دروس في مسائل علم الأصول - ج ٣

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-94850-9-1
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٤٥

أو أنه كان بملاحظة التسامح في أدلة المستحبات ، وكان عدم رفع اليد من دليل استحباب المطلق بعد مجيء دليل المقيد ، وحمله على تأكد استحبابه ، من التسامح فيها.

ثم إن الظاهر أنه لا يتفاوت فيما ذكرنا بين المثبتين والمنفيين بعد فرض كونهما متنافيين ، كما لا يتفاوتان في استظهار التنافي بينهما من استظهار اتحاد التكليف ، من وحدة السبب وغيره ، من قرينة حال أو مقال حسبما يقتضيه النظر ، فليتدبر.

تنبيه : لا فرق فيما ذكر من الحمل في المتنافيين ، بين كونهما في بيان الحكم التكليفي ، وفي بيان الحكم الوضعي ، فإذا ورد مثلا : إن البيع سبب ، وإن البيع الكذائي سبب ، وعلم أن مراده إما البيع على إطلاقه ، أو البيع الخاص ، فلا بد من التقييد لو كان ظهور دليله في دخل القيد أقوى من ظهور دليل الإطلاق فيه ، كما هو ليس ببعيد ، ضرورة تعارف ذكر المطلق وإرادة المقيد ـ بخلاف العكس ـ بإلغاء القيد ، وحمله على أنه غالبي ، أو على وجه آخر ، فإنه على خلاف المتعارف.

______________________________________________________

المقيد بالالتزام بأنّ متعلّق الوجوب ثبوتا هو المقيّد للزم الالتزام بذلك في المستحبات أيضا كما إذا ورد في خطاب الأمر بزيارة الحسين عليه‌السلام في نصف شعبان ، وورد في خطاب آخر الأمر بزيارته ليلة نصف شعبان ، مع أنّهم لا يلتزمون بالتقييد بل يلتزمون باستحبابين أحدهما زيارته عليه‌السلام في نهار نصف شعبان ثانيهما زيارته عليه‌السلام في ليلته.

ولكن لا يخفى أنّ الجواب في مثل ذلك ظاهر لقيام قرينة خارجية على استحباب زيارته عليه‌السلام في كل زمان ، وإن كان الاستحباب مؤكّدا في بعض الأزمنة ، ولذا لو زاره عليه‌السلام في كل من ليلة نصف شعبان ونهاره فقد أتى بمستحبين ، وامّا لو لم يكن الأمر كذلك كما إذا ورد الأمر بالاغتسال يوم الجمعة بعد الفجر ، وورد في خطاب آخر

٣٦١

.................................................................................................

______________________________________________________

الأمر بالاغتسال يوم الجمعة بعد الفجر إلى قبل الزوال فيأتي فيه ما تقدّم في الواجبات من حمل المطلق على المقيد ، ودعوى أنّ غلبة تعدّد المطلوب في المستحبات قرينة عرفية على عدم الحمل لا تخلو من المناقشة.

إلّا أن يدعى عدم إحراز وحدة الحكم في المستحبات على ما ذكره المحقق النائيني قدس‌سره في وجه افتراق المستحبات عن الواجبات من أنّ خطاب المقيد في المستحبات مقترن بجواز الترك فلا يكون تناف بين خطابه وخطاب المقيّد (١).

نعم لو كان متعلق الطلب صرف الوجود من الطبيعي وكان خطاب المقيد ناظرا إلى تعيين صرف الوجود يجري فيه ما تقدم في الواجبات من حمل المطلق على المقيد ، وبتعبير آخر انّ مع إحراز وحدة الحكم الاستحبابي لا يكون أيّ فرق بين الواجبات والمستحبات.

وذكر الماتن قدس‌سره وجها آخر في الفرق بين الواجبات والمستحبات بالالتزام في المستحبات باستحباب المطلق أيضا وعدم حمله على المقيد ، إذ عدم الحمل على المقيد من مصاديق التسامح في أدلة السنن بالالتزام باستحباب المطلق واستحباب المقيد بالمرتبة الأكيدة.

ولا يخفى ما فيه : فإنّ مقتضى التسامح في أدلة السنن عدم ملاحظة شرائط الاعتبار في سند الخبر في استحقاق المثوبة الواردة فيه لا حمل الخبر على غير مدلوله العرفي ، حيث إنّه إذا فرض أنّ خطاب المقيد قرينة عرفية على المراد الجدي من خطاب المطلق كان الأخذ بمدلول خطاب المطلق ـ مع قطع النظر عن خطاب

__________________

(١) أجود التقريرات ١ / ٥٣٩.

٣٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

المقيد ـ طرحا للقرينة.

والعمدة هو ما ذكرناه من أنّ في موارد الاستحباب لا يحرز وحدة الحكم بخلاف موارد الإيجاب ، حيث إنّ الوجوب التخييري بين فعلين وواحد منهما غير معقول لأنّه تخيير بين الأقل والأكثر ، فلا يكون في البين إلّا وجوب واحد ثبوتا ، وخطاب المقيد قرينة على تعيين متعلق ذلك الوجوب ، مضافا إلى أنّ الاستحباب المتعلّق بالمقيد مقرون بجواز الترك فيمكن أن يتمسك باطلاق الأمر بالمطلق في إثبات مطلوبية صرف الوجود ولو من غير المقيد فيكون الأمر بالمقيد من طلب أفضل الافراد.

بقى في المقام أمور :

منها : أنّ ما تقدم في وجه حمل المطلق على المقيد لا يجري إذا كان المدلول في كل من خطابي المطلق والمقيد انحلاليا مع توافق الخطابين في الإيجاب والسلب ، كما إذا كان مدلول كل منهما ثبوت التكليف أو الوضع لكل من وجودات الموضوع ، كما إذا دلّ خطاب على حلّيّة البيع كقوله سبحانه وتعالى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) ، ودلّ خطاب آخر على حلّ البيع يدا بيد ، فلا يقتضي الخطاب الثاني حمل المطلق في الخطاب الأوّل عليه ، بل يؤخذ بإطلاقه وعموم الحلّ لكل من أفراد البيع ، وذكر الحلّ لبعض أفراد البيع في الخطاب الثاني غير مناف للعموم إلّا إذا بني على ثبوت المفهوم للقيد.

وما في عبارة الماتن قدس‌سره من الالتزام بالتقييد إذا احتمل دخالة القيد في الحكم لا يمكن المساعدة عليه ، فإنّه قد تقدم أنّ ذكر الحكم للمقيد في خطاب مستقل لا تنحصر فائدته في المفهوم ، فمع ورود الخطاب الانحلالي في المطلق لعلّ يكون

٣٦٣

.................................................................................................

______________________________________________________

الغرض إبلاغ الحكم تدريجا أو كون المقيّد مورد الاهتمام ، لكثرة الابتلاء به ونحوها ، فلا معيّن للالتزام بالتقييد.

نعم إذا كان الخطابان مختلفين بالإضافة إلى الإيجاب والسلب يرفع اليد عن إطلاق المطلق بالخطاب الوارد في القيد على خلاف حكم المطلق كما إذا ورد النهي عن بيع الغرر ، فإنّه يرفع اليد به عن إطلاق حلّ البيع.

فتحصل أنّ حمل خطاب المطلق على المقيد يكون في صورتين :

الصورة الأولى : أن يكون الحكم المجعول المدلول عليه بالخطابين واحدا تعلّق ذلك الحكم في أحد الخطابين بالمطلق وفي الآخر بالمقيّد ، ووحدته إمّا تستفاد من ذكر السبب الواحد لكل من الحكم المتعلّق بالمطلق ، والحكم المتعلّق بالمقيد كما إذا علّق في خطاب ، الأمر بعتق الرقبة على الإفطار ، وفي خطاب آخر علّق الأمر بعتق الرقبة المؤمنة أيضا على الإفطار ، أو تستفاد من أمر آخر كالقرينة الداخلية أو الخارجية.

الصورة الثانية : ما إذا كان الحكم المدلول عليه في كل من الخطابين متنافيا للآخر لاختلاف الخطابين في الإيجاب والسلب كما تقدم ، ولو ذكر سبب في خطاب الأمر بالمطلق ولم يذكر سبب في خطاب الأمر بالمقيد كما إذا ورد في خطاب ، «من أفطر في نهار شهر رمضان فعليه عتق رقبة» ، وورد في خطاب آخر الأمر بعتق الرقبة المؤمنة ، بلا ذكر السبب فإنّه لو كان الخطاب الثاني إرشادا إلى أخذ القيد ودخالته في موارد الأمر بالعتق ، لوجب رفع اليد عن الإطلاق في الخطاب الأوّل ، وامّا لو كان الخطاب واردا في مقام الحث على عتق الرقبة المؤمنة واستحبابه لوجب الأخذ بالإطلاق في مورد وجوبه بالإفطار ، لعدم التنافي المعتبر في حمل المطلق على المقيّد أصلا.

٣٦٤

تبصرة لا تخلو من تذكرة ، وهي : إن قضية مقدمات الحكمة في المطلقات تختلف [١] حسب اختلاف المقامات ، فإنها تارة يكون حملها على العموم البدلي ،

______________________________________________________

ومنها : إذا كانت النسبة بين الخطابين عموم من وجه فإن لم يكن بين الحكمين تناف في مورد اجتماع العنوانين فيؤخذ بهما فيه ، كما إذا ورد في خطاب الأمر بإكرام العالم ، وفي الخطاب الآخر الأمر بإكرام الهاشمي فيؤخذ بهما في العالم الهاشمي ، ومع كون التكليف في كل منهما إلزاميا تكون مخالفتهما في المجمع من قبيل مخالفة التكليفين فيستحق المكلف العقاب على مخالفة كل منهما إذا كان كل من الحكمين انحلاليا. وامّا إذا كان بين الخطابين تناف بحسب حكمها كما إذا كانا مختلفين في الإيجاب والسلب ، وقعت المعارضة بينهما في مورد اجتماعهما فيسقطان فيه لو لم يكن في البين قرينة على تقديم أحدهما أو ترجيح أحدهما على الآخر في مقام المعارضة هذا إذا كان مدلول كل منهما انحلاليا.

ولو كان مدلول أحد الخطابين طلب صرف الوجود من الشيء ومدلول الآخر النهي عن عنوان آخر ، فإن كان التركيب بين العنوانين اتحاديّا فلا يثبت بالإطلاق ـ في ناحية صرف وجود الطبيعي ـ ترخيص في التطبيق بالإضافة إلى المجمع ، على ما ذكرنا في مبحث اجتماع الأمر والنهي ، حيث ذكرنا أنّ الترخيص في التطبيق ينتفي بالإضافة إلى المجمع كما هو مقتضى الجمع العرفي بين الحكم الترخيصي الثابت للشيء بعنوان ، والنهي عنه بالعنوان الآخر بخلاف ما إذا كان التركيب بينهما انضماميا ، فإنّه لا موجب لرفع اليد عن خطاب الأمر بالطبيعي بالإضافة إلى المجمع غاية الأمر يكون الأمر به على نحو الترتب.

[١] منها : ما أشار إليه بقوله «تبصرة» : وهي أنّ مقتضى الإطلاق يختلف بحسب الموارد فقد يكون مقتضاه كون الحكم الوارد في الخطاب انحلاليا بحسب انحلال

٣٦٥

وأخرى على العموم الاستيعابي ، وثالثة على نوع خاص مما ينطبق عليه حسب اقتضاء خصوص المقام ، واختلاف الآثار والأحكام ، كما هو الحال في سائر القرائن بلا كلام.

______________________________________________________

عنوان الموضوع سواء كان الحكم تكليفا أو وضعيّا ، كما في قوله سبحانه وتعالى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(١) ، وما ورد في أنّ غسل الميّت واجب ، وقد يكون مقتضاه العموم البدلي كما لو ورد «أعتق رقبة إذا أفطرت في نهار شهر رمضان أو خالفت اليمين» ، هذا بالإضافة إلى الموضوع أو متعلّق التكليف ، وأمّا بالإضافة إلى إطلاق الحكم فقد تقدم في بحث الأوامر انّ كون وجوب الفعل نفسيا عينيا يستفاد من إطلاق الوجوب المستفاد من مادّة الأمر أو من صيغته أو غيرهما فإنّه إذا قيد وجوب فعل بوجوب فعل آخر ينتزع منه الوجوب الغيري وإذا قيد بما دام لم يحصل الفعل من الآخر يكون الوجوب كفائيا.

وأمّا الوجوب التعييني فقد ذكرنا أنّه يستفاد من إطلاق المتعلّق بمعنى عدم ذكر العدل له ، فإنّ الوجوب في موارد التخييري يتعلّق بالجامع بين الفعلين أو الأفعال ولو كان ذلك الجامع انتزاعيا فمن عدم ذكر العدل لمتعلّق التكليف في الخطاب ، يثبت أنّ الوجوب تعيينيّ ، وذكر العدل له كاشف عن كون التكليف ثبوتا متعلقا بالجامع بينهما وإلّا فلا يتعلّق الوجوب بكل من الفعلين مشروطا بترك الآخر ، فإنّ لازمه ثبوت التكليفين واستحقاق العقابين عند تركهما ، وهذا لا يصح إلّا في التخيير عند تزاحم التكليفين في مقام الامتثال مع عدم ثبوت المرجّح لأحدهما على الآخر.

وبالجملة شأن مقدمات الحكمة إخراج ما هو مهمل بحسب الوضع عن

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ٢٧٥.

٣٦٦

فالحكمة في إطلاق صيغة الأمر تقتضي أن يكون المراد خصوص الوجوب التعييني العيني النفسي ، فإن إرادة غيره تحتاج إلى مزيد بيان ، ولا معنى لإرادة الشياع فيه ، فلا محيص عن الحمل عليه فيما إذا كان بصدد البيان ، كما أنها قد تقتضي العموم الاستيعابي ، كما في (أحل الله البيع) إذ إرادة البيع مهملا أو مجملا ، ينافي ما هو المفروض من كونه بصدد البيان ، وإرادة العموم البدلي لا يناسب المقام ، ولا مجال لاحتمال إرادة بيع اختاره المكلف ، أيّ بيع كان ، مع أنها تحتاج إلى نصب دلالة عليها ، لا يكاد يفهم بدونها من الإطلاق ، ولا يصح قياسه على ما إذا أخذ في متعلق الأمر ، فإن العموم الاستيعابي لا يكاد يمكن إرادته ، وإرادة غير العموم البدلي ، وإن كانت ممكنة ، إلّا أنها منافية للحكمة ، وكون المطلق بصدد البيان.

______________________________________________________

الإهمال عند ما يرد في الخطاب ونتيجة الخروج عن الإهمال تختلف بحسب المقامات من كون مقتضاه عموما شموليا أو بدليا أو يعين نوع الطلب أو متعلّقه ، فتدبّر.

ولا يخفى أنّ إدخال مباحث أداة العموم على ما تقدم وجل مسائل المطلق والمقيد في مسائل علم الأصول على ما ذكروا في تعريف علم الأصول بأنّها هي المسائل التي تقع نتيجتها في طريق استنباط الحكم مشكل ، فإنّ المباحث المشار إليها يعيّن بها موضوع الحكم أو متعلق التكليف ويعيّن فيها الظواهر الدالّة عليهما ، فتدبّر.

٣٦٧

فصل

في المجمل والمبيّن

والظاهر أن المراد من المبين في موارد إطلاقه ، الكلام الذي له ظاهر ، ويكون بحسب متفاهم العرف قالبا لخصوص معنى [١] ، والمجمل بخلافه ، فما ليس له ظهور مجمل وإن علم بقرينة خارجية ما أريد منه ، كما أن ما له الظهور مبين وإن علم بالقرينة الخارجية أنه ما أريد ظهوره وأنه مؤول ، ولكل منهما في الآيات والروايات ، وإن كان أفراد كثيرة لا تكاد تخفى ، إلّا أن لهما أفراد مشتبهة وقعت محل البحث والكلام للأعلام ، في أنها من أفراد أيهما؟ كآية السرقة ، ومثل (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) و (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) مما أضيف التحليل إلى الأعيان ومثل (لا صلاة إلّا بطهور).

ولا يذهب عليك أن إثبات الإجمال أو البيان لا يكاد يكون بالبرهان ، لما عرفت من أن ملاكهما أن يكون للكلام ظهور ، ويكون قالبا لمعنى ، وهو مما يظهر بمراجعة الوجدان ، فتأمل.

ثم لا يخفى أنهما وصفان إضافيان ، ربما يكون مجملا عند واحد ، لعدم معرفته بالوضع ، أو لتصادم ظهوره بما حفّ به لديه ، ومبيّنا لدى الآخر ، لمعرفته وعدم التصادم بنظره ، فلا يهمنا التعرض لموارد الخلاف والكلام والنقض والابرام في المقام ، وعلى الله التوكل وبه الاعتصام.

______________________________________________________

المجمل والمبيّن

[١] المجمل والمبيّن وصفان ، يتّصف الكلام بأحدهما ، فيقال : هذا الكلام أو أنّ هذا اللفظ مجمل ، كما يوصف كل منهما بأنّه مبيّن ، والملاك في الاتصاف بالمبين هو

٣٦٨

.................................................................................................

______________________________________________________

تمامية ظهور الكلام أو اللفظ الوارد فيه ، في معنى سواء كان منشأ الظهور ، العلم بوضوح مفرداته أو القرينة الخاصة أو العامة ، كما أنّ منشأ الظهور في اللفظ أيضا ، امّا العلم بوضعه للمعنى الفلاني أو القرينة على إرادته منه ، بخلاف توصيف الكلام أو اللفظ بالمجمل فإنّ ملاك توصيفه عدم ظهوره في معنى خاص لتعدد الوضع في مفرداته ، وعدم القرينة على المراد في استعماله ، أو مع القرينة الصارفة عن ظهوره الوضعي وعدم قرينة معينة على أحد معانيه المجازية ، أو كون الكلام مقترنا بما يصلح أن تكون قرينة على خلاف ظهوره الوضعي أو الإطلاقي ، أو من قبيل التكلم بالرمز كأوائل السور ، أو أنّ أهل المحاورة لا يعرف ظهوره الوضعي كألفاظ العبادات بناء على الصحيحي ، أو لا يعرفون معناها المجازي بناء على استعمالها في المعاني الشرعية وكانت بنحو المجاز في الاستعمال.

وذكر الماتن قدس‌سره كغيره انّ وصفي المجمل والمبيّن إضافيان ، وربّما يكون الكلام أو اللفظ مجملا عند أحد لعدم علمه بوضعه بخلاف شخص آخر فإنّه لعلمه بوضعه لا يكون مجملا عنده ، وكذا إذا تصادم ظهوره عند أحد بما حفّ به بخلاف الآخر لعدم تصادم ظهوره بنظره ، ولكن لا يخفى أنّ الكلام أو اللفظ لا يتّصف بالإجمال إذا لم يكن الشخص جاهلا بظهوره عند أهل المحاورة.

ولا يخفى أيضا أنّه فرق بين المجمل والمهمل ، فإنّ في موارد الإجمال يكون للمجمل معنى يريده المتكلم ، ولكن لم يكن الكلام المزبور دالّا على ذلك المراد لاحدى الأمور المتقدمة بخلاف موارد الإهمال ، فإنّ التوصيف بالإهمال وعدم الدلالة تارة لعدم الوضع ، وأخرى لعدم القرينة ، وثالثة لعدم إرادة المتكلم منه معنى خاصا نظير ما تقدم من ورود المطلق في مقام الإهمال ، فإنّ اللفظ من جهة وضعه

٣٦٩

.................................................................................................

______________________________________________________

مهمل بالإضافة إلى الإطلاق والتقييد ، والمفروض أنّ المتكلم به أيضا في مقام الإهمال من جهتهما وبذلك يظهر الفرق بين كون المتكلم في مقام الإهمال وكونه في مقام الإجمال.

ثمّ إنّه لا يترتب أثر خاص لكون اللفظ مجملا أو مهملا وإنّما الحجيّة تترتّب على الظهور الكلامي سواء كان بالوضع أو بالقرينة الخاصة أو العامة هذا كلّه بحسب الكبرى.

وأمّا بحسب الصغرى فقد وقع الكلام في موارد من الكتاب والسنة ، قيل بكون الكلام أو اللفظ الوارد فيه مجملا كآية السرقة (١) ، ومثل قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ)(٢) و (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ)(٣) ممّا أضيف التحريم والتحليل إلى الأعيان ومثل قوله عليه‌السلام «لا صلاة إلّا بطهور» (٤) ، ممّا يتردّد الأمر فيه بين نفي الوصف أو الذات ، ولكن لا نتعرض لذلك في المقام بعد ما ذكرنا في موارد الاستدلال بها من المباحث الفقهيّة عدم الإجمال فيها ، وإن قامت القرينة في بعضها كآية السرقة على خلاف ظهوره الأولى.

__________________

(١) سورة المائدة : الآية ٣٨.

(٢) سورة النساء ، الآية ٢٣.

(٣) سورة المائدة ، الآية ١.

(٤) وسائل الشيعة : باب ١ من أبواب الوضوء ، الحديث ١.

٣٧٠

المقصد السادس

في بيان الأمارات المعتبرة شرعا أو عقلا

وقبل الخوض في ذلك لا بأس بصرف الكلام إلى بيان بعض ما للقطع من الأحكام [١] وإن كان خارجا من مسائل الفن وكان أشبه بمسائل الكلام. لشدّة مناسبته مع المقام.

______________________________________________________

مباحث القطع

في القطع بالتكليف وأن البحث في بعض ما يترتب عليه خارج عن مسائل علم الاصول

[١] قد جعل الماتن قدس‌سره المقصد السادس في بيان الأمارات المعتبرة شرعا أو عقلا وذكر أنّه لا بأس قبل البحث فيها بالتكلم في بعض ما يترتب على القطع بالحكم والتكليف وأن لا يكون التكلم فيه خارجا عن مسائل علم الاصول ، وأشبه بالمسائل الكلامية ، ووجه التكلم فيه أنّه يناسب ما يذكر في هذا المقصد للأمارات والطرق إلى الأحكام الفرعية ، ولعلّ نظره قدس‌سره في خروجه عن مسائل علم الاصول إلى أنّ المسألة الاصولية كما ذكر في مقدمة الكتاب هي التي تكون نتيجتها موجبة للعلم بالحكم الشرعي الفرعي ، بأن تقع تلك النتيجة في طريق استنباطه ، أو التي ينتهي إليها أمر الفقيه في مقام العمل ، فلا يكون نفس العلم بالحكم الفرعي الحاصل من الاستنباط كالعلم به الحاصل من غيره كضرورة ونحوها داخلا في مسائل علم الاصول وكون ما يذكر أشبه بمسائل علم الكلام ، فلأنّ البحث في استحقاق العقاب والثواب على مخالفة المنعم وإطاعته مسألة كلامية ، ومسألة وجوب اتباع العلم بالتكليف عقلا وكونه منجزا له كذلك شبيهة بتلك المسألة ، وأما شدة المناسبة مع ما يذكر في

٣٧١

.................................................................................................

______________________________________________________

المقصد السادس فلأنّ نتيجة اعتبار الأمارات أن يثبت لها بعض ما كان للقطع بالتكليف والحكم عقلا مع أنّها معتبرة في حق غير العالم ، والقاطع بالواقع ، فيكون المناسب التعرض لبعض ما يترتب على العلم والقطع عقلا.

ويرجع إلى ما قرّرنا ما ذكر الشيخ الأنصاري قدس‌سره من أن البحث في المقام في الحجة على الحكم الشرعي وإطلاق الحجة على نفس القطع بالحكم والتكليف مسامحة ، فإنّ الحجة ما يقع وسطا في قياس استنباط الحكم الشرعي الفرعي الكلّي ، فيقال عصير العنب بعد غليانه وقبل ذهاب ثلثيه مما يظن بحرمته ، وكلّ ما يظن بحرمته بالظن المطلق أو الخاص يحرم ، بخلاف العلم بالحرمة ، فإن القول بأن الميتة مما علم حرمة أكلها ، وكلّ ما علم حرمته يحرم ، غير صحيح ، فإنّ العلم بالحرمة لا يمكن أن يؤخذ في موضوع تلك الحرمة.

لا يقال : هذا جار في الظن أيضا فإنّ حرمة العصير العنبي لا يمكن أن يؤخذ في موضوعها الظن بحرمته سواء كان ظنا مطلقا أو ظنّا خاصا.

فإنّه يقال : الحرمة المأخوذ في موضوعها الظن بالحرمة هي حرمة طريقية ، والمأخوذ في موضوعها الظن بالحرمة الواقعية النفسية ، فلا إشكال في أخذ الظن بالحكم والتكليف وسطا في قياس الاستنباط بخلاف القطع بالحكم والتكليف فإنه غير قابل لجعل حكم طريقي بالإضافة إلى الحكم أو التكليف المقطوع.

وهذا بناء على أن اعتبار الأمارة يكون بجعل الحكم التكليفي الطريقي ، وأما بناء على أنّه باعتباره علما بالواقع فالأمر كذلك أيضا ، فيمكن وقوع خبر الثقة وسطا في قياس الاستنباط ، فيقال العصير العنبي مما قام خبر الثقة بحرمته بالغليان ، وكلّ ما

٣٧٢

.................................................................................................

______________________________________________________

قام خبر الثقة بحرمته يعلم حرمته ، فلا محذور في إطلاق الحجة على خبر الثقة بخلاف نفس العلم الوجداني بالحرمة فإنّه غير قابل لأن يقع وسطا في القياس.

أقول : إنّه مع الالتزام بأنّ المجعول في الأمارات الحجية بمعنى المنجزية والمعذرية كما عليه الماتن قدس‌سره لا تقع الأمارة وسطا في قياس استنباط الحكم الشرعي بناء على أنّ الاستنباط إحراز نفس الحكم الشرعي الفرعي فإنّه لا نحرز نفس الحكم بالأمارة المعتبرة ، بل يحرز تنجزه أو العذر فيه ، فتكون الأمارة المعتبرة وسطا في قياس تنجّز الحكم والعذر فيه ، وهذه الوسطية تجري في القطع بالحكم الشرعي أيضا فاللازم صحة إطلاق الحجة عليه.

اللهم إلّا أن يقال : إنّ نتيجة المسألة الاصولية ما يمكن أن تقع وسطا في إحراز تنجّز التكليف والعذر فيه بالجعل كما في الظنون لا ما يكون كذلك من غير جعل ، كما في القطع أو العلم بالتكليف وجدانا.

وقد يقال : إنّ منجزية القطع بالتكليف أيضا بالإضافة إلى متعلّقه يكون بالجعل ، فإن استحقاق العقاب على مخالفة التكليف الواصل ببناء العقلاء واعتبارهم ، حيث إنّ مخالفته هتك للمولى وظلم عليه والظلم والتعدي يوجب استحقاق الذم ومحكوم عليه بالقبح ببنائهم فيكون القطع بالتكليف وسطا في قياس تنجّز التكليف واستحقاق العقاب على مخالفة التكليف المقطوع ؛ وفيه أنّ ترتب استحقاق العقاب على مخالفته بالقطع بالتكليف مطلقا أو فيما أصاب إما لأنّ الاستحقاق أمر واقعي يدركه العقل ، أو أنّه نفس حكم العقل وليس وراء حكم العقل شيء واقعي وعلى كلّ منهما لا يكون ترتبه عليه ببناء العقلاء واعتبارهم ، ولذا يثبت هذا الاستحقاق في

٣٧٣

فاعلم أن البالغ الذي وضع عليه القلم إذا التفت إلى حكم فعلي واقعي [١].

______________________________________________________

المخلوق الأول من الإنسان قبل أن يتعدد العقلاء أو يتكثروا ، وسيأتي التعرض لذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.

[١] قد ذكر قدس‌سره أنّ البالغ الذي وضع عليه قلم التكليف إذا التفت إلى حكم شرعي فعلي واقعي أو ظاهري متعلق به أو بمقلديه ، فإمّا أن يحصل له القطع به ، أو لا ، فإن لم يحصل له القطع فلا بد من أن ينتهي أمره إلى ما يستقل به العقل من اتباع الظن إن حصل له الظن ، والتزم بتمام مقدمات الانسداد على نحو الحكومة ، وإن لم يحصل له الظن يتعيّن الرجوع إلى الاصول العقلية من البراءة والاشتغال والتخيير باختلاف الموارد على حسب ما يأتي الكلام فيها في محلّه ، ثمّ قال : وحيث عمّمنا متعلق القطع ولم نقيّده بالأحكام الواقعية وقيّدناه بالفعلي ، لم يبق وجه لتثليث الأقسام ، ويكون التقسيم على تعميم متعلق القطع للحكم الواقعي والظاهري ، وتقييده بالفعلي ثنائيا لا محالة ، فإنّ المكلف إمّا أن يكون قاطعا بالوظيفة الشرعية لنفسه أو لمقلديه سواء كانت تلك الوظيفة واقعية أو ظاهرية فيعمل بها ، وإن لم يكن قاطعا بها فلا بد من الرجوع إلى ما استقل به العقل من اتباع الظن على تقدير الانسداد والحكومة في موارده ، وفي غيرها إلى الاصول العقلية.

أقول : قد ذكرنا أن مسلكه في اعتبار الأمارة جعل الحجية لها أي المنجزية والمعذرية ، والحجية حكم وضعي لا تكون بنفسها حكما تكليفيا بالإضافة إلى الفعل ، ولا مستتبعا له فلا يكون في موردها علم بالحكم الشرعي الفعلي الواقعي أو الظاهري بالإضافة إلى الواقعة الملتفت إليها ، بل قطع بالحجية التي حكم على الأمارة القائمة بحكم الفعل ، لا حكم للفعل الذي قامت الأمارة على حكمه ، ومن الجملة لا يكون في موارد الأمارات المعتبرة على مسلكه قطع بحكم شرعي واقعي أو

٣٧٤

.................................................................................................

______________________________________________________

ظاهري بحيث يكون المقطوع حكما شرعيا فرعيا.

ثم قال قدس‌سره : وإن أبيت إلّا عن تثليث الأقسام فالأولى أن يقال : إنّ المكلّف إمّا أن يحصل له القطع بالحكم الواقعي أو لا ، فإن لم يحصل ، فإما أن يقوم عنده طريق معتبر أو لا ، ويرجع مع عدم حصول العلم وعدم قيام الأمارة المعتبرة إلى القواعد التي تقرّرت في حق غير القاطع بالحكم الواقعي ، ولغير من قام عنده الطريق المعتبر سواء كان تقرّرها بالشرع أو بالعقل والوجه في الأولوية أنّه مع هذا النحو من التثليث لا تتداخل الأقسام الثلاثة بحسب أحكامها ، بأن يورد عليه بأنّ موارد الظن غير المعتبرة مورد للاصول العملية مع أنّه على تثليث الشيخ قدس‌سره غير داخل في مواردها ، كما أنّه لو اعتبر الشارع في مورد غير الظن طريقا كخبر غير المتحرز عن الكذب فإنّه يتعيّن الأخذ به مع أنّ على ما ذكره الشيخ داخل في موارد الاصول العملية.

ما ذكره الشيخ قدس‌سره في تثليث حالات المكلف عند التفاته إلى الحكم الشرعي في واقعة

أقول : لم يكن غرض الشيخ قدس‌سره مما ذكره في المقام بيان النتائج للمباحث المفصّلة الآتية ، بل كان غرضه بيان الموضوع للمباحث الآتية ، ولذا لم يذكر فيما ذكره حكم القطع ولا الظن ، وذكر عند الشك الرجوع إلى الاصول العملية لكون الموضوع في المقصد الثالث للمباحث المذكورة الاصول العملية لا نفس الشك ، ولذا ذكر في آخر كلامه في المقام. فالكلام يقع في مقاصد ثلاثة ، وعلى التقسيم الثاني لا يعلم الموضوع في المباحث ، بل لو كان الغرض مما ذكره في المقام بيان النتائج للمباحث الآتية لم يكن موجب للتقسيم أصلا لا ثلاثيا ولا ثنائيا ، بل كان المناسب أن يذكر بأنّه على المكلّف عند التفاته إلى الحكم الشرعي للواقعة تحصيل المؤمن فيها برعاية الوظيفة الفعلية فيها المقرّرة من قبل الشرع أو العقل ، مع أنّ

٣٧٥

.................................................................................................

______________________________________________________

أشكال التداخل على ما ذكره الشيخ قدس‌سره غير صحيح ، فإنّه لم يذكر أنّه مع حصول الظن يعمل بالظن ولا يرجع إلى الاصول العملية ليورد عليه بأنّه مع عدم اعتبار الظن يكون مورده مورد الاصول العملية ، وما ذكر الماتن في تعليقته من أنّ اللازم مع اعتبار الشارع ما لا يفيد الظن ولو نوعا كخبر غير المتحرز عن الكذب هو العمل به ، ولكن مقتضى كلام الشيخ قدس‌سره العمل بالاصول العملية فهو وإن يكن كما ذكر إلّا أن هذا مجرّد فرض ، وما ذكره الشيخ بملاحظة ما هو الواقع خارجا من عدم اعتبار شيء في ثبوت الأحكام الكلية غير العلم والعلمي المعبر عن الثاني بالظن المعتبر ، بل بناء على تثليث الماتن يكون البحث في مسألة حجية خبر العدل والثقة بحثا عن وجود الموضوع وما هو بمفاد (كان) التامة ، بخلاف ما صنعه الشيخ فإنّه عليه يكون البحث من ثبوت الحكم للموضوع كما هو مفاد (كان) الناقصة ، وقد ظهر مما ذكرنا أنّه ليس في التثليث الذي ذكره الشيخ قدس‌سره خلل من حيث تداخل الأقسام ، كما ظهر مما ذكرنا قبل ذلك أنّ الحجة لا تطلق على نفس القطع بالتكليف والحكم بمعنى أنّه لا يكون وسطا لإثبات الحكم الذي تعلق به القطع بخلاف الظن مع اعتباره فإنّه يكون وسطا في الاستنباط ويثبت الحكم الذي تعلّق به بنحو من الإثبات.

أخذ العلم بحكم موضوعا لحكم آخر لا يكون حجة في باب الأدلة وبيان المراد من الالتفات إلى الحكم

ثم إن العلم بحكم إذا اخذ موضوعا لحكم آخر وأن يقع وسطا في القياس ويثبت به الحكم الآخر ، فيقال : إن الفعل الفلاني مما علم حرمته ، وكلّ ما علم حرمته يجوز الإفتاء بحرمته ، ولكن لا يطلق عليه الحجة في اصطلاح الاصوليين ، فإنّ الحجة عندهم ما يثبت حكم متعلّقه لا حكما آخر ، وبالقياس المزبور يثبت جواز الإفتاء

٣٧٦

.................................................................................................

______________________________________________________

بحرمته لا نفس حرمة ذلك الفعل بخلاف الظن والأمارة المعتبرة فإنّه يثبت به الحكم المظنون.

ولا يخفى أنّ المراد بالالتفات إلى الحكم الشرعي في واقعة الفحص عن مدرك الحكم فيها المعبّر عنه بالالتفات التفصيلي المختص للمجتهد ، فإنّ ما يصلح أن يحصل معه العلم بحكم الواقعة أو الظفر بالأمارة المعتبرة فيها هو هذا الالتفات الذي يكون الحكم الملتفت إليه متعلقا بالمجتهد تارة وبمقلديه اخرى ويتعلّق بهما ثالثة ، وليس المراد أن الالتفات التفصيلي بالمعنى الآخر لا يتحقق من العامي ، وهو فحصه عن مدرك الحكم الشرعي في الواقعة التي يمكن ابتلاؤه بها يعني الفحص عن فتوى المجتهد الذي يعتبر فتواه فيها ، بل المراد أن هذا غير مراد في المقام ؛ لأنّ ما ذكر في المقام تمهيد لبيان الموضوعات التي يبحث عن أحكامها في المباحث الآتية أو بيان لنتائج تلك المباحث وشيء منهما لا يرتبط بالعامي ، وإن كان اعتبار الأمارات والاصول العملية غير مختص بالمجتهد بالمعنى الذي يأتي بيانه.

بقي في المقام أمر لا بأس بالتعرض له ، وهو ما يقال من أن المجتهد كيف يأخذ بالاصول العملية في الوقائع التي هي راجعة إلى مقلّديه ، مع أنّ الموضوع لتلك الاصول هو الشاكّ في حكمه الواقعي ، والمقلد لا يلتفت إلى كون الحكم الواقعي في تلك الواقعة مشكوكا ، ليتمّ في حقه الموضوع للحكم الظاهري.

وبتعبير آخر شك المجتهد فيها غير موضوع للاصول لاختصاص الحكم الواقعي بغيره ، والشك الموضوع فيها لا يحصل للمقلد كما هو فرض غفلته من كون الحكم الواقعي في الواقعة مشكوكا ، بل لو كان الحكم الواقعي عاما مجعولا في حق العامي والمجتهد ، فالشك فيها بالإضافة إلى المجتهد لا العامي ليتمّ الموضوع

٣٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

للحكم الظاهري بالإضافة إلى كلّ منهما.

وربما يجاب عن الإشكال ، بأن المجتهد في الوقائع نائب عن مقلّديه فيحسب شكّه شكّا منهم ، وقد ذكر ذلك الشيخ الأنصاري في بعض كلماته وتبعه بعض من تأخر عنه قدس‌سره ، وذكر المحقق الاصفهاني قدس‌سره أنّ ما دلّ على جواز التقليد مقتضاه تنزيل المجتهد منزلة مقلديه ، فيكون مجيء الخبر إلى المجتهد بمنزلة مجيئه إلى مقلديه ، ويقين المجتهد وشكّه بمنزلة يقين مقلديه وشكّهم ، والمجتهد هو المخاطب في موارد الأمارات والاصول عنوانا ، والمقلّد هو المخاطب لبّا ، وإلّا كان تجويز الإفتاء والاستفتاء لغوا.

أقول : لو ثبت دعوى نيابة المجتهد عن العامي لا يبقى الإشكال ، بأن العمل بمقتضى الاصول العملية مشروط بالفحص وعدم الظفر بالدليل على التكليف أو الحكم الواقعي والمقلّد عاجز عن هذا الفحص فلا يتحقق في حقّه شرط اعتبارها ، وكذا الشرط في اعتبار أمارة في واقعة يكون بإحرازها وعدم المعارض لها أو عدم الظفر بها بعد الفحص ، والعامي عاجز عن ذلك ، والوجه في عدم بقاء الإشكال أنّ المجتهد في فحصه عن الدليل على الحكم الواقعي وعدم الظفر بالدليل عليه أو ظفره به وعدم المعارض له يكون نائبا عن العامي بمقتضى فرض النيابة ، ولكن الدعوى لم تثبت بدليل ، ولا بما دلّ على جواز الإفتاء والاستفتاء ، فإن المستفاد مما دلّ على جواز الإفتاء جواز تعيين الكبرى المجعولة في الوقائع بحسب مقتضى الأدلّة القائمة بالكبريات المجعولة فيها ، وأما الشك الموضوع في أدلّة الاصول وخطاباتها فلا يعمّ الشكّ غير المباشري ، وأنّ شكّ المجتهد يحسب شكا من المقلد ويقينه يقينا من المقلد ، فلا يستفاد مما ذكر شيء.

٣٧٨

أو ظاهري ، متعلق به أو بمقلديه ، فإما أن يحصل له القطع به ، أولا ، وعلى الثاني ، لا بد من انتهائه إلى ما استقل به العقل ، من اتباع الظن لو حصل له ، وقد تمت مقدمات الانسداد ـ على تقدير الحكومة ـ وإلّا فالرجوع إلى الأصول العقلية : من البراءة والاشتغال والتخيير ، على تفصيل يأتي في محله إن شاء الله تعالى.

______________________________________________________

الوجه في جواز رجوع العامي إلى المجتهد في موارد الأمارات المعتبرة والاصول العملية

والصحيح في حلّ الإشكال هو أنّ العامي يرجع إلى المجتهد في تعيين الأحكام المجعولة في كلّ من الوقائع التي يبتلي بها لكونه جاهلا بتلك الأحكام المجعولة وكون المجتهد عالما بها سواء كان علم المجتهد بها وجدانيا حاصلا له من ملاحظة مداركها أو علما تعبديا كما إذا كان حاصلا بقيام أمارة معتبرة عنده بحكم الواقعة أو لأصل محرز مفاد خطاب اعتبار كونه عالما بحكم الواقعة كما هو مفاد خطابات الاستصحاب بناء على شمولها لموارد الشبهات الحكمية ، وبما أنّ العامي في جميع هذه الموارد جاهل بالحكم الشرعي المجعول في الواقعة يكون تعيين المجتهد الحكم الشرعي المجعول فيها بنظره المعبر عنه بالفتوى جائزا لفرض علمه بالحكم حتّى فيما كان الحكم المجعول بحيث لا يعمّه ؛ لأنّه من الأحكام المجعولة للنساء مثلا ، وفتواه فيها معتبرة في حق العامي المفروض كونه جاهلا به فتحسب فتواه علما للعامي مطلقا أو بعد أخذه كما هو مقتضى ما دلّ على وجوب رجوع الجاهل بالحكم المجعول إلى العالم به ، مثلا مقتضى خطابات الاستصحاب فيما إذا أحرز المجتهد الحكم المجعول في الواقعة المشكوكة سعته أو ضيقه هو أنه عالم بسعته فيكون رجوع العامي الجاهل إليه من رجوع الجاهل إلى العالم.

مثلا إذا رأت ذات العادة الوقتية والعددية دما أصفر ثلاثة أيّام وانقطع ولم يظهر

٣٧٩

وإنما عممنا متعلق القطع ، لعدم اختصاصه أحكامه بما إذا كان متعلقا بالأحكام الواقعية ، وخصصنا بالفعلي ، لاختصاصها بما إذا كان متعلقا به ـ على ما ستطلع عليه ـ ولذلك عدلنا عما في رسالة شيخنا العلامة ـ أعلى الله مقامه ـ من تثليث الأقسام.

وإن أبيت إلّا عن ذلك ، فالأولى أن يقال : إن المكلف إما أن يحصل له القطع

______________________________________________________

للمجتهد أن الثلاثة أيّام ملحقة بالحيض أو أنّها استحاضة ، وأفتى بكونه حيضا لعلمه بحيضها قبل تلك الأيّام وبقائه فيها ، فمفاد خطابات الاستصحاب علمه بأن ذات العادة إذا رأت الصفرة بعد عادتها وانقطع قبل عشرة أيّام فحيضها مجموع الدم ، وبهذا يعلم الحكم بالحيض على ذات العادة ، ومدرك المرأة الآخذة بفتواه ليس هو الاستصحاب ليقال : بأن الموضوع للاستصحاب لم يحصل للمرأة بل مدركها ما دلّ على اعتبار فتوى المفتي في حقها والاستصحاب مدرك لفتوى المفتي لعلمه بحدوث الحكم في حقها وشكه في بقائه لها ، وبهذا يظهر وجه جواز رجوع العامي إلى المجتهد في الموارد التي يفتي فيها بالحكم الظاهري بالحلية والإباحة ، بمقتضى خطابات أصالة الحلّ أو البراءة ، فإنّ علمه بالحكم الظاهري موضوع لجواز الإفتاء به في الواقعة ، وبما أن العامي جاهل بحكم الواقعة ، ولو بحكمها الظاهري يعتبر في حقه فتواه بها ، فمدرك المجتهد للحلية الظاهرية وفتواه بها خطابات أصالة الحل أو أصالة البراءة ، وأما العامي فمدركه فيها هو ما دلّ على جواز رجوع الجاهل بحكم إلى العالم به ، ولو كان ذلك الحكم حكما ظاهريا ، وبتعبير آخر للمجتهد في موارد أخذه بالاصول العملية التي مفادها أحكام ظاهرية علمان ، علم بأن الواقعة خالية عما اعتبر علما بالتكليف الواقعي حتى بالإضافة إلى العامي ، وعلم بأنّ الحكم الشرعي مع خلو الواقعة عن ذلك حلية الفعل ، وإذا رجع العامي إلى فتوى المجتهد فيها بالحلية

٣٨٠