دروس في مسائل علم الأصول - ج ٣

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-94850-9-1
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

هو مقيّد كما يمكن اجتماع صلاح المطلق مع فساد المقيّد لأنّ الصلاح والفساد لا يكونان من المتضادّين دائما كما أنّ صلاح السكنجبين دفع الصفراء وبتقيّده بزمان أو مكان مورثا للحمى ، فالأوّل مصلح للمزاج والثاني فساد له ، فلا تنافي بين المحبوبية من الجهة الأولى والمبغوضية من الجهة الثانية (١).

أقول : ظاهر كلامه قدس‌سره أنّ مورد الخلاف في النهي عن المعاملة ينحصر في دلالته على فسادها بعد الفراغ عند الكلّ عن عدم المنافاة بين حرمة المعاملة ثبوتا مع صحّتها ، مع أنّ الأمر ليس كذلك ، بل ليس هذا أيضا مراد الماتن قدس‌سره لما يأتي من أنّ حرمة المعاملة بالمعنى السببي ـ ولو بعنوان ينطبق عليها ـ وإن كان لا ينافي صحتها إلّا أنّه إذا كان التحريم عنها بالمعنى المسببي أو بعنوان ينطبق على الوفاء بها فهو أيضا مورد الخلاف في المنافاة وعدمها كما سيأتي ، ولا يعتبر في المسألة الأصولية أن يكون أصل ثبوت المحمول للموضوع رأسا محلّ الخلاف ، بل يكفي كون الخلاف في بعض فروض الموضوع كما هو الحال في مبحث الملازمة بين حرمة عبادة وفسادها ، فإنّ الملازمة فيما كان تحريمها غيريا أو تنزيهيّا وفي بعض صور تزاحم الملاكين محلّ الكلام.

وأمّا ما ذكره قدس‌سره من كفاية تعدّد مورد النهي والأمر ذهنا أو إمكان كون الطبيعي المطلق مقرّبا والمقيّد مبعّدا فقد تقدّم الكلام فيه في بحث اجتماع الأمر والنهي ، فلا نعيد.

وذكر المحقق النائيني قدس‌سره أنّ المسألة عقليّة ولا تكون من مباحث الألفاظ ، وذلك فإنّ غاية ما يدلّ عليه النهي عدم الأمر بمتعلّقه ، وأمّا عدم الملاك في الفعل

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ / ٣٨١.

٦١

الثالث : ظاهر لفظ النهي وإن كان هو النهي التحريمي ، إلّا أن ملاك البحث يعم التنزيهي [١] ، ومعه لا وجه لتخصيص العنوان ، واختصاص عموم ملاكه بالعبادات لا يوجب التخصيص به ، كما لا يخفى. كما لا وجه لتخصيصه بالنفسي ، فيعم

______________________________________________________

المنهي عنه ليحكم بفساده فليس للنهي دلالة عليه ، والسرّ في ذكرهم مسألة اقتضاء حرمة العبادة فسادها في مباحث الألفاظ هو أنّ الأصوليين لم يعنونوا للأحكام العقلية غير المستقلة من مباحث الاستلزامات بابا ، ولذا ذكروها في مباحث الألفاظ بمناسبة ما ، هذا إذا قيل بصحّة العمل مع الملاك ، وأمّا بناء على عدم كفايته واشتراط الأمر بالفعل في الحكم بصحته فلذكرها في مباحث الألفاظ وجه لدلالة النهي عن عبادة على عدم الأمر بها (١).

أقول : ما ذكره في وجه جعل الاستلزامات في ضمن مباحث الألفاظ صحيح إلّا أنّ دلالة النهي على عدم الأمر بالمنهي عنه وكذا عكسه لا تدخل في الدلالة اللفظية على ما هو المصطلح عندهم وإلا يكون النهي عن العبادة كاشفا عن عدم الملاك كما يأتي بيانه.

جريان النزاع في النهي التنزيهي والغيري أيضا

[١] تعرض قدس‌سره في هذا الأمر للمراد من النهي في عنوان النزاع ، حيث يكون النهي تحريميا وتنزيهيا ونفسيا وغيريا ، وبنى على ظاهر النهي وإن كان هو التحريمي ولكنّ المراد هو الأعمّ فيعمّ التنزيهي بأن يراد من النهي الوارد في عنوان النزاع طلب ترك عبادة أو معاملة والقرينة على التعميم عموم ملاك الاقتضاء فإنّ الموجب لبطلان العبادة لا يختصّ بما إذا كان النهي عنها تحريميا بل يعمّ النهي التنزيهي أيضا.

نعم ، هذا التعميم يختصّ بالنهي عن العبادة حيث لا موجب لتوهّم اقتضاء

__________________

(١) أجود التقريرات ١ / ٣٨٥.

٦٢

الغيري إذا كان أصليا ، وأما إذا كان تبعيا ، فهو وإن كان خارجا عن محل البحث ، لما عرفت أنه في دلالة النهي والتبعي منه من مقولة المعنى ، إلّا أنه داخل فيما هو ملاكه ، فإن دلالته على الفساد على القول به فيما لم يكن للإرشاد إليه ، إنما يكون لدلالته على الحرمة ، من غير دخل لاستحقاق العقوبة على مخالفته في ذلك ، كما توهمه القمي قدس‌سره ويؤيد ذلك أنه جعل ثمرة النزاع في أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده ، فساده إذا كان عبادة ، فتدبر جيدا.

______________________________________________________

النهي التنزيهي عن معاملة فسادها حتّى بناء على اقتضاء النهي التحريمي عن معاملة فسادها ، ولكن اختصاص ملاك عموم النهي بالعبادة لا يوجب أن يراد بالنهي في عنوان النزاع النهي التحريمي. غاية الأمر يمنع في المعاملات اقتضاء مطلق النهي عنها فسادها ويلتزم بما إذا كان تحريميا أو يمنع اقتضاء النهي عنها فسادها حتّى إذا كان النهي تحريميا.

وأمّا النهي الغيري فيعمّه النهي في عنوان الخلاف إذا كان أصليّا بأن كان له خطاب مستقل ولو كان الخطاب بالأمر بتركه ، حيث لا موجب لتخصيص النهي في عنوان الخلاف بما إذا كان النهي نفسيا فإنّ استحقاق العقاب على المخالفة والارتكاب لا دخل له في اقتضاء النهي عن عبادة فسادها كما زعمه المحقّق القمي قدس‌سره (١). كيف؟ وقد جعلوا ثمرة الخلاف في بحث اقتضاء الأمر بشيء النهي عن ضدّه الخاص ، بطلان الضدّ الذي من قبيل العبادة مع أنّ النهي عنه بناء على الاقتضاء غيري.

نعم ، إذا كان النهي الغيري تبعيّا فلا يدخل في عنوان الخلاف حيث إنّ النهي

__________________

(١) قوانين الأصول ١ / ١٠٢ في المقدّمة السادسة.

٦٣

.................................................................................................

______________________________________________________

الوارد في عنوان الخلاف كما تقدّم ظاهر فيما كان من قبيل القول واللفظ ، وأمّا النهي التبعي فهو من قبيل المعنى المستفاد من ثبوت الواجب النفسي بملاحظة الملازمة بين إيجابه وإيجاب ترك ضدّه الخاص إلّا أنّ ملاك اقتضاء النهي الفساد موجود في النهي التبعي أيضا ، حيث إنّ الموجب لبطلان عمل عبادة ، حرمته ، سواء كان للحرمة خطاب لفظي أم ثبتت من غير الخطاب اللفظي.

أقول : مخالفة الأمر الغيري أو النهي الغيري لا يكون مبعّدا ولا يكون في ارتكاب المنهي عنه بالنهي الغيري أيّة مبغوضية على ما تقدّم في بحث الواجب النفسي والغيري ، وإذا أمكن إحراز الملاك في المحرّم الغيري فيمكن الإتيان به عبادة ووقوعه مقرّبا فلا اقتضاء في النهي الغيري للفساد.

نعم ذكرنا أنّه مع النهي الغيري عن العبادة لا يمكن إحراز الملاك فيه حيث إنّ الكاشف عن الملاك إمّا الأمر أو الترخيص في التطبيق ، ولا يمكن اجتماع أيّ واحد منهما مع النهي الغيري عن العبادة ، فإنّ الأمر طلب الارتكاب والترخيص في التطبيق إذن في الارتكاب والمفروض أنّه منهي عنه.

وبالجملة مع النهي الغيري عن عبادة لا يمكن الأمر بها ولا الترخيص فيها ؛ لأنّ النهي ولو كان غيريا مع الأمر أو الترخيص في التطبيق متنافيان في المقتضى (بالفتح) ، نعم إذا أحرز وجود ملاك المحبوبية في المنهي عنه غيريا وأتي به للتقرّب بالملاك أمكن الحكم بصحّته ، ولكن هذا مجرّد فرض في العبادات.

ومما ذكر يظهر أنّ اقتضاء الحرمة النفسية الذاتية عن عبادة فسادها لتنافي الحرمة النفسية مع صحة العمل عبادة في الملاك ، بخلاف اقتضاء الحرمة الغيرية فإنّ

٦٤

.................................................................................................

______________________________________________________

اقتضائها بطلان العمل عبادة لعدم إمكان كشف الملاك للصحة مع تلك الحرمة ، هذا كلّه في النهي الغيري.

وأمّا النهي التنزيهي ، فقد ذكر المحقّق النائيني قدس‌سره أنّ الكلام في اقتضاء النهي عن عبادة فسادها يختصّ بالنهي التحريمي ، وأمّا إذا كان النهي تنزيهيا وبمعنى الكراهة فلا اقتضاء فيه للفساد والوجه في ذلك أنّ النهي التحريمي يقتضي الفساد لعدم إمكان ترخيص الشارع في تطبيق الطبيعي المأمور به على المنهي عنه للمضادّة بين الترخيص في الفعل مع الإلزام بالترك حتى بنحو الترتّب ولكن النهي الكراهتي يتضمّن الترخيص فالترخيص في التطبيق كاشف عن ثبوت الملاك بل إطلاق متعلّق الأمر وانطباقه على متعلّق النهي الكراهتي ، هذا فيما إذا كان الأمر بالطبيعي بمعنى طلب صرف وجوده.

وأمّا إذا كان مفاده شمول الطلب لكلّ فرد من أفراد الطبيعة ولو على نحو البدل يكون النهي التنزيهي عن فرد منافيا للأمر بذلك الفرد للمضادة بين طلب ذلك الفرد كما هو مقتضى الأمر به وطلب تركه ، والمصحّح لوقوع العمل عبادة إمّا الأمر به فعلا أو وجود الملاك فيه ، والأول لا يمكن مع تعلّق النهي الكراهتي عنه ، والثاني غير محرز لعدم الكاشف عنه حيث إنّ الكاشف عن الملاك إمّا الأمر أو الترخيص في التطبيق وكلاهما مفقودان على الفرض ، ولكنّ الكلام في النهي عن العبادة ليس فيما كان الأمر بالعبادة بنحو العموم الاستغراقي فيصحّ القول بأنّ النهي الكراهتي عن عبادة لا يقتضي فسادها (١).

__________________

(١) أجود التقريرات ١ / ٣٨٦.

٦٥

.................................................................................................

______________________________________________________

أقول : متعلّق النهي إمّا العبادة الفعلية أي الإتيان بالفعل بداعي الأمر به أو لمحبوبيته بنفسه عند الشارع أو بالطبيعي المنطبق عليه ، فإن كان النهي عن العمل كذلك من غير ترخيص فيه يكون النهي المزبور إرشادا إلى عدم الأمر بالفعل وعدم محبوبيته عند الشارع كي يؤتى به عبادة فتكون حرمته تشريعية لا محالة ، ومع ثبوت الترخيص في الإتيان به عبادة يكون النهي إرشادا إلى قلّة ثوابها بالإضافة إلى سائر الأفراد والمصاديق كالنهي عن الصلاة في بيوت النار والنهي عن صوم يوم عاشوراء كما تعرّضنا لذلك في جواب شبهة اجتماع الأمر والكراهة في العبادات.

وقد ذكرنا مرارا أنّ ظاهر النهي عن عبادة مع عدم ثبوت الترخيص في الإتيان به بنحو العبادة هو الإرشاد إلى عدم تشريعها وفسادها ومع ثبوت الترخيص في الإتيان به عبادة يكون النهي إرشادا إلى قلّة ثوابها بالإضافة إلى سائر الأفراد والأمثال ، وأمّا إذا فرض تعلّق النهي التحريمي بذات العمل حتّى ولو أتى به بغير الوجه القربي بحيث تكون حرمته ذاتية كما ينسب ذلك إلى بعض في النهي عن صوم يوم العيدين فهذا النهي لا يكون إرشادا إلى فساده عبادة بل الحرمة تلازم الفساد بمبدئها حيث إنّها تكشف عن الفساد في نفس الفعل فلا يصلح للتقرّب به لا محالة.

وإذا فرض تعلّق النهي الكراهتي بذات العمل كذلك فهذا النهي كاشف عن الحضاضة في الفعل بحيث يكون تركه اجتنابا عن تلك الحضاضة ولا يمكن معها التقرّب بذلك الفعل بل يكون الإتيان به لكونه محبوبا للمولى افتراء على الله ومشمولا لقوله تعالى : (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ)(١) ، فالنهي الكراهتي عن

__________________

(١) سورة يونس : الآية ٥٩.

٦٦

الرابع : ما يتعلق به النهي ، إما أن يكون عبادة أو غيرها ، والمراد بالعبادة ـ هاهنا [١] ـ ما يكون بنفسه وبعنوانه عبادة له تعالى ، موجبا بذاته للتقرب من حضرته لو لا حرمته ، كالسجود والخضوع والخشوع له وتسبيحه وتقديسه ، أو ما لو تعلق الأمر به كان أمره أمرا عباديا ، لا يكاد يسقط إلّا إذا أتى به بنحو قربى ، كسائر

______________________________________________________

ذات العمل يكون منافيا لوقوع شيء عبادة بمبدئها ، ولذا ذكرنا أنّه لا معنى لأن تكون العبادة الفعلية مكروهة وإنّما يتعلق النهي بها ارشادا إلى قلّة الثواب بالإضافة إلى سائر الأفراد الناشئة من الحضاضة في شيء من جوانبه لا في نفس الفعل أو من استحباب عنوان آخر ينطبق ذلك العنوان على تركه عبادة كما ذكر ذلك الماتن قدس‌سره وغيره في النهي عن صوم يوم عاشوراء.

والمتحصّل إذا كان النهي التنزيهي متضمّنا للترخيص في نفس الفعل لا في الإتيان به بنحو العبادة يحكم ببطلانه عبادة وبوقوعه بنحو التشريع المحرم كما قيل بذلك في قراءة الجنب والحائض بأكثر من سبع آيات.

المراد من العبادة في البحث

[١] ذكر قدس‌سره أنّ المراد بالعبادة في عنوان الخلاف أحد أمرين :

الأوّل : ما يكون بنفسه وعنوانه موجبا للتقرّب به إلى الله سبحانه وتعالى لو لا حرمته فإنّ الفعل إذا كان في نفسه ومع قطع النظر عن الأمر به كذلك فيطلق عليه العبادة ويدخل في عنوان الخلاف ، كما في السجود لله وتسبيحه وذكره وتقديسه سبحانه وتعالى.

والثاني : أن يكون الفعل بحيث لو أمر به لما كان يسقط أمره إلّا إذا أتى بقصد الامتثال والتقرب إلى الله كسائر أمثاله من العبادات كصوم يوم العيدين والصلاة في أيام الحيض والصوم في السفر.

٦٧

أمثاله ، نحو صوم العيدين والصلاة في أيام العادة ، لا ما أمر به لأجل التعبد به ، ولا ما يتوقف صحته على النية ، ولا ما لا يعلم انحصار المصلحة فيها في شيء ، كما عرّف بكل منها العبادة ، ضرورة أنها بواحد منها ، لا يكاد يمكن أن يتعلق بها النهي ، مع ما أورد عليها بالانتقاض طردا أو عكسا ، أو بغيره ، كما يظهر من مراجعة المطولات ، وإن كان الإشكال بذلك فيها في غير محله ، لأجل كون مثلها من التعريفات ، ليس بحد ولا برسم ، بل من قبيل شرح الإسم كما نبهنا عليه غير مرة ، فلا وجه لإطالة الكلام بالنقض والإبرام في تعريف العبادة ، ولا في تعريف غيرها كما هو العادة.

______________________________________________________

أقول : في تمثيل ذلك بالصلاة ما لا يخفى ، فإنّها ذكر وقراءة ودعاء وركوع وسجود لله وكلّها بأنفسها عبادة. ثمّ تعرّض قدس‌سره لتعاريف العبادة.

فنقل عن بعضهم أنّ العبادة ما أمر به لأجل التعبّد به (١).

وعن بعض آخر العبادة ما يتوقّف صحته على النيّة (٢).

وعن ثالث العبادة ما لا يعلم انحصار المصلحة فيها في شيء (٣).

إلّا أنّ العبادة بواحد من المعاني الثلاثة غير قابل لفرض تعلّق النهي بها ، فإنّ الأمر لا يتعلّق بما هو متعلّق النهي وما هو متعلّق الأمر فعلا لا يتعلّق به النهي ، ومقتضى التعريف الأول أن يكون الفعل المتعلّق به الأمر متعلّقا للنهي ولا يمكن فرض الصحّة فيما تعلّق به النهي حيث لا يتعلّق النهي بما فيه صلاح يوجب صحته مع قصد التقرّب به سواء علم انحصار صلاحه أو لم يعلم انحصار صلاحه في شيء ، مع أنّه يرد على التعاريف المذكورة الانتقاض طردا وعكسا فإنّ ربّ واجب توصلي

__________________

(١) مطارح الأنظار : ١٥٨.

(٢) قوانين الأصول : ١ / ١٥٤.

(٣) قوانين الأصول : ١ / ١٥٤.

٦٨

.................................................................................................

______________________________________________________

لا يعلم انحصار ملاكه في شيء كالأمر بدفن الموتى بنحو المواراة مستقبلا إلى القبلة ، وقد يعلم بالمصلحة بل وانحصارها في الواجب التعبدي كما في الأمر بإعطاء الزكاة وأنّ الواجب التوصلي إذا كان من العناوين القصدية يتوقّف صحته على النيّة ، كما يرد على التعريف الأول بأنّه دوري حيث أخذ التعبّد به في تعريفها فيكون من تعريف الشيء بنفسه ، نعم يصحّ الاعتذار عن عدم تمامية التعريفات بأنّها من قبيل شرح الاسم والمقصود الإشارة بها إلى العبادة بوجه فلا بأس بعدم اطرادها وانعكاسها.

أقول : تعرّضه قدس‌سره للمراد من العبادة في هذا الأمر ينبأ عن تخصيص العبادة ـ في نزاع اقتضاء النهي عن عبادة فسادها ـ بأحد أمرين مما يدخلان في العبادة بمعناها الأخص ، كما أنّ تعرضه للمراد من المعاملة في الأمر الخامس ينبأ عن عمومها لمطلق ما يكون قابلا للاتصاف بالصحة بمعنى ترتّب الأثر المترقّب منها ، وبالفساد بمعنى عدم ترتّب ذلك الأثر وينبأ عن عمومها للعقد والإيقاع وغيرهما مما يقبل الصحة والفساد ، ويخرج عنها ما لا أثر له شرعا أو لا يتخلّف عنه أثره كبعض أسباب الضمان كالاتلاف على الغير فإنّه موجب للضمان سواء كان منهيا عنه أم لا؟

ولكنّ المحقّق النائيني قدس‌سره عكس الأمر وذكر أنّ المراد من العبادة معناها الأعمّ فيشمل كلّ فعل يصلح للتقرّب به لو لا النهي ، كغسل الثوب من الخبث ، فإنّه يمكن التقرّب بغسله كما إذا كان لأجل الإتيان بالصلاة حيث إنّها مشروطة بطهارته وطهارة البدن ، فيقع الكلام في أنّه مع النهي عنه ـ كما إذا كان غسله في مكان مغصوب أو بماء مغصوب ـ هل يمكن التقرّب به أم لا؟ ولا ينافي ذلك ترتّب طهارته على غسله كذلك حيث إنّ ترتّب الأثر على ذات الفعل وعدم الفساد من هذه الجهة لا ينافي الفساد من جهة أخرى ، وهي عدم وقوعه عبادة مع النهي عنه وأنّ المراد بالمعاملة

٦٩

.................................................................................................

______________________________________________________

كلّ أمر إنشائي يتسبّب به إلى أمر اعتباري شرعي ولو إمضاء فينحصر المراد بالعقد والإيقاع ، حيث إنّ المعاملة بالمعنى الآخر الأعم الشامل للتحجير والحيازة وأمثالهما غير داخلة في مورد الخلاف ، ولم يتوهم أحد دلالة النهي التكليفي فيها على الفساد كما أنّ المعاملة بالمعنى الأخص أي خصوص العقد المتوقّف على الإيجاب والقبول غير مراد في المقام بل المراد ما يعمّ الإيقاع أيضا كما مرّ (١).

أقول : المراد بالفساد في العبادة ـ كما يأتي بيانه في الأمر السادس ـ عدم تماميتها الموقوفة على صلاح المأتي به ملاكا وعدم وقوعه مبغوضا على المكلّف ، وعليه فيعمّ المراد من العبادة في عنوان الخلاف المعنيين اللذين ذكرهما الماتن قدس‌سره ، وما كان النهي عن الجزء من مصداق العبادة المأمور بها فعلا أو القيد من مصداقها فالأول كالصلاة في الدار المغصوبة مع المندوحة حيث إنّ السجود من الصلاة المأتي بها منهي عنه على ما تقدّم في مبحث اجتماع الأمر والنهي ، والثاني كالصلاة في الساتر المغصوب مع تمكّنه على الساتر المباح فلا وجه لتخصيص العبادة في عنوان الخلاف بأحد المعنيين حيث إنّ الفرد الطبيعي لا يؤمر به بل الثابت فيه لو لا النهي الترخيص في التطبيق هذا مع المندوحة كما ذكرنا.

وأمّا مع عدمها فإمّا يسقط أصل التكليف بالطبيعي المزبور أو يؤمر بالطبيعي الذي خلا عن ذلك الجزء أو الشرط كما في الأمر بالصلاة إيماء للركوع والسجود والأمر بها عريانا.

ومما ذكرنا يظهر وجه المناقشة فيما ذكره المحقّق النائيني قدس‌سره من بيان المراد

__________________

(١) أجود التقريرات ١ / ٣٨٧.

٧٠

.................................................................................................

______________________________________________________

من العبادة في المقام.

ووجه الظهور أنّ الأمر بغسل الثوب من نجاسته للصلاة على تقدير الوجوب الغيري في المقدّمة ليس من الأمر بالعبادة لأنّ تمامية غسل الثوب للصلاة حصول طهارته ، والنهي عن الغسل بالماء المغصوب بعنوان التصرّف في ملك الغير بلا رضاه ليس من النهي في العبادة ولا من قيدها لعدم كون غسل الثوب المتنجس قيدا للصلاة بل المأخوذ في الصلاة طهارة الثوب والمفروض حصولها بعد الغسل المنهي عنه ولا يقاس بما إذا كان الفعل بنفسه قيدا للصلاة كما في الستر فإنّ المنهي عنه فيما إذا كان الساتر مغصوبا بنفسه مصداق للقيد المعتبر في الصلاة المأمور بها ، فيدخل في عنوان الخلاف في أنّ النهي عنه يقتضي فساد الصلاة فيه أم لا ، لما ذكرنا من أنّ الترخيص في تطبيق الطبيعي المأمور به على المأتي به غير ممكن حتى بنحو الترتب ومع عدم إمكانه لا يحرز الصلاح والملاك في المأتي به بل يقع مبغوضا بإيجاد قيده على النحو المحرّم.

وإحراز طهارة الثوب بغسله بالماء المغصوب بإحراز تذكية الحيوان وخروجه عن الميتة بذبحه بالسكّين المغصوب أو حتى مع غصب نفس الحيوان مستفاد من الأمر بغسل الثياب في الخطابات الشرعية من النجاسات المختلفة ومن الأمر بقطع أوداج الحيوان مستقبلا إلى القبلة مع ذكر اسم الله عليه فإنّ مثل هذه الأوامر إرشاد إلى أنّ تطهير الثوب غسله وإخراج الحيوان عن كونه ميتة ذبحه بهذا النحو ، ومقتضى إطلاق الأمر الإرشادي عدم الفرق بين وقوع الغسل أو قطع الأوداج بنحو الغصب والعدوان أو بنحو التصرّف الحلال ، والنهي عن الغصب لا يقيّد هذا الإطلاق لأنّ النهي التكليفي عن الغصب وإن كان ينطبق على الغسل والذبح المزبورين إلّا أنّه

٧١

الخامس : إنه لا يدخل في عنوان النزاع إلّا ما كان قابلا للاتصاف بالصحة والفساد [١] ، بأن يكون تارة تاما يترتب عليه ما يترقب عنه من الأثر ، وأخرى لا كذلك ، لاختلال بعض ما يعتبر في ترتبه ، أما ما لا أثر له شرعا ، أو كان أثره مما لا يكاد ينفك عنه ، كبعض أسباب الضمان ، فلا يدخل في عنوان النزاع لعدم طروء الفساد عليه كي ينازع في أن النهي عنه يقتضيه أو لا ، فالمراد بالشيء في العنوان هو العبادة بالمعنى الذي تقدم ، والمعاملة بالمعنى الأعم ، مما يتصف بالصحة والفساد ، عقدا كان أو إيقاعا أو غيرهما ، فافهم.

______________________________________________________

لا ينافي ترتّب الأثر فإنّ النهي عن الإيجاد وترتّب الأثر بعد الوجود لا يتنافيان ، وهذا بخلاف الأمر بالستر في الصلاة أو النهي عن الطواف عريانا فإنّ الأمر والنهي فيهما إرشاد إلى أخذ الستر في الصلاة والطواف قيدا ، ومع القيد المنهي عنه لا يبقى إطلاق في ناحية الطبيعي المأمور به ولا يمكن الترخيص في التطبيق كما أوضحنا ذلك في مبحث جواز اجتماع الأمر والنهي وامتناعه.

المراد من المعاملة في البحث

[١] هذا الأمر لبيان أنّ المراد بالشيء في عنوان النزاع ، العبادة بالمعنى المتقدّم ، والمعاملة بالمعنى الأعم وهو كلّ ما يقع تارة بنحو يترتّب عليه الأثر المترقّب منه وأخرى يقع بنحو لا يترتّب عليه ذلك الأثر فيوصف الأوّل بالصحّة والثاني بالفساد سواء كان ذلك الشيء من المعاملة بمعنى العقد والإيقاع أو من غيرهما كذبح الحيوان ، حيث يترتّب عليه تذكيته تارة ولا يترتّب عليه أخرى ، وكغسل الثوب من الخبث حيث يترتب على غسله طهارته تارة ولا يترتب عليه طهارته أخرى.

نعم ، ما لا ينفك ترتّب الأثر عنه كبعض أسباب الضمان مثل إتلاف مال الغير

٧٢

.................................................................................................

______________________________________________________

فلا يدخل في عنوان الخلاف لعدم طروّ الفساد عليه ليقع الخلاف في أنّ النهي عنه يقتضي فساده أم لا.

وذكر المحقّق الاصفهاني قدس‌سره في المقام أنّه يمكن القول بأنّ ملاك اقتضاء النهي عن معاملة فسادها لا يجري في غير العقد والإيقاع فلا وجه لكون المراد من المعاملة معناها الأعم ليشمل الغسل بالإضافة إلى الطهارة من الخبث المترتبة عليه ، وذلك فإنّ مبغوضية التسبّب إلى المسبّب يمكن أن تكون مستلزمة لمبغوضية المسبّب وعدم حصولها ، وهذا الاستدعاء بنحو الملازمة العقلية أو العرفية بخلاف الغسل فإنّ مبغوضيته لا تستدعي عدم حصول الطهارة بوجه.

ثمّ ذكر الإيراد على ذلك بأنّه كيف يفرق بين الملكية المترتبة على المعاملة والطهارة المترتبة على غسل الثوب ، فإنّه إن كان كلّ من الملكية والطهارة أمرا واقعيا كشف عنه الشارع وعن ترتبهما على أسبابهما فلا تلازم بين المنع عن أسبابهما وترتّب مسبباتهما على تقدير أسبابهما ، وإن كان كلّ منهما من الاعتبارات الشرعية فالأمر كذلك برهانا ، وإن فرضت الملازمة بين حرمة السبب وبين عدم حصول مسبّبه في الملكية لتمّت الملازمة بين حرمة السبب وعدم حصول المسبّب في الطهارة فلا يمكن الفرق بينهما.

وأجاب قدس‌سره عن الإيراد بالفرق بأنّ الملكية لا تترتّب على ذات السبب بل لا بدّ في الترتّب من القصد بأن يقصد المكلّف حصول الملكية التي هي فعل مباشري للشارع وفعل تسبيبي من المالك ، فيمكن أن يتوهّم أنّ مبغوضية التسبيب القصدي تنافي اعتبارات الشارع ، بخلاف ترتّب الطهارة على غسل الثوب فإنّها من ترتّب المسبّب على نفس السبب لا على التسبّب إلى إيجاد اعتبار الشارع ليتنافى مبغوضية

٧٣

السادس : إن الصحة والفساد وصفان إضافيان يختلفان بحسب الآثار والأنظار [١] ، فربما يكون شيء واحد صحيحا بحسب أثر أو نظر وفاسدا بحسب آخر ، ومن هنا صح أن يقال : إن الصحة في العبادة والمعاملة لا تختلف ، بل فيهما بمعنى واحد

______________________________________________________

التسبّب مع اعتبارها (١).

أقول : قد ذكرنا في بحث البيع أنّ الملكية الشرعية لا تكون فعلا تسبيبيا للعاقد ولا ينشئها العاقد فإنّها فعل الشارع وحكمه ولا معنى لإيجاد شخص حكم الآخر واعتباره ، وإنّما يعتبر العاقد الملكية التي هي اعتبار نفسه ويبرزها لتحقّق عنوان المعاملة من البيع والهبة وغير ذلك ، ولذا قد يقصد المالك المعاملة مع علمه بفسادها شرعا وأنّ شرعا في النهي عن معاملة بمعناها المصدري هو إيجادها ـ إذ لا ينافي النهي عن الإيجاد مع إمضائها بعد وجودها فلا مورد لتوهم المنافاة عقلا ولا عرفا ، فكما أنّ طهارة الثوب شرعا بالغسل غير منوط بأن يقصد الغاسل ترتّب تلك الطهارة كذلك الملكية الشرعية غير منوطة بقصد العاقد حصولها ولو كان لتوهم المنافاة بين حرمة الإيجاد وبين اعتبار الشارع بعد الوجود وجه في المعاملات كان ذلك الوجه جاريا في الطهارة أيضا.

معنى الصحة والفساد

[١] ذكر قدس‌سره ما حاصله أنّ الصحّة في العبادة والمعاملة بمعنى واحد وهي التمامية ، كما أنّ الفساد فيهما بمعنى عدم التمامية ، ولكنّ التمامية في كلّ منهما بلحاظ ما هو الملحوظ في كلّ منهما ، فالملحوظ في العبادة أمر والملحوظ في المعاملة أمر آخر ، كما أنّ الملحوظ في العبادة يختلف بحسب الأنظار ، فالملحوظ

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ / ٣٨٦.

٧٤

وهو التمامية ، وإنما الاختلاف فيما هو المرغوب منهما من الآثار التي بالقياس عليها تتصف بالتمامية وعدمها ، وهكذا الاختلاف بين الفقيه والمتكلم في صحة العبادة ، إنما يكون لأجل الاختلاف فيما هو المهم لكل منهما من الأثر ، بعد الاتفاق ظاهرا على أنها بمعنى التمامية ، كما هي معناها لغة وعرفا.

______________________________________________________

عند الفقهاء في العبادة سقوط التعبّد بها ثانيا بالإعادة أو القضاء ، ولذا فسّر صحّة العبادة بسقوط القضاء وإعادتها.

والملحوظ عند المتكلمين حصول الامتثال الموجب لاستحقاق الثواب عليه عقلا ، ولذا فسّر صحتها بموافقة الأمر تارة وبموافقة الشريعة أخرى.

وحيث إنّ الأمر في الشريعة على أقسام من الأمر الواقعي الأولي المعبّر عنه بالاختياري ، والأمر الواقعي الثانوي المعبّر عنه بالاضطراري ، والأمر الظاهري ، والأنظار مختلفة في إجزاء الأخيرين عن الأمر الواقعي الأوّلي ، فيمكن أن يكون الإتيان بالعبادة تامّة بنظر الفقيه والمتكلّم كما إذا أتى بالمأمور به الظاهري ، فالفقيه الملتزم بأجزاء الإتيان بالمأمور به الظاهري عن الواقعي يصف العمل المذكور بالصحة ، وكذلك المتكلّم القائل بأنّ الصحّة هي موافقة الشريعة ولو كان الأمر ظاهريا ، ثم إنّ هذا العمل غير صحيح عند من التزم بعدم الاجزاء بعد كشف الخلاف وصحيح عند هذا المتكلّم ، كما أنّ المتكلّم القائل بأنّ تمامية العمل يحسب بالإضافة إلى الأمر الواقعي فالعمل المفروض مع كشف الخلاف غير صحيح عنده ، وصحيح عند الفقيه الملتزم بالاجزاء ، وهذا الاختلاف بين الفقيه والمتكلّم أو بين فقيه وفقيه آخر ليس في معنى الصحّة والفساد ، بل كما تقدّم أنّ الصحّة عند الكلّ بمعنى التمامية والفساد بمعنى عدم التمامية ، ولكنّ التمامية وعدمها أمران إضافيان يختلفان بحسب المرغوب في المعاملة وفي العبادة ، وبحسب الأنظار في الملحوظ

٧٥

فلما كان غرض الفقيه ، هو وجوب القضاء ، أو الإعادة ، أو عدم الوجوب ، فسر صحة العبادة بسقوطهما ، وكان غرض المتكلم هو حصول الامتثال الموجب عقلا لاستحقاق المثوبة ، فسرها بما يوافق الأمر تارة ، وبما يوافق الشريعة أخرى.

وحيث إن الأمر في الشريعة يكون على أقسام : من الواقعي الأولى ، والثانوي ، والظاهري ، والأنظار تختلف في أن الأخيرين يفيدان الإجزاء أو لا يفيدان ، كان الإتيان بعبادة موافقة لأمر ومخالفة لآخر ، أو مسقطا للقضاء والإعادة بنظر ، وغير مسقط لهما بنظر آخر ، فالعبادة الموافقة للأمر الظاهري ، تكون صحيحة عند

______________________________________________________

في تمامية العبادة وعدمها.

ثمّ إنّه قدس‌سره بعد بيان معنى الصحّة والفساد تعرّض لكون الصحّة والفساد في كلّ من العبادة والمعاملة أمرا جعليا شرعيا ، أو حكما عقليا ، أو أمرا اعتباريا انتزاعيا عن الشيء الخارجي ، فذكر أنّ الصحّة في العبادات على ثلاثة أقسام : قسم منها أمر اعتباري انتزاعي ، وقسم منها من حكم عقلي ، وقسم منها مجعول شرعي.

أمّا الأول : فإنّ توصيف العمل بالصحة باعتبار أنّ المأتي به مطابق لما تعلّق به الأمر وبالفساد باعتبار أنّه غير مطابق لما تعلّق به الأمر أمران اعتباريان ، منشأ اعتبارهما وانتزاعهما المطابقة وعدمها وليسا من الأحكام العقلية ولا من المجعولات الشرعية.

والثاني : ما يدخل في حكم العقل وهو سقوط القضاء والإعادة ، فإنّه من حكم العقل المترتّب على الإتيان بالمأمور به الاختياري الواقعي ، حيث لا يعقل ثبوت الإعادة والقضاء مع الإتيان به.

وبتعبير آخر : كما أنّ استحقاق المثوبة مع الإتيان بالمأمور به الواقعي من حكم العقل على الامتثال كذلك حكمه بسقوط التكليف وعدم بقاء المجال للإعادة أو القضاء ،

٧٦

المتكلم والفقيه ، بناء على أن الأمر في تفسير الصحة بموافقة الأمر أعم من الظاهري ، مع اقتضائه للإجزاء ، وعدم اتصافها بها عند الفقيه بموافقته ، بناء على عدم الإجزاء ، وكونه مراعى بموافقة الأمر الواقعي وعند المتكلم ، بناء على كون الأمر في تفسيرها خصوص الواقعي.

تنبيه : وهو أنه لا شبهة في أن الصحة والفساد عند المتكلم ، وصفان اعتباريان ينتزعان من مطابقة المأتي به مع المأمور به وعدمها ، وأما الصحة بمعنى

______________________________________________________

والصحة بهذا المعنى لا تدخل في الحكم الشرعي الوضعي المجعول بالتبع كما توهّم.

الثالث : إنّ سقوط القضاء والإعادة عند الإتيان بالمأمور به الاضطراري أو بالمأمور به الظاهري بالإضافة إلى المأمور به الاختياري أو الواقعي يكون أمرا مجعولا ويحكم بالاجزاء تخفيفا ومنّة على العباد مع ثبوت المقتضي لوجوب الإعادة أو القضاء كما تقدّم في بحث الاجزاء ، فيكون الحكم بالصحّة والفساد في الإتيان بالمأمور به الاضطراري أو الظاهري بعد ارتفاع الاضطرار وكشف الخلاف من المجعول الشرعي لا من الوصف الانتزاعي.

نعم موارد جعل الصحة للمأمور به الاضطراري أو الظاهري يكون الاجزاء مجعولا للطبيعي كالصلاة مع التيمّم حال عدم التمكّن من الماء ولو في بعض الوقت فالمأتي به من الصلاة بتيمّم بما أنّه صرف الوجود لذلك الطبيعي المحكوم عليه بالاجزاء مجز لا أنّ الاجزاء مجعول لخصوصه وإلى ذلك يشير بقوله قدس‌سره : «نعم الصحة والفساد في الموارد الخاصة لا يكاد يكونان مجعولين ... إلخ» ، هذا كلّه في الصحّة في العبادات.

وأمّا الصحّة في المعاملات ، فهي تكون مجعولة لا غير ، إذ لا معنى للصحة فيها ـ عقدا وإيقاعا أو غيرهما ـ الّا ترتّب الأثر والأثر مجعول للشارع ولو إمضاء ولو لم

٧٧

سقوط القضاء والإعادة عند الفقيه ، فهي من لوازم الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي الأولي عقلا ، حيث لا يكاد يعقل ثبوت الإعادة أو القضاء معه جزما ، فالصحة بهذا المعنى فيه ، وإن كان ليس بحكم وضعي مجعول بنفسه أو بتبع تكليف ، إلّا أنه ليس بأمر اعتباري ينتزع كما توهم ، بل مما يستقل به العقل ، كما يستقل باستحقاق المثوبة به وفي غيره ، فالسقوط ربما يكون مجعولا ، وكان الحكم به تخفيفا ومنة على العباد ، مع ثبوت المقتضي لثبوتهما ، كما عرفت في مسألة الإجزاء ، كما

______________________________________________________

يجعل الأثر المترقّب من المعاملة لم تتصف بالصحّة.

نعم هذا الجعل إنّما يكون بالإضافة إلى الطبيعي الواجد للقيود المجعول له الأثر بتلك القيود ، وأمّا أشخاصها فالصحّة فيها بمعنى انطباق ذلك الطبيعي المجعول له الأثر على الأشخاص الموجودة منها.

وبتعبير آخر : الصحّة في أشخاص المعاملة كالصحّة في الشخص الموجود من المأمور به الاضطراري أو الظاهري وقد تقدّم أنّ الصحة في الشخص من المأمور به الاضطراري كما تكون بانطباق الطبيعي المحكوم بالاجزاء عليه كذلك الصحّة في شخص المعاملة تكون بانطباق الطبيعي المجعول له الأثر على الموجود خارجا من أفرادها.

وذكر المحقّق النائيني قدس‌سره ـ بعد بيان أنّ الصحّة بمعنى التمامية والفساد بمعنى عدم التمامية لكن لا مطلقا بل في المورد القابل ، فتقابل الفساد والصحة تقابل العدم والملكة ـ أنّ التمامية في العبادة والمعاملة بالإضافة إلى الأثر المترتّب على كلّ منهما ففي العبادة بالإضافة إلى أثرها الاعدادي أي الأثر المترتب على العبادة بوجودها الخارجي من الصلاح المترتب عليها الذي هو ملاك محبوبيتها وفي المعاملة بلحاظ أثرها المعاملي كانتقال المالين.

والأمر الاعدادي المترتب على العبادة وإن لم يكن متعلّق التكليف لما تقدّم

٧٨

ربما يحكم بثبوتهما ، فيكون الصحة والفساد فيه حكمين مجعولين لا وصفين انتزاعيين.

نعم ، الصحة والفساد في الموارد الخاصة ، لا يكاد يكونان مجعولين ، بل إنما هي تتصف بهما بمجرد الانطباق على ما هو المأمور به ، هذا في العبادات.

______________________________________________________

في بحث الواجب النفسي والغيري من دخالة بعض الأمور الخارجة عن اختيار المكلف أحيانا في ترتّب ذلك الأثر على العمل ، إلّا أنّه لا منافاة بين خروجه عن دائرة التكليف استقلالا وضمنا ، وبين كون العمل متّصفا بالصحة لوجوده ، ولعدم ترتّبه على العمل يتّصف العمل بالفساد.

والطبيعي المتعلّق به الأمر لا يتّصف بالصحّة والفساد في مقام تعلّق الأمر به ، وإنّما الموصوف بهما المأتي به خارجا ، فيكون انطباق ذلك الطبيعي على المأتي به هو الموجب لاتّصاف المأتي به بالصحة وعدم انطباقه الموجب لاتّصافه بالفساد فيكون الميزان في اتصاف المأتي به بالصحة أو الفساد عند المكلف هو انطباق الطبيعي على المأتي به وعدم انطباقه عليه والتعبير بترتب الأثر الاعدادي وعدمه لكون الانطباق وذلك الترتب من المتلازمين ، يغني أحدهما عن الآخر.

وأمّا المعاملة فالأثر المترتب عليها وإن كان أمرا مجعولا وجعله بإمضاء ما لها من الأثر عند العقلاء إلّا أنّ المعاملة أيضا في مقام الجعل والإمضاء لا تتصف بالصحة والفساد وإنّما يكون المتصف بهما الموجود خارجا حيث ينطبق عليه الموضوع للحلّية والإمضاء تارة ، ولا ينطبق عليه أخرى ، والانطباق وعدمه أمر قهري لا تناله يد التشريع والجعل ، ولهذا يصحّ أن يقال : إنّ الصحّة والفساد في العبادات والمعاملات بمعنى الانطباق وعدمه ، أي انطباق الطبيعي من المعاملة الممضاة أو الطبيعي المتعلّق به الأمر على المأتي به ، نعم الصحّة في مورد المأمور به الاضطراري أو

٧٩

وأما الصحة في المعاملات ، فهي تكون مجعولة ، حيث كان ترتب الأثر على معاملة إنما هو بجعل الشارع وترتيبه عليها ولو إمضاء ، ضرورة أنه لو لا جعله ، لما كان يترتب عليه ، لأصالة الفساد.

نعم صحة كل معاملة شخصية وفسادها ، ليس إلّا لأجل انطباقها مع ما هو المجعول سببا وعدمه ، كما هو الحال في التكليفية من الأحكام ، ضرورة أن اتصاف المأتي به بالوجوب أو الحرمة أو غيرهما ، ليس إلّا لانطباقه مع ما هو الواجب أو الحرام.

______________________________________________________

الظاهري بالإضافة إلى الاختياري والواقعي تكون مجعولة (١).

أقول : يجري بحث اقتضاء النهي عن العبادة فسادها في موارد لا يجري فيها سقوط القضاء والأداء أو عدم سقوطهما ولا يجري فيها أيضا بحث انطباق متعلّق الأمر على المأتي به مع النهي عنه كما في النهي عن صوم يوم العيدين بناء على كون النهي عن صومهما من النهي التحريمي التكليفي ، حيث لا مورد لتوهّم سقوط الإعادة أو القضاء أو بحث انطباق متعلّق الأمر على صومهما فإنّ صوم كلّ يوم مشروع صومه تكليف مستقل لا ينطبق صيام أحد الأيام على الآخر.

وبالجملة الانطباق وعدمه وكذا سقوط الإعادة والقضاء يختص بالموارد التي يتعلّق فيها الأمر بالطبيعي ويكون المطلوب صرف وجوده والنهي عن بعض مصاديقه بحسب جزئه أو قيده على ما يأتي.

والصحيح أنّ المراد بصحّة العبادة في المقام تماميتها بالإضافة إلى التقرّب المعتبر فيها ، ويكون البحث في أنّ النهي عمّا تكون عبادة على تقدير الأمر به أو الترخيص في التطبيق ، يقتضي عدم صلاحيته للتقرب به فيجب معه الإعادة أو

__________________

(١) أجود التقريرات ١ / ٣٨٨.

٨٠