دروس في مسائل علم الأصول - ج ٤

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-94850-6-5
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

والثالث : أن الإنذار واجب لما تقدم وذكر التحذر غاية له ، ومن الظاهر أن وجوب ذي الغاية التي تقبل التكليف ترشحي من وجوب غايته ، وإذا لم تكن الغاية واجبة فكيف يترشح الوجوب إلى ذيها يعني الإنذار.

والفرق بين الوجه الثالث والوجه الثاني ، أن الثاني كان ناظرا إلى إيجاب ذي الغاية وأن وجوبه من غير لزوم غايته التي تقبل التكليف غير ممكن بلا نظر إلى كون وجوب ذي الغاية نفسيا أو غيريا ، والوجه الثالث ناظر إلى أنّ إيجابه غيري فلا بد من وجوب الغاية ليترشح الوجوب منها إلى ذيها حتى فيما فرض أنّ لذي الغاية فائدة اخرى يترتب عليها بحيث لا يكون إيجابه نفسيا بدون إيجاب غايته لغوا ، كظهور الحق ووضوح الواقع فإن ذلك يترتب على الإنذار مع تراكمه وكثرة المنذرين ولكن وجوب الإنذار غيريا مع عدم وجوب التحذر غير ممكن.

وأجاب قدس‌سره عن وجه الإمكان بإمكان الاستحباب في التحذر ؛ لأنّ إنذار المنذرين لو كان موجبا للعلم بالواقع كما إذا كانوا من الكثرة بحيث يحصل من إنذارهم في واقعة العلم بالتكليف الواقعي يتعين الحذر للزوم اتباع العلم بالتكليف ، وأما إذا لم يكن موجبا له فيكون التحذر من الابتلاء بمفسدة الفعل أو فوت المصلحة الملزمة أمرا حسنا ، والتحذر لرجاء عدم الابتلاء أو عدم فوت المصلحة الملزمة مستحبا فإنّه من الاحتياط ، وبتعبير آخر حجية غير العدل تنتزع من إيجاب الحذر لا من مجرد مطلوبيته ، وكلمة (لعلّ) لا يستفاد منها إلّا المطلوبية لا كونها بنحو اللزوم ، فالفصل بين مطلوبية الحذر وعدم وجوبه بأن يثبت الأوّل عند إخبار العدل دون الثاني أمر ممكن فإنّ الخوف يصدق إذا كان في البين احتمال الابتلاء بالمفسدة أو فوت المصلحة الملزمة.

١٤١

تعالى أن يكون هو الترجي الحقيقي ، كان هو محبوبية التحذر عند الإنذار ، وإذا ثبت محبوبيته ثبت وجوبه شرعا ، لعدم الفصل ، وعقلا لوجوبه مع وجود ما يقتضيه ، وعدم حسنه ، بل عدم إمكانه بدونه.

ثانيها : إنه لما وجب الإنذار لكونه غاية للنفر الواجب ، كما هو قضية كلمة (لو لا) التحضيضية ، وجب التحذر ، وإلّا لغى وجوبه.

______________________________________________________

ويورد على الوجه الثاني بأن إيجاب الإنذار مع عدم وجوب الحذر بإطلاقه أو اشتراطه بصورة إحراز صدق الإنذار لا يكون لغوا حيث إن وجوب الإنذار على المنذر مع عدم لزوم العمل بإنذاره مطلقا لوضوح الواقع بتراكم الإنذار ، وعلى الوجه الثالث : بأن الإنذار فعل المنذر والحذر فعل من وصل إليه الإنذار فلا يعقل أن يكون فعل المنذر واجبا غيريا ترشحيا ، بل يتعين كونه نفسيا ، غاية الأمر الداعي إلى إيجابه وجوب الغاية ، ولكن كون وجوب الغاية على الإطلاق غير ظاهر بل لعلّه مشروط بصورة العلم والوثوق بصدق الإنذار.

لا يقال : وجوب العمل بإنذار المنذر مطلق سواء حصل العلم بصدق الإنذار أم لا ، مقتضى الإطلاق وعدم تقييد مطلوبية الحذر بصورة العلم ، فإنّه يقال : لا مجرى لأصالة الإطلاق في ناحية وجوب الحذر لعدم كون الآية واردة إلّا في مقام إيجاب النفر للتفقه كفائيّا هذا أولا ، وثانيا ما يقتضي اختصاص وجوب الحذر بصورة إحراز الصدق موجود في نفس الآية بمعنى أنه لو كانت الآية في مقام البيان حتى في ناحية وجوب العمل بإنذار ، لكان وجوب الحذر مختصا بصورة إحراز صدق الإنذار ، وذلك فإن إيجاب النفر بنحو الوجوب الكفائي كما هو ظاهر الآية للتفقه وتعلم معالم الدين لإبلاغها للمتخلفين أو لإبلاغ المتخلفين إلى النافرين على الوجهين الواردين في تفسير الآية ، ويجب الحذر على المتخلّفين النافرين فيما إذا انذروا بأحكام الدين

١٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

ومعالمها ولا يكون هذا الوجوب منجزا إلّا مع إحرازهم أنّهم أنذروا بها.

وبتعبير آخر الإنذار بمعالم الدين وأحكامه موضوع لوجوب القبول على الآخرين فيحتاج في وجوب القبول عليهم إلى إحرازهم أنهم انذروا بها كسائر الأحكام المترتبة على سائر الموضوعات في توقف تنجزها على إحراز فعلية موضوعاتها وهذا ما أفاده الماتن بزيادة التوضيح منّا.

أقول : ما ذكره قدس‌سره أوّلا من أنّ الحذر بنفسه لا يقتضي أن يكون الطلب المتعلق به لزوميا بل يمكن كونه بنحو الاستحباب أمر صحيح في نفسه ، نظير قوله فأحذر إذا نصحك أخوك ، ولكن المحذور منه في الآية المباركة مخالفة إنذار المنذر ، ومن الظاهر أنّ المنذر إما أن يخبر بالتكليف الواقعي بالمطابقة وبالعقاب على مخالفته بالاستلزام أو بالعكس ، وظاهر الحذر عمّا انذروا الحذر عما يترتب على مخالفة الإنذار من احتمال العقاب ، وفوت الملاك على تقديره لا يعبأ به عامة الناس مع فرض عدم احتمال العقاب فطلب الحذر مع عدم ترتب احتمال العقاب على المخالفة بلا معنى ، ولذا لو ورد في الخطاب الشرعي لاخذ في إنذار الفاسق إذا أنذرك بما تفقّه ، كان الكلام المزبور صحيحا وإن يحتمل فوت الملاك الواقعي بصدق إنذاره.

وأما ما ذكر قدس‌سره من عدم الإطلاق في طلب الحذر ولعله مشروط بحصول العلم بصدق الإنذار ، بل في الآية دلالة على أن المطلوب القبول والعمل إذا كان الإنذار بمعالم الدين وأحكامه ، واللازم إحراز ذلك كسائر الموضوعات للأحكام لا يمكن المساعدة عليه ، فإن اختصاص كون الآية في مقام بيان وجوب النفر فقط غير معلوم ، فإنّ سوقها في مقام وجوب النفر لا ينافي كونها في مقام بيان وجوب التفقه ووجوب

١٤٣

ثالثها : إنه جعل غاية للانذار الواجب ، وغاية الواجب واجب.

ويشكل الوجه الأول ، بأن التحذر لرجاء إدراك الواقع وعدم الوقوع في محذور مخالفته ، من فوت المصلحة أو الوقوع في المفسدة ، حسن ، وليس بواجب فيما لم يكن هناك حجة على التكليف ، ولم يثبت هاهنا عدم الفصل ، غايته عدم القول بالفصل.

والوجه الثاني والثالث بعدم انحصار فائدة الإنذار ب [إيجاب] التحذر تعبدا ، لعدم إطلاق يقتضي وجوبه على الإطلاق ، ضرورة أن الآية مسوقة لبيان وجوب النفر ، لا لبيان غايتية التحذر ، ولعل وجوبه كان مشروطا بما إذا أفاد العلم لو

______________________________________________________

الإنذار ووجوب الحذر أيضا ، حيث إن الأحكام الواردة فيها أحكام متعددة وكونها واردة في بيان واحد منها خلاف أصالة كون المتكلم في بيان كلّ حكم يرد في خطابه ، وكذا دعوى أنّ في الآية قرينة على ما يقتضي اختصاص وجوب الحذر بصورة العلم بصدق الإنذار ، وذلك فإنه لم يؤخذ في ناحية الإنذار إلّا الإخبار بترتب العقاب على الترك والفعل سواء كان الإخبار بالدلالة المطابقيّة أو بغيرها ، وكما أنّ مقتضى إطلاق الآية وجوب الإنذار على المنذرين سواء أفاد العلم بالصدق للسامعين أم لا ، كذلك الحال في ناحية وجوب القبول على المنذرين بالفتح بلا تقييد بصورة علمهم بصدق الإنذار ، ومقتضى هذا الإطلاق اعتبار إنذارهم علما بمعالم الدين وأحكامه ، ولكن هذا في الحقيقة عبارة اخرى عن اعتبار فتوى الفقيه فإن مضمون الآية اعتبار محتوى كلام المنذر ، بما هو منذر وما أجاب به الماتن قدس‌سره عن ذلك بأنّه لم يكن حال الرواة في الصدر الأول الناقلين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الإمام عليه‌السلام إلّا كحال نقلة الفتاوى عن المجتهدين في هذه الأعصار ، وكما يصدق الإنذار على نقل نقلة الفتاوى عن المجتهد إذا كان المنقول حكما إلزاميا يستلزم التخويف على

١٤٤

لم نقل بكونه مشروطا به ، فإن النفر إنما يكون لأجل التفقه وتعلم معالم الدين ، ومعرفة ما جاء به سيد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كي ينذروا بها المتخلفين أو النافرين ، على الوجهين في تفسير الآية ، لكي يحذروا إذا أنذروا بها ، وقضيته إنما هو وجوب الحذر عند إحراز أن الإنذار بها ، كما لا يخفى.

ثم إنه أشكل أيضا ، بأن الآية لو سلم دلالتها على وجوب الحذر مطلقا فلا

______________________________________________________

المخالفة ، كذلك الحال في نقل كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمعصوم عليه‌السلام في تلك الأعصار.

وعلى الجملة إذا كان النقل مع التخويف معتبرا كان معتبرا بلا تخويف لعدم القول بالفصل وعدم احتمال الفرق بين الخبر المقارن للتخويف وبين غيره.

وعن بعض الأعلام قدس‌سره أن التفكيك بين نقل الحديث والفتوى وقع في الأزمنة المتأخرة لكثرة الأخبار واختلافها في العبادات وقلتها في المعاملات جدا ، بحيث يحتاج استفادة أحكام المعاملات من تلك الروايات إلى صرف العمر في وجه الاستفادة وكيفيتها منها ، وإذا دلّت الرواية على اعتبار الإنذار في الصدر الأول كان مقتضاها اعتبار خبر العدل والثقة. وفيه أنّ الآية على تقدير الإطلاق لا تدلّ إلّا على اعتبار الفتوى يعنى الإفتاء ، وذلك فإنّ المهم في بحث حجية خبر الواحد هو إثبات أن الكلام الصادر من الراوي علم بكلام المعصوم عليه‌السلام بحسب الصدور ، وأما المعنى المستفاد ومحتواه فقول الراوي بما هو راو غير معتبر فيه ، فإنّه يمكن أن يكون المستفاد منه عند المروي إليه خلاف ما استفاد الراوي ، وعلى ذلك فمفاد الآية اعتبار الإنذار بما هو إنذار وقبول إنذاره على المنذر بالفتح ، وهذا في قوة اعتبار محتواه الذي عند الراوي أو حتى إذا لم يكن إنذاره بنقل الرواية.

وبالجملة كون الإنذار في الصدر الأول كان مع نقل كلام المعصوم عليه‌السلام لا يوجب كون موضوع الاعتبار نقل كلامه عليه‌السلام مع قطع النظر عن الإنذار كما لا يخفى.

١٤٥

دلالة لها على حجية الخبر بما هو خبر ، حيث إنه ليس شأن الراوي إلّا الإخبار بما تحمله ، لا التخويف والإنذار ، وإنما هو شأن المرشد أو المجتهد بالنسبة إلى المسترشد أو المقلد.

قلت : لا يذهب عليك أنه ليس حال الرواة في الصدر الأول في نقل ما تحملوا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الإمام عليه‌السلام من الأحكام إلى الأنام ، إلّا كحال نقلة الفتاوى إلى العوام.

ولا شبهة في أنه يصح منهم التخويف في مقام الإبلاغ والإنذار والتحذير بالبلاغ ، فكذا من الرواة ، فالآية لو فرض دلالتها على حجية نقل الراوي إذا كان مع التخويف ، كان نقله حجة بدونه أيضا ، لعدم الفصل بينهما جزما ، فافهم. ومنها : آية الكتمان (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا ...) الآية [١].

______________________________________________________

في الاستدلال على اعتبار الخبر الواحد بآية الكتمان

[١] قد يستدل بقوله سبحانه (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ)(١) وتقريب الاستدلال هو أنّ الغرض والغاية من وجوب الإظهار أو حرمة الكتمان ترتب التصديق العملي على الإظهار ، ومقتضى إطلاق الآية وجوب الإظهار ولو فيما لا يوجب العلم للسامعين ، ومقتضى وجوب الإظهار في الفرض ترتب وجوب العمل على طبقه وهذا معنى التعبّد بالإظهار ، وبتعبير آخر يكون الإظهار حجة ويعتبر علما ولو فيما لا يوجب العلم وجدانا نظير ما يذكر في قوله سبحانه (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ)(٢) من أنّ نهي المرأة عن كتمانها حتى في صورة عدم إفادة إظهارها العلم بالصدق مقتضاه اعتبار قولها في إخبارها بحملها ، وقد أورد

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ١٥٩.

(٢) سورة البقرة : الآية ٢٢٨.

١٤٦

وتقريب الاستدلال بها : إن حرمة الكتمان تستلزم وجوب القبول عقلا ، للزوم لغويته بدونه ، ولا يخفى أنه لو سلمت هذه الملازمة لا مجال للإيراد على هذه الآية بما أورد على آية النفر ، من دعوى الإهمال أو استظهار الاختصاص بما إذا أفاد العلم ، فإنها تنافيهما ، كما لا يخفى ، لكنها ممنوعة ، فإن اللغوية غير لازمة ، لعدم انحصار الفائدة بالقبول تعبدا ، وإمكان أن تكون حرمة الكتمان لأجل وضوح الحق

______________________________________________________

الشيخ قدس‌سره على الاستدلال بأن الغاية من وجوب الإظهار أو حرمة الكتمان أن يكون العمل بمقتضى الإظهار ، إلّا أنّه لا دلالة للآية على لزوم العمل بالإظهار تعبدا للإهمال في ناحية وجوب القبول ، بل يمكن دعوى ظهورها في العمل بالإظهار مع إحراز كونه إظهارا للهدى ، والتذكر بالبينة ، وأورد عليه الماتن قدس‌سره أنّه بعد تسليم الملازمة والإطلاق في وجوب الإظهار أو حرمة الكتمان لا يمكن دعوى الإهمال في وجوب القبول ، وذلك فإنّه بناء على الإهمال أو اختصاص وجوب العمل بصورة العلم بكون إظهاره إظهارا للهداية ، يكون وجوب الإظهار أو حرمة الكتمان حتى في صورة عدم إفادة الإظهار العلم للسامع من اللغو ، وهذا بخلاف آية النفر فإنّه قد تقدم أنّه لا إطلاق فيها بالإضافة إلى وجوب الإنذار أيضا ، والجواب الصحيح عن الاستدلال بآية الكتمان منع الملازمة ، بمعنى أنّه لم يعلم أن الغرض من حرمة الكتمان أو وجوب الإظهار العمل بالإظهار كما كان هذا غرضا للإنذار في آية النفر ، بل الغرض من وجوب الإظهار وحرمة الكتمان وضوح الحقّ والعرفان به والشاهد لذلك ورود الآية في نبوّة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث وقع الإخبار بها في الكتب المنزلة من قبل ، وبهذا يفترق المقام عن حرمة الكتمان على المرأة وإيجاب إظهار ما في رحمها من الحمل حيث إن خبر المرأة الواحدة لا يفيد عادة العلم بقولها فيتعيّن أن يكون تكليفها بالإظهار للعمل بقولها من جواز إطلاقها في أي حال واستحقاقها نفقتها ولو كان طلاقها بائنا إلى غير ذلك.

١٤٧

بسبب كثرة من أفشاه وبيّنه ، لئلا يكون للناس على الله حجة ، بل كان له عليهم الحجة البالغة.

ومنها : آية السؤال عن أهل الذكر (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [١].

______________________________________________________

في الاستدلال على اعتبار الخبر الواحد بآية السؤال

[١] الاستدلال بآية السؤال عن أهل الذكر (١) على اعتبار خبر العدل مبني على أنّ مفادها قضية كليّة يختلف مصاديق ذلك المفاد ، فإنّه إذا كان الشخص جاهلا بنبوة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنّه هل الوعد برسالته ونبوته وارد في أخبار الأنبياء السابقين أو أنّه يمكن كون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشرا ، أو يكون أهل الذكر علماءهم العارفين بكتب الأنبياء السابقين وأحوالهم ، كعلماء اليهود والنصارى ، والمأمور بالسؤال عوام اليهود والنصارى وحيث إنّ هذا الأمر راجع إلى الاعتقادات يكون الأمر بالسؤال عنهم لتحصيل العلم والاعتقاد بنبوة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكذا إذا كان الشخص عالما بنبوة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاهلا بوصيّه وخليفته من بعده فأهل الذكر في هذا الأمر نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وخيار أصحابه العالمين بما سمعوا منه في قضية الخلافة من بعده ، وإذا علم الإمام المعصوم عليه‌السلام وجهل الشخص قوله عليه‌السلام فأهل الذكر في هذا الأمر نفس المعصوم عليه‌السلام أو الرواة عنه الذين أخذوا منه عليه‌السلام الحديث بلا واسطة أو معها ، فالفقيه غير راو للحديث عنه عليه‌السلام ، بل مأمور بالأخذ بقول الإمام عليه‌السلام عن الرواة ، فإن الراوي عنه عليه‌السلام أهل الذكر بالإضافة إلى الفقيه المزبور ، كما أنّ الفقيه المزبور من أهل الذكر بالإضافة إلى العامي الذي يجهل تكاليفه وهمّه معرفته بها ليعمل على طبقه ، فالأمر بالسؤال في موارد الامور الاعتقادية لتحصيل العلم ، وفي مورد الأحاديث الأخذ بمضمونها ، وفي موارد التكاليف العمل على طبق الفتوى المأخوذة فلا بدّ في أن يكون مقتضى الآية

__________________

(١) سورة النحل : الآية ٤٣ ، وسورة الأنبياء : الآية ٧.

١٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

المباركة دليلا على حجية الخبر في مورد نقل الرواية ، وعلى حجية الفتوى في مورد الاستفتاء.

وعلى الجملة كما يكون مقتضى الآية اعتبار الفتوى بالإضافة إلى المستفتى كذلك مقتضاه اعتبار رواية الراوي بالإضافة إلى المروي إليه غايته ، كما يعتبر في المفتي بعض الامور كذلك يعتبر في الراوي عدم كونه فاسقا لما دلّ في آية النبأ على عدم اعتبار خبره ، وفيه أن مفاد الآية والأمر بالسؤال فيها على أهل الذكر لكون السؤال عنه طريقا لعرفان الحق والوصول إليه ، فلا يكون الشخص معذورا إذا ترك السؤال والفحص بأن كان عدم عرفانه الحق والوصول إليه لتركه السؤال والفحص ، ولم يظهر فيها أنّ الأمر بالسؤال لمجرّد التعبّد بالجواب خصوصا بملاحظة مورد الآية في كون السؤال في أمر اعتقادي بوجوب تحصيل العلم والعرفان به.

أضف إلى ذلك ما في ذيلها في قوله سبحانه (إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) وقد نوقش فيها أيضا بأنّ راوي الحديث بما هو راو يصدق عليه أهل الذكر ، فلا دلالة في الآية على اعتبار خبر الراوي حتى لو قيل بأن مفادها التعبّد بالجواب ، وأجاب الماتن قدس‌سره عن المناقشة بأنه يصدق أهل الذكر على بعض الرواة الذين هم من الفقهاء كأضراب زرارة ، وإذا دلّت الآية على اعتبار خبره في الجواب حتى فيما كان السائل عنه فقيها لكانت رواية غيره من العدول معتبرة وإن لم يكن ذلك الغير فقيها للقطع بأنه ليس كون الراوي فقيها دخيلا في اعتبار روايته ، كما لا يحتمل الفرق في اعتبار خبر العدل بين كونه المبتدأ أو المسبوق بالسؤال.

أقول : لو لم تكن لفقاهة زرارة وأضرابه دخالة في الرجوع الى روايتهم لم تعم الآية للسؤال عنهم من الرواية لظهور الآية المباركة لدخالة عنوان أهل الذكر في اعتبار

١٤٩

وتقريب الاستدلال بها ما في آية الكتمان.

وفيه : إن الظاهر منها إيجاب السؤال لتحصيل العلم ، لا للتعبد بالجواب.

وقد أورد عليها : بأنه لو سلم دلالتها على التعبد بما أجاب أهل الذكر ، فلا دلالة لها على التعبد بما يروي الراوي ، فإنه بما هو راو لا يكون من أهل الذكر والعلم ، فالمناسب إنما هو الاستدلال بها على حجية الفتوى لا الرواية.

وفيه : إن كثيرا من الرواة يصدق عليهم أنهم أهل الذكر والاطلاع على رأي الإمام عليه‌السلام كزرارة ومحمد بن مسلم ومثلهما ، ويصدق على السؤال عنهم أنه

______________________________________________________

جوابهم فيقتصر مدلولها في الشمول باعتبار فتوى الفقيه ، ولعله قدس‌سره يشير إلى ذلك بقوله : فافهم.

ولكن مع ذلك من كان شأنه جمع الروايات بطرقها المعروفة في الأخذ والنقل المعبّر عنهم بنقلة الأحاديث يصدق عليه عنوان أهل الذكر مع قطع النظر عن فقاهته وعدمها ، والسؤال عنهم من الروايات الواصلة إليهم بالطرق المعروفة يدخل في السؤال عن أهل الذكر ، وإذا كان المستفاد من الآية جواز التعبد بجوابهم يكون ذلك في معنى اعتبار الخبر ، والعمدة في الإشكال على الاستدلال بالآية أنّه لم يظهر من الآية أنّ الأمر بالسؤال عن أهل الذكر للأخذ بجوابهم ولو تعبدا بل الظاهر بقرينة مورد الآية وما ورد في ذيلها من قوله سبحانه : (إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) للإرشاد إلى طريق تحصيل العلم بالواقع والحق وعدم كون الشخص معذورا إذا ترك طريق الفحص على ما مرّ ، نعم لو قام دليل من الخارج أن خبر العدل عن الإمام عليه‌السلام ولو كان بعنوان خبر الواحد علم بقوله عليه‌السلام أو أن فتوى الفقيه علم بالحكم الواقعي كان الرجوع إلى الرواية والظفر بالخبر العادل في مورد كالظفر بفتوى الفقيه من تحصيل العلم بقول المعصوم أو بالحكم الشرعي.

١٥٠

السؤال عن أهل الذكر والعلم ، ولو كان السائل من أضرابهم ، فإذا وجب قبول روايتهم في مقام الجواب بمقتضى هذه الآية ، وجب قبول روايتهم ورواية غيرهم من العدول مطلقا ، لعدم الفصل جزما في وجوب القبول بين المبتدئ والمسبوق بالسؤال ، ولا بين أضراب زرارة وغيرهم ممن لا يكون من أهل الذكر ، وإنما يروي ما سمعه أو رآه ، فافهم.

ومنها : آية الاذن (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) [١]. فإنه تبارك وتعالى مدح نبيه بأنه يصدق المؤمنين ، وقرنه بتصديقه تعالى.

______________________________________________________

في الاستدلال على اعتبار الخبر الواحد بآية الاذن

[١] ووجه الاستدلال بها على اعتبار الخبر الواحد هو مدح الله سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تصديقه للمؤمنين وقرن تصديقهم بتصديق الله سبحانه ، ولو لم يكن خبر العدل أو الثقة معتبرا لما كان في تصديقه صلى‌الله‌عليه‌وآله موضع مدح ، وقد أورد الماتن على الاستدلال بوجهين ، الأول : أن المراد من الاذن سريع القطع والاعتقاد لا العمل بالخبر تعبدا ، والثاني : أنّه على تقدير كون المراد تصديق الغير في خبره عملا فهو بالإضافة إلى ما ينفع المخبر ولا يضرّ بالغير.

وبتعبير آخر عدم إظهار خلاف خبره له وردّ خبره عليه ، لا ترتيب آثار ثبوت المخبر به عليه ، وهذه جهة أخلاقية حيث يرى الغير تصديق خبره وثبوت اعتباره عند السامع ، وقد ذكر الشيخ قدس‌سره أن اختلاف الجارّ في إضافة إيمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله إليه سبحانه (يُؤْمِنُ بِاللهِ) عن الجارّ في إضافته إلى المؤمنين مع تكرار الفعل (يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) قرينة على اختلاف المراد من الإيمان فيهما ففي إضافته إليه سبحانه بمعنى الاعتقاد واليقين وفي إضافته إلى المؤمنين التصديق صورة بمعنى عدم الإنكار عليهم عند

١٥١

وفيه : أولا : إنه إنما مدحه بأنه أذن ، وهو سريع القطع ، لا الاخذ بقول الغير تعبدا.

وثانيا : إنه إنما المراد بتصديقه للمؤمنين ، هو ترتيب خصوص الآثار التي تنفعهم ولا تضر غيرهم ، لا التصديق بترتيب جميع الآثار ، كما هو المطلوب في باب حجية الخبر ، ويظهر ذلك من تصديقه للنمام بأنه ما نمّه ، وتصديقه لله تعالى بأنه نمّه ، كما هو المراد من التصديق في قوله عليه‌السلام : (فصدقه وكذبهم) ، حيث قال

______________________________________________________

خبرهم ، بل الإصغاء والسكوت. وقول ما يتخيّل المخبر تصديق خبره ، ولكن لا يخفى أن الإيمان يتعدى بكل من الباء واللام ويراد منه التصديق والاعتقاد واقعا كقوله سبحانه : (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ)(١) و (قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا)(٢) و (قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً)(٣) إلى غير ذلك ، وقوله سبحانه (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِ)(٤) وقد يفرق بين الباء واللام بأن المراد في موارد التعدي باللام الإيمان والاعتقاد بالشخص في قوله ، وفي موارد التعدي بالباء الاعتقاد بحصول نفس الشيء وحيث إن تصديق الله سبحانه في وعده وقوله من جهات الاعتقاد بنفسه فإن ذاته سبحانه عين كماله والإيمان به لا ينفك عن التصديق بكلامه وخبره اختلفت التعدية في إضافة الإيمان إليه سبحانه عن إضافته إلى المؤمنين.

أقول : لا يمكن أن يكون المراد من الاذن في الآية سريع القطع والاعتقاد ، فإن كون إنسان سريع الاعتقاد والقطع نقص له ولا يكون موجبا للمدح بل يكون قادحا

__________________

(١) سورة يونس : الآية ٨٣.

(٢) سورة ابراهيم : الآية ١٠.

(٣) سورة الإسراء : الآية ٩٠.

(٤) سورة الاعراف : الآية : ١٥٨.

١٥٢

ـ على ما في الخبر ـ : (يا محمد كذب سمعك وبصرك عن أخيك : فإن شهد عندك خمسون قسامة أنه قال قولا ، وقال : لم أقله ، فصدّقه وكذّبهم) فيكون مراده تصديقه بما ينفعه ولا يضرّهم ، وتكذيبهم فيما يضره ولا ينفعهم ، وإلّا فكيف يحكم بتصديق الواحد وتكذيب خمسين؟ وهكذا المراد بتصديق المؤمنين في قصة إسماعيل ، فتأمل جيدا.

______________________________________________________

فيه خصوصا الذي يشغل منصب الزعامة لقوم فضلا عن الامة وجميع البشر ، هذا مع الإغماض عن كون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معصوما وحيث إنّ الإيمان بالله سبحانه والتصديق بكلّ مخبر في خبره ولو كان فاسقا وكاذبا لا يجتمعان كما هو المفروض في مورد نزول الآية ، يتعين أن يكون المراد من تصديق المؤمنين في خبرهم إظهار التصديق لا بداعي الاعتقاد والتصديق الحقيقي لأدب المعاشرة ولو في موارد العلم بكذب المخبر في خبره كما هو المفروض في مورد نزولها ، وهذا هو المراد أيضا من التصديق المروي عنه عليه‌السلام «يا محمد كذب سمعك وبصرك عن أخيك فإن شهد عندك خمسون قسامة وقال لك قولا فصدّقه وكذّبهم» (١).

والحاصل لا دلالة في الآية الكريمة على اعتبار الخبر الواحد بوجه.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٢ : ٢٩٥ ، الباب ١٥٧ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ٤.

١٥٣
١٥٤

فصل

في الأخبار التي دلّت على اعتبار أخبار الآحاد وهي وإن كانت طوائف كثيرة [١] كما يظهر من مراجعة الوسائل وغيرها ، إلّا أنه يشكل الاستدلال بها على حجية أخبار الآحاد بأنها أخبار آحاد ، فإنها غير متفقة على لفظ ولا على معنى ، فتكون متواترة لفظا أو معنى.

ولكنه مندفع بأنها وإن كانت كذلك ، إلّا أنها متواترة إجمالا ، ضرورة أنه يعلم إجمالا بصدور بعضها منهم عليهم‌السلام ، وقضيته وإن كان حجية خبر دلّ على حجيته أخصها مضمونا إلّا أنه يتعدى عنه فيما إذا كان بينها ما كان بهذه الخصوصية ، وقد دلّ على حجية ما كان أعم ، فافهم.

______________________________________________________

في الأخبار التي استدل بها على اعتبار الخبر الواحد

[١] قد يستدل على اعتبار الخبر الواحد بالأخبار التي يستظهر منها اعتباره ، أو يكون ظاهرها اعتباره ، وبما أنّ الاستدلال على اعتبار خبر الواحد بالخبر الواحد مصادرة ولا تكون تلك الأخبار من المتواتر لفظا أو معنى ؛ لأنّها على طوائف فقد صحّح الاستدلال بها بدعوى أنّها متواترة إجمالا ، وعليها فيؤخذ منها بأخصّها مضمونا فيعتبر بها خبر يكون من حيث السند بحيث يكون من القدر المتيقن في الاعتبار بحسبها ، ولو كان مثل هذا الخبر كالخبر الصحيح الأعلائي موجودا بين الأخبار ويكون مدلولها أوسع ، بأن يدلّ على اعتبار الخبر الواحد إذا كان رواته ثقات أو حتى ممدوحين يثبت به اعتبار خبر الثقة بل خبر الممدوح كما لا يخفى.

أقول : لم أجد في الروايات الواردة الظاهرة في اعتبار الخبر ما يكون في ناحية سندها صحيحا أعلائيا يكون مضمونها اعتبار خبر مطلق الثقة أو الإمامي الممدوح ،

١٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

وقد يقال : ما ورد في الجواب عن السؤال عن الرضا عليه‌السلام : «أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني فقال : نعم» (١) يستفاد منه كون اعتبار خبر الثقة كان مفروغا عنه بين الإمام والسائل وإنما سؤاله كان ناظرا إلى الصغرى ، ولكن لا يخفى أن يونس بن عبد الرحمن كان فقيها إماميا فالسؤال عن الأخذ به وأنّه ثقة ليس لجهة أنّ كونه فقيها وإماميا غير دخيل في اعتبار خبره أو فتواه ، بل لجهالة كونه ثقة عند الإمام عليه‌السلام فلا دلالة لها على حجية مطلق خبر الثقة فضلا عن فتواه ، أضف إلى ذلك احتمال كون المراد من الثقة الثقة في دينه المرادف للعدالة نظير ما ورد : «لا تصلّ إلّا خلف من تثق بدينه» (٢) إلى غير ذلك.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٤٧ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٣.

(٢) وسائل الشيعة ٨ : الباب ١٢ من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث الأول.

١٥٦

فصل في الإجماع على حجية الخبر.

وتقريره من وجوه :

أحدها : دعوى الإجماع من تتبع فتاوى الأصحاب على الحجية من زماننا إلى زمان الشيخ قدس‌سره

______________________________________________________

في استدلال على اعتبار الخبر الواحد بالإجماع

[١] يستدل على اعتبار الخبر الواحد بالإجماع ويقرر الإجماع بوجوه.

منها : دعوى الإجماع المحصل ، وأنه يحصل لمن فحص كلمات الأصحاب من الأزمنة المتأخرة إلى زمان قدماء الأصحاب قطع برضا المعصوم عليه‌السلام بالعمل بخبر العدل بل الثقة لا بانضمام قاعدة اللطف التي تقدم عدم تماميتها ولا من باب الإجماع الدخولي المذكور عدم تحققه عادة ، بل حصول القطع برضاه لمجرد الحدس أن قولهم بأخبار العدول والثقات لا ينفك عن رضاه عليه‌السلام به وأن فتاواهم بالاعتبار لا يمكن أن تكون على خلاف الحق والواقع ، ويمكن تحصيل ذلك من ملاحظة الإجماعات المنقولة في كلمات جملة من الأصحاب على اعتبار خبر الواحد العدل ، ولكن لا يخفى أن تحصيل الإجماع القولي بما ذكر غير ممكن ودعوى تحققه كما ترى ؛ لأن الخصوصيات المأخوذة في اعتبار الخبر الواحد في كلمات الأصحاب بل في عبارات ناقلي الإجماع على اعتباره مختلفة ، فإن ظاهر بعضها اعتبار خبر العدل ، وظاهر البعض الآخر اعتبار خبر الثقة ، وظاهر البعض الثالث اعتبار خبر الثقة عند عدم خبر العدل ، ورابعها اعتبار الخبر الموثوق بصدوره أو مضمونه إلى غير ذلك ، ومع هذا الاختلاف حتى في الإجماعات المنقولة لا يمكن تحصيل العلم بالإجماع فضلا عن كونه إجماعا تعبديا.

١٥٧

فيكشف رضاه عليه‌السلام بذلك ، ويقطع به ، أو من تتبع الإجماعات المنقولة على الحجية ، ولا يخفى مجازفة هذه الدعوى ، لاختلاف الفتاوى فيما أخذ في اعتباره من الخصوصيات ، ومعه لا مجال لتحصيل القطع برضاه عليه‌السلام من تتبعها ، وهكذا حال تتبع الإجماعات المنقولة ، اللهمّ إلّا أن يدعى تواطؤها على الحجية في الجملة ، وإنما الاختلاف في الخصوصيات المعتبرة فيها ، ولكن دون إثباته خرط القتاد.

ثانيها : دعوى اتفاق العلماء عملا ـ بل كافة المسلمين ـ على العمل بخبر الواحد في امورهم الشرعية [١] ، كما يظهر من أخذ فتاوى المجتهدين من الناقلين لها.

______________________________________________________

لا يقال : يمكن مع هذا الاختلاف الأخذ بالقدر المتيقن المعبر عنه بالأخص.

فإنّه يقال : لا يمكن ذلك في المقام ؛ لأن من يعتبر خبر الثقة لا يقول باعتبار خبر العدل إذا لم يكن خبر الثقة معتبرا ، ومن يقول باعتبار خبر العدل ينكر اعتبار خبر الثقة ، وهكذا ، ومع هذا الاختلاف لا يمكن تحصيل العلم بالاعتبار في الأخص خصوصا مع احتمال كون المدرك لاعتبارهم محتملا في الوجوه المتقدمة من دلالة بعض الآيات والروايات أو في الوجوه التي يأتي التعرض لها.

[١] ثاني الوجوه دعوى الإجماع العملي من الأصحاب ، حيث يرى الفاحص في كلمات الأصحاب في المسائل الفقهية أنهم يعملون فيها بأخبار الآحاد حتى من القائلين بعدم اعتبارها كالسيد المرتضى وأتباعه ، بل لا يختص ذلك بالعلماء فيرى أن المتشرعة يعملون بأخبار الآحاد من نقلة الفتاوى إليهم من الثقات والعدول.

وفيه أن العمل بالخبر الواحد وإن كان واقعا من العلماء والمتشرعة ، إلّا أن عملهم بها ليس بما هم متشرعة ، ولذا يعملون بالخبر الواحد في سائر الامور الراجعة إلى معاشهم ومعاشرتهم فيكون عملهم بما هم عقلاء حيث جرت سيرة العقلاء ولو من غير المتدينين بدين الإسلام أو بدين أصلا العمل بأخبار الثقات فيما بينهم

١٥٨

وفيه : مضافا إلى ما عرفت مما يرد على الوجه الأول ، أنه لو سلم اتفاقهم على ذلك ، لم يحرز أنهم اتفقوا بما هم مسلمون ومتديّنون بهذا الدين ، أو بما هم عقلاء ولو لم يلتزموا بدين ، كما هو لا يزالون يعملون بها في غير الأمور الدينية من الأمور العادية ، فيرجع إلى ثالث الوجوه ، وهو دعوى استقرار سيرة العقلاء من ذوي الأديان وغيرهم على العمل بخبر الثقة ، واستمرت إلى زماننا ، ولم يردع عنه نبي ولا وصي نبي ، ضرورة أنه لو كان لاشتهر وبان ، ومن الواضح أنه يكشف عن رضى

______________________________________________________

فيرجع هذا الوجه إلى الثالث من تقرير الإجماع حيث إنهم يعملون في امورهم بأخبار الثقات فيما بينهم ولا يفرقون بينها وبين امورهم الدينية من الأخبار بالفتاوى ونحوها ولم يردعهم الشارع عن سيرتهم في الامور الدينية وهذا كاشف قطعي عن إمضاء الشارع ورضاه بها.

لا يقال : لم يثبت الردع عن السيرة المشار إليها في الشرعيات فإنّ الآيات الواردة في النهي عن السكون بغير العلم والنهي عن اتباع الظن والتعليل بأنّه لا يغني من الحق كافية في الردع ، وأجاب الماتن قدس‌سره عن ذلك بأنّ منصرف تلك الآيات وظهورها الإرشاد إلى عدم كفاية غير العلم في اصول الدين ومع الإغماض عن ذلك ، المراد منها لانصراف إطلاقاتها أو كون القدر المتيقن منها توجّه النهي إلى ظن لم يقم على اعتباره دليل ، وعليه يكون ردع السيرة بها دوريا ؛ لأنّ الردع بها يتوقف على عدم كون السيرة مخصصة لعموماتها أو مقيدة لإطلاقاتها وعدم كونها مخصصة أو مقيدة موقوف على الردع عن السيرة بها.

لا يقال : على ذلك لا يمكن إثبات الخبر الواحد بالسيرة أيضا حيث يتوقف اعتباره على عدم كونها مردوعة بالآيات وعدم كونها مردوعة يتوقف على كونها مخصّصة أو مقيدة للعمومات وكونها مخصصة أو مقيدة موقوف على عدم الردع بها

١٥٩

الشارع به في الشرعيات أيضا.

إن قلت : يكفي في الردع الآيات الناهية ، والروايات المانعة عن اتباع غير العلم ، وناهيك قوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ،) وقوله تعالى : (وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً).

قلت : لا يكاد يكفي تلك الآيات في ذلك ، فإنه ـ مضافا إلى أنها وردت إرشادا إلى عدم كفاية الظن في أصول الدين ، ولو سلم فإنما المتيقن لو لا أنه المنصرف إليه إطلاقها هو خصوص الظن الذي لم يقم على اعتباره حجة ـ لا يكاد يكون الردع بها إلّا على وجه دائر ، وذلك لأن الردع بها يتوقف على عدم تخصيص عمومها ، أو تقييد إطلاقها بالسيرة على اعتبار خبر الثقة ، وهو يتوقف على الردع عنها بها ، وإلّا لكانت مخصصة أو مقيدة لها ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

عنها.

فإنّه يقال : يكفي في حجيّته ما جرت عليه سيرة العقلاء في مقام الاحتجاج عدم ثبوت الردع عنها ولو لعدم نهوض ما هو صالح لردعها ، ويكفي ذلك في الالتزام بكونها مخصصة أو مقيدة للآيات حيث إن ما جرت عليه سيرة العقلاء في مقام الاحتجاج والطاعة والمعصية استحقاق الجزاء على المخالفة وعدم استحقاقه عليها مع موافقته يكون متبعا عقلا ما لم يقم دليل على المنع عن اتباعه في الشرعيات.

وعلى الجملة يكفي في كون السيرة مخصّصة أو مقيدة لعموم الآيات وإطلاقاتها عدم ثبوت الردع بها عنها.

أقول : ما ذكره قدس‌سره من أنّه يكفي في اتباع السيرة العقلائية عقلا في مقام الإطاعة عدم ثبوت الردع وهذا المقدار يكفي في تخصيص العمومات وتقييد الإطلاقات لا يمكن المساعدة عليه ، فإن اللازم عقلا في جواز الاعتماد على شيء من الطرق

١٦٠