دروس في مسائل علم الأصول - ج ٣

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-94850-9-1
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٤٥

لا يلزم في حمل المطلق على المقيد ، فيما وجد شرائطه إلّا ذلك ، من دون حاجة فيه إلى دلالته على المفهوم ، فإنه من المعلوم أن قضية الحمل ليس إلّا أن المراد بالمطلق هو المقيد ، وكأنه لا يكون في البين غيره ، بل ربما قيل : إنه لا وجه للحمل لو كان بلحاظ المفهوم ، فإن ظهوره فيه ليس بأقوى من ظهور

______________________________________________________

ثبوت الحكم لذات الموصوف أو ذات المقيّد كما هو مقتضى أصالة التطابق بين مقام الإثبات والثبوت وأمّا عدم جعل سنخ ذلك الحكم للموصوف بوصف آخر أو للمقيّد بقيد آخر ونفيه عنهما فلا دلالة للقضية الوصفية عليه ، ولعل هذا معنى كون الأصل في القيود الاحترازية (١).

أقول : إذا ورد في خطاب ، النهي عن إكرام الفاسق وفي خطاب آخر النهي عن إكرام الفاسق المبدع ، أو ورد في خطاب «في الغنم زكاة» وفي خطاب آخر «في الغنم المعلوفة زكاة» لا مفرّ من الالتزام برفع اليد عن الإطلاق في الأوّل من الخطابين بالثاني منهما ، كما يرفع اليد عن الإطلاق في قوله «الماء طاهر لا ينجّسه شيء» بالمفهوم من «قولهم إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء».

ثم لا يخفى إنّ في أصالة التطابق بالمعنى المذكور تأمّل ، لإمكان أن يكون الحكم في مقام الثبوت أيضا بحسب الجعل تدريجيّا بعد كونه انحلاليا فيعتبره لواجد القيد أوّلا ثمّ يعتبره لغير الواجد أيضا ويبيّنهما بخطابين فالثاني هو المطلق بعد ما بيّن الأوّل بالخطاب المقيّد.

وذكر المحقّق الاصفهاني قدس‌سره في وجه دلالة الوصف على المفهوم أنّ دلالة الوصف على انتفاء سنخ الحكم عن ذات الموضوع في فرض فقد الوصف لا يحتاج

__________________

(١) المحاضرات ٥ / ١٣٣.

١٨١

المطلق في الإطلاق ، كي يحمل عليه ، لو لم نقل بأنه الأقوى ، لكونه بالمنطوق ، كما لا يخفى.

وأما الاستدلال على ذلك ـ أي عدم الدلالة على المفهوم ـ بآية (وَرَبائِبُكُمُ

______________________________________________________

إلى أزيد من استفادة علّية الوصف للحكم ، وظاهر الخطاب أنّ الوصف بعنوانه دخيل في الحكم الثابت للموضوع ، ولو كان للحكم علّة أخرى لما كان الوصف بعنوانه دخيلا في ثبوته بل بما هو جامع بينه وبين غيره يكون دخيلا في الحكم الثابت.

لا يقال : هذا إذا استفيد العلّية من الوصف واستفادتها منه أوّل الكلام.

فإنّه يقال : إنّ احترازية القيد كما هي الأصل كافلة لذلك ، فإنّ معناها تمامية الموضوع للحكم بالوصف ، وهذا عين معنى الشرط للشيء ، والحاصل أنّ الوصف بعنوانه دخيل في طبيعي الوجوب لا شخص هذا الوجوب ، وهذا يقتضي انتفاء الطبيعي بانتفاء الوصف ، وهذا عين ما تقدّم في مفهوم الشرط من أنّ إناطة الحكم بشيء ـ وصفا كان أو غيره ـ يقتضي الانحصار ، ولكن كلّ ما ذكر مبني على اقتضاء تعدّد الحكم لكون المؤثّر هو الجامع بينهما والكلام في البرهان على ذلك إلّا أنّه متسالم عليه بينهم (١).

ويرد عليه نقضا وحلّا :

أمّا نقضا : فلو كان الأمر كذلك لما احتاج استفادة المفهوم من الوصف إلى اعتماده على الموصوف بل يجري في مثل قوله «أكرم العالم» حيث إنّ اقتضاء عنوان العالم لإكرام من ينطبق عليه يقتضي أن لا يجب إكرام غيره وإلّا لما كان عنوان العالم بما هو مقتضيا لطبيعي وجوب الإكرام ، بل كان المقتضى له هو الجامع بينه وبين

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ / ٤٣٥.

١٨٢

اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ)(١) ففيه أن الاستعمال في غيره أحيانا مع القرينة مما لا يكاد ينكر ، كما في الآية قطعا ، مع أنه يعتبر في دلالته عليه عند القائل بالدلالة ، أن لا يكون واردا مورد الغالب كما في الآية ، ووجه الاعتبار واضح ، لعدم دلالته معه على الاختصاص ، وبدونها لا يكاد يتوهم دلالته على المفهوم ، فافهم.

______________________________________________________

عنوان الهاشمي مثلا.

وأمّا الحلّ : فإنّ الحكم ـ أي الوجوب أو غيره ـ أمر اعتباريّ ، يعتبره المولى ، ومعنى كون الوصف دخيلا في ذلك الحكم ـ أي وجوب الإكرام مثلا ـ انّ لحاظ الموضوع مع الوصف يكون داعيا للمولى إلى اعتبار الوجوب وطلب إكرامه ، ولا ينافي أن يكون لحاظه مع وصف آخر أيضا داعيا له إلى جعل مثل الحكم المجعول للموصوف بالوصف الآخر ، ويمكن أيضا أن لا يكون الصلاح في جعل الحكم للموصوف بالوصف فقط بل الصلاح كان في جعله لذات الموصوف مطلقا بنحو الانحلال إلّا أنّ الصلاح في تدريجية الجعل اقتضى اعتباره للموصوف بالوصف المزبور أوّلا لكون صلاحه أقوى لزوما في الرعاية ثمّ جعله لذات الموصوف يعني الفاقد للوصف أيضا لئلّا يجتمع في الموصوف بالوصف المذكور حكمان.

والحاصل أنّ قوله «أكرم العالم العادل» لا يتضمّن إلّا ثبوت الطلب وتعلّقه بإكرام من ينطبق عليه عنوان العالم العادل ، وأما تعلّق الطلب بإكرام الموصوف بوصف آخر كالعالم الهاشمي أو لسائر أفراد العالم على ما تقدّم في تدريجية الجعل فلا دلالة للكلام المفروض عليه لا نفيا ولا إثباتا ، فتدبّر.

__________________

(١) النساء : ٢٣.

١٨٣

تذنيب : لا يخفى أنه لا شبهة في جريان النزاع ، فيما إذا كان الوصف أخص من موصوفه ولو من وجه ، في مورد الافتراق من جانب الموصوف [١] ، وأما في غيره ، ففي جريانه إشكال أظهره عدم جريانه ، وإن كان يظهر مما عن بعض الشافعية ، حيث قال : (قولنا في الغنم السائمة زكاة ، يدلّ على عدم الزكاة في معلوفة الإبل)

______________________________________________________

[١] قد تكون النسبة بين الوصف وموصوفه العموم والخصوص المطلق بأن يكون الوصف أخصّ من موصوفه مطلقا كما لو ورد في الخطاب «لا تدخل المرأة الحائض المسجد» ، وقد تكون النسبة بينهما العموم من وجه كما في قوله «في الغنم السائمة زكاة» ، وقد يكون الوصف أعمّ من الموصوف كما يقال «الشيطان عدوّ للإنسان» ، وقد تكون النسبة بين الوصف والموصوف التساوي كما يقال «الشيطان عدوّ للإنسان الذي خلقه الله من طين».

ثمّ إنّه لا تأمّل في أنّ الوصف الأخصّ من موصوفه داخل في النزاع ولو كانت أخصّيته من وجه ، ويقع الكلام في أنّ الوصف يقتضي ارتفاع سنخ الحكم عن ذات الموصوف الفاقد لذلك الوصف أم لا؟ بأن كان ذات الموصوف موجودا ولكن فاقدا للوصف ، ويكون ذلك ، مع كون النسبة عموما من وجه ، مورد الافتراق من جانب الموصوف.

وأمّا إذا كان الافتراق من جانب الموصوف والوصف كما في الإبل المعلوفة حيث لا يصدق عليه الغنم ولا السائمة فقد يظهر عن بعض الشافعية (١) انّ ما ورد «في الغنم السائمة زكاة» له دلالة على عدم الزكاة في الإبل المعلوفة ، فكأنّ توصيف الغنم بالسائمة في بيان تعلّق الزكاة يقتضي أن تكون العلّة المنحصرة في وجوبها كون

__________________

(١) المتحوّل للغزالي : ٢٢٢.

١٨٤

جريانه فيه ، ولعل وجهه استفادة العلية المنحصرة منه.

وعليه فيجري فيما كان الوصف مساويا أو أعم مطلقا أيضا ، فيدل على انتفاء سنخ الحكم عند انتفائه ، فلا وجه في التفصيل بينهما وبين ما إذا كان أخص من وجه ، فيما إذا كان الافتراق من جانب الوصف ، بأنه لا وجه للنزاع فيهما ، معللا بعدم الموضوع ، واستظهار جريانه من بعض الشافعية فيه ، كما لا يخفى ، فتأمل جيدا.

______________________________________________________

الحيوان سائما.

أقول : لو كان الأمر كذلك فلا بدّ من الالتزام بوجوب الزكاة في الحيوان المملوك فيما إذا كانت سائمة كالبغل والخيل السائمتين ، وعليه يجري النزاع فيما إذا كان الوصف أعمّ مطلقا من موصوفه ، حيث إنّ مقتضى علّية الوصف أن يثبت الحكم الوارد للموصوف في غير ذلك الموصوف أيضا لتحقّق الوصف فيه أيضا على الفرض.

نعم ، لا معنى للنزاع في الوصف المساوي لعدم ترتّب ثمرة عمليّة عليه ، لعدم تخلّف الوصف عن الموصوف الوارد في الخطاب ، وما في عبارة الماتن قدس‌سره من لزوم جريانه فيه أيضا كالوصف الأعمّ لا يمكن المساعدة عليه. اللهمّ إلّا أن يقال : لازم التساوي عدم ثبوت ذلك الحكم في موارد يسلب عنه الوصف والموصوف فيكون مفهومه دليلا اجتهاديا على عدم الثبوت.

وكيف كان فلا وجه لما حكي عن التقريرات (١) من جريان النزاع فيما كانت النسبة بين الوصف والموصوف أعمّ من وجه حتّى بالإضافة إلى مورد افتراق

__________________

(١) مطارح الأنظار : ١٨٢.

١٨٥

فصل

هل الغاية في القضية تدل على ارتفاع الحكم عما بعد الغاية ، بناء على دخول الغاية في المغيّى ، أو عنها وبعدها [١] ، بناء على خروجها ، أو لا؟

فيه خلاف ، وقد نسب إلى المشهور الدلالة على الارتفاع ، وإلى جماعة منهم السيد والشيخ ، عدم الدلالة عليه.

______________________________________________________

الوصف وعدم جريانه في الوصف الأعمّ والمساوي.

مفهوم الغاية

[١] الكلام في المقام فيما إذا كانت الأداة مستعملة بمعنى الغاية ، لا ما إذا استعملت بمعنى واو العاطفة كما في قول القائل «أكلت السمكة حتّى رأسها» فإنّ العطف ـ لإدخال الجزء الخفي أو الفرد الخفي ـ خارج عن بحث المفاهيم.

ثمّ انّ الاحتمالات في الغاية الواردة في الخطاب ثلاثة :

الأوّل : أن تكون الغاية قيدا لموضوع الحكم كما في قوله سبحانه وتعالى (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ)(١) ، حيث إنّ اليد تطلق ويراد منها تارة رءوس الأصابع والأنامل كما في قوله كتبت بيدي ، وأخرى يراد منها الأصابع كما في قوله سبحانه وتعالى. (السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما)(٢) ، وثالثة إلى الزند كما يقال لا بأس للمرأة أن تستر وجهها ويديها ، ورابعة يراد منها إلى فوق الزند كالساعد أو إلى المرفق أو إلى المنكب فيقال قطعت يده ، وعلى ذلك فلا بدّ في تعيين المقدار المغسول في الوضوء

__________________

(١) سورة المائدة : الآية ٦.

(٢) سورة المائدة : الآية ٣٨.

١٨٦

والتحقيق : إنه إذا كانت الغاية بحسب القواعد العربية قيدا للحكم ، كما في قوله : (كلّ شيء حلال حتى تعرف أنه حرام) ، و (كلّ شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر) ، كانت دالّة على ارتفاعه عند حصولها ، لانسباق ذلك منها ، كما لا يخفى ، وكونه قضية تقييده بها ، وإلّا لما كان ما جعل غاية له بغاية ، وهو واضح إلى النهاية.

وأما إذا كانت بحسبها قيدا للموضوع ، مثل (سر من البصرة إلى الكوفة) ، فحالها حال الوصف في عدم الدلالة ، وإن كان تحديده بها بملاحظة حكمه وتعلق الطلب به ، وقضيته ليس إلّا عدم الحكم فيها إلّا بالمغيّا ، من دون دلالة لها أصلا على انتفاء سنخه عن غيره ، لعدم ثبوت وضع لذلك ، وعدم قرينة ملازمة لها ولو غالبا ، دلت على اختصاص الحكم به ، وفائدة التحديد بها كسائر أنحاء التقييد ، غير منحصرة بإفادته كما مرّ في الوصف.

______________________________________________________

من ذكر القرينة وتحديد المراد من اليد.

نعم ، لا يبعد ظهورها عند الإطلاق في المعنى الثالث وعلى ذلك فلا دلالة للآية المباركة على اعتبار بدء الغسل من المرافق أو الأنامل واعتبار كونه من المرافق عندنا ثابت بالنصّ بل بضرورة المذهب.

الثاني : أن يكون قيدا لمتعلّق الحكم والتكليف ، يعني الفعل المتعلّق به الوجوب أو غيره كما في مثل قوله عليه‌السلام : «إذا زالت الشمس ، فقد دخل وقت الظهر والعصر جميعا إلّا أنّ هذه قبل هذه ، ثمّ إنّك في وقت منها حتّى تغرب الشمس» (١) ، حيث إنّ ظاهره كون الغاية تحديدا للصلاة والطهور لا لوجوبهما فقط.

الثالث : أن يكون قيدا لنفس الحكم لا لمتعلّقه ولا لموضوعه كما في قوله عليه‌السلام :

__________________

(١) الوسائل : ج ٣ ، باب ٤ من أبواب المواقيت ، الحديث ٥.

١٨٧

ثم إنه في الغاية خلاف آخر ، كما أشرنا إليه ، وهو أنها هل هي داخلة في المغيّا بحسب الحكم؟ أو خارجة عنه؟ والأظهر خروجها ، لكونها من حدوده ، فلا تكون محكومة بحكمه ، ودخوله فيه في بعض الموارد إنما يكون بالقرينة ، وعليه تكون كما بعدها بالنسبة إلى الخلاف الأول ، كما أنه على القول الآخر تكون محكومة بالحكم منطوقا ، ثم لا يخفى أن هذا الخلاف لا يكاد يعقل جريانه فيما إذا كان قيدا للحكم ، فلا تغفل.

______________________________________________________

«ثمّ قد حلّ له كلّ شيء إلّا النساء ، حتّى يطوف بالبيت طوافا آخر ثمّ قد حلّ له النساء» (١).

ولا يخفى أنّه لو كانت الغاية قيدا لنفس الحكم فلا ينبغي التأمّل في دلالة تقييده بها على انتفاء الحكم بحصول الغاية كما تقدّم في مفهوم الشرط ، بخلاف ما إذا كانت الغاية قيدا للموضوع أو المتعلّق فإنّ دلالتها على انتفاء الحكم بعدها فيما إذا كان الحكم قابلا للتكرار مبتنية على دلالة الوصف على المفهوم ، لأنّ المذكور غاية للموضوع أو المتعلّق ، قيد لهما لا للحكم.

والمهمّ في المقام البحث عن أمرين :

أحدهما : انّ الغاية الواردة في خطاب الحكم مع عدم القرينة هل لها ظهور في كونه قيدا لنفس الحكم نظير ظهور الجملة الشرطية في كون الشرط فيها قيدا لنفس مضمون الجملة الجزائية وتعليقه عليه ، أو لها ظهور في رجوعها إلى الموضوع أو المتعلّق ، أو يكون الخطاب من هذه الجهة مجملا.

قد يفصّل في المقام ويقال بأنّ للكلام ظهورا في كونه قيدا للمتعلّق فيما إذا كان

__________________

(١) الوسائل : ج ١٠ ، باب ١٣ من أبواب الحلق والتقصير ، الحديث ٢.

١٨٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الدالّ على الحكم الهيئة وما لا يتضمّن معنى اسميّا وكان المتعلّق مذكورا في الخطاب نظير قوله سبحانه وتعالى (كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ)(١) ، وله ظهور في رجوع الغاية إلى نفس الحكم فيما إذا كان الحكم مستفادا من المادة التي لها معنى اسمي مع عدم ذكر المتعلّق في الخطاب كقوله يحرم الخمر أو الميتة إلّا أن يضطرّ إليهما ، وأمّا مع ذكر المتعلّق كما في قوله يجب الصيام إلى الليل فلا يستفاد كونها غاية للطلب أو الفعل.

وبالجملة إذا كانت الغاية قيدا للمتعلّق أو الموضوع فيدخل الكلام في الغاية في مفهوم الوصف والقيد ، بخلاف ما إذا كانت قيدا لنفس الحكم ، فإنّ دلالتها على المفهوم أقوى من دلالة القضية الشرطية على انتفاء الحكم ، حيث إنّه لا معنى لكونها غاية لنفس الحكم إلّا مع انتفائه بحصولها ولكن لا ظهور لكونها قيدا لنفس الحكم إلّا في المورد المذكور حيث إنّ ظهورها في كونها قيدا للمعنى الحدثي يوجب كونها قيدا لنفس الحكم لعدم ذكر المتعلّق وكون الحكم مستفادا من المعنى الاسمي.

أقول : ولعلّ استظهار صاحب الكفاية قدس‌سره رجوع الغاية إلى الحكم في مثل قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه» (٢) ، وكذا قوله «كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر» (٣) دعاه إلى الاستدلال بهما على اعتبار الاستصحاب فإنّ المذكور في كلّ منهما حكمان : الأوّل : حكم على الأشياء بحلّيتها أو طهارتها

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ١٨٧.

(٢) الوسائل : ج ١٢ ، باب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤.

(٣) الوسائل : ج ٢ ، باب ٣٧ من أبواب النجاسات ، الحديث ٤.

١٨٩

.................................................................................................

______________________________________________________

بعناوينها الأوّليّة ، وهذا الحكم واقعي وإن ورد التخصيص عليه في موارد متعدّدة. والثاني : استمرار هذا الحكم ، أي الحلّية والطهارة إلى حصول العلم بالقذارة والحرمة ، وهذا يكون استصحابا.

ولكن لا يخفى ما فيه لما ذكرنا في مفهوم الشرط أنّ قيد الحكم يكون قيدا لموضوعه ثبوتا لا محالة وإنّما جعل قيدا لنفس الحكم في الخطاب ليقتضي انتفاء سنخه مع ارتفاعه وانتفائه ، وفي الروايتين إذا جعل العلم بالحرمة أو العلم بالقذارة قيدا للشيء المحكوم عليه بالحلّية والقذارة يكون مفادهما قاعدة الحلّية والطهارة ، ولذا ذكرنا في مبحث الأصول العملية أنّ مفادهما قاعدتي الحلّية والطهارة ، وأنّ الشيء غير المعلوم حرمته أو قذارته ما دام كذلك ، يحكم بحلّيته وطهارته فاستظهار اعتبار الاستصحاب منهما لا وجه له.

وقال المحقق العراقي قدس‌سره ما حاصله : أنّه لو كان المعلّق على الغاية النسبة الحكمية في الكلام نحو أكرم زيدا إلى الليل أو حتّى يقدم الحاج ، لكان للكلام مفهوم لعين ما تقدّم في مفهوم الشرط حيث إنّ التعليق على الشرط راجع إلى تعليق مضمون الجزاء حدوثا ، وفي الغاية إلى تعليق المضمون على الغاية بقاء.

وبتعبير آخر : لو كان في البين ما يدلّ على كون الغاية قيدا لموضوع الحكم أو متعلّقه فلا يكون في البين مفهوم لما تقدّم وجهه في مفهوم الوصف ، بل وكذلك فيما كانت الغاية قيدا لنفس الحكم لا النسبة الحكمية كما يقال : «يجب من طلوع الفجر إلى غروب الشمس الجلوس في المسجد» فإنّه لا دلالة لذلك إلّا على انتفاء شخص هذا الحكم لا ارتفاع سنخه وإنّما تختصّ الدلالة على ارتفاع السنخ بما إذا كانت

١٩٠

.................................................................................................

______________________________________________________

النسبة الحكمية المعبّر عنها بالمضمون مغيّاة بغاية (١).

أقول : وحدة الحكم بوحدة متعلّقه وموضوعه ، كما أنّ تعدّده يكون في فرض تعدّد المتعلّق أو الموضوع ، وإذا فرض أنّ الغاية في الكلام لم تؤخذ في ناحية المتعلّق والموضوع ، بل ثبت لمتعلّق واحد وموضوع واحد حكم مغيّا ، فمقتضى ذكر الغاية انتهائه من ذلك الموضوع بحصولها ، فلا يكون لذلك المتعلّق والموضوع سنخ ذلك الحكم لأنّ سنخ الحكم لا يتعدّد ما لم يتعدّد المتعلّق والموضوع. وعلى ذلك فلا فرق بين أن يقال اجلس في المسجد إلى الليل أو يجب إلى الليل الجلوس في المسجد.

نعم ، قد تقدّم في مفهوم الوصف أنّه لا دلالة لمثل قوله «يجب عند مجيء زيد إكرامه» على ارتفاع الحكم بارتفاع مجيئه فإنّ ذكر الظرف لحدوث الحكم لا ينافي بقائه بعد ارتفاع ذلك الظرف بخلاف تقييد الحكم بالغاية فإنّ ثبوته بعد تلك الغاية خلف ، وبما أنّه لا اختلاف في ناحية المتعلّق والموضوع فلا محاله يرتفع سنخ الحكم وهذا بخلاف ما إذا كانت الغاية قيدا للمتعلّق فإنّه لا ينافي تقييد المتعلّق لثبوت حكم آخر للمتعلّق الآخر وهو الفعل بعد تلك الغاية ، وكذا الحال في ناحية كونها قيدا للموضوع.

نعم ، إذا كان في البين قرينة على كون المولى في مقام بيان تمام الحكم ثبوتا واقتصر بذكر الغاية للمتعلق أو الموضوع كما في آية الوضوء كان الاقتصار بذكر الحكم للفعل أو الموضوع المغيّى كاشفا عن عدم الحكم لغير المغيّى.

__________________

(١) نهاية الأفكار ١ / ٤٩٧.

١٩١

دخول الغاية في المغيّى وعدمه

وثانيهما : إذا كانت الغاية قيدا للموضوع أو المتعلّق ففيها خلاف آخر وهو كون الغاية داخلة في حكم المغيّى بحيث يكون الخارج عن حكم المغيّى ما بعد الغاية لا نفسها ، أو أنّ الغاية أيضا كما بعدها خارجة عن حكم المغيّى ، وهذا النزاع يجري فيما كان للفعل أو الموضوع قطعات ثلاث ، قبل الغاية وحال الغاية وحال ما بعدها ، كما في غسل اليد إلى المرفق ، فهل يراعى غسل المرفق أيضا أو أنّ ما يعتبر غسله هو ما يتلوه المرفق.

وأمّا إذا كان للفعل قطعتين حالة قبل الغاية وحالة الغاية فلا ينبغي التأمّل في خروج الغاية عن حكم المغيّى كما في قوله سبحانه وتعالى. (أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ)(١) ، فإنّ للإمساك زمانين : النهار والليل ، فإذا جعل مجيء الليل غاية ، يرتفع الإمساك الواجب آن دخول الليل فلا يجب الإمساك في ذلك الآن ، وهذا النزاع بعنوانه لا يجري فيما كان الشيء غاية لنفس الحكم ، لأنّ معنى دخول الغاية في المغيّى جريان حكم المغيّى عليه ودخول الغاية فيها بحسب الحكم ، وإذا كان المغيّى نفس الحكم فلا معنى لثبوته بعد حصول غايته ، وذكر الماتن قدس‌سره خروج الغاية عن المغيّى سواء كان المغيّى نفس المتعلّق أو الموضوع إذا لم يكن في البين قرينة على الخلاف لأنّ ظاهر الغاية أنّها حدّ للمغيّا بحسب الحكم المذكور له ، وحدّ لذلك المغيّى فراجع الاستعمالات وتأمّل.

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ١٨٧.

١٩٢

فصل

لا شبهة في دلالة الاستثناء على اختصاص الحكم ـ سلبا أو إيجابا ـ بالمستثنى منه ولا يعمّ المستثنى [١] ، ولذلك يكون الاستثناء من النفي إثباتا ، ومن الإثبات نفيا ، وذلك للانسباق عند الإطلاق قطعا ، فلا يعبأ بما عن أبي حنيفة من عدم الإفادة ، محتجا بمثل (لا صلاة إلّا بطهور) ضرورة ضعف احتجاجه :

أولا : يكون المراد من مثله أنه لا تكون الصلاة التي كانت واجدة لأجزائها وشرائطها المعتبرة فيها صلاة ، إلّا إذا كانت واجدة للطهارة ، وبدونها لا تكون صلاة على وجه ، وصلاة تامة مأمورا بها على آخر.

وثانيا : بأن الاستعمال مع القرينة ، كما في مثل التركيب ، مما علم فيه الحال لا دلالة له على مدعاه أصلا ، كما لا يخفى.

ومنه قد انقدح أنه لا موقع للاستدلال على المدعى ، بقبول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إسلام من قال كلمة التوحيد ، لإمكان دعوى أن دلالتها على التوحيد كان بقرينة الحال أو المقال.

______________________________________________________

مفهوم الاستثناء

[١] لا ينبغي التأمّل في دلالة الاستثناء على اختصاص الحكم بالمستثنى منه وعدم شموله للمستثنى سواء كان الاستثناء من الإيجاب أو النفي ، وعدم شموله للمستثنى هو الوجه في كون الاستثناء من النفي ايجابا ومن الايجاب نفيا.

وقد حكى المناقشة في ذلك عن أبي حنيفة قائلا بعدم دلالة الاستثناء في مثل «لا صلاة إلّا بطهور» فإنّه لا يمكن الالتزام بحصول الصلاة بالطهارة خاصّة.

١٩٣

.................................................................................................

______________________________________________________

وأجاب الماتن قدس‌سره عن ذلك بوجهين في المتن وبثالث في الهامش :

الأوّل : إنّ نفيها مع عدم الطهارة هو حكم المستثنى منه في فرض حصول تمام أجزاء الصلاة وشرائطها غير الطهارة ، فيكون مفاد الاستثناء تحقّق الصلاة مع فرض حصول أجزائها بشرائطها إذا حصلت الطهارة ، والحاصل أنّ المنفي في ناحية المستثنى منه هو حصول الصلاة على الصحيحي ، وحصول التمام بناء على الأعمي والحكم بالنفي كما هو الحال في سائر الاستثناءات يختصّ بالمستثنى منه ولا يعمّ المستثنى فيكون ظاهر التعبير اشتراط الصلاة بالطهارة مطلقا.

الثاني : انّ استعمال أداة الاستثناء في غير ما ذكر ـ ممّا لا يدلّ معه على الاختصاص مع القرينة ـ مما لا ينكر ، والقرينة في هذا التركيب هي كون المستثنى منه في المثال مركّبا من الأجزاء والشرائط وانتفاء المركّب بانتفاء أحد أجزائه وشرائطه ، وعدم تحقّقه بمجرّد وجود شرط من شرائطه ، والغرض من الاستثناء في مثل هذا التركيب بيان شرطيّة الطّهارة وانتفاء الصلاة مع انتفائها.

الثالث : بأنّ المنفي في مثل «لا صلاة إلّا بطهور» هو الإمكان لا الحصول ، بمعنى أنّ الصلاة لا يمكن تحقّقها بلا طهارة ويمكن مع حصول الطهارة.

أقول : لا يصحّ هذا الأخير لأنّ الصلاة ممكنة بالتمكّن من الطهارة ومن سائر أجزائها وشرائطها ولا تكون ممكنة بمجرّد الطهارة.

والحاصل أنّه لا يفرق بين كون المنفي تحقّق الصلاة أو إمكانها حيث لا تتحقّق ولا تكون ممكنة بمجرّد حصول الطهارة ، والصحيح في الجواب هو الوجه الأوّل وهو أنّ الصلاة المزبور تحقّق أجزائها وشرائطها لا تحصل بلا طهارة ، وإذا انضمّ إليها الطهارة تحصل ، فإن كان لفظ الصلاة اسما للتامّ فلا يتحقّق المسمّى وإن كان اسما

١٩٤

والاشكال في دلالتها عليه ـ بأن خبر (لا) اما يقدّر (ممكن) أو (موجود) [١] وعلى كل تقدير لا دلالة لها عليه ، أما على الأول : فإنه حينئذ لا دلالة لها إلّا على إثبات إمكان وجوده تبارك وتعالى ، لا وجوده ، وأما على الثاني : فلانها وإن دلت على وجوده تعالى ، إلّا أنه لا دلالة لها على عدم إمكان إله آخر ـ مندفع ، بأن المراد من الإله هو واجب الوجود ، ونفي ثبوته ووجوده في الخارج ، وإثبات فرد منه فيه ـ وهو الله ـ يدلّ بالملازمة البينة على امتناع تحققه في ضمن غيره تبارك وتعالى ، ضرورة أنه لو لم يكن ممتنعا لوجد ، لكونه من أفراد الواجب.

______________________________________________________

للأعم فلا يحصل ما هو متعلّق الأمر والمطلوب من المكلّف.

وربّما يستدلّ لدلالة الاستثناء على الحصر أي عدم جريان الحكم المذكور للمستثنى منه على المستثنى بكلمة التوحيد حيث إنّ كونها اعترافا بوحدانية ذات الحقّ (جلّ وعلا) لا يتمّ إلّا بالحصر وعدم جريان النفي على المستثنى.

ولكن لا يخفى ما في الاستدلال حيث يمكن دعوى دلالتها على التوحيد بالقرينة لا بمقتضى وضع أداة الاستثناء والقرينة هي دعوة الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الناس إلى ترك آلهتهم والاعتراف بالذي فطر السموات والأرض والذي خلق ما فيهما وما بينهما.

وبتعبير آخر : كان المراد من كلمة التوحيد معلوما وهو نفي الالوهية عن غير ذات الحقّ (جلّ وعلا) وإثباتها لله تعالى خاصّة.

[١] ينبغي في المقام التكلّم في أمور :

أحدها : ما ذكره الماتن قدس‌سره بقوله «والإشكال في دلالتها عليه ... إلخ» وتقريره :

أنّه قد يناقش في كون كلمة «لا إله إلّا الله» كلمة التوحيد بأنّه إن قدّر خبر «لا»

١٩٥

ثم إن الظاهر أن دلالة الاستثناء على الحكم في طرف المستثنى بالمفهوم ، وأنه لازم خصوصية الحكم في جانب المستثنى منه التي دلت عليها الجملة الاستثنائية ، نعم لو كانت الدلالة في طرفه بنفس الاستثناء لا بتلك الجملة ، كانت بالمنطوق ، كما هو ليس ببعيد ، وإن كان تعيين ذلك لا يكاد يفيد.

______________________________________________________

الوجود ، فلا يدلّ الكلام على عدم إمكان إله آخر ، وإن قدّر الإمكان فلا تدلّ على الوجود لله سبحانه وتعالى ، وكلمة التوحيد لا بدّ من أن تشتمل على نفي الإمكان عن غير الله عزوجل وإثبات وجوده سبحانه وتعالى.

ويجاب بأنّها تصحّ أن تكون كلمة التوحيد على كلا التقديرين ، غاية الأمر انّه على تقدير الوجود يكون الاعتراف بفعلية ذات الحقّ جلّ وعلا بالمطابقة ، وبامتناع إله آخر بالملازمة ، لأنّ الواجب بالذات لا يقبل الإمكان ، الخاص وإذا فرض جهته مردّدة بين الوجوب والامتناع يكون الاعتراف بعدمه اعترافا بعدم إمكانه ، وعلى تقدير الإمكان يكون الاعتراف بامتناع إله آخر بالمطابقة والاعتراف بوجوده سبحانه وتعالى بالملازمة لأنّ استثناء الله سبحانه وتعالى عن الامتناع يلازم الاعتراف بوجوده لعدم إمكان فرض الإمكان الخاص في المقام.

أقول : المشركون في ذلك الزمان بل في كلّ العصور والأزمنة لم يعتقدوا بوجوب الوجود لآلهتهم ليكون ادّعائهم بوجود الآلهة واعترافهم بها التزاما بوجوب وجودهم ، ودعوى نفي الوجود ملازما للاعتراف بالامتناع ، ألا ترى عبدة الاصنام والطاغوت ، فهل كانوا معتقدين بأنّ الصنم الذي هو مصنوع بأيديهم أو أيدي آبائهم واجب الوجود ، وهكذا عبدة النار أو الحيوان هل كانوا يرون كلّ نار أو كلّ فرد من ذلك الحيوان واجب الوجود؟ كلّا وابدا.

وأجاب المحقق النائيني قدس‌سره عن المناقشة بوجه آخر وهو عدم الحاجة إلى

١٩٦

.................................................................................................

______________________________________________________

تقدير خبر لكلمة «لا» النافية للجنس كما هو كذلك في «لو لا» الامتناعية و «ليس» التامة فإنّها غير محتاجة إلى الخبر ، ويكون المراد من المنفي في كلمة التوحيد نفي تقرّر الشيء في وعائه المناسب له ، والوعاء المناسب لتقرّر المعبود مرحلتا الإمكان والوجود وأنّه لا تقرّر بحسبهما لغير الله سبحانه وتعالى (١).

ولا يخفى ما فيه لرجوعه إلى تقدير كلّ من الإمكان والوجود.

والصحيح في الجواب أنّ المنفي ب (لا) هو الوجود ، فالمقدّر بحسب المتفاهم العرفي موجود ، والمراد بالإله المنفي هو المعبود بالحقّ والاستحقاق ، فيكون إثبات وجود الله سبحانه وتعالى وقطع النفي فيه «جلّ وعلا» توحيدا فإنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عرّف ذات الحقّ «جلّ وعلا» بأنّه واحد لا شريك له لم يتّخذ صاحبة ولا ولدا لم يلد ولم يولد حيّ قيّوم دائم أزليّ فطر السموات والأرض وما بينهما ، لأنّ امتناع إله آخر يكون من لوازم الاعتراف بوجوده سبحانه وتعالى لا من لوازم نفي وجود غيره سبحانه وتعالى كما هو ظاهر الماتن قدس‌سره.

وهذا هو الأمر الثاني من الأمور التي ينبغي التكلّم فيها في المقام ، وحاصله أنّ المستفاد من القضية الاستثنائية عدم جريان الحكم المذكور للمستثنى منه على المستثنى ، فهل هذا من قبيل المفهوم بمعنى أنّ عدم ثبوت الحكم المذكور للمستثنى من لوازم انحصاره بالمستثنى منه فتكون لفظة «لا» حرفا معناها تلك الخصوصية التي تقوم بمفاد الجملة المشتملة على المستثنى منه ، أو أنّ ثبوت خلافه للمستثنى هو معنى لفظة «إلّا» حيث يتضمّن معنى الفعل المعبّر عنه ب (أستثني) فيدخل عدم ثبوت الحكم الوارد في ناحية المستثنى منه للمستثنى من المنطوق.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ / ٤٤٠.

١٩٧

.................................................................................................

______________________________________________________

اختار الماتن قدس‌سره في أوّل كلامه الأوّل ، ونفى البعد عن الثاني في آخر كلامه ، ولا أدري أنّه كيف جعل الأوّل ظاهرا مع نفيه البعد عن الثاني.

ولكن لا يترتب على هذا البحث ثمرة عملية بعد كون المعيار في الاعتبار هو الظهور من غير فرق بين كونه منطوقا أو مفهوما ، وما قيل من تقديم المنطوق على المفهوم عند تعارضهما أمر لا أساس له بل اللازم ملاحظة أنّ أيّا منهما يحسب قرينة عرفية على المراد من الآخر ، فقد يكون المفهوم لكونه أخصّ وقد يكون الأمر بالعكس ولكن مع ذلك لا يبعد كون دلالة الجملة الاستثنائية على قطع الحكم الوارد في الخطاب عن المستثنى من قبيل المفهوم ولذا نرى بالوجدان فرقا بين قوله أكرم العلماء إلّا الفسّاق منهم ، وقوله أكرم العلماء ولا تكرم فسّاقهم ، حيث إنّ الفرق هو الخصوصية التي نعبّر عنها بمدلول «إلّا» القائمة بالجملة المستثنى منه ، فتدبّر.

الأمر الثالث : أنّ لفظة «إلّا» تستعمل وصفيّة وتستعمل استثنائية ، الأوّل كما في قوله : «العلماء إلّا زيد أكرمهم» والثاني كما في قوله : «أكرم العلماء إلّا زيدا» وتكون «إلّا» في موارد استعمالها وصفا بمعنى «غير» فيكون مفاد الخطاب الأوّل العلماء الموصوفون بأنّهم غير زيد أكرمهم ، بخلاف الثاني فإنّه بمعنى الاستثناء.

لا يقال : لم يظهر كون «إلّا» في الأوّل بمعنى ، غير معنى الاستثناء.

فإنّه يقال : الاستثناء إخراج المستثنى عن الحكم المذكور للمستثنى منه ، وهذا لا يكون إلّا بعد فرض ثبوت الحكم للمستثنى منه ، بخلاف «إلّا» الوصفية فإنّه يرد فيها الحكم على الموصوف بغير المستثنى ، وما ذكر من دلالة الاستثناء على الحصر بمعنى عدم جريان الحكم المذكور للمستثنى منه على المستثنى ، بخلاف ما إذا كانت إلّا وصفية فإنّ دلالتها على الحصر وعدمها مبني على مفهوم الوصف فيما كان

١٩٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الوصف موجبا للتقييد والتضييق.

ثمّ إنّه إذا دار الأمر في الكلام بين كون «إلّا» وصفية أو استثنائية يحمل على الاستثناء دون الوصف لظهورها في كونها بمعنى الاستثناء ، وإرادة الوصف يحتاج إلى قرينة ، وإذا قال «ليس لزيد عليّ عشرة إلّا درهم» فإن كان بمعنى الوصف فلا يثبت لزيد شيء حيث إنّ معناها على الوصف العشرة التي من وصفها غير درهم واحد ، ليست عليّ ، بخلاف ما إذا كان بمعنى الاستثناء فإنّه يكون اعترافا لزيد بدرهم واحد ، فيحمل هذا القول على الثاني.

ومما ذكرنا يظهر أنّ ما ذكره في الشرائع (١) في باب الإقرار أنّه إذا قال «ليس عليّ عشرة إلّا درهما» فلا يثبت عليه شيء غير صحيح ، حيث إنّه لو لم يكن نصب الدرهم قرينة على كونه مستثنى فلا ينبغي التأمّل في ظهور «إلّا» بنفسه في الاستثناء.

ووجه الحكم في المسالك (٢) وأنّه لا يكون لزيد شيء ، بأنّ الاستثناء على تقدير وروده قبل الحكم بأن يستثنى الدرهم من العشرة ثمّ يدخل النفي ، يكون الحكم واردا على مجموع المستثنى والمستثنى منه فلا يكون اعترافا بشيء ، وإذا كان بعده بأن ورد النفي على العشرة ثمّ ورد الاستثناء على النفي فيكون إثباتا واعترافا بالدرهم الواحد.

وفيه أنّ ورود الاستثناء قبل الحكم عبارة أخرى عن جعل إلّا وصفية ، حيث لا يتحقّق الاستثناء قبل الحكم على المستثنى منه ، وظاهر الخطاب المزبور هو

__________________

(١) الشرائع : كتاب الإقرار ، الجواهر ٣٥ / ٨٧.

(٢) المسالك ٢ / ١٧١ السطر ٢٦ ، الطبعة الحجرية.

١٩٩

ومما يدلّ على الحصر والاختصاص (إنما) وذلك لتصريح أهل اللغة بذلك ، وتبادره منها قطعا عند أهل العرف والمحاورة [١].

ودعوى ـ أن الإنصاف أنه لا سبيل لنا إلى ذلك ، فإن موارد استعمال هذه اللفظة مختلفة ، ولا يعلم بما هو مرادف لها في عرفنا ، حتى يستكشف منها ما هو المتبادر منها ـ غير مسموعة ، فإن السبيل إلى التبادر لا ينحصر بالانسباق إلى أذهاننا ، فإن الانسباق إلى أذهان أهل العرف أيضا سبيل.

______________________________________________________

الاستثناء بحسب الحكم على ما تقدّم.

وذكر المحقق النائيني قدس‌سره أنّه لو قال «لزيد عليّ عشرة إلّا درهما» تعيّن كونه استثناء فيثبت عليه التسعة لا تمام العشرة الذي هو مقتضى جعل إلّا وصفية ، وذلك فإنّ «إلّا» لو كانت وصفية لما صحّ نصب المستثنى (١).

ولكن لا يخفى أنّ هذا لا يتمّ في محاورات عامّة الناس ممن لا يراعون في خطاباتهم القواعد العربية والإعراب والبناء ، ألا ترى أنّه لو سأل القاضي أحد الناس : أليس عليك عشرة دراهم لزيد؟ فقال : نعم ، يؤخذ بالعشرة مع أنّه بحسب القواعد العربية ومن يراعي قوانين لسان العرب يفيد هذا الجواب إنكار الدين ، ومن هنا قيل أنّهم لو أجابوا في جواب قوله سبحانه وتعالى (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) بنعم لكفروا ، ولذلك أيضا ذكرنا في الفرع الذي تعرّض له في الشرائع أنّه اعتراف بالدراهم ، لا لنصب الدرهم بل لكون ظاهر الخطاب استعمال إلّا استثنائية لا وصفية.

دلالة «إنّما» على الحصر

[١] وممّا يدلّ على الحصر والاختصاص كلمة «إنّما» ، فتستعمل تارة في حصر

__________________

(١) أجود التقريرات ١ / ٤٣٨.

٢٠٠