ذلك بين الظنين ، كما أن منشأ توهم الاختصاص بالظن بالطريق وجهان :

أحدهما : ما أفاده بعض الفحول وتبعه في الفصول ، قال فيها :

إنا كما نقطع بأنا مكلفون في زماننا هذا تكليفا فعليا بأحكام فرعية كثيرة ، لا سبيل لنا بحكم العيان وشهادة الوجدان إلى تحصيل كثير منها بالقطع ، ولا بطريق معين يقطع من السمع بحكم الشارع بقيامه ، أو قيام طريقه مقام القطع ولو عند تعذره ، كذلك نقطع بأن الشارع قد جعل لنا إلى تلك الأحكام طريقا مخصوصا ، وكلفنا تكليفا فعليا بالعمل بمؤدى طرق مخصوصة ، وحيث إنه لا سبيل غالبا إلى تعيينها بالقطع ، ولا بطريق يقطع من السمع بقيامه بالخصوص ، أو قيام طريقه كذلك مقام القطع ولو بعد تعذره ، فلا ريب أن الوظيفة في مثل ذلك بحكم العقل إنما هو الرجوع في تعيين ذلك الطريق إلى الظن الفعلي الذي لا دليل على عدم حجيته ، لأنه أقرب إلى العلم ، وإلى إصابة الواقع مما عداه.

______________________________________________________

النوبة إلى الدوران من جهة ما تقدم في المقدمة الأولى من انحلال العلم الإجمالي بالتكاليف في الوقائع بالتكاليف الواردة في الأخبار المأثورة في الكتب المعروفة للأخبار ، فإن العلم بصدق كثير من تلك الأخبار أي مطابقتها للتكاليف الواقعية يوجب انحلال العلم الإجمالي الكبير لاحتمال أن لا يكون في غير موارد تلك الأخبار من الموارد التي لا يعلم التكليف فيها تفصيلا أو بطريق علمي تكليف آخر واقعا ، ومقتضى ذلك الاحتياط التام في موارد تلك الأخبار ولا عسر ولا حرج فيه كما

٢٠٣

وفيه : أولا ـ بعد تسليم العلم بنصب طرق خاصة باقية فيما بأيدينا من الطرق الغير العلمية ، وعدم وجود المتيقن بينها أصلا ـ أن قضية ذلك هو الاحتياط في أطراف هذه الطرق المعلومة بالاجمال لا تعيينها بالظن.

لا يقال : الفرض هو عدم وجوب الاحتياط ، بل عدم جوازه ، لان الفرض إنما هو عدم وجوب الاحتياط التام في أطراف الأحكام ، مما يوجب العسر المخل بالنظام ، لا الاحتياط في خصوص ما بأيدينا من الطرق.

فإن قضية هذا الاحتياط هو جواز رفع اليد عنه في غير مواردها ، والرجوع إلى الأصل فيها ولو كان نافيا للتكليف ، وكذا فيما إذا نهض الكل على نفيه ، وكذا فيما إذا تعارض فردان من بعض الأطراف فيه نفيا وإثباتا مع ثبوت المرجح للنافي ، بل مع عدم رجحان المثبت في خصوص الخبر منها ، ومطلقا في غيره بناء على عدم ثبوت الترجيح على تقدير الاعتبار في غير الأخبار ، وكذا لو تعارض اثنان منها في الوجوب والتحريم ، فإن المرجع في جميع ما ذكر من موارد التعارض هو الأصل الجاري فيها ولو كان نافيا ، لعدم نهوض طريق معتبر ولا ما هو من أطراف العلم به على خلافه ، فافهم.

وكذا كل مورد لم يجر فيه الأصل المثبت ، للعمل بانتقاض الحالة السابقة فيه

______________________________________________________

عند القائل باعتبارها كلها ، وما أوردنا على المقدّمة الرابعة من إمكان الرجوع في غير موارد العلم التفصيلي والطريق المعتبر إلى الاصول المثبتة والنافية إذا كانت التكاليف المحرزة بالاصول المثبتة بضميمة موارد المعلوم بالتفصيل أو بطريق علميّ بمقدار المعلوم بالإجمال ، بأن يحتمل انحصار التكاليف الواقعيّة على تلك الموارد وعدم وجود تكليف آخر في موارد الاصول النافية أو وجوده فيها ولكن لم يكن من الأهمية بحيث يستكشف عدم جواز الإهمال والرجوع إلى تلك الاصول ، وإلّا كانت موارد

٢٠٤

إجمالا بسبب العلم به ، أو بقيام أمارة معتبرة عليه في بعض أطرافه ، بناء على عدم جريانه بذلك.

وثانيا : لو سلم أنّ قضيته لزوم التنزل إلى الظن ، فتوهّم أن الوظيفة حينئذ هو خصوص الظن بالطريق فاسد قطعا ، وذلك لعدم كونه أقرب إلى العلم وإصابة الواقع من الظن ، بكونه مؤدى طريق معتبر من دون الظن بحجية طريق أصلا ، ومن الظن بالواقع ، كما لا يخفى.

لا يقال : إنما لا يكون أقرب من الظن بالواقع ، إذا لم يصرف التكليف الفعلي عنه إلى مؤدّيات الطرق ولو بنحو التقييد ، فإن الالتزام به بعيد ، إذ الصرف لو لم يكن تصويبا محالا ، فلا أقل من كونه مجمعا على بطلانه ، ضرورة أن القطع بالواقع يجدي في الإجزاء بما هو واقع ، لا بما هو مؤدى طريق القطع ، كما عرفت.

ومن هنا انقدح أن التقييد أيضا غير سديد ، مع أن الالتزام بذلك غير مفيد ، فإن الظن بالواقع فيما ابتلي به من التكاليف لا يكاد ينفكّ عن الظن بأنه مؤدى طريق معتبر ، والظن بالطريق ما لم يظن بإصابته الواقع غير مجد بناء على التقييد ، لعدم استلزامه الظن بالواقع المقيد به بدونه.

هذا مع عدم مساعدة نصب الطريق على الصرف ولا على التقييد ، غايته أن

______________________________________________________

الاصول النافية موردا لحكومة العقل وترجيح مظنونات التكليف فيها على غيرها بعد عدم وجوب الاحتياط التام فيها شرعا أو عقلا لاستلزامه الحرج أو الاختلال.

أقول : قد ذكرنا أنه لا حاجة في المقام إلى المقدمة الخامسة حتى لو قيل بعدم ثبوت القبح في ترجيح الطاعة الاحتمالية أو التخيير بين الإطاعة الظنية والاحتمالية فإن اللازم على المجتهد تحصيل الظن في الوقائع بالتكاليف فيها مع إمكانه لعلمه إجمالا

٢٠٥

العلم الإجمالي بنصب طرق وافية يوجب انحلال العلم بالتكاليف الواقعية إلى العلم بما هو مضامين الطرق المنصوبة من التكاليف الفعلية ، والانحلال وإن كان يوجب عدم تنجز ما لم يؤد إليه الطريق من التكاليف الواقعية ، إلّا أنه إذا كان رعاية العلم بالنصب لازما ، والفرض عدم اللزوم ، بل عدم الجواز.

وعليه يكون التكاليف الواقعية ، كما إذا لم يكن هناك علم بالنصب في كفاية الظن بها حال انسداد باب العلم ، كما لا يخفى ، ولا بد حينئذ من عناية أخرى في لزوم رعاية الواقعيات بنحو من الإطاعة ، وعدم إهمالها رأسا كما أشرنا إليه ، ولا شبهة في أن الظن بالواقع لو لم يكن أولى حينئذ لكونه أقرب في التوسل به إلى ما به الاهتمام من فعل الواجب وترك الحرام ، من الظن بالطريق ، فلا أقل من كونه مساويا فيما يهم العقل من تحصيل الأمن من العقوبة في كل حال ، هذا مع ما عرفت من أنه عادة يلازم الظن بأنه مؤدى طريق ، وهو بلا شبهة يكفي ، ولو لم يكن هناك ظن بالطريق ، فافهم فإنه دقيق.

ثانيهما : ما اختص به بعض المحققين ، قال :

(لا ريب في كوننا مكلفين بالأحكام الشرعية ، ولم يسقط عنا التكليف بالأحكام الشرعية ، وأن الواجب علينا أولا هو تحصيل العلم بتفريغ الذمة في حكم

______________________________________________________

بأن كثيرا من الظنون فيها موافقة لما في الواقع فيها من التكاليف ، وهذا العلم الإجمالي يوجب الأخذ بجانب الظن بالتكليف فيها وإذا احتمل انحصار التكاليف الواقعية على موارد الظنون التي يحصّلها المجتهد فلا بأس بالرجوع إلى الأصل النافي في غيرها ما لم يكن في المسألة علم إجمالي خاص بها كما تقدم ، وهذا ليس مما قالوا من دوران الأمر بين الإطاعة الظنية والطاعة الاحتمالية والوهمية ، وبيان ذلك أن الصور الملحوظة في الدوران أربع.

٢٠٦

المكلّف ، بأن يقطع معه بحكمه بتفريغ ذمتنا عما كلفنا به ، وسقوط تكليفنا عنا ، سواء حصل العلم معه بأداء الواقع أو لا ، حسبما مر تفصيل القول فيه.

فحينئذ نقول : إن صح لنا تحصيل العلم بتفريغ ذمتنا في حكم الشارع ، فلا إشكال في وجوبه وحصول البراءة به ، وإن انسد علينا سبيل العلم كان الواجب علينا تحصيل الظن بالبراءة في حكمه ، إذ هو الأقرب إلى العلم به ، فيتعين الاخذ به عند التنزل من العلم في حكم العقل ، بعد انسداد سبيل العلم والقطع ببقاء التكليف ، دون ما يحصل معه الظن بأداء الواقع ، كما يدعيه القائل بأصالة حجية الظن). انتهى موضع الحاجة من كلامه ، (زيد في علو مقامه).

وفيه أولا : إن الحاكم على الاستقلال في باب تفريغ الذمة بالإطاعة والامتثال إنما هو العقل ، وليس للشارع في هذا الباب حكم مولوي يتبعه حكم العقل ، ولو حكم في هذا الباب كان بتبع حكمه إرشادا إليه ، وقد عرفت استقلاله بكون الواقع بما هو هو مفرّغ ، وأن القطع به حقيقة أو تعبدا مؤمّن جزما ، وأن المؤمّن في حال الانسداد هو الظن بما كان القطع به مؤمنا حال الانفتاح ، فيكون الظن بالواقع أيضا مؤمّنا حال الانسداد.

وثانيا : سلّمنا ذلك ، لكن حكمه بتفريغ الذمة ـ فيما إذا أتى المكلف بمؤدى

______________________________________________________

الاولى : أن تكون الوقائع على قسمين : قسم يظن فيها ثبوت التكليف في كل من أطراف ذلك القسم ، وقسم آخر يشك في ثبوت التكليف في كل من أطرافه ، ومثال ذلك في الموضوعات ما إذا كان في البين آنية متعددة ، قسم منها بيضاء واخرى سوداء ويظن إصابة النجاسة لكل من الآنية البيض ويشك أو يحتمل ضعيفا إصابتها لكل من السود ، ولكن من غير علم اجمالي بإصابة النجاسة في القسمين بأن يحتمل طهارة كلّ الآنية بحسب الواقع ، وفي هذا الفرض يرجع في كل من القسمين إلى

٢٠٧

الطريق المنصوب ـ ليس إلّا بدعوى أن النصب يستلزمه ، مع أن دعوى أن التكليف بالواقع يستلزم حكمه بالتفريغ فيما إذا أتى به أولى ، كما لا يخفى ، فيكون الظن به ظنا بالحكم بالتفريغ أيضا.

إن قلت : كيف يستلزمه الظن بالواقع؟ مع أنه ربما يقطع بعدم حكمه به معه ، كما إذا كان من القياس ، وهذا بخلاف الظن بالطريق ، فإنه يستلزمه ولو كان من القياس.

قلت : الظن بالواقع أيضا يستلزم الظن بحكمه بالتفريغ ، ولا ينافي القطع بعدم حجيته لدى الشارع ، وعدم كون المكلف معذورا ـ إذا عمل به فيهما ـ فيما أخطأ ، بل كان مستحقا للعقاب ـ ولو فيما أصاب ـ لو بنى على حجيته والاقتصار عليه لتجريه ، فافهم.

وثالثا : سلمنا أن الظن بالواقع لا يستلزم الظن به ، لكن قضيته ليس إلّا التنزل إلى الظن بأنه مؤدى طريق معتبر ، لا خصوص الظن بالطريق ، وقد عرفت أن الظن بالواقع لا يكاد ينفك عن الظن بأنه مؤدى الطريق غالبا.

______________________________________________________

أصالة الطهارة والحلية ، ولا اعتبار بالظن ما لم يصل إلى حد الاطمينان ، وهذا لا كلام فيه ، الصورة الثانية : أن يحصل الظن بالتكليف في كل فرد من أفراد القسم الأول ويحتمل التكليف في كلّ من أفراد القسم الثاني مع العلم الإجمالي بإصابة الظنون بالتكاليف مع التكاليف الواقعيّة في الجملة من غير علم إجمالي كذلك في ناحية القسم الثاني ، وفي هذه الصورة يجب الاحتياط في موارد الظنون فإنّه مقتضى العلم الإجمالي بالتكاليف في مواردها ، ويرجع إلى الأصل النافي في كل فرد من أفراد المشكوكات من غير فرق بين كون رعاية التكليف المحتمل في جميع القسمين حرجيا أم لا ، ومن غير فرق بين القول بقبح ترجيح المرجوح والقول بعدم قبحه.

٢٠٨

فصل

لا يخفى عدم مساعدة مقدمات الانسداد على الدلالة على كون الظن طريقا منصوبا شرعا ، ضرورة أنه معها لا يجب عقلا على الشارع أن ينصب طريقا ، لجواز اجتزائه بما استقل به العقل في هذا الحال ، ولا مجال لاستكشاف نصب الشارع من حكم العقل ، لقاعدة الملازمة ، ضرورة أنها إنما تكون في مورد قابل للحكم الشرعي ، والمورد هاهنا غير قابل له ، فإن الإطاعة الظنية التي يستقل العقل بكفايتها في حال الانسداد إنما هي بمعنى عدم جواز مؤاخذة الشارع بأزيد منها ، وعدم جواز اقتصار المكلف بدونها ، ومؤاخذة الشارع غير قابلة لحكمه ، وهو واضح.

واقتصار المكلف بما دونها ، لما كان بنفسه موجبا للعقاب مطلقا ، أو فيما أصاب الظن ، كما أنها بنفسها موجبة للثواب أخطأ أو أصاب من دون حاجة إلى أمر بها أو نهي عن مخالفتها ، كان حكم الشارع فيه مولويا بلا ملاك يوجبه ، كما لا يخفى ، ولا بأس به إرشاديا ، كما هو شأنه في حكمه بوجوب الإطاعة وحرمة المعصية.

وصحة نصبه الطريق وجعله في كل حال بملاك يوجب نصبه وحكمة داعية

______________________________________________________

والمقام بناء على الالتزام بالانسداد وعدم انحلال العلم الإجمالي الكبير بالتكاليف الواقعية في موارد الأخبار الواردة في الكتب المعروفة من هذا القبيل ، فيرجع في الوقائع التي لا يمكن للمجتهد تحصيل الظن بالتكليف إلى الأصل النافي لعدم العلم الإجمالي بالإضافة إلى التكليف والتكاليف الواقعية في تلك الوقائع.

الصورة الثالثة : ما إذا علم إجمالا بوجود التكليف الواقعي أو التكاليف الواقعية في كل من القسمين ، والمكلف لا يتمكن أو لا يجب عليه الاحتياط التام في أطراف

٢٠٩

إليه ، لا تنافي استقلال العقل بلزوم الإطاعة بنحو حال الانسداد ، كما يحكم بلزومها بنحو آخر حال الانفتاح ، من دون استكشاف حكم الشارع بلزومها مولويا ، لما عرفت.

فانقدح بذلك عدم صحة تقرير المقدمات إلّا على نحو الحكومة دون الكشف ، وعليها فلا إهمال في النتيجة أصلا ، سببا وموردا ومرتبة ، لعدم تطرق الإهمال والإجمال في حكم العقل ، كما لا يخفى.

أما بحسب الأسباب فلا تفاوت بنظره فيها.

وأما بحسب الموارد ، فيمكن أن يقال بعدم استقلاله بكفاية الإطاعة الظنية ، إلّا فيما ليس للشارع مزيد اهتمام فيه بفعل الواجب وترك الحرام ، واستقلاله بوجوب الاحتياط فيما فيه مزيد الاهتمام ، كما في الفروج والدماء بل وسائر حقوق الناس مما لا يلزم من الاحتياط فيها العسر.

وأما بحسب المرتبة ، فكذلك لا يستقل إلّا بلزوم التنزل إلى مرتبة الاطمئنان من الظن بعدم التكليف ، إلّا على تقدير عدم كفايتها في دفع محذور العسر.

وأما على تقرير الكشف ، فلو قيل بكون النتيجة هو نصب الطريق الواصل بنفسه ، فلا إهمال فيها أيضا بحسب الأسباب ، بل يستكشف حينئذ أن الكل حجة

______________________________________________________

العلم الإجمالي في كل من القسمين ، فاللازم في هذا الفرض التبعيض في الاحتياط في كل من الطائفتين ؛ لما أشرنا سابقا من أن الموافقة الاحتمالية لكل التكاليف مقدم على الموافقة القطعية لبعضها الملازمة للمخالفة القطعية لبعضها الآخر ، والمقام بناء على عدم انحلال العلم الإجمالي الكبير حتى بالعلم الإجمالي بالتكاليف في موارد الظنون من هذا القبيل ، ولا مورد فيه للقول بقبح تقديم المرجوح على الراجح.

الصورة الرابعة : ما إذا كان كل من أفراد القسمين طرفا للعلم الإجمالي

٢١٠

لو لم يكن بينها ما هو المتيقن ، وإلّا فلا مجال لاستكشاف حجية غيره ، ولا بحسب الموارد ، بل يحكم بحجيته في جميعها ، وإلّا لزم عدم وصول الحجة ، ولو لأجل التردد في مواردها ، كما لا يخفى.

ودعوى الإجماع على التعميم بحسبها في مثل هذه المسألة المستحدثة مجازفة جدا.

وأما بحسب المرتبة ، ففيها إهمال ، لأجل احتمال حجية خصوص الاطمئناني منه إذا كان وافيا ، فلا بد من الاقتصار عليه ، ولو قيل بأن النتيجة هو نصب الطريق الواصل ولو بطريقه ، فلا إهمال فيها بحسب الأسباب ، لو لم يكن فيها تفاوت أصلا ، أو لم يكن بينها إلّا واحد ، وإلّا فلا بد من الاقتصار على متيقن الاعتبار منها أو مظنونه ، بإجراء مقدمات دليل الانسداد حينئذ مرة أو مرات في تعيين الطريق المنصوب ، حتى ينتهي إلى ظن واحد أو إلى ظنون متعددة لا تفاوت بينها ، فيحكم بحجية كلها ، أو متفاوتة يكون بعضها الوافي متيقن الاعتبار ، فيقتصر عليه.

وأما بحسب الموارد والمرتبة ، فكما إذا كانت النتيجة هي الطريق الواصل بنفسه ، فتدبر جيدا.

ولو قيل بأن النتيجة هو الطريق ولو لم يصل أصلا ، فالإهمال فيها يكون من

______________________________________________________

بالتكاليف ، أو التكاليف بمعنى نعلم منه بثبوت تكليف أو تكاليف إما في أفراد القسم الأول ، أو أنه ليس فيها تكليف أو تكاليف واقعية بل التكليف أو التكاليف في أفراد القسم الثاني ، وتكون رعاية العلم الإجمالي في كل من أفراد القسمين غير جائز أو غير واجب للزوم الإخلال بالنظام أو الحرج ، بخلاف رعاية احتمال التكليف أو التكاليف في أفراد قسم واحد ، وفي هذه الصورة بناء على تنجيز العلم الإجمالي أو قيام دليل بعدم جواز إهمال التكليف أو التكاليف المعلومة بالإجمال رأسا تقدم

٢١١

الجهات ، ولا محيص حينئذ إلّا من الاحتياط في الطريق بمراعاة أطراف الاحتمال لو لم يكن بينها متيقن الاعتبار ، لو لم يلزم منه محذور ، وإلّا لزم التنزل إلى حكومة العقل بالاستقلال ، فتأمل فإن المقام من مزال الأقدام.

وهم ودفع : لعلك تقول : إن القدر المتيقن الوافي لو كان في البين لما كان مجال لدليل الانسداد ، ضرورة أنه من مقدماته انسداد باب العلمي أيضا.

لكنك غفلت عن أن المراد ما إذا كان اليقين بالاعتبار من قبله ، لأجل اليقين بأنه لو كان شيء حجة شرعا كان هذا الشيء حجة قطعا ، بداهة أن الدليل على أحد المتلازمين إنما هو الدليل على الآخر ، لا الدليل على الملازمة.

ثم لا يخفى أن الظن باعتبار ظن بالخصوص ، يوجب اليقين باعتباره من باب دليل الانسداد على تقرير الكشف بناء على كون النتيجة هو الطريق الواصل بنفسه ، فإنه حينئذ يقطع بكونه حجة ، كان غيره حجة أو لا ، واحتمال عدم حجيته بالخصوص لا ينافي القطع بحجيته بملاحظة الانسداد ، ضرورة أنه على الفرض لا يحتمل أن يكون غيره حجة بلا نصب قرينة ، ولكنه من المحتمل أن يكون هو الحجة دون غيره ، لما فيه من خصوصية الظن بالاعتبار ، وبالجملة الأمر يدور بين حجية الكل وحجيته ، فيكون مقطوع الاعتبار.

______________________________________________________

الطاعة الظنية برعاية المعلوم بالإجمال في المظنونات ويترك رعاية احتمالها في ناحية المشكوكات والموهومات بقاعدة قبح ترجيح المرجوح على الراجح ، والقبح في المقام بمعنى استحقاق العقاب على ترك الطاعة الظنية إذا أصابت الظنون أو بعضها التكليف الواقعي ، والحاكم بذلك هو العقل ولكن في استقلاله بذلك تأمل إذا لم يكن رعاية الاحتياط في الظنون موجبا للوثوق بامتثال التكاليف المعلومة بالإجمال كلا أو بعضا.

٢١٢

ومن هنا ظهر حال القوة ، ولعل نظر من رجح بها إلى هذا الفرض ، وكان منع شيخنا العلامة ـ أعلى الله مقامه ـ عن الترجيح بهما ، بناء على كون النتيجة هو الطريق الواصل ولو بطريقه ، أو الطريق ولو لم يصل أصلا ، وبذلك ربما يوفق بين كلمات الأعلام في المقام ، وعليك بالتأمل التام.

ثم لا يذهب عليك أن الترجيح بهما إنما هو على تقدير كفاية الراجح ، وإلّا فلا بد من التعدي إلى غيره بمقدار الكفاية ، فيختلف الحال باختلاف الأنظار بل الأحوال.

وأما تعميم النتيجة بأن قضية العلم الإجمالي بالطريق هو الاحتياط في أطرافه ، فهو لا يكاد يتم إلّا على تقدير كون النتيجة هو نصب الطريق ولو لم يصل أصلا ، مع أن التعميم بذلك لا يوجب العمل إلّا على وفق المثبتات من الأطراف دون النافيات ، إلّا فيما إذا كان هناك ناف من جميع الأصناف ، ضرورة أن الاحتياط فيها يقتضي رفع اليد عن الاحتياط في المسألة الفرعية إذا لزم ، حيث لا ينافيه ، كيف؟ ويجوز الاحتياط فيها مع قيام الحجة النافية ، كما لا يخفى ، فما ظنك بما لا يجب الأخذ بموجبه إلّا من باب الاحتياط؟ فافهم.

______________________________________________________

ينبغي في المقام التنبيه إلى أمرين.

الأول : إنّ حكم العقل في المقام برعاية التكاليف المظنونة من باب قاعدة الاشتغال في أطراف العلم الإجمالي لاحتمال ثبوت التكليف من المعلوم بالإجمال فيه ، وهذا الحكم العقلي كحكمه في سائر موارد العلم الإجمالي بالتكليف لا يستتبع الحكم الشرعي المولوي ؛ لأنّ الحكم الشرعي المولوي النفسي يتوقف على الملاك النفسي ولا حاجة إلى الحكم المولوي الطريقي لتنجز الوقائع بالاحتمال في أطراف العلم الإجمالي.

٢١٣

فصل

قد اشتهر الإشكال بالقطع بخروج القياس عن عموم نتيجة دليل الانسداد بتقرير الحكومة ، وتقريره على ما في الرسائل أنه :

(كيف يجامع حكم العقل بكون الظن كالعلم مناطا للإطاعة والمعصية ، ويقبح على الآمر والمأمور التعدي عنه ، ومع ذلك يحصل الظن أو خصوص الاطمئنان من القياس ، ولا يجوّز الشارع العمل به؟ فإن المنع عن العمل بما يقتضيه العقل من الظن ، أو خصوص الاطمئنان لو فرض ممكنا ، جرى في غير القياس ، فلا يكون العقل مستقلا ، إذ لعله نهى عن أمارة مثل ما نهى عن القياس بل وأزيد واختفى علينا ، ولا دافع لهذا الاحتمال إلّا قبح ذلك على الشارع ، إذ احتمال صدور ممكن بالذات عن الحكيم لا يرتفع إلّا بقبحه ، وهذا من أفراد ما اشتهر من أن الدليل العقلي لا يقبل التخصيص). انتهى موضع الحاجة من كلامه ، (زيد في علو مقامه).

وأنت خبير بأنه لا وقع لهذا الإشكال ، بعد وضوح كون حكم العقل بذلك معلقا على عدم نصب الشارع طريقا واصلا ، وعدم حكمه به فيما كان هناك

______________________________________________________

ولا يقاس حكمه في المقام بحكمه في القطع التفصيلي بالتكليف فإنّ القطع بالتكليف في نفسه موجب لتنجز متعلقه إذا أصاب بخلاف منجزية الظن في المقام ، فإن المنجزية إذا أصابت الواقع بالعلم الإجمالي وكونه من أطرافه ويترتب على الظن ما يترتب على الاحتمال في أطراف المعلوم بالإجمال ، فإنه كما إذا ورد الترخيص في البعض المعين من أطراف العلم بترخيص ظاهري لا يمنع عن منجزية العلم الإجمالي بالإضافة إلى سائر الأطراف كذلك الحال في المقام ، فإنه إذا ورد النهي

٢١٤

منصوب ولو كان أصلا ، بداهة أن من مقدمات حكمه عدم وجود علم ولا علمي ، فلا موضوع لحكمه مع أحدهما ، والنهي عن ظن حاصل من سبب ليس إلّا كنصب شيء ، بل هو يستلزمه فيما كان في مورده أصل شرعي ، فلا يكون نهيه عنه رفعا لحكمه عن موضوعه ، بل به يرتفع موضوعه ، وليس حال النهي عن سبب مفيد للظن إلّا كالأمر بما لا يفيده ، وكما لا حكومة معه للعقل لا حكومة له معه ، وكما لا يصح بلحاظ حكمه الإشكال فيه ، لا يصح الإشكال فيه بلحاظه.

نعم لا بأس بالإشكال فيه في نفسه ، كما أشكل فيه برأسه بملاحظة توهم استلزام النصب لمحاذير ، تقدم الكلام في تقريرها وما هو التحقيق في جوابها في جعل الطرق.

غاية الأمر تلك المحاذير ـ التي تكون فيما إذا أخطأ الطريق المنصوب ـ كانت في الطريق المنهي عنه في مورد الإصابة ، ولكن من الواضح أنه لا دخل لذلك في الاشكال على دليل الانسداد بخروج القياس ، ضرورة أنه بعد الفراغ عن صحة النهي عنه في الجملة ، قد أشكل في عموم النهي لحال الانسداد بملاحظة حكم العقل ، وقد عرفت أنه بمكان من الفساد.

واستلزام إمكان المنع عنه ، لاحتمال المنع عن أمارة أخرى وقد اختفى علينا ، وإن كان موجبا لعدم استقلال العقل ، إلّا أنه إنما يكون بالإضافة إلى تلك الأمارة ، لو كان غيرها مما لا يحتمل فيه المنع بمقدار الكفاية ، وإلّا فلا مجال لاحتمال المنع فيها مع فرض استقلال العقل ، ضرورة عدم استقلاله بحكم مع احتمال وجود مانعة ،

______________________________________________________

الطريقي عن اتباع ظن معين كالظن الحاصل من القياس حيث إنّه مع النهي المزبور لا يحتمل استحقاق العقاب على مخالفته إذا صادف التكليف الواقعي ثم لو بنى على العلم بأن الشارع لم يرض بالاحتياط في الوقائع أو لم يمكن الاحتياط في

٢١٥

على ما يأتي تحقيقه في الظن المانع والممنوع.

وقياس حكم العقل بكون الظن مناطا للإطاعة في هذا الحال على حكمه بكون العلم مناطا لها في حال الانفتاح ، لا يكاد يخفى على أحد فساده ، لوضوح أنه مع الفارق ، ضرورة أن حكمه في العلم على نحو التنجز ، وفيه على نحو التعليق.

ثم لا يكاد ينقضي تعجبي لم خصصوا الإشكال بالنهي عن القياس ، مع جريانه في الأمر بطريق غير مفيد للظن ، بداهة انتفاء حكمه في مورد الطريق قطعا ، مع أنه لا يظن بأحد أن يستشكل بذلك ، وليس إلّا لأجل أن حكمه به معلق على عدم النصب ، ومعه لا حكم له ، كما هو كذلك مع النهي عن بعض أفراد الظن ، فتدبر جيدا.

وقد انقدح بذلك أنه لا وقع للجواب عن الإشكال : تارة بأن المنع عن القياس لأجل كونه غالب المخالفة ، وأخرى بأن العمل به يكون ذا مفسدة غالبة على مصلحة الواقع الثابتة عند الإصابة ، وذلك لبداهة أنه إنما يشكل بخروجه بعد الفراغ عن صحة المنع عنه في نفسه ، بملاحظة حكم العقل بحجية الظن ، ولا يكاد يجدي صحته كذلك في ذب الإشكال في صحته بهذا اللحاظ ، فافهم فإنه لا يخلو عن دقة.

______________________________________________________

الوقائع العبادية لأنه يعتبر في صحة العبادة قصد الوجه والتمييز ولا يتمكن من قصدهما من دون طريق معتبر إلى إحراز العبادة ، وحكمها يستكشف من مقدمات الانسداد أن الشارع اعتبر الظن في الوقائع طريقا ولا يحتمل التفرقة بين الوقائع العبادية وغيرها وتكون النتيجة هو القول باعتبار الظن حال الانسداد شرعا ، ولكن البناء المزبور غير صحيح كما تقدم.

الأمر الثاني : أنه بناء على ما تقدم من الاحتياط في موارد الظن بالتكاليف من الوقائع للعلم الإجمالي بثبوتها في كثير منها يجري الاحتياط بلا فرق بين موارد الظن

٢١٦

وأما ما قيل في جوابه ، من منع عموم المنع عنه بحال الانسداد ، أو منع حصول الظن منه بعد انكشاف حاله ، وأن ما يفسده أكثر مما يصلحه ، ففي غاية الفساد ، فإنه مضافا إلى كون كل واحد من المنعين غير سديد ـ لدعوى الإجماع على عموم المنع مع إطلاق أدلته وعموم علته ، وشهادة الوجدان بحصول الظن منه في بعض الأحيان ـ لا يكاد يكون في دفع الإشكال بالقطع بخروج الظن الناشئ منه بمفيد ، غاية الأمر أنه لا إشكال مع فرض أحد المنعين ، لكنه غير فرض الإشكال ، فتدبر جيدا.

فصل

إذا قام ظن على عدم حجية ظن بالخصوص ، فالتحقيق أن يقال بعد تصور المنع عن بعض الظنون في حال الانسداد : إنه لا استقلال للعقل بحجية ظن احتمل المنع عنه ، فضلا عما إذا ظن ، كما أشرنا إليه في الفصل السابق ، فلا بد من الاقتصار على ظن قطع بعدم المنع عنه بالخصوص ، فإن كفى ، وإلّا فبضميمة ما لم يظن المنع عنه وإن احتمل ، مع قطع النظر عن مقدمات الانسداد ، وإن انسد باب هذا الاحتمال معها ، كما لا يخفى ، وذلك ضرورة أنه لا احتمال مع الاستقلال حسب الفرض ومنه قد انقدح أنه لا تتفاوت الحال لو قيل بكون النتيجة هي حجية الظن في الأصول أو في الفروع أو فيهما ، فافهم.

______________________________________________________

الشخصي بالتكليف وموارد الظن النوعي به ، حيث إن التكاليف المعلومة بالإجمال تعمّ مواردهما.

فإنّه لو قيل بعدم انحصار العلم بالتكاليف على موارد الأخبار المأثورة في الكتب المعروفة فلا مورد للتأمل في أن موارد تلك الأخبار داخلة في أطراف المعلوم بالإجمال مع أنه لا ظن شخصيّ بالتكليف في أكثر مواردها ، وقد تحصّل من جميع ما

٢١٧

فصل

لا فرق في نتيجة دليل الانسداد ، بين الظن بالحكم من أمارة عليه ، وبين الظن به من أمارة متعلقة بألفاظ الآية أو الرواية ، كقول اللغوي فيما يورث الظن بمراد الشارع من لفظه ، وهو واضح ، ولا يخفى أن اعتبار ما يورثه لا محيص عنه فيما إذا كان مما ينسد فيه باب العلم ، فقول أهل اللغة حجة فيما يورث الظن بالحكم مع الانسداد ، ولو انفتح باب العلم باللغة في غير المورد.

نعم لا يكاد يترتب عليه أثر آخر من تعيين المراد في وصية أو إقرار أو غيرهما من الموضوعات الخارجية ، إلّا فيما يثبت فيه حجية مطلق الظن بالخصوص ، أو ذاك المخصوص ، ومثله الظن الحاصل بحكم شرعي كلي من الظن بموضوع خارجي ، كالظن بأن راوي الخبر هو زرارة بن أعين مثلا ، لا آخر.

فانقدح أن الظنون الرجالية مجدية في حال الانسداد ، ولو لم يقم دليل على اعتبار قول الرجالي ، لا من باب الشهادة ولا من باب الرواية.

تنبيه : لا يبعد استقلال العقل بلزوم تقليل الاحتمالات المتطرقة إلى مثل السند أو الدلالة أو جهة الصدور ، مهما أمكن في الرواية ، وعدم الاقتصار على الظن الحاصل منها بلا سدّ بابه فيه بالحجة من علم أو علمي ، وذلك لعدم جواز التنزل في صورة الانسداد إلى الضعيف مع التمكن من القوي أو ما بحكمه عقلا ، فتأمل جيدا.

______________________________________________________

ذكرنا حول مقدمات الانسداد أن مقتضاها الاحتياط في المظنونات ويرجع في غيرها إلى الأصل ولا يبقى مجال لبعض المباحث المذكورة في الكتب الاصولية من حكم الظن المانع والممنوع ، وكون النتيجة حجية الظن بالواقع أو الظن بالطريق أو الظن بهما ونحو ذلك فلاحظ.

٢١٨

فصل

إنما الثابت بمقدمات دليل الانسداد في الأحكام هو حجية الظن فيها ، لا حجيته في تطبيق المأتي به في الخارج معها ، فيتبع مثلا في وجوب صلاة الجمعة يومها ، لا في إتيانها ، بل لا بد من علم أو علمي بإتيانها ، كما لا يخفى.

نعم ربما يجري نظير مقدمات الانسداد في الأحكام في بعض الموضوعات الخارجية ، من انسداد باب العلم به غالبا ، واهتمام الشارع به بحيث علم بعدم الرضا بمخالفة الواقع بإجراء الأصول فيه مهما أمكن ، وعدم وجوب الاحتياط شرعا أو عدم إمكانه عقلا ، كما في موارد الضرر المردد أمره بين الوجوب والحرمة مثلا ، فلا محيص عن اتباع الظن حينئذ أيضا ، فافهم.

خاتمة يذكر فيها أمران استطرادا.

الأول : هل الظن كما يتبع عند الانسداد عقلا في الفروع [١].

______________________________________________________

الظنّ في الاصول الاعتقادية

[١] ذكر الشيخ قدس‌سره بعد مباحث الانسداد أمرين.

الأول : اتباع الظن في الاعتقاديّات إذا لم يمكن تحصيل العلم بها نظير اتباعه في الفروع عند عدم إمكان الوصول إليها بالعلم أو الطريق العلمي على ما تقدم ، أو أنه لا يصل الأمر في الاصول الاعتقادية إلى الاعتماد على الظن أصلا.

الثاني : الظن الذي لا يكون معتبرا في نفسه في الفروع هل يكون جابرا لضعف الرواية سندا أو دلالة بحيث تصير معتبرة ، أو موهنا للرواية التي لو لا خلاف الظن لكانت معتبرة؟ وهل يكون الظن المزبور مرجحا لإحدى الروايتين المتعارضتين بحيث تؤخذ بالموافق وتطرح المخالف؟ وتبعه على ذلك الماتن قدس‌سره ، يقع الكلام في المقام الأول.

٢١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

أقول : لا ينبغي التأمل في أنّ الامور الاعتقادية على قسمين : قسم منها ما يجب الاعتقاد به بمعنى التباني وعقد القلب عليه على تقدير إخبار الله سبحانه أو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الإمام المعصوم عليه‌السلام فإن الاعتقاد والتسليم به قلبا يعد من تصديق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام المعصوم عليه‌السلام كوقائع البرزخ وما بعد البعث والنشور من أحوال القيامة والصراط والميزان ودرجات الجنة ودركات الجحيم إلى غير ذلك مما يعدّ بعد ثبوت الأخبار بها الاعتقاد بها من التصديق للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام عليه‌السلام ولا مجال في هذا القسم للاعتماد على الظن المطلق بدعوى انسداد باب العلم بهذه الامور حتى بناء على أن نتيجة مقدمات الانسداد الكشف عن حجية مطلق الظن شرعا ، وذلك لعدم جريان مقدمات دليله في هذه الامور الاعتقادية فإن من مقدماته عدم وجوب الاحتياط التام في الوقائع أو عدم جوازه على ما تقدم ، والامتثال الإجمالي في الامور الاعتقادية ممكن لا محذور فيه ، فإن للمكلف أن يعقد قلبه بما هو الواقع من هذه الامور فيكون هذا تصديقا إجماليا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة المعصومين عليهم‌السلام فيما أخبروا بها ، وبهذا يظهر أنه يكفي هذا التصديق الإجمالي حتى في الموارد التي يمكن للمكلف أن يعلم تفصيلا ويحصل المعرفة بها كذلك.

نعم يقع الكلام في هذا القسم أنه إذا قام طريق معتبر شرعا إلى بعض هذه الامور بأن كان الظن به من الظنون الخاصة فهل يجوز عقد القلب تفصيلا بما قام به هذا الطريق ، أم لا اعتبار في ذلك بالظن الخاص كالظن المطلق؟

فقد يقال : إذا كان الخبر القائم بهذه الامور طريقا معتبرا شرعا لا مانع من الالتزام وعقد القلب عليه ؛ لأنّ المفروض الشارع اعتبر علم المكلف بإخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الإمام المعصوم به فيجوز الالتزام وعقد القلب عليه كما هو الحال في إحراز

٢٢٠