دروس في مسائل علم الأصول - ج ٣

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-94850-9-1
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٤٥

وهم وإزاحة : ربما يظهر عن بعضهم التمسك بالعمومات فيما إذا شك في فرد ، لا من جهة احتمال التخصيص ، بل من جهة أخرى [١] ، كما إذا شك في صحة الوضوء أو الغسل بمائع مضاف ، فيستكشف صحته بعموم مثل (أوفوا

______________________________________________________

لإدراك الجماعة هو ركوع المأموم الداخل في الصلاة وتقارن ركوعه مع ركوع الإمام كما هو ظاهر قوله عليه‌السلام : «إذا أدرك الإمام وهو راكع فقد أدرك الركعة» (١) ، حيث إنّ مقتضاه كيفية ركوعه من كونه حال ركوع الإمام.

وأمّا إن كان الموضوع للحكم نفس الأمرين وواقع اجتماعهما فبإحراز أحدهما بالوجدان والآخر بالأصل بمفاد واو الجمع ، يتمّ إحراز الموضوع ، ولا يخفى أنّ الموضوع في ضمان التلف كذلك فإنّ موضوعه مركّب من الاستيلاء على مال الغير بلا إذن منه في إتلافه مجانا ، ومن عدم كون المستولي أمينا ، فإذا أحرز الاستيلاء وضمّ إليه عدم إذن مالكه في إتلافه مجانا أو عدم استيمانه يتمّ الموضوع للضمان وذلك لأنّه لا يعقل التقييد والنعتية في جوهرين ، أو عرضين أو عرض وغير محلّه ، فيكون الموضوع للحكم ـ مع عدم أخذ العنوان الانتزاعي ـ هو واقع تحقّقهما في الزمان أي واقع المقارنة ، أو التقدّم أو التأخّر كما لا يخفى.

التمسك بالعموم لا من جهة احتمال التخصيص

[١] إذا كان الخطاب الدالّ على المتعلق مجملا ، وكان إجماله بالإضافة إلى المتعلق بعنوانه الاولى ، كما يقال بأنّ قوله عزوجل : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ)(٢) مجمل بالإضافة إلى الوضوء أو الاغتسال بالجلاب ونحوه ولا إطلاق له

__________________

(١) الوسائل : ج ٥ ، باب ٤٥ من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث ١.

(٢) سورة المائدة : الآية ٦.

٢٦١

بالنذور) فيما إذا وقع متعلقا للنذر ، بأن يقال : وجب الإتيان بهذا الوضوء وفاء للنذر للعموم ، وكل ما يجب الوفاء به لا محالة يكون صحيحا ، للقطع بأنه لو لا صحته لما وجب الوفاء به ، وربما يؤيد ذلك بما ورد من صحة الإحرام والصيام قبل الميقات وفي السفر إذا تعلق بهما النذر كذلك.

______________________________________________________

بالنسبة إلى الصلاة مع الوضوء أو الغسل به ، فيمكن رفع هذا الإجمال بالإطلاق أو العموم في الخطاب الدالّ على حكم عنوان ينطبق على ذلك الوضوء أو الغسل لأنّ ثبوت الحكم بالعنوان الثاني للوضوء أو الغسل ، يلازم ثبوت الحكم الأوّلي له بعنوانه الأوّلي ، كما إذا نذر الوضوء أو الاغتسال بالجلّاب فيؤخذ بعموم قوله (أوفوا بالنّذور) في الحكم بوجوبه مع النذر ، وإذا وجب حال النذر جاز الدخول به في الصلاة حال النذر بل مطلقا لثبوت الملازمة بين وجوب الإتيان به بعنوان الوفاء بالنذر وبين جواز الاكتفاء به في الدخول في الصلاة ونحوها مما هو مشروط بالطهارة ، ويؤيّده ما ورد في جواز الإحرام قبل الميقات والصيام في السفر بالنذر.

وأجاب الماتن قدس‌سره عن ذلك بأنّه إذا كان الموضوع للحكم في الخطاب الدالّ عليه بالعنوان الثانوي الفعل الذي له الحكم الكذائي بالعنوان الأوّلي كما في وجوب الوفاء بالنذر فإنّ وجوب الوفاء لم يتعلّق بالنذر مطلقا بل فيما كان المنذور راجحا شرعا استحبابا أو وجوبا وكذا في الحكم بوجوب إطاعة الوالد فإنّه لم يتعلّق الوجوب بإطاعته في كلّ فعل يأمر الوالد به أو ينهى عنه ، بل فيما إذا كان الفعل مباحا بعنوانه الأوّلي ولم يكن من قبيل الأمر بترك الواجب أو فعل الحرام ، ففي مثل ذلك لا يمكن التمسّك بالخطاب الدالّ على الحكم بالعنوان الثانوي حيث إنّ التمسّك به من قبيل التمسّك بالعام لا في الشبهة المصداقية لعنوان المخصّص ، بل من قبيل التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية لنفس عنوان العام أو المطلق.

٢٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وقد تقدّم أنّ البحث في التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية لعنوان المخصّص ينحصر فيما إذا كان التخصيص متّصلا بمفاد الاستثناء أو منفصلا ، وأمّا إذا كان الخطاب دالّا على تقييد العام بعنوان وجودي كما إذا قال (أكرم كلّ عالم عادل) أو ورد في خطاب آخر (أكرم العالم إذا كان عادلا) وشك في عدالة عالم ، يكون التمسّك في إثبات وجوب إكرامه من التمسّك بالعام في شبهته المصداقية حيث إنّ الموضوع لوجوب الإكرام هو العالم العادل على الفرض.

وبالجملة بقاء العام موضوعا لحكمه معنونا بكلّ عنوان لم يكن ذلك بعنوان الخاص من غير تعنون بعنوان آخر ، ينحصر في الموارد التي يكون التخصيص بمفاد الاستثناء ولا يعمّ ما إذا كان بمفاد التقييد بعنوان آخر كما في المثال ، وذكر قدس‌سره أنّه إذا كان الحكم بالعناوين الثانوية من غير أن يؤخذ في ثبوت ذلك الحكم ثبوت الحكم بالعنوان الأوّلي كما إذا قيل بأنّ الموضوع لوجوب الوفاء بالحلف هو الإتيان بالمحلوف عليه من غير اعتبار كونه راجحا بعنوانه الأوّلي فيمكن إثبات جواز ذلك الفعل بالأخذ بالإطلاق أو العموم في خطاب الحكم بالعنوان الثانوي ، ويمكن إثبات صحة الوضوء بالجلاب أو الغسل به إذا حلف عليه أخذا بوجوب الوفاء بالحلف وعدم جواز حنثه ولكن هذا أيضا مجرّد فرض بالإضافة إلى وجوب الوفاء بالحلف فإنّ المأخوذ فيه أيضا كون المحلوف عليه جائزا شرعا والجواز في مثل الوضوء أو الغسل اللذان هما من العبادات المحتاجة إلى المشروعية موقوف على الأمر بهما وجوبا أو استحبابا ومع عدم إحراز ذلك كما هو الفرض لا يحرز شمول وجوب الوفاء له وحرمة الحنث لحلفه.

والحاصل أنّ الوجوب المستفاد من خطاب الأمر بالوفاء بالحلف مشروط

٢٦٣

والتحقيق أن يقال : إنه لا مجال لتوهم الاستدلال بالعمومات المتكلفة لأحكام العناوين الثانوية فيما شك من غير جهة تخصيصها ، إذا أخذ في موضوعاتها أحد الأحكام المتعلقة بالأفعال بعناوينها الأولية ، كما هو الحال في وجوب إطاعة الوالد ، والوفاء بالنذر وشبهه في الأمور المباحة أو الراجحة ، ضرورة أنه معه لا يكاد يتوهم عاقل أنه إذا شك في رجحان شيء أو حليته جواز التمسك بعموم دليل وجوب الإطاعة أو الوفاء في رجحانه أو حليته.

نعم لا بأس بالتمسك به في جوازه بعد إحراز التمكن منه والقدرة عليه ، فيما لم يؤخذ في موضوعاتها حكم أصلا ، فإذا شك في جوازه صح التمسك بعموم دليلها في الحكم بجوازها ، وإذا كانت محكومة بعناوينها الأولية بغير حكمها بعناوينها الثانوية ، وقع المزاحمة بين المقتضيين ، ويؤثر الأقوى منهما [١] لو كان

______________________________________________________

بالقدرة على المحلوف عليه وفي مثل الوضوء بالجلاب لا يحرز هذا الشرط ليتمسّك بخطاب وجوب الوفاء ، هذا كلّه فيما كان الخطاب الدالّ على حكم الفعل بعنوانه الأوّلي مجملا.

تزاحم العنوان الأولى مع الثانوي

[١] يعني إذا لم يكن الخطاب الدالّ على الحكم بالعنوان الأوّلي مجملا بل كان مبيّنا ولكن كان الخطاب الدالّ على حكمه بالعنوان الثاني مخالفا لحكمه بالعنوان الأوّلي ، كما إذا كان الخطاب الدالّ على حكمه بالعنوان الأوّلي وجوبا والخطاب الدال على حكمه بالعنوان الثانوي مقتضيا لحرمته ، وقعت المزاحمة بين المقتضيين ويؤثّر الأقوى منهما لو كان في البين وإلّا لا يحكم بأحدهما لاستلزامه الترجيح بلا مرجّح فيحكم بحكم آخر كالإباحة في الفرض.

أقول : لو فرض الاختلاف في مدلولي الخطابين أحدهما دالّ على حكم الفعل

٢٦٤

في البين ، وإلّا لم يؤثر أحدهما ، وإلّا لزم الترجيح بلا مرجح ، فليحكم عليه حينئذ بحكم آخر ، كالإباحة إذا كان أحدهما مقتضيا للوجوب والآخر للحرمة مثلا.

وأما صحة الصوم في السفر بنذره فيه ـ بناء على عدم صحته فيه بدونه ـ وكذا الإحرام قبل الميقات ، فإنما هو لدليل خاص ، كاشف عن رجحانهما ذاتا في السفر وقبل الميقات ، وإنما لم يأمر بهما استحبابا أو وجوبا لمانع يرتفع مع النذر ، وإما لصيرورتهما راجحين بتعلق النذر بهما بعد ما لم يكونا كذلك ، كما ربما يدلّ عليه ما في الخبر من كون الإحرام قبل الميقات كالصلاة قبل الوقت.

لا يقال : لا يجدي صيرورتهما راجحين بذلك في عباديتهما ، ضرورة كون وجوب الوفاء توصليا لا يعتبر في سقوطه إلّا الإتيان بالمنذور بأيّ داع كان.

______________________________________________________

بعنوانه الأوّلي والآخر على حكمه بعنوانه الثانوي يقدّم الدالّ على الحكم بالعنوان الثانوي كما هو مقتضى الجمع العرفي بين الخطابين ولهذا يقدّم خطاب نفي الحرج أو الضرر على الخطابات الدالّة على ثبوت التكاليف في الأفعال بعناوينها الأوّلية ، وقد تقدّم في بحث جواز اجتماع الأمر والنهي اختلاف مقام التزاحم في الملاك عن مقام التزاحم في الامتثال وأنّ التزاحم في الملاك يدخل في موارد تعارض خطابي الحكمين.

وأمّا مسألة نذر الصوم في السفر أو الإحرام قبل الميقات فقد أجاب الماتن قدس‌سره عنهما بوجوه ثلاثة :

الأوّل : أنّ صحتهما ليست لاقتضاء خطاب وجوب الوفاء بالنذر مشروعيتهما بعد ما لم يكونا مشروعين بل صحتهما لكونهما قبل النذر أيضا راجحين ، غاية الأمر لم يؤمر بهما لمانع عن الأمر به وجوبا أو استحبابا ويرتفع ذلك المانع عند النذر ، فما دلّ على صحتهما عند النذر كاشف عن رجحانهما النفسي مع قطع النظر عن نذرهما

٢٦٥

فإنه يقال : عباديتهما إنما تكون لأجل كشف دليل صحتهما عن عروض عنوان راجح عليهما ، ملازم لتعلق النذر بهما ، هذا لو لم نقل بتخصيص عموم دليل اعتبار الرجحان في متعلق النذر بهذا الدليل ، وإلّا أمكن أن يقال بكفاية الرجحان الطارئ عليهما من قبل النذر في عباديتهما ، بعد تعلق النذر بإتيانهما عباديا ومتقربا بهما منه تعالى ، فإنه وإن لم يتمكن من إتيانهما كذلك قبله ، إلّا أنه يتمكن منه بعده ، ولا يعتبر في حصة النذر إلّا التمكن من الوفاء ولو بسببه ، فتأمل جيدا.

______________________________________________________

والأمر بهما بعنوان الوفاء بالنذر.

الثاني : أنّ الصيام في السفر أو الإحرام قبل الميقات كما لا أمر بهما قبل النذر كذلك لا رجحان لهما وإنّما يحدث الرجحان لهما لا بسبب تعلّق النذر بل لانطباق عنوان ذي صلاح عليهما في ذلك الحال اتفاقا ، والروايات المشار إليها دالّة على تعلّق الأمر العبادي بهما حين تعلّق النذر فيكونان كسائر المستحبّات العبادية التي يتعلّق بها النذر.

الثالث : أنّ ما دلّ على اعتبار الرجحان في متعلّق النذر مع قطع النظر عن النذر من قبيل الاطلاق أو العموم فيرفع اليد عنه بالدليل الخاص الوارد في نذر الإحرام قبل الميقات والصوم في السفر ، حيث إنّ مقتضى ما ورد فيهما أنّه إذا تعلّق النذر بالإحرام بقصد التقرّب أو بالصوم كذلك يجب الوفاء بنذرهما ويتمكّن المكلّف من قصد التقرّب بهما بقصد الأمر بالوفاء بنذرهما فيكفي الرجحان الطارئ بالنذر في صحة النذر إذا قام دليل خاص في مورد حصول الرجحان فيهما بالنذر ، حيث يتمكّن مع حصوله بالنذر من الإتيان بالمنذور بنحو التقرّب ويكفي في صحة تعلّق النذر التمكّن من المنذور ولو بعد تعلّق النذر.

أقول : الاحتمال الأوّل ضعيف ، حيث لا يمكن الالتزام بكون الإحرام قبل

٢٦٦

بقي شيء ، وهو أنه هل يجوز التمسك بأصالة عدم التخصيص؟ في إحراز عدم كون ما شك في أنه من مصاديق العام ، مع العلم بعدم كونه محكوما بحكمه ، مصداقا له [١] ، مثل ما إذا علم أن زيدا يحرم إكرامه ، وشك في أنه عالم ، فيحكم عليه بأصالة عدم تخصيص (أكرم العلماء) أنه ليس بعالم ، بحيث يحكم عليه بسائر ما لغير العالم من الأحكام.

______________________________________________________

الميقات والصوم في السفر في نفسهما راجحين ولم يؤمر بهما لمانع يرتفع مع النذر فإنّ لازمه الحكم بصحة الإتيان بهما بلا نذر أيضا إذا أتى بهما بداعي الملاك الموجود فيهما.

دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص

[١] بقي في المقام أمر ، وهو أنّه إذا أحرز أنّ حكم العام غير ثابت لمورد وشك في أنّه فرد من العام وقد خرج عنه تخصيصا ، أو أنّه ليس فردا للعام وأنّ خروجه بالتخصّص ، كما إذا أحرز أنّ زيدا لا يجب إكرامه ودار الأمر بين كونه عالما وعدم وجوب إكرامه لخروجه عن خطاب أكرم كلّ عالم أو أنّه ليس بعالم وأنّه خارج تخصّصا ، فإن كان خروجه عن خطاب العام تخصّصا فلا يترتب عليه سائر ما يترتب على عنوان العالم من الأحكام ، فهل يمكن في الفرض الرجوع إلى أصالة عموم العام لإثبات أنّ خروجه كان لعدم كونه عالما بحيث تكون أصالة العموم طريقا متّبعا إلى إحراز حال المشتبه أو أنّه لا بدّ في ترتيب سائر الأحكام وعدمه من الرجوع إلى أمر آخر ولا تكون أصالة العموم طريقا إلى إحراز عدم كونه فردا للعام؟

الصحيح هو الثاني ، لأنّ أصالة العموم كسائر الأصول اللفظية يرجع إليها عند الشك في المراد لا ما إذا أحرز مراد المتكلّم وكان الشك في كيفية الإرادة ، حيث أنّ اعتبار الظهورات ببناء العقلاء وبناء العقلاء محرز في صورة الشك في المراد ، ولذا

٢٦٧

فيه إشكال ، لاحتمال اختصاص حجيتها بما إذا شك في كون فرد العام محكوما بحكمه ، كما هو قضية عمومه ، والمثبت من الأصول اللفظية وإن كان حجة ، إلّا أنه لا بد من الاقتصار على ما يساعد عليه الدليل ، ولا دليل هاهنا إلّا السيرة وبناء العقلاء ، ولم يعلم استقرار بنائهم على ذلك ، فلا تغفل.

______________________________________________________

لا يمكن إثبات الوضع بأصالة الحقيقة ، والشك في المقام ليس من الشكّ في المراد من خطاب العام ، حيث يعلم أنّ حكمه لا يعمّ زيدا والشك في كيفية إرادة حكمه وأنّه بالتخصيص أو بالتخصّص.

ومن فروع المقام على ما قيل في ماء الاستنجاء ، فإنّه غير منجّس جزما ، ولكن عدم كونه منجسا إمّا من جهة رفع اليد عن عموم ما دلّ على تنجّس الماء القليل بملاقاة المتنجّس الحامل لعين النجاسة أو من جهة تخصيص ما دلّ على تنجيس الماء القليل المتنجّس.

وبتعبير آخر : يدور الأمر في قاعدة تنجيس الماء المتنجس بالإضافة إلى ماء الاستنجاء بين التخصّص بأن يكون ماء الاستنجاء طاهرا وبين التخصيص بأن يكون نجسا ، ولكنّه غير منجّس للطاهر الذي يلاقيه ، ولو أمكن إثبات كونه طاهرا لعموم القاعدة وأصالة عدم ورود التخصيص عليه يترتّب عليه آثار الماء الطاهر من جواز استعماله ورفع الخبث به.

ولكن لا يخفى أنّ قاعدة تنجيس كل ماء قليل متنجّس وكذا تنجّس كلّ ماء قليل لاقى نجسا اصطيادية ولم يرد فيهما خطاب عام ، وإلّا لتعيّن الأخذ بعموم خطاب ما دلّ على تنجّس الماء القليل لكون الشك فيه ، في المراد ، ولكنّ ظاهر ما دلّ على نفي البأس عن ماء الاستنجاء (١) طهارته.

__________________

(١) الوسائل : ج ١ ، باب ١٣ من أبواب الماء المضاف.

٢٦٨

فصل

هل يجوز العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص؟ فيه خلاف ، وربما نفي الخلاف عن عدم جوازه [١] ، بل ادعي الإجماع عليه ، والذي ينبغي أن يكون محل الكلام في المقام ، أنه هل يكون أصالة العموم متبعة مطلقا؟ أو بعد الفحص عن المخصص واليأس عن الظفر به؟ بعد الفراغ عن اعتبارها بالخصوص في الجملة ، من باب الظن النوعي للمشافه وغيره ، ما لم يعلم بتخصيصه تفصيلا ، ولم يكن من أطراف ما علم تخصيصه إجمالا ، وعليه فلا مجال لغير واحد مما استدل به على عدم جواز العمل به قبل الفحص واليأس.

______________________________________________________

التمسّك بالعام قبل الفحص عن المخصّص

[١] قد استدلّ على عدم جواز التمسّك بالعمومات الواردة في الكتاب والسنّة قبل الفحص عن مخصصاتهما في الأخبار ، بالعلم الإجمالي بوجود المخصّصات لهما.

وربّما يورد على ذلك بأنّ لازمه عدم لزوم الفحص عن المخصّص بعد الظفر بمقدار من المخصّصات بحيث يحتمل عدم وجود مخصّص آخر في البين لسائر العمومات مما لم يفحص عن مخصّصاتها مع أنّ الدعوى عدم جواز العمل بالعام قبل الفحص عن وجود المخصّص له ولو بعد انحلال العلم الإجمالي المزبور ، وقد ذكروا مثل هذا الاستدلال في اعتبار الفحص في الرجوع إلى الأصول العملية ، وأنّه لا تجري أصالة البراءة قبل الفحص في الأخبار وغيره عن الدليل على التكليف للعلم الإجمالي بوجود التكاليف في الوقائع فيكون الرجوع إليها موجبا لمخالفة تلك التكاليف.

٢٦٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وأورد على ذلك بأنّ لازم هذا الاستدلال جواز الرجوع إلى أصالة البراءة في الشبهة الحكمية مع الظفر بمقدار من التكاليف بحيث يحتمل انحصار التكاليف الواقعية بذلك المقدار وحاصل المناقشة على الاستدلال في المقامين أنّه لا عبرة بالعلم الإجمالي بعد انحلاله إلى مقدار متيقّن والشك في الزائد على ذلك المقدار.

وأنكر المحقّق النائيني قدس‌سره على المناقشة في المقامين ووجّه الاستدلال على لزوم الفحص فيهما بأنّ انحلال العلم الإجمالي بالظفر بمقدار من المخصّصات أو التكاليف إنّما هو فيما إذا لم يكن في البين علم إجمالي آخر بحيث يكون مقتضى عدم انحلاله الاحتياط في الباقي ومثّل له بما إذا علم المكلّف بأنّه مديون لزيد بمقدار من المال وعلم أيضا أنّه سجّل تمام دينه له في دفتره الخاص بحيث يمكن معرفة مقداره تفصيلا بالرجوع إليه ، وفي مثل هذا المورد يكون العلم بالعلامة وضبط الدين في الدفتر مانعا عن الرجوع إلى أصالة البراءة في المقدار الزائد إلّا إذا لم يجده في الدفتر بعد المراجعة إليه ، وفيما نحن فيه العلم الإجمالي بوجود المخصّصات للعمومات لا يقتضي الفحص بعد الظفر بمقدار منها يحتمل انحصارها بها إلّا أنّ العلم الإجمالي بالعلامة وهي وجودها في الكتب المعتمدة عليها من كتب الأخبار من قبيل العلم الإجمالي المقتضي لعدم جواز الرجوع إلى العمومات قبل الفحص والعلم الإجمالي الأوّل لا يقتضي لزوم الفحص بعد الانحلال لا أنّه يقتضي عدم لزومه والعلم الإجمالي بالعلامة يقتضي لزومه (١).

وذكر سيدنا الاستاذ قدس‌سره في تعليقته على كلام استاذه قدس‌سره بأنّه إنّما يوجب العلم

__________________

(١) أجود التقريرات ١ / ٤٨٤ ـ ٤٨٦.

٢٧٠

.................................................................................................

______________________________________________________

الإجمالي الآخر الذي له علامة عدم جواز الرجوع في الزائد إلى الأصل إذا لم يكن المعلوم بالإجمال الآخر في نفسه مردّدا بين الأقلّ والأكثر ، كما إذا علم بنجاسة بعض الإناءات المتعدّدة وعلم أيضا بنجاسة إناء زيد من تلك الإناءات وإذا ظفرنا بمقدار يعلم نجاسته لا يكون الظفر بهذا المقدار موجبا لجواز ارتكاب الباقي بالرجوع إلى أصالة الطهارة أو البراءة فيها ، لأنّ العلم بنجاسة إناء زيد من تلك الإناءات يمنع عن الرجوع إليهما.

وأمّا إذا كان إناء زيد مردّدا أيضا بين الأقلّ والأكثر وظفرنا بمقدار من النجس مع العلم بأنّ بعض ذلك المقدار هو إناء زيد فلا مانع من الرجوع إلى أصالة الطهارة أو البراءة في الباقي ولذا لا يجب الاحتياط فيما فقد الدفتر إحصاءه (١).

أقول : الظاهر عدم الفرق بين الصورتين وأنّ العلم الإجمالي بنجاسة إناء زيد لا يوجب الاجتناب عن الباقي منها مع احتمال كون إناء زيد في جملة ما أحرز نجاسته بالتعيين ، حيث إنّ الميزان في الاحتياط في الأطراف سقوط الأصل النافي فيها بالمعارضة لكون جريانه في كلّ منها موجبا للترخيص القطعي في مخالفة التكليف الواقعي المعلوم بالإجمال ، وجريانه في البعض دون البعض بلا معيّن وإذا كان المعلوم بالإجمال الذي له علامة بحيث يحتمل اتّحاده مع المعلوم بالإجمال الآخر فلا يكون الرجوع إلى الأصل النافي في غير المقدار المعلوم تفصيلا موجبا لأحد المحذورين ويجري ذلك في الدين أيضا فإنّه لا مانع عن الرجوع إلى أصالة البراءة في غير المقدار المتيقّن وترك الرجوع إلى الدفتر إذا احتمل أنّ الموجود في

__________________

(١) أجود التقريرات ١ / هامش ص ٤٨٤.

٢٧١

فالتحقيق عدم جواز التمسك به قبل الفحص ، فيما إذا كان في معرض التخصيص [١] كما هو الحال في عمومات الكتاب والسنة ، وذلك لأجل أنه لو لا القطع باستقرار سيرة العقلاء على عدم العمل به قبله ، فلا أقل من الشك ، كيف؟ وقد ادعي الإجماع على عدم جوازه ، فضلا عن نفي الخلاف عنه ، وهو كاف في عدم الجواز ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

الدفتر هو مقدار ما أحرز اشتغال ذمته به.

نعم قد ادّعى الشيخ الانصاري قدس‌سره الإجماع على عدم جواز الرجوع إلى أصالة البراءة من غير فحص عن مقداره وفي مسألة الشك في بلوغ المال قدر النصاب أو الشك في الاستطاعة ، ولكنّ الإجماع أمر آخر لا يرتبط بمسألة كون المعلوم بالإجمال ذا علامة وعدمها.

التفصيل في وجوب الفحص

[١] قد ذكر الماتن قدس‌سره في المقام أنّه بعد الفراغ عن اعتبار ظهور العام وأنّه كسائر الظهورات من الظنون الخاصّة ، يقع الكلام في أنّه هل يعتبر ظهوره مطلقا ما لم يعلم بورود التخصيص عليه تفصيلا ولم يكن من أطراف ما علم بورود التخصيص عليه إجمالا من غير لزوم الفحص عن وجود المخصّص له ، أو أنّه لا يعتبر ظهوره إلّا بعد الفحص واليأس عن وجوده ومعه لم يبق مجال للاستدلال على لزوم الفحص بغير واحد من الوجوه التي استدلّ بها على لزوم الفحص كالعلم الإجمالي بورود المخصّصات للعمومات من الكتاب والسنّة.

ثمّ اختار قدس‌سره أنّه لا يجوز التمسّك بأصالة العموم إذا كان في معرض التخصيص كما في عمومات الكتاب والسنّة ، بخلاف ما إذا لم يكن في معرضه وذلك فإنّ العمدة في دليل اعتبار الظهورات هي السيرة العقلائية على اتباع الظهورات ولم

٢٧٢

.................................................................................................

______________________________________________________

يحرز جريان سيرتهم على اتباع الظهورات للعمومات التي في معرض التخصيص إلّا بعد الفحص وعدم الظفر به ، بل يكفي في عدم اعتبارها عدم إحراز اتّباع ظهوراتها قبل الفحص مع أنّه قد ادّعي الإجماع على لزوم الفحص ونفي الخلاف فيه وعدم إحراز اتّباعها كاف في اشتراط لزوم الفحص ، وهذا بخلاف ما إذا لم يكن العام في معرض التخصيص كما في غالب العمومات الواردة في ألسنة أهل المحاورة ، فإنّه لا ينبغي التأمل في أنّهم يأخذون بظهوراتها بلا فحص عن المخصّص لها.

أقول : ليس المراد من كون العام في معرض التخصيص مجرّد وجود الخاص أو الظنّ به على خلاف العام ، وإلّا لزم عدم جواز التمسّك به فيما إذا احتمل وجوده بعد الفحص أو ظنّ به بعد الفحص وعدم الظفر به أيضا ، بل المراد أنّ المتكلّم بخطاب العام إذا كانت عادته على إلقاء العام وعدم إرادة العموم ثبوتا واعتاد على تفهيم مراده بذكر الخطاب المنفصل لم تكن أصالة العموم متبعة في خطاباته المشتملة على العمومات قبل الفحص والمراجعة إلى مظان وجود ذكر المخصّص لها.

وليس المراد أيضا أنّه إذا كانت عادته كذلك لم ينعقد للعام ظهور استعمالي في العموم حتى يقال إنّ مع إحراز كون المتكلّم كذلك لا يتمّ مقدّمات الإطلاق في خطابه المطلق كما يأتي الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى ، بل المراد ـ بعد ما كانت أداة العموم بحسب وضعها دالّة على أنّ الحكم الوارد في الخطاب يعمّ جميع ما ينطبق عليه العنوان الواقع في حيّزها بلا حاجة إلى مقدّمات الإطلاق ـ هو أنّ أصالة التطابق المعبّر عنها بحجّية الظهور مقصورة على ما بعد الفحص عن مظانّ وجود الخاص على خلاف العام ، وقبل ذلك لا تعتبر في العمومات التي في مظان ورود الخاص على خلافها كما لا يعتبر سائر الظهورات إذا كانت في معرض ورود القرائن على خلافها.

٢٧٣

وأما إذا لم يكن العام كذلك ، كما هو الحال في غالب العمومات الواقعة في السنة أهل المحاورات ، فلا شبهة في أن السيرة على العمل به بلا فحص عن مخصص ، وقد ظهر لك بذلك أن مقدار الفحص اللازم ما به يخرج عن المعرضية له [١] ، كما أن مقداره اللازم منه بحسب سائر الوجوه التي استدل بها من العلم الإجمالي به أو حصول الظن بما هو التكليف ، أو غير ذلك رعايتها ، فتختلف مقداره بحسبها ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

ومما ذكرنا يظهر عدم الفرق بين الفحص عن الخاص الوارد على خلاف العام وبين الفحص عن الدليل على ثبوت التكليف في الواقعة في موارد الرجوع إلى الأصول العملية في الشبهات الحكمية ، حيث لا يتمّ موضوع الاعتبار قبل الفحص لا في المقام ولا في تلك الشبهات ، غاية الأمر المعتبر في المقام هو كون الظهور الاستعمالي ، طريقا إلى الواقع من حيث التنجيز أو التعذير أو كونه علما بالواقع اعتبارا وفي مورد الأصول العملية اعتبار كون الجهل بالواقع عذرا أو كونه ـ عند تعلقه بالبقاء مع إحراز ثبوته وحدوثه ـ علما بالواقع ، وما في كلام الماتن قدس‌سره من أنّ الفحص في المقام عمّا يزاحم المقتضي وفي الأصول العملية عمّا يتمّ به المقتضي ، غير تامّ إلّا على مسلكه من أنّ تقديم خطاب الخاص على خطاب العام من جهة العمل بأقوى الحجّتين لا من باب الأخذ بالقرينة لعدم اعتبار الظهور الاستعمالي مع العلم بمخالفته للمراد الجدّي حيث ذكرنا أنّه لا اعتبار به قبل الفحص عن القرينة على خلافه.

مقدار الفحص

[١] لا يخفى أنّ العمومات الواردة في الكتاب والسنّة في معرض التخصيص بالإضافة إلى الخصوصات المنفصلة الواردة في الأخبار المأثورة في كتب الأخبار

٢٧٤

ثم إن الظاهر عدم لزوم الفحص عن المخصص المتصل ، باحتمال أنه كان ولم يصل ، بل حاله حال احتمال قرينة المجاز ، وقد اتفقت كلماتهم على عدم الاعتناء به مطلقا ، ولو قبل الفحص عنها ، كما لا يخفى.

إيقاظ : لا يذهب عليك الفرق بين الفحص هاهنا ، وبينه في الأصول العملية ، حيث إنه هاهنا عما يزاحم الحجة ، بخلافه هناك ، فإنه بدونه لا حجة ، ضرورة أن العقل بدونه يستقل باستحقاق المؤاخذة على المخالفة ، فلا يكون العقاب بدونه بلا بيان والمؤاخذة عليها من غير برهان ، والنقل وإن دلّ على البراءة أو الاستصحاب في موردهما مطلقا ، إلّا أن الإجماع بقسميه على تقييده به ، فافهم.

______________________________________________________

المعتمدة عند علمائنا ، وأمّا بالإضافة إلى غيرها فلا معرضية لها وعليه فإذا فحص في مظان وجود المخصّص واطمئنّ أو يأس عن وجودها فيؤخذ بأصالة العموم في خطاب العام ، بل الحال كذلك بالإضافة إلى العمومات والمطلقات الواردة في الروايات ، فلا مورد للإشكال بأنّه إذا كان اعتبار ظهور العامّ مشروطا بخروجه عن المعرضية فعدم الظفر بالخاص على خلافه فيما بأيدينا من الروايات لا يوجب خروجه عن المعرضية.

٢٧٥

فصل

هل الخطابات الشفاهية مثل : (يا أيها المؤمنون) تختص بالحاضر مجلس التخاطب ، أو تعم غيره من الغائبين ، بل المعدومين؟

فيه خلاف [١] ، ولا بد قبل الخوض في تحقيق المقام ، من بيان ما يمكن أن يكون محلا للنقض والإبرام بين الأعلام.

فاعلم أنه يمكن أن يكون النزاع في أن التكليف المتكفل له الخطاب هل يصح تعلقه بالمعدومين ، كما صح تعلقه بالموجودين ، أم لا؟ أو في صحة المخاطبة معهم ، بل مع الغائبين عن مجلس الخطاب بالألفاظ الموضوعة للخطاب ، أو بنفس توجيه الكلام إليهم ، وعدم صحتها ، أو في عموم الألفاظ الواقعة عقيب أداة الخطاب ، للغائبين بل المعدومين ، وعدم عمومها لهما ، بقرينة تلك الأداة.

______________________________________________________

الخطابات الشفاهية

[١] يقع الكلام في المقام في جهات :

الأولى : في إمكان جعل التكليف على المعدومين في زمان الجعل من الذين لا يوجدون بعد ذلك في العصور المتتالية مع الموجودين في زمان الجعل ، بأن يكون المنشأ (بالفتح) في الخطاب هو التكليف على كلّ فرد من أفراد المكلّفين من الموجودين في زمان الجعل ومن يوجد بعد ذلك بحسب الأزمنة المتتالية والمتعاقبة.

الثانية : هل يمكن للمتكلّم مخاطبة المعدومين زمان الخطاب ، والغائبين عن مجلس التخاطب ، أو توجيه كلامه إلى الغائبين والمعدومين ممن يوجدون بعد ذلك؟

٢٧٦

ولا يخفى أن النزاع على الوجهين الأولين يكون عقليا ، وعلى الوجه الأخير لغويا.

إذا عرفت هذا ، فلا ريب في عدم صحة تكليف المعدوم عقلا ، بمعنى بعثه أو زجره فعلا ، ضرورة أنه بهذا المعنى يستلزم الطلب منه حقيقة ، ولا يكاد يكون الطلب كذلك إلّا من الموجود ضرورة ، نعم هو بمعنى إنشاء الطلب بلا بعث ولا زجر ، لا استحالة فيه أصلا ، فإن الإنشاء خفيف المئونة ، فالحكيم (تبارك وتعالى) ينشئ على وفق الحكمة والمصلحة ، طلب شيء قانونا من الموجود والمعدوم حين الخطاب ، ليصير فعليا بعد ما وجد الشرائط وفقد الموانع بلا حاجة إلى إنشاء آخر ، فتدبر.

______________________________________________________

الثالثة : هل العناوين الواقعة بعد أداة الخطاب تختصّ بمن ينطبق عليه عنوان المشافه والحاضر مجلس التخاطب أو أنّها تبقى على عمومها كما إذا لم تكن واقعة في تلو تلك الأداة؟

وذكر الماتن قدس‌سره في الجهة الأولى ما حاصله : أنّه لا بأس بإنشاء التكليف على المعدوم زمان الإنشاء ، بأن ينشأ بقوله (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) وجوبها ، بعدد الموجودين إلى قيام الساعة ، بحيث يكون الطلب المنشأ فعليا وطلبا حقيقيا بالإضافة إلى الواجدين لشرائط البعث والزجر من الموجودين ، وإنشائيا بالإضافة إلى غيرهم بأن تكون فعليته في حقّهم عند وجودهم وحصول شرائط البعث والزجر لهم ، فإنّ التكليف الإنشائي خفيف المئونة حيث إنّ قوامه يكون بالتلفظ بقصد حصول ما يحصل بالاعتبار ونظير هذا الإنشاء في غير التكليف والطلب ، إنشاء الملكية للبطون المتأخّرة في الوقف الخاص ، فإنّ الواقف حين وقفه ينشأ ملكية العين للبطون بحسب زمان وجودهم وانقضاء البطن السابق عليهم بحيث تنشأ الملكية لهم مع

٢٧٧

ونظيره من غير الطلب إنشاء التمليك في الوقف على البطون ، فإن المعدوم منهم يصير مالكا للعين الموقوفة ، بعد وجوده بإنشائه ، ويتلقى لها من الواقف بعقده ، فيؤثر في حق الموجود منهم الملكية الفعلية ، ولا يؤثر في حق المعدوم فعلا ، إلّا استعدادها لأن تصير ملكا له بعد وجوده ، هذا إذا أنشئ الطلب مطلقا.

وأما إذا أنشئ مقيدا بوجود المكلف ووجدانه الشرائط ، فإمكانه بمكان من الإمكان.

______________________________________________________

الموجودين في زمان واحد بإنشاء واحد.

لا يقال : هذا الإنشاء أي إنشاء الطلب بالإضافة إلى المعدومين لغو.

فإنّه يقال : فائدته عدم الحاجة إلى إنشاء الطلب ثانيا بخطاب آخر عند حصول شرائط الطلب الفعلي.

أقول : يمكن أن يستظهر مما ذكرنا أنّ الغرض يحصل بإنشاء الطلب لكلّ فرد من أفراد المكلّف بنحو القضية الحقيقية وإظهاره بخطاب واحد بأن يكون المنشأ هو الطلب من حين انطباق عنوان البالغ العاقل وغيرهما من القيود ، وإلّا فإنشاء الطلب من حين عدمه وعدم انطباق عنوان البالغ العاقل عليه من اللغو الظاهر ، والأمر في إنشاء الوقف الخاص أيضا كذلك ، وإذا فرض كون مضمون الخطاب هو الحكم المجعول بعنوان القضية الحقيقية أمكن كونه طلبا حقيقيا بأن يكون الغرض منه الانبعاث والزجر من حين فعلية العنوان المأخوذ للمكلّف على ما تقدّم بيانه في بحث الواجب المشروط ، غاية الأمر فعلية المجعول من التكليف تكون بفعلية العنوان المأخوذ فيه موضوعا.

وبالجملة المجعول من التكليف في الخطابات الانحلالية المتضمّنة للحكم بنحو القضية الحقيقية مبدؤه زمان فعلية عنوان الموضوع ويمكن جعله بفرض فعلية

٢٧٨

وكذلك لا ريب في عدم صحة خطاب المعدوم بل الغائب حقيقة ، وعدم إمكانه [١] ، ضرورة عدم تحقق توجيه الكلام نحو الغير حقيقة إلّا إذا كان موجودا ، وكان بحيث يتوجه إلى الكلام ، ويلتفت إليه.

ومنه قد انقدح أن ما وضع للخطاب ، مثل أدوات النداء ، لو كان موضوعا للخطاب الحقيقي ، لأوجب استعماله فيه تخصيص ما يقع في تلوه بالحاضرين ، كما أن قضية إرادة العموم منه لغيرهم استعماله في غيره ، لكن الظاهر أن مثل أدوات النداء لم يكن موضوعا لذلك ، بل للخطاب الإيقاعي الإنشائي ، فالمتكلم ربما يوقع الخطاب بها تحسّرا وتأسفا وحزنا مثل :

يا كوكبا ما كان أقصر عمره

 ...

أو شوقا ، ونحو ذلك ، كما يوقعه مخاطبا لمن يناديه حقيقة ، فلا يوجب استعماله في معناه الحقيقي ـ حينئذ ـ التخصيص بمن يصح مخاطبته ، نعم لا يبعد دعوى الظهور ، انصرافا في الخطاب الحقيقي ، كما هو الحال في حروف الاستفهام والترجي والتمني وغيرها ، على ما حققناه في بعض المباحث السابقة ، من كونها موضوعة للإيقاعي منها بدواع مختلفة مع ظهورها في الواقعي منها انصرافا ، إذا لم يكن هناك ما يمنع عنه ، كما يمكن دعوى وجوده غالبا في كلام الشارع ، ضرورة وضوح عدم اختصاص الحكم في مثل : (يا أيها الناس اتقوا) و (يا أيها المؤمنون) بمن حضر مجلس الخطاب ، بلا شبهة ولا ارتياب.

______________________________________________________

ذلك العنوان كما لا يخفى.

[١] وذكر قدس‌سره في الجهتين الثانية والثالثة أنّه لا يصحّ خطاب المعدوم خطابا حقيقيّا بأن يراد من المعدوم التفاته إليه ، بل لا يمكن توجيه الكلام إليه وإلى المخاطب الغائب حقيقة ، حيث إنّ المعدوم بل الغائب غير صالح للتوجيه المزبور.

٢٧٩

ويشهد لما ذكرنا صحة النداء بالأدوات ، مع إرادة العموم من العام الواقع تلوها بلا عناية ، ولا للتنزيل والعلاقة رعاية.

وتوهّم كونه ارتكازيا ، يدفعه عدم العلم به مع الالتفات إليه ، والتفتيش عن حاله مع حصوله بذلك لو كان مرتكزا ، وإلّا فمن أين يعلم بثبوته كذلك؟ كما هو واضح.

وإن أبيت إلّا عن وضع الأدوات للخطاب الحقيقي ، فلا مناص عن التزام اختصاص الخطابات الإلهية بأداة الخطاب ، أو بنفس توجيه الكلام بدون الأداة كغيرها بالمشافهين ، فيما لم يكن هناك قرينة على التعميم.

______________________________________________________

وعلى ذلك فإن كانت أدوات النداء والخطاب موضوعة للخطاب الحقيقي فيوجب استعمالها فيه تخصيص العنوان الواقع في تلوها بالحاضرين بخلاف ما إذا لم تكن مستعملة في الخطاب الحقيقي أو النداء الحقيقي فإنّه لا يوجب اختصاص العنوان الواقع في تلوها بهم.

ثمّ ذكر قدس‌سره أنّ الظاهر كون الأدوات موضوعة للنداء والخطاب الإيقاعيين فالمتكلّم ربّما يوقع الخطاب بأداة النداء تحسّرا وتأسّفا وحزنا مثل (يا كوكبا ما كان أقصر عمره) أو شوقا أو نحو ذلك كما يوقع الخطاب بداعي طلب التفاته حقيقة ، وعلى ذلك فلا يوجب استعمالها في معناها الموضوع لها التخصيص بمن يصحّ مخاطبته حقيقة.

نعم ، لا يبعد انصرافها إلى أنّ الداعي للمتكلم إلى إيقاع الخطاب إرادته حقيقة إذا لم يكن في البين ما يمنع عن هذا الانصراف كما هو الحال في أداة الاستفهام والترجي والتمني وغيرهما مما تقدم في بحث الطلب والإرادة من أنّها موضوعة للمعنى الانشائي الإيقاعي منها وتكون عند الاستعمال فيها منصرفة إلى كون الداعي

٢٨٠