دروس في مسائل علم الأصول - ج ٣

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-94850-9-1
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٤٥

أولا ، وعلى الثاني إما أن يقوم عنده طريق معتبر أو لا ، لئلا تتداخل الأقسام فيما يذكر لها من الأحكام ، ومرجعه على الأخير إلى القواعد المقررة عقلا أو نقلا لغير القاطع ، ومن يقوم عنده الطريق ، على تفصيل يأتي في محله ـ إن شاء الله تعالى ـ حسبما يقتضي دليلها.

وكيف كان فبيان أحكام القطع وأقسامه ، يستدعي رسم أمور :

الأمر الأول : لا شبهة في وجوب العمل على وفق القطع عقلا [١] ، ولزوم الحركة على طبقه جزما وكونه موجبا لتنجّز التكليف الفعلي فيما أصاب.

______________________________________________________

الظاهرية. فقد رجع فيها إلى المجتهد في كلا العلمين وإن لم يلتفت إلى ذلك تفصيلا ، وفحص المجتهد في الوقائع لحصول العلم الأوّل لا أنّ للفحص بنفسه خصوصية وموضوعية ، ويأتي تمام الكلام في ذلك في بحث جواز التقليد إن شاء الله تعالى.

وجوب العمل بالقطع عقلا

[١] ظاهر كلامه قدس‌سره أنّه مع القطع بالحكم الفعلي يترتب عليه عقلا وجوب متابعته والعمل على طبقه ، وأن القطع بالتكليف الفعلي يوجب تنجّزه فيما أصاب باستحقاق الذم والعقاب على مخالفته ، وكون العمل به عذرا فيما إذا أخطأ قصورا ، وقال : صريح الوجدان ـ أي عقل كل إنسان ـ شاهد وحاكم بذلك فلا يحتاج إلى إقامة الدليل على ذلك.

أقول : لا ينبغي التأمل في أن وجوب متابعة القطع بالحكم الفعلي عين لزوم العمل على طبقه ، فالمراد منهما واحد ، وأنّ الثاني عطف تفسير للأوّل ، وهل كون القطع بالتكليف الفعلي ووجوب متابعته أيضا عين كونه منجّزا للتكليف فيما إذا أصاب كما احتمل البعض ، أو أنّ المراد منهما متعدّد؟ وظاهر كلامه كما ذكرنا تعدّدهما وكون كلّ منهما مترتبا على القطع بالتكليف عقلا من غير أن يكون بينهما

٣٨١

باستحقاق الذم والعقاب على مخالفته ، وعذرا فيما أخطأ قصورا ، وتاثيره في ذلك لازم ، وصريح الوجدان به شاهد وحاكم ، فلا حاجة إلى مزيد بيان وإقامة برهان. ولا يخفى أن ذلك لا يكون بجعل جاعل ، لعدم جعل تاليفي حقيقة بين الشيء ولوازمه ، بل عرضا بتبع جعله بسيطا.

______________________________________________________

ترتب ، ولكن الصحيح أن المترتب على القطع بالتكليف تنجّزه فيما إذا أصاب ويترتب عليه لزوم متابعته ، بل المتابعة للتحرز عن العقاب المترتب على مخالفته أمر جبلّي منشؤه حبّ النفس لا حكم العقل ، ولذا لا يختصّ بالإنسان فالكلب يفرّ إذا أحسّ رميه بالحجارة ويمتنع الحيوان عن الدخول في النار أو الماء بإحساسه احتراقه بها أو غرقه فيه إلى غير ذلك ، غاية الأمر إحراز الضرر في الحيوان يختصّ بحسه الضرر الفعلي ، بخلاف الإنسان فإنّه يحرز الضرر الغائب وما هو ضرر مادي أو معنوي فإنّه صاحب عقل.

وعلى الجملة تنجّز التكليف بتعلق القطع به عقلي حيث يرى العقل استحقاق الشخص العقاب بمخالفة التكليف المقطوع به ، وأمّا الفرار عن هذا الاستحقاق بموافقة التكليف والعمل على طبقه فهو أمر جبلّي للإنسان يترتب على تنجز التكليف وإحرازه استحقاق العقاب على مخالفته ، وربما من ذكر أنّ تنجّز التكليف بالقطع به عين وجوب متابعته التزم بكون الفرار من الضرر أمرا جبلّيا ارتكازيا لا يختصّ بالإنسان ، وأنّ شأن العقل الإدراك لا الإلزام والإيجاب ، ولكن العجب أنّه إذا كانت منجزية القطع بالتكليف بالعقل فكيف يكون وجوب متابعته الذي هو أمر جبلي لا تكليف من العقل عين المنجزية ، ثمّ إنّ ظاهر كلام الماتن أنّ تنجّز التكليف بتعلق القطع به أثر عقلي ولا يكون مجعولا إلّا بالتبع كوجوب متابعته ، ولكن لا يخفى أنّ القطع بالتكليف موضوع لحكم العقل بعدم قبح العقاب على مخالفته المعبّر عن

٣٨٢

وبذلك انقدح امتناع المنع عن تأثيره أيضا [١] مع أنه يلزم منه اجتماع الضدين اعتقادا مطلقا ، وحقيقة في صورة الإصابة وكما لا يخفى.

______________________________________________________

عدم قبحه بالاستحقاق ، وهذا الاستحقاق ليس جعله تبعيا بأن يوجد تبعا ، بما يوجد به القطع ، نظير وجود الحرارة تبعا لما يوجد به النار كما هو ظاهر كلامه ، نعم لو كان استحقاق العقاب أمرا واقعيا يوجد بوجود القطع بالتكليف تبعا وكان العقل مدركا ، أمكن القول بأنّ تنجز التكليف يوجد بما يوجب القطع بالتكليف تبعا ، والظاهر أنّ الاستحقاق ليس له موطن إلّا العقل يعني حكمه وليس أيضا ببناء العقلاء لما تقدم من ثبوت الاستحقاق عند العقل قبل أن يفرض في عالم الخلق تعدّد العاقل فضلا عن العقلاء ، وكون شأن العقل هو الإدراك لا ينافي أن يعتبر ما يكون واقعيته بعين اعتباره كما في حكمه بحسن العدل وقبح الظلم هذا بالإضافة إلى منجزية القطع ، وأمّا معذريته فيما إذا أخطأ بأن أوجب العمل به مخالفة التكليف الواقعي فيأتي بيان أن المعذّر هو عدم وصول التكليف الواقعي والغفلة عنه لا نفس القطع المزبور.

[١] لا يخفى أنّ التكليف المقطوع به مع النهي عن العمل بالقطع لا يكون من اجتماع الضدين اعتقادا مطلقا وواقعا فيما أصاب ، فإنّ التكليف المقطوع كالنهي عن العمل بالقطع في نفسهما من الاعتبارات الخارجة عن الامور الواقعية التي لا تجتمع أضدادها ولا مثلان منها في مورد ، بل يكون الوجه في امتناع اجتماعهما المناقضة في المبدأ أو ناحية المنتهى لهما ، وإذا كان المبدأ في التكليف المقطوع به لا ينحصر في صورة حصول القطع به من وجه خاص ، وكان الغرض منه العمل على طبقه مع وصوله لا يمكن المنع عن العمل بالقطع به للزوم المناقضة واقعا أو بنظر القاطع ، بخلاف ما إذا كان المبدأ للتكليف المقطوع به منحصرا على صورة القطع به من وجه خاص ، أو كان الغرض منه مختصا بصورة وصوله إلى المكلف من ذلك الوجه فإنّه

٣٨٣

ثم لا يذهب عليك أن التكليف ما لم يبلغ مرتبة البعث والزجر لم يصر فعليا [١] وما لم يصر فعليا لم يكد يبلغ مرتبة التنجز واستحقاق العقوبة على المخالفة.

______________________________________________________

لا بأس بالمنع عن العمل بالقطع به إذا حصل من غير ذلك الوجه حتّى مع عدم إمكان تقييد التكليف بذلك الوجه ، وعلى الجملة فيمكن أن يكون مبدأ التكليف والغرض منه أخصّ من التكليف المنشأ فيصح النهي عن العمل بالقطع به في غير موردهما كما يأتي بيان ذلك تفصيلا.

تعلق القطع بالحكم الانشائي

[١] مراده قدس‌سره بيان أنّ منجزية القطع ينحصر على ما إذا كان التكليف المقطوع به فعليا ، وأمّا لو كان إنشائيا فالقطع بالتكليف الإنشائي لا يوجب استحقاق العقاب على مخالفته ، وإن قد يوجب موافقته استحقاق المثوبة عليها ، كما إذا كان عدم فعليتها لتسهيل الأمر على العباد ، ولذا قيّد قدس‌سره في تقسيم حالات المكلّف عند التفاته إلى حكم شرعي بكونه فعليا وفعلية التكليف عنده بتعلق إرادة المولى بالفعل أو تعلق كراهته زائدا على إنشاء الطلب المتعلّق بالفعل أو الترك ؛ ولذا جعل مرتبة الفعلية مرتبة اخرى بعد مرتبة إنشائه ، ولكن لا يعتبر عند الماتن أن تكون فعلية التكليف المنشأ مع قطع النظر عن تعلّق العلم به ، بل لو كان الموضوع في فعليته حصول العلم به لكانت فعليته مقارنة لحصول العلم به فيكون العلم به منجّزا مثل ما كان فعليا مع قطع النظر عن تعلّق العلم به.

وقوله قدس‌سره : «نعم في كونه في هذه المرتبة موردا للوظائف المقررة شرعا ...» ، ناظر إلى ما إذا كانت فعلية التكليف مع قطع النظر عن تعلق العلم به ، فإنّ دعوى المناقضة أو التضاد بين الحكم الواقعي والظاهري منحصرة بهذه الصورة ، كما يأتي

٣٨٤

وإن كان ربما يوجب موافقته استحقاق المثوبة ، وذلك لأن الحكم ما لم يبلغ تلك المرتبة لم يكن حقيقة بأمر ولا نهي ، ولا مخالفته عن عمد بعصيان ، بل كان مما سكت الله عنه ، كما في الخبر ، فلاحظ وتدبر.

______________________________________________________

الكلام في ذلك في بحث الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري ، وقد ذكرنا في بحث الواجب المطلق والمشروط أنّه لا تتعلق إرادة المولى بفعل العبد ، فإنّ فعل العبد بما هو فعل العبد غير مقدور للمولى بما هو مولى ، بل إرادة المولى تتعلق بفعل نفسه وهو طلب الفعل أو منع العبد عنه إنشاء بغرض أن يكون طلبه داعيا له إلى الإتيان به ونهيه داعيا إلى تركه مع وصوله إليه ، وأما الطلب بداعي التحقير أو التهديد وغير ذلك فلا يكون من التكليف والحكم وإن سمّاه الماتن حكما إنشائيا.

نعم ، لفعلية الحكم والتكليف معنى آخر وهو الصحيح ، حيث إنّ جعل الحكم والتكليف إذا كان بمفاد القضية الحقيقية التي يجعل المولى في ذلك المقام الحكم لموضوعه على تقدير تحقق الموضوع خارجا بأن يكون المجعول حكما لتقدير حصوله من غير نظر عند الجعل إلى وجوده أو عدمه بحسب الخارج يثبت الحكم في مقام الجعل والإنشاء فقط ، وإذا خرج العنوان المفروض كونه موضوعا إلى الخارج بأن صار متحققا خارجا يكون ذلك الحكم المجعول فعليا بفعلية وجود الموضوع ، فمرتبة فعلية الحكم تفترق عن مرتبة إنشائها بذلك ، وهذا بخلاف الحكم المجعول ، بمفاد القضية الخارجية ، حيث لا يكون له مرتبتان بل جعله فعليته وفعليته جعله ، ويفصح عن ذلك رجوع الحكم المجعول بمفاد القضية الحقيقية إلى قضية شرطية يكون الشرط فيها فعلية الموضوع ولو بقيده ، والجزاء ثبوت الحكم له بخلاف المجعول بالقضية الخارجية ، ويترتب على ذلك أن الحكم الواقعي في موارد الحكم الظاهري محفوظ بفعليته ، ويأتي بيان أنّ فعليته لا تصادم الحكم الظاهري

٣٨٥

نعم ، في كونه بهذه المرتبة موردا للوظائف المقررة شرعا للجاهل إشكال لزوم اجتماع الضدين أو المثلين ، على ما يأتي تفصيله إن شاء الله تعالى ، مع ما هو التحقيق في دفعه ، في التوفيق بين الحكم الواقعي والظاهري ، فانتظر.

الأمر الثاني : قد عرفت أنه لا شبهة في أن القطع يوجب استحقاق العقوبة على المخالفة ، والمثوبة على الموافقة في صورة الإصابة ، فهل يوجب استحقاقها في صورة عدم الإصابة على التجري بمخالفته [١].

______________________________________________________

الثابت بمفاد الأصل في بحث الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري.

الكلام في التجري والانقياد

[١] يقع الكلام في التجري في مقامين :

الأول : في استحقاق العقاب وأنّ التجري يوجبه أم يختص استحقاقه بالمعصية.

والثاني : في حكم الفعل المتجرى به وأنّه يتعلق به الحرمة ، وأنّ الفعل المتجرى به لا يكون حراما شرعيا بالقطع بحرمته.

ذكر الماتن قدس‌سره في المقام الأول أن استحقاق العقاب على مخالفة القطع بالتكليف في صورة عدم إصابته الواقع كاستحقاقه عليها في صورة الإصابة ، كما أن موافقة القطع بالتكليف موجبة لاستحقاق المثوبة في صورة خطأ القطع كاستحقاقها في صورة إصابته الواقع ، وذلك بشهادة الوجدان بأنّ العبد في صورة مخالفته القطع بالتكليف مع عدم إصابته الواقع لخروجه عن رسوم العبوديّة وكونه بصدد الطغيان على مولاه وعزمه بعصيانه يستحق الذم والعقاب ، كما أنّه في صورة موافقته مع عدم إصابة قطعه الواقع لقيامه بما هو مقتضى العبوديّة من عزمه وبنائه على الطاعة يستحق المدح والثواب.

٣٨٦

.................................................................................................

______________________________________________________

نعم ، لا يستحق العبد مؤاخذة أو مثوبة بمجرّد سوء السريرة وحسنها ، وإنّما يستحق اللوم أو المدح بمجرّدهما كسائر الصفات والأخلاق الذميمة أو الحسنة ويستحق الجزاء بالعقوبة أو المثوبة مضافا إلى المدح أو الذمّ إذا صار بصدد الجري على طبق سوء السريرة أو حسنها والعمل على وفقهما ، بأن جزم وعزم على العصيان أو الطاعة ، وكلمة (ما) في قوله : «بما يستتبعانه» مصدرية والباء للسببية وضمير الفاعل التثنية راجع إلى سوء السريرة وحسنها ، وضمير المفعول إلى الاستحقاق ، فيكون مفاده أنّ صاحب سوء السريرة أو حسنها يستحق اللوم أو المدح بسبب استلزام سوء السريرة وحسنها الاستحقاق لهما كسائر الصفات والأخلاق الذميمة أو الحسنة. واستشهد لما ذكره بحكم العقل فإنّه الحاكم بالاستقلال في باب الإطاعة والعصيان وما يلزم لهما من استحقاق النار والجنة.

ثم عطف عنان قلمه إلى المقام الثاني ، وذكر أن الفعل المتجرى به أو المنقاد به لا يخرج عن حكمه بحصول القطع بخلافه ، ولا يتغير حسنه أو قبحه بالاعتقاد المخالف للواقع لوضوح أنّ القطع بالحرمة أو الوجوب لا يكون من العناوين المقبّحة والمحسّنة للفعل ، وأنّ الموجب لصلاح الفعل هو الأثر المترتب عليه ، ويترتب ذلك الأثر عليه سواء كان المكلّف ملتفتا إلى عنوان الفعل كما في صورة إصابة قطعه الواقع أو غافلا عنه كما في صورة خطئه ، وعلى الجملة لا يتغير الفعل عما هو عليه من المبغوضية وعدمها للمولى باعتقاد الخلاف وقوله : «بسبب تعلق القطع بغير ما هو عليه من الحكم والصفة» إشارة إلى مخالفة القطع الواقع في موارد القطع بالحكم الكليّ ، كما إذا جزم بحرمة شرب التتن وكان في الواقع حلالا ، وإلى مخالفته الواقع في الموضوعات الخارجية ، بأن اعتقد بأنّ شرب مائع شرب للخمر ، وكان في الواقع شربا للخلّ وعبر عن الأول بتعلق

٣٨٧

.................................................................................................

______________________________________________________

القطع بغير ما هو عليه من الحكم ، وعن الثاني بتعلقه بغير ما عليه من الصفة.

في اتصاف الفعل بالحسن والقبح

ثم إنّه قدس‌سره ذكر برهانا بعد دعوى الضرورة والوضوح في أنّ القطع بالحكم أو الصفة لا يكون من العناوين المحسّنة والمقبّحة ، وهو أنّ الفعل المتجرى به وكذا المنقاد به لا يكون اختياريا ، حيث إنّه لم تتعلق إرادة الفاعل به بعنوانه الواقعي لغفلته عنه ، وما يكون مقصودا له لم يحصل ، فإن المتجري يريد شرب الخمر وشربها لم يحصل ، وما هو حاصل شرب الماء ، وشرب مقطوع الحرمة ، ولم يكن شيء منهما مقصودا. أمّا الأول فظاهر ، وأمّا الثاني فلأنّ القاطع يقصد الفعل بعنوانه الواقعي لا بعنوانه الطارئ الآلي ، بل المتجري لا يكون ملتفتا غالبا إلى انطباق عنوان مقطوع الحرمة على فعله ليقصده بهذا العنوان كما في موارد القطع بخلاف الصفة الواقعية بل في غيرها.

أقول : ما ذكره قدس‌سره من أنّ انطباق عنوان على فعل إنّما يكون موجبا لاتصافه بالحسن أو القبح عقلا إذا كان الفاعل عند الفعل ملتفتا إلى انطباقه عليه ، صحيح ، ولكن لا يعتبر أن يكون الالتفات إليه تفصيلا بل يكفي الالتفات الإجمالي والمتجري عند الفعل ملتفت إجمالا إلى انطباق ارتكاب مقطوع الحرمة ومخالفة القطع على فعله.

في أن الفعل المتجرى به اختياري وعمدي

وفعله بهذا العنوان اختياري عمدي مسبوق بالإرادة والاختيار ، فالمتعيّن في وجه عدم تغير الفعل عما هو عليه من الصلاح أو الفساد هو الوجدان ، حيث يشهد

٣٨٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الوجدان بأن الأثر المترتب على الفعل لا يتخلّف عنه بإصابة اعتقاد فاعله الواقع أو عدم إصابته ، والحكم الشرعي يتبع صلاح الفعل أو فساده الواقعيين ، ولا يكون مع خلوه عنهما محرّما أو واجبا ، وعلى ذلك فالفعل بعنوان مقطوع الحرمة غير حرام شرعا وإذا لم يصادف القطع الواقع فالفعل على ما هو عليه من عدم الفساد ، كما أنّه بعنوان مقطوع الواجب لا يكون واجبا ، وإذا لم يصادف قطعه الوجوب الواقعي فليس فيه وجوب.

وأيضا ما ذكره قدس‌سره ، من أنّ عدم الالتفات إلى عنوان الفعل عند الارتكاب يوجب كون ذلك الفعل غير اختياري ، فهو غير صحيح ، فإنّ عدم الالتفات إلى عنوانه يوجب كون الفعل خطئيا ، حيث إنّ الالتفات ولو إجمالا يوجب صدق عنوان التعمد لا صدور الفعل من غير إرادة ، والمتجرّي بشرب مائع قاطع بأنّه خمر لو لم يرد شرب ذلك المائع لم يتحقق شرب الخمر ، ولكنه بما أنّه غير ملتفت إلى عنوانه الواقعي وهو كونه ماء لم يتعمّد إلى شرب الماء.

ومما ذكر يظهر أنّ ما ذكره الماتن قدس‌سره من بقاء الفعل المتجرى به أو المنقاد به على ما كان عليه من الحسن والقبح ، يتعين أن يراد من الحسن الصلاح ومن القبح الفساد ، وإلّا فالفعل الخطئي لا يتصف بالحسن أو القبح الفاعلي ، بمعنى استحقاق فاعله المدح على ذلك الفعل أو الذم عليه ، ووجه الظهور أن لا دخالة للالتفات إلى عنوان الفعل في صلاحه وفساده ولكن الالتفات إلى العنوان ولو إجمالا دخيل في حسنه وقبحه الفاعليين.

كما ظهر مما ذكرنا أنّ التجري لا يمكن أن يكون حراما شرعا وأن يستحق المكلف العقاب عليه ، كما أنّ الانقياد لا يمكن أن يكون مستحبا أو واجبا شرعا وإن يستحق المكلف على انقياده المثوبة ، وذلك فإنّ الملازمة بين حكم العقل بقبح فعل

٣٨٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وحرمته شرعا وكذا بين حكمه بحسن فعل ومطلوبيته شرعا تختصّ بما إذا حكم العقل في فعل بالملاك الموجود فيه من الفساد والصلاح مع قطع النظر عن حكم الشارع فيه ، وأمّا إذا كان حكمه فيه متفرعا على الحكم الشرعي فيه واقعا أو اعتقادا أو احتمالا كحكمه بحسن الطاعة وقبح المعصية وحسن الانقياد وقبح التجري أو حكمه بحسن الاحتياط ولزومه فحكمه هذا لا يلازم الحكم الشرعي فإنّ الحكم الشرعي النفسي في مورد هذا القسم من حكمه بلا ملاك ، ولا مورد للحكم الشرعي الطريقي فيه لثبوت استحقاق المثوبة والعقاب بحكم العقل قبل الحكم الشرعي فيكون الحكم الشرعي في موارده إرشاديا لا محالة. بل جعل الحرمة للفعل المتجرى به بعنوان التجري غير ممكن لوجه آخر أيضا ، وهو عدم إمكان التفات المكلف عند الفعل إلى كونه تجرّيا لتكون حرمته زاجرة عنه بلا فرق بين كونه بالاعتقاد بخلاف الصفة أو بخلاف حكمه الواقعي فيصبح اعتبار الحرمة لغوا.

فيما يقال في حرمة التجري وكونه موجبا للعقاب

وربما يقال : إن مقتضى الخطابات الشرعية الواردة في المحرمات هو تحريم الفعل مع الاعتقاد على خلاف الصفة وعنوانه ، بدعوى أنّ الموجب لإرادة المكلف ترك الفعل هو الاعتقاد بحرمته وإن لم يكن اعتقاده مصادفا للواقع ، فإنّه إذا اعتقد بكون مائع خمرا وشربه حراما ، يكون التحريم الشرعي داعيا إلى تركه ، وإذا كان خطاب تحريم الخمر داعيا إلى ترك شرب ما يعتقد كونه خمرا من غير كونه داعيا إلى ترك شرب الخمر الواقعي ولو مع عدم الاعتقاد ، وعدم الإحراز يكون المراد من تحريمه طلب ترك ما يعتقد ويحرز أنّه شرب الخمر.

وفيه أنّ الغرض من التكليف الدعوة إلى الفعل أو الترك في فرض وصوله ، ووصوله

٣٩٠

.................................................................................................

______________________________________________________

يكون بإحراز الصغرى والكبرى ، وكما أنّ العلم بالكبرى ووصولها لا يؤخذ في التكليف كذلك العلم بالصغرى غاية الأمر العلم بالكبرى أخذه في التكليف غير ممكن بأن يجعل التكليف في صورة العلم به ، وأخذ العلم بالصغرى في موضوع التكليف وإن كان ممكنا إلّا أنه غير مأخوذ في موضوع التكليف لدلالة الخطابات على أن الموضوع لها نفس ما ينطبق عليه عنوان الموضوعات ، مثلا الغرض من تحريم الخمر مثلا ترك شربه عند وصول التكليف كبرى وصغرى ومع عدم الوصول يكون المكلف معذورا لا أنّ الغرض ترك شرب ما يعتقد كونه خمرا وإن لم يكن خمرا في الواقع.

ويشهد لما ذكرنا من أنّ الاعتقاد غير دخيل في الحرمة وعدمها حتّى بالإضافة إلى الصغرى أنّه لا يمكن الالتزام بالدخالة في التكاليف الوجوبية بالإضافة إلى قيود المتعلق والموضوع مثلا لا يمكن في أمر الشارع بصلاة الظهر عند الزوال الالتزام بأنّ الواجب هو صلاة الظهر في وقت يعتقد أنّه بعد الزوال ، فلو انكشف بعد الصلاة أنه صلّى قبل الزوال لخطأ اعتقاده فلا يتدارك لحصول الامتثال ، وكذلك بالإضافة إلى الطهور ، وغير ذلك من القيود في الواجبات من العبادات وغيرها.

في الاستدلال على حرمة التجري وكونه موجبا للعقاب بالخطابات الشرعية

وقد يستدلّ على حرمة التجري بالآيات والروايات كقوله سبحانه (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ)(١) و (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٢) و (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ٢٨٤.

(٢) سورة النور : الآية ١٩.

٣٩١

الْأَرْضِ وَلا فَساداً)(١) وما ورد في تعليل خلود أهل النار في النار وأهل الجنة في الجنة بنيّاتهم (٢). وما ورد في أنّ الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم ، وعلى كلّ الداخل في باطل إثمان : إثم الرضا به وإثم العمل به (٣) ، وما ورد في العقاب على فعل بعض المقدمات بقصد ترتب الحرام كغارس الخمر (٤) والماشي لسعاية المؤمن (٥) ، وما ورد من أنّه إذا التقى المسلمان بسيفهما على غير سنة فالقاتل والمقتول كلاهما في النار ، قيل : يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال : لأنّه أراد قتل صاحبه (٦) ، إلى غير ذلك ، ولكن لا يخفى عدم إمكان الاستدلال بشيء ممّا ذكر على حرمة التجري المفروض في المقام بالفحوى أو غيرها.

اما الآية الاولى فلأن مدلولها محاسبة الله سبحانه وتعالى العباد بما في أنفسهم من سوء أبدوه أم أخفوه ، والمفروض في المقام حكم التجري الذي هو فعل خارجي صادر عن المكلف بقصد ارتكاب الحرام لاعتقاده بحرمته وما في النفس يمكن أن يراد به مثل الشرك والنفاق أو الأعم بحيث يشمل قصد المعصية والبناء عليه ، وحيث ثبت أن نية السوء لا تكتب ، يتعين أن يكون المراد بها خصوص الأول.

والآية الثانية مدلولها حبّ شيوع الفاحشة وكثرة وجودها بين المؤمنين ، وإن لم

__________________

(١) سورة القصص : الآية ٨٣.

(٢) وسائل الشيعة ١ : ٥٠ ، الباب ٦ من أبواب مقدمة العبادات ، الحديث ٤.

(٣) وسائل الشيعة ١٦ : ١٤١ ، الباب ٥ من أبواب الأمر والنهي ، الحديث ١٢.

(٤) وسائل الشيعة ١٧ : ٢٢٤ ، الباب ٥٥ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤ و ٥.

(٥) المصدر السابق : ١٨١ ، الباب ٤٢ ، الحديث ١٤.

(٦) وسائل الشيعة : ١٥ : ١٤٨ ، الباب ٦٧ من أبواب جهاد العدو ، وفيه حديث واحد.

٣٩٢

واستحقاق المثوبة على الانقياد بموافقته ، أو لا يوجب شيئا؟

الحق أنه يوجبه ، لشهادة الوجدان بصحة مؤاخذته ، وذمه على تجريه ، وهتكه لحرمة مولاه وخروجه عن رسوم عبوديته ، وكونه بصدد الطغيان ، وعزمه على العصيان ، وصحة مثوبته ، ومدحه على قيامه بما هو قضية عبوديته ، من العزم

______________________________________________________

يكن المحبّ قاصدا لارتكاب الفاحشة مباشرة وتسبيبا كما أنّه قد يرتكب الفاحشة ولا يريد شيوعها ولا يحبّ كثرة وجودها ، وبتعبير آخر النسبة بين حبّ شيوع الفاحشة وإرادة ارتكاب الحرام العموم من وجه فلا يكون الدليل على حرمة أحدهما دليلا على حرمة الآخر ولو اريد بالآية ترغيب الناس إلى الفحشاء في مقابل نهيهم وردعهم عنها كما لا يبعد ، فلا ينبغي التأمل في حرمته.

عدم خطاب شرعي في حرمة التجري المفروض في المقام وكونه موجبا للعقاب

وأما الآية الثالثة فإرادة العلو والفساد مطلقة تعمّ ما إذا ارتكبهما وما إذا لم يرتكب فيحمل على الصورة الاولى بقرينة ما ورد في أنّ نية السوء لا تكتب ، والمفروض في المتجري عدم الارتكاب ولو لخطأ اعتقاده.

أما الروايات فما ورد في تعليل خلود أهل النار في النار وخلود أهل الجنة في الجنة ، رواية ضعيفة وما ورد فيها من التعليل تقريب ، وما ورد في الرضا بفعل قوم يختصّ بالرضا بالظلم والكفر والتابعية لهم في كفرهم وظلمهم ، ولا يخفى أنّ بعض الأفعال المتعلقة بالحرام بنفسها حرام كغرس الخمر وبيعها وشرائها والمشي لسعاية المؤمن بقصد السوء إليه ، سواء كان السوء قتله أو ظلمه ، وما ورد في التقاء المسلمين بسيفهما ناظر إلى التصدي لقتله ويدخل في قتال المؤمن ، أضف إلى ذلك أنّ المستفاد من الآيات والروايات المتقدمة على تقدير تسليم دلالتها وعدم معارضتها بما دلّ على عدم كتابة نية السوء هو ترتب العقاب على قصد الحرام وإرادته ولو

٣٩٣

على موافقته والبناء على إطاعته ، وإن قلنا بأنه لا يستحق مؤاخذة أو مثوبة ، ما لم يعزم على المخالفة أو الموافقة ، بمجرد سوء سريرته أو حسنها ، وإن كان مستحقا للوم أو المدح بما يستتبعانه ، كسائر الصفات والاخلاق الذميمة أو الحسنة.

وبالجملة : ما دامت فيه صفة كامنة لا يستحق بها إلّا مدحا أو لوما ، وإنما يستحق الجزاء بالمثوبة أو العقوبة مضافا إلى أحدهما ، إذا صار بصدد الجري على طبقها والعمل على وفقها وجزم وعزم ، وذلك لعدم صحة مؤاخذته بمجرد سوء

______________________________________________________

لم يرتكب ذلك الحرام وهذا غير التجري المفروض في المقام ، فإنّ الكلام في المقام في قصد ارتكاب عمل يعتقد أنّه حرام واقعي وبعد الارتكاب ظهر أنّه لم يكن حراما واقعيا ، فإنّ العقاب على قصد شرب الخمر لا يلازم العقاب على شرب مائع قصد شربه ، باعتقاد أنّه حرام لكونه خمرا ولم يكن في الواقع خمرا خصوصا إذا لم يكن الاعتقاد جزميا ، بأن احرز حرمته بالأمارة أو بالأصل المثبت حرمته ، وكان ارتكابه برجاء أن لا يكون في الواقع حراما فاتفق مصادفة رجائه ولم يكن في الواقع حراما.

وعلى الجملة فالمتجري يريد عملا خاصّا لاعتقاده بأنّه حرام ، ومن يلتزم بأنّ العقاب في التجري على قصد الإتيان بما يعتقد أنّه حرام كصاحب الكفاية ، فلا يمكن له إن قلت : إذا لم يكن الفعل كذلك ، فلا وجه لاستحقاق العقوبة التمسك ببعض الآيات والروايات المشار إليها وغيرها ، فإنّ مدلولها على تقدير تسليمها موارد قصد ارتكاب الحرام الواقعي لا قصد فعل حلال يعتقد أنّه حرام واقعي مع أنّ هذا المسلك في نفسه غير صحيح فإنّ التجري الموجب للعقاب هو نفس ارتكاب ما يعتقد أنّه حرام ، وهذا الفعل كما تقدم غير قابل للتحريم شرعا ، وأمّا عزم الحرام وقصده فهو قابل للتحريم ، ولو ورد فيه خطاب شرعي على ترتب العقاب عليه لكان كاشفا عن تحريمه شرعا ، ولكن لم يرد فيه ذلك بحيث يعتبر ، بل ورد في روايات كثيرة العفو عن نية

٣٩٤

سريرته من دون ذلك ، وحسنها معه ، كما يشهد به مراجعة الوجدان الحاكم بالاستقلال في مثل باب الإطاعة والعصيان ، وما يستتبعان من استحقاق النيران أو الجنان.

ولكن ذلك مع بقاء الفعل المتجري به أو المنقاد به على ما هو عليه من الحسن أو القبح ، والوجوب أو الحرمة واقعا ، بلا حدوث تفاوت فيه بسبب تعلق القطع بغير ما هو عليه من الحكم والصفة ، ولا يغير جهة حسنه أو قبحه بجهته أصلا ، ضرورة أن القطع بالحسن أو القبح لا يكون من الوجوه والاعتبارات التي بها يكون الحسن والقبح عقلا ولا ملاكا للمحبوبية والمبغوضية شرعا ، ضرورة عدم

______________________________________________________

المعصية ، والمراد بالعفو العفو في مقام التشريع بمعنى عدم جعل الحرمة له ، فلا يترتب عليه العقاب نظير العفو عن غير التسعة في مقام تشريع الزكاة في الأموال.

في الأخبار الواردة في العفو عن قصد المعصية

ثم إنّه قد جمع الشيخ قدس‌سره بين ما دلّ على العفو عن نية السوء وقصد المعصية وبين ما اشير إليه من الآيات والروايات بوجهين :

الأول : حمل ما دلّ على العفو وعدم العقاب على مجرد قصد المعصية ، وما دلّ على العقاب على صورة الاشتغال ببعض مقدمات الحرام بقصد ارتكابه.

والثاني : حمل ما دلّ على العفو على صورة الارتداع عن قصده ولو كان الارتداع بعد الاشتغال ببعض مقدماته أو كلّها بقصد ارتكابه ، وما دلّ على العقاب على صورة عدم الارتداع وعدم حصول الحرام خارجا للمانع القهري ، وقال قدس‌سره : إنّ ما ورد في أن كلا من القاتل والمقتول في النار ، وتعليل دخول المقتول فيها شاهد للجمع الثاني حيث مقتضاه التعدي إلى سائر الموارد.

ولكن لا يخفى أنّ الجمع الأول تبرعي وظاهر الروايات عدم العقاب ما لم

٣٩٥

تغير الفعل عما هو عليه من المبغوضية والمحبوبية للمولى ، بسبب قطع العبد بكونه محبوبا أو مبغوضا له. فقتل ابن المولى لا يكاد يخرج عن كونه مبغوضا له ، ولو اعتقد العبد بأنه عدوّه ، وكذا قتل عدوّه ، مع القطع بأنه ابنه ، لا يخرج عن كونه محبوبا أبدا.

هذا مع أن الفعل المتجرئ به أو المنقاد به ، بما هو مقطوع الحرمة أو الوجوب لا يكون اختياريا ، فإن القاطع لا يقصده إلّا بما قطع أنه عليه من عنوانه

______________________________________________________

يعص ، وكذا الثاني لما تقدم من أنّ قتال مسلم مع مسلم في نفسه حرام فلا يمكن التعدّي إلى قصد ارتكاب الحرام وكون المقتول كالقاتل في النار لا يقتضي التسوية بين عقابهما بأن يكون عقاب قتال المقتول بمقدار عقاب قتل المقتول.

لا يقال : مقتضى أخبار العفو عن قصد المعصية أنّه لا يكتب العقاب على المكلف إلّا بالمعصية فنفس تلك الروايات تنفي ترتب العقاب على التجري أيضا حيث عند التجري لا تحصل المعصية.

فإنّه يقال : مدلول تلك الأخبار التفرقة بين قصد الطاعة وقصد المعصية وأن الأول يكتب وإن لم يوفق بها ، فتكشف تلك الأخبار عن مطلوبية قصدها بخلاف قصد المعصية فإنّه لا يكتب بل المكتوب نفس المعصية لا أنّ العقاب ينحصر على تحقق المعصية خاصة فلا يكون عقاب على التجري المفروض في المقام ، وبتعبير آخر حصر العقاب على المعصية إضافي.

بقي في المقام أمر وهو جريان ما تقدم في التجري في موارد القطع الموضوعي أو اختصاصه بموارد القطع الطريقي فالصحيح هو التفصيل ، فإنه إن كان القطع بتحقق عنوان أو حكم تمام الموضوع للحرمة فلا يمكن فيه التخلف بأن يحصل القطع ولا تكون حرمة ليحصل التجري بالارتكاب وإن كان القطع بأحدهما مأخوذا في

٣٩٦

الواقعي الاستقلالي لا بعنوانه الطارئ الآلي ، بل لا يكون غالبا بهذا العنوان مما يلتفت إليه ، فكيف يكون من جهات الحسن أو القبح عقلا؟ ومن مناطات الوجوب أو الحرمة شرعا؟ ولا يكاد يكون صفة موجبة لذلك إلّا إذا كانت اختيارية.

إن قلت إذا لم يكن الفعل كذلك فلا وجه لاستحقاق العقوبة [١].

______________________________________________________

الموضوع للحرمة جزءا فيجري فيه ما تقدم ، وما في بعض الكلمات من الاختصاص بالقطع الطريقي لا يمكن المساعدة عليه.

في الموجب للعقاب في التجري وعدم منافاة استحقاق المتجري مع ما ورد في العفو عن قصد المعصية

[١] لا يخفى أنّه قدس‌سره التزم بأنّ الفعل المتجرى به فعل غير اختياري كالفعل المنقاد به ، فيرد عليه أنّه إذا كان الفعل غير اختياري فكيف يترتب عليه العقاب فالالتزام بغير اختياريته لا يجتمع مع الالتزام باستحقاق العقاب عليه ، ولا يقاس بالعصيان ، فإنّ العصيان أمر اختياري صادر عن الإرادة فيصح العقاب عليه.

وأجاب بأنّ الفعل المعنون بعنوان التجري صادر بلا إرادة واختيار ولا يكون العقاب عليه ، بل يكون العقاب على قصد العصيان والعزم على الطغيان ، وبما أنّ هذا الجواب لا يخلو عن المناقشة والإشكال بأن القصد والعزم من مبادئ الإرادة ومبادي الإرادة كالارادة والاختيار لا تكون اختيارية ، حيث إنّ الاختيارية في الفعل تكون بصدوره عن الإرادة ولو كانت مبادي الارادة صادرة بالاختيار والإرادة ؛ لتسلسل. وكأنّه قدس‌سره قد دفع الإشكال بوجهين ، الأول : أنّ الإرادة والاختيار وإن لا يكون بالاختيار إلّا أنّ بعض مباديه كالقصد والعزم يكون أمرا اختياريا لتمكن المكلف من الارتداع عن قصده وعزمه بالتأمل فيما يترتب على ما قصده وعزم عليه على تقدير حصوله من استحقاق اللوم والمذمة والعقاب ، ولا يناقش في كلامه هذا بأنّ العقاب مترتب

٣٩٧

على مخالفة القطع ، وهل كان العقاب عليها إلّا عقابا على ما ليس بالاختيار؟

قلت : العقاب إنما يكون على قصد العصيان والعزم على الطغيان ، لا على الفعل الصادر بهذا العنوان بلا اختيار.

إن قلت : إن القصد والعزم إنما يكون من مبادئ الاختيار ، وهي ليست باختيارية ، وإلّا لتسلسل.

قلت : ـ مضافا إلى أن الاختيار وإن لم يكن بالاختيار ، إلّا أن بعض مباديه غالبا يكون وجوده بالاختيار ، للتمكن من عدمه بالتأمل فيما يترتب على ما عزم عليه من تبعة العقوبة واللوم والمذمة ـ يمكن أن يقال : إن حسن المؤاخذة والعقوبة إنما

______________________________________________________

على نفس القصد والعزم عنده لا على ما عزم عليه فكيف يكون التأمل في تبعة ما عزم عليه موجبا لزوال عزمه ، وذلك فإن اللوم والمذمّة واستحقاق العقاب مترتب على العصيان وبما أنّ القاطع لا يحتمل خلاف قطعه ولا يرى ارتكابه حال الفعل إلّا معصية يكون تأمله في تبعة العصيان موجبا لارتداعه عن قصده وعزمه ، نعم يرد على الماتن من أن العزم والقصد لا يكون اختياريا بذلك ، فإن ملاك الاختيارية عندهم كون الشيء بالإرادة والاختيار ، والاختيارية بالنحو الذي ذكره يناسب مسلك المتكلّمين في الأفعال وبناء على مسلكهم تجري تلك الاختيارية في نفس الإرادة حيث إنّها أيضا قابلة للزوال بالتأمل المزبور ، ولا تكون إلّا داعيا إلى الارتكاب لا علة تامة لحصول الفعل كما هو مقرّر عندهم ، ولعله لذلك أجاب ثانيا بأنّه لا ينبغي التأمل بأنّ بعد العبد عن المولى يترتب على التجري ، والعقاب من تبعة هذا البعد ، كما أنّ العقاب أيضا من تبعة البعد الحاصل بالعصيان ، وإذا أمكن حصول البعد بالتجري وإن لم يكن التجري أمرا اختياريا فلا مانع أيضا أن يوجب استحقاق العقاب مع عدم كونه غير اختياري ، وحصوله بسبب سوء سريرته وخبث باطنه بحسب نقصان ذاته

٣٩٨

يكون من تبعة بعده عن سيده بتجرّيه عليه ، كما كان من تبعته بالعصيان في صورة المصادفة ، فكما أنه يوجب البعد عنه ، كذلك لا غرو في أن يوجب حسن العقوبة ، وإن لم يكن باختياره إلّا أنه بسوء سريرته وخبث باطنه ، بحسب نقصانه واقتضاء استعداده ذاتا وإمكانه ، وإذا انتهى الأمر إليه يرتفع الإشكال وينقطع السؤال ب (لم) فإن الذاتيات ضروري الثبوت للذات.

وبذلك أيضا ينقطع السؤال عن أنه لم اختار الكافر والعاصي الكفر والعصيان؟ والمطيع والمؤمن الإطاعة والإيمان؟ فإنه يساوق السؤال عن أن الحمار لم يكون ناهقا؟ والانسان لم يكون ناطقا؟.

وبالجملة : تفاوت أفراد الإنسان في القرب منه تعالى والبعد عنه ، سبب

______________________________________________________

واقتضاء استعداده ، وإذا انتهى الأمر إلى اقتضاء ذات ممكن الوجود واقتضاء استعداده يرتفع الإشكال وينقطع السؤال عن علته ، فإن الذاتيات ضروري الثبوت للذات وينقطع السؤال عن علة اختيار الكافر والعاصي الكفر والعصيان واختيار المطيع والمؤمن الإطاعة والايمان. فإنّه يساوق السؤال عن أن الحمار لم يكون ناهقا؟ والإنسان لم يكون ناطقا؟ وقد أوجز كلّ ذلك بأنّ تفاوت أفراد الإنسان في القرب منه تعالى والبعد عنه سبب لاختلافهم في استحقاق الجنة ودرجاتها والنار ودركاتها وموجب لاختلافهم في نيل الشفاعة وعدمه ، وتفاوتها أخيرا يكون ذاتيا والذاتي لا يعلل.

ثمّ تعرّض لما يمكن أن يقال بأنّه لو كان الأمر كما ذكر فلا فائدة في بعث الرسل وإنزال الكتب والوعظ والإنذار فأجاب : بأن الفائدة اهتداء من طابت سريرته وطينته إلى ما يكمل به نفسه من العمل إلى المقربات إليه سبحانه ، وليكون حجة على من ساءت سريرته وخبثت طينته في استحقاقه الهلاك باختياره ارتكاب المهلكات

٣٩٩

لاختلافها في استحقاق الجنة ودرجاتها ، والنار ودركاتها ، [وموجب لتفاوتها في نيل الشفاعة وعدم نيلها] ، وتفاوتها في ذلك بالآخرة يكون ذاتيا ، والذاتي لا يعلل.

إن قلت : على هذا ، فلا فائدة في بعث الرسل وإنزال الكتب والوعظ والإنذار.

قلت : ذلك لينتفع به من حسنت سريرته وطابت طينته ، لتكمل به نفسه ، ويخلص مع ربه أنسه ، ما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله ، قال الله تبارك وتعالى : (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) وليكون حجة على من ساءت سريرته وخبثت طينته ، ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حي عن بيّنة ، كيلا يكون للناس على الله حجة ، بل كان له حجة بالغة.

ولا يخفى أن في الآيات والروايات ، شهادة على صحة ما حكم به الوجدان الحاكم على الإطلاق في باب الاستحقاق للعقوبة والمثوبة ، ومعه لا حاجة إلى ما استدل على استحقاق المتجري للعقاب بما حاصله : إنه لولاه مع استحقاق

______________________________________________________

(لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ)(١) كيلا يكون للناس على الله حجة بل كان له حجة بالغة.

أقول : ظاهر كلامه أنّه التزم باستحقاق العقاب على أمر غير اختياري فإن كان المراد من غير الاختياري ما لا يكون حصوله بالإرادة التي ذكرها أهل المعقول مع الالتزام من تمكّن المكلف من تركه والممانعة عن وجوده وإن تفاوت أفراد الإنسان ذاتا بحسب كونه ممكن الوجود واختلافهم بحسب الذات وإن يقتضي اختيار الكفر أو الإيمان والطاعة أو المعصية ، إلّا أنّ هذا بنحو الاقتضاء لا العلّية ، بحيث لا ينافي التمكّن مما يقتضيه نقصان ذاته أو خبثه ، وكذا في حسن سريرته وطيبة ذاته فالالتزام

__________________

(١) سورة الأنفال : الآية ٤٢.

٤٠٠