دروس في مسائل علم الأصول - ج ٣

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-94850-9-1
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٤٥

العاصي له يلزم إناطة استحقاق العقوبة بما هو خارج عن الاختيار ، من مصادفة قطعه الخارجة عن تحت قدرته واختياره ، مع بطلانه وفساده ، إذ للخصم أن يقول بأن استحقاق العاصي دونه ، إنما هو لتحقق سبب الاستحقاق فيه ، وهو مخالفته عن عمد واختيار ، وعدم تحققه فيه لعدم مخالفته أصلا ، ولو بلا اختيار ، بل عدم صدور فعل منه في بعض أفراده بالاختيار ، كما في التجري بارتكاب ما قطع أنه من مصاديق الحرام ، كما إذا قطع مثلا بأن مائعا خمر ، مع أنه لم يكن بالخمر ، فيحتاج إلى إثبات أن المخالفة الاعتقادية سبب كالواقعية الاختيارية ، كما عرفت بما لا مزيد عليه.

ثم لا يذهب عليك : إنه ليس في المعصية الحقيقية إلّا منشأ واحد لاستحقاق العقوبة ، وهو هتك واحد ، فلا وجه لاستحقاق عقابين متداخلين كما توهم ، مع ضرورة أن المعصية الواحدة لا توجب إلّا عقوبة واحدة ، كما لا وجه لتداخلهما على تقدير استحقاقهما ، كما لا يخفى.

ولا منشأ لتوهمه ، إلّا بداهة أنه ليس في معصية واحدة إلّا عقوبة واحدة ، مع الغفلة عن أن وحدة المسبب تكشف بنحو الإنّ عن وحدة السبب.

______________________________________________________

بذلك وإن كان غير صحيح على إطلاقه إلّا أنّه لا يوجب محذورا وخروجا عن مسلك العدلية ، وأمّا إذا كان المراد نفي التمكّن والالتزام بالاقتضاء على نحو العلية فهو ينافي مسلك العدلية نعم لا يندرج ذلك في مذهب الجبر بل يكون شبيها بالجبر بحسب النتيجة كما أوضحنا ذلك في بحث الطلب والإرادة.

٤٠١

الأمر الثالث : إنه قد عرفت أن القطع بالتكليف أخطأ أو أصاب ، يوجب عقلا استحقاق المدح والثواب ، أو الذم والعقاب ، من دون أن يؤخذ شرعا في خطاب ، وقد يؤخذ في موضوع حكم آخر يخالف متعلّقه [١].

______________________________________________________

في أقسام القطع

[١] وحاصله أنّ القطع بالتكليف قد يكون موضوعا لحكم آخر يخالف ذلك الحكم الذي تعلق به القطع ولا يكون مماثلا ولا مضادّا له ، والمراد بالتخالف في الحكمين عدم اتحادهما في المتعلق ، كما في قوله : إذا قطعت بوجوب شيء يجب عليك التصدق بدرهم فإنّ التصدق بدرهم فعل آخر غير الفعل الذي تعلّق به الحكم المقطوع ، كما أنّ المراد بالحكمين المتماثلين أو المضادّين كون فعل متعلقا لحكمين من نوع أو نوعين وبما أنّ القطع من الصفات الحقيقية ذات الإضافة ، ولذا يكون العلم نورا لنفسه ونورا لغيره صحّ أن يؤخذ القطع بحكم موضوعا لحكم آخر بما هي صفة خاصة وحالة مخصوصة بالغمض عن جهة كشفه عن متعلقه ، ومن غير أن تؤخذ مع تلك الصفة خصوصية اخرى ، كما يصحّ أن يلاحظ معها خصوصية اخرى كحصول متعلّقه خارجا ، فيكون على الأول : تمام الموضوع بما هي صفة خاصة ، وعلى الثاني جزء الموضوع بما هي صفة خاصة ، كما يصحّ أن يؤخذ في موضوع حكم آخر بما هو كاشف عن متعلقه وحاك عنه بنحو يكون تمام الموضوع أو جزئه ، فتكون أقسام القطع الموضوعي أربعة مضافا إلى ما تقدم من القطع الطريقي المحض.

أقول : كما أنّ القطع بحكم يكون موضوعا لحكم آخر كذلك يمكن كون القطع بصفة موضوعا لحكم كما إذا جعل القطع بخمرية مائع موضوعا للحكم بنجاسته أو حرمة شربه وفي هذا الفرض أيضا يمكن أخذه بما هو صفة خاصة وحالة مخصوصة تمام الموضوع للحكم بالنجاسة والحرمة وأخرى مع ثبوت متعلقه وصفا أو طريقا.

٤٠٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وما ذكره قدس‌سره من كون القطع من الصفات الحقيقية ذات الإضافة ظاهر ، فإنّه ليس من الانتزاعيات التي لا يكون لها في الخارج إلّا منشأ الانتزاع ، ولا من الامور الاعتبارية كالوكالة مما يكون بالجعل والإنشاء ، فإن العلم كالقدرة أمر خارجي قائم بالنفس ، ولذلك الموجود اضافة ، إضافة إلى المعلوم بالعرض كإضافة القدرة إلى المقدور ، ولكن قوله قدس‌سره : أخذ القطع بنحو الصفتية للقاطع أو المقطوع موضوعا لحكم آخر لا يمكن المساعدة عليه ، فإن وصف المتعلق بالقطع عبارة عن انكشافه بحيث يكون منكشفا وهذا عبارة اخرى عن أخذ القطع في موضوع حكم آخر طريقا لا وصفا ، وعلى الجملة القطع إذا كان موضوعا لحكم آخر بما هو صفة خاصة وحالة مخصوصة يمكن أن يكون تمام الموضوع للحكم الآخر ، كما يمكن كونه جزءا والجزء الآخر تحقق متعلقه ، إلّا أنّه في الأول يكون تمام الموضوع وصفيته ، وفي الثاني : أنّه بوصفيته مع ثبوت متعلقه موضوع للحكم الآخر ، بخلاف ما إذا جعل وصفا لمتعلقه فإنّه لا معنى لكونه وصفا لمتعلقه إلّا انكشافه ، وبأن لا يكون مجرّد ثبوت المتعلق واقعا موضوعا للحكم الآخر ، فجعل القطع تمام الموضوع لحكم آخر طريقا أمر غير معقول ، فإنّ جعله طريقا معناه فرض ثبوت متعلقه وواقعيته ، وجعله تمام الموضوع عدم العبرة بثبوته ، وتحقق الكشف من دون المنكشف فرض متهافت.

في أخذ القطع بالتكليف موضوعا لحكم آخر

وقد يوجّه جعل القطع طريقا تمام الموضوع لحكم آخر ، بأن القطع كسائر الصفات القائمة بالنفس مما لها إضافة إلى الصور الحاكية عن الخارج لا يلتفت حين وجوده إلى ذهنيته وعروضه إلى الصورة الحاكية عن الخارج بحيث إن الخارج ظرف

٤٠٣

لا يماثله ولا يضاده ، كما إذا ورد مثلا في الخطاب أنه (إذا قطعت بوجوب شيء يجب عليك التصدق بكذا) تارة بنحو يكون تمام الموضوع ، بأن يكون القطع بالوجوب مطلقا ولو أخطأ موجبا لذلك ، وأخرى بنحو يكون جزؤه

______________________________________________________

للاتصاف ، وإن ظرف عروضه هو الذهن ، وبتعبير آخر لا يلتفت عند حصول القطع بشيء إلى التفكيك المزبور ، ولكن يلتفت بأنّ الخارج متعلقه لا نفس القطع وأنّ الخارج منكشف به ، كما أنّ عند تصور مفهوم القطع يمكن تفكيكه عن متعلقه حتّى مع لحاظ جهة عروضه على الصورة الحاكية عن الخارج ، فلحاظ المولى بأنّه عند القطع يحكم بصورة حاكية عن الخارج يضاف إليه القطع كاف في جعله بتلك الصورة الحاكية تمام الموضوع لحكم آخر من غير لحاظ الوجود الخارجي لذي الصورة ، ولو كانت الغفلة عن إضافته إلى تلك الصورة الحاكية بحيث يرى مبرزيته أي الواقع به فقط لما أمكن جعله طريقا بنحو جزء الموضوع أيضا ، حيث إن نفسه بهذا اللحاظ مغفول عنه.

أقول : لحاظ المولى ما هو قطع بشيء بالحمل الشائع وجعله وصفا للقاطع موضوعا لحكم آخر بنحو تمام الموضوع أو جزئه لا يستلزم محذورا ، ولكن جعل ما هو قطع بشيء موضوعا لحكم آخر بنحو الطريقية لازمه ثبوت ذي الطريق وإلّا لا يكون طريقا ، بل يكون جزما باطلا ، نعم لو جعل القطع ـ بما أنّه طريق بنظر القاطع ـ موضوعا لحكم أمكن تخلّفه عن الواقع وأمكن جعله كذلك تمام الموضوع ، حيث إن القطع بنظر القاطع طريق حيث لا يحتمل عدم مصادفته للواقع ، وهذا يجري في ناحية العلم أيضا ، فإنّ العلم وإن لا يتخلّف عن المعلوم بالعرض والّا لم يكن علما الّا أنّ ما هو علم بنظر القاطع يمكن ان لا يكون له معلوم خارجا ويمكن جعله بما أنّه بنظر القاطع طريقا تمام الموضوع كما يشبه ذلك ما ورد في خطابات بعض الاصول العملية جعله غاية للحكم الظاهري نظير قوله : «كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه

٤٠٤

وقيده ، بأن يكون القطع به في خصوص ما أصاب موجبا له ، وفي كل منهما يؤخذ طورا بما هو كاشف وحاك عن متعلقه ، وآخر بما هو صفة خاصة للقاطع أو

______________________________________________________

حرام» (١) أو «كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر» (٢) فان العلم فيهما وإن لم يكونا بموضوعين لعدم دخالتهما في ثبوت الحرمة الواقعية والقذارة الواقعية ، وأنّه مع العلم صادف الواقع أو لم يصادف يرتفع الموضوع للحكم الظاهري ، وهو الشك في الحرمة والقذارة الواقعيتين ، إلّا أن ذكرهما في مثل الخطابين باللحاظ الذي ذكرنا يدلّ على إمكان جعل حكم آخر له كما لا يخفى.

في القطع المأخوذ موضوعا بنحوي الطريقية والوصفية

وقد استشكل المحقق الاصبهاني قدس‌سره في جعل القطع بشيء أو حكم موضوعا لحكم آخر وصفا تارة وطريقا اخرى ، بأن لحاظ وصفية القطع بما هو قطع لا ينفك عن لحاظ طريقيته بما هو قطع ؛ لأنّه لا اختلاف في اللحاظين ، بل أحدهما عين الآخر لوحدة الملحوظ ، وذلك فإنّ القطع ذاته كشف تام وافتراقه عن الظن بكون الكاشفية في القطع تامة بحيث لا يبقى بين النفس وواقع الشيء حجاب ، بخلاف الظن فإنّه ليس بكشف تام وإن كانت كاشفيته بنحو التصديق كالقطع بخلاف الكشف في الشك والترديد فإنّه بنحو التصور ، وعلى ذلك فلا بد في لحاظ القطع بشيء بنحو الوصفية لحاظ الكشف التام ذاتا فإنّ ذات الشيء لا تلغى عند لحاظه ، مثلا عند لحاظ الإنسان لا تلغى إنسانيته ، وما في كلام الماتن من كون العلم نورا بنفسه منيرا لغيره لا يفيد في التفكيك في اللحاظ ، فإنّ نوريته بنفسه عين منيريته لغيره ، حيث إن النورية

__________________

(١) الكافي ٥ : ٣١٣.

(٢) مستدرك الوسائل ٢ : ٥٨٣. عن الصدوق في المقنع.

٤٠٥

المقطوع به ، وذلك لان القطع لما كان من الصفات الحقيقية ذات الإضافة ـ ولذا كان العلم نورا لنفسه ونورا لغيره ـ صح أن يؤخذ فيه بما هو صفة خاصة وحالة مخصوصة ، بإلغاء جهة كشفه ، أو اعتبار خصوصية أخرى فيه معها ، كما صح أن يؤخذ بما هو كاشف عن متعلقه وحاك عنه ، فتكون أقسامه أربعة ، مضافا إلى

______________________________________________________

بنفسها عبارة عن أنّه عين النور ولا يحتاج في حضورها للنفس إلى حضور آخر ، ولكن هذا النور عين حضور الغير ، ودعوى أنّ المولى عند جعل القطع بشيء موضوعا للحكم بنحو الطريقية يلاحظ مطلق الكشف ، وفي مورد جعله موضوعا بنحو الوصفية يلاحظ الكشف التام ذاتا لا يمكن المساعدة عليها ، فإن لازم أخذ مطلق الكشف شمول الموضوع للظن أيضا ، وإن قيل تقييده بالاعتبار ، فمع أنّ الاعتبار حكم وظاهر التقسيم بلحاظ نفس العلم أنّ لازم ذلك أن يكون خطاب اعتبار الأمارة موجبا لورودها على الاصول ، مع أنّ الشيخ ملتزم بحكومتها عليها.

أقول : القطع بشيء عبارة عن جزم النفس وترجيحه أحد طرفي الشيء بحيث لا يحتمل خلافه ، ويقابله تردّد النفس في أحد طرفيه أو ترجيحه مع احتماله الخلاف المعبر عن ذلك بالظن والجزم كما ذكر لا يكون طريقا إلى الواقع بالحمل الشائع ، فإن الواقع قد يكون على خلافه ، وإذا كان الجزم كذلك فكيف يكون القطع ذات الطريق دائما ، وعليه فللمولى أن يجعل الجزم بشيء إذا انطبق عليه الطريق إلى الواقع بالحمل الشائع موضوعا لحكم آخر ، فقد ذكرنا أن القطع في هذه الصورة جزء الموضوع لا محالة ، والجزء الآخر ثبوت المقطوع وواقعيته ، ويمكن أن ينظر إلى نفس الجزم وكونه حالة للنفس في مقابل الشك والظن موضوعا من غير نظر إلى واقعية المجزوم به وعدمه ، فيكون القطع تمام الموضوع بنحو الوصفية ، وثالثة يلاحظ ذلك مع الثبوت والواقعية للمجزوم به فيكون جزء الموضوع بنحو الوصفية ، والمراد من

٤٠٦

ما هو طريق محض عقلا غير مأخوذ في الموضوع شرعا.

ثم لا ريب في قيام الطرق والأمارات المعتبرة ـ بدليل حجيّتها واعتبارها ـ مقام هذا القسم [١].

______________________________________________________

قولنا القطع طريق ذاتا ، أن طريقيته لا تحصل بجعل آخر ولا يكون في البين وراء موجب جزم النفس بشيء أمر آخر يوجب طريقيته عند ما أصاب الواقع ، بخلاف الظن فإنّه أيضا حالة للنفس ولكن الطريقية فيه حتّى فيما أصاب الواقع ليست بحيث يوجب تنجز الواقع بلا جعل واعتبار.

قيام الأمارة بدليل اعتبارها مقام القطع المأخوذ في الموضوع طريقا

[١] وحاصله أنّ مدلول دليل اعتبار الأمارة أن يثبت لها الأثر المترتب على القطع عقلا فتكون منجزة للواقع عند إصابتها وعذرا عند خطئها دون الأثر الشرعي الذي قد يثبت للقطع بالتكليف شرعا كوجوب التصدق في المثال المتقدم ، فلا تقوم الأمارة ـ بدليل اعتبارها ـ مقام القطع المأخوذ في موضوع تكليف آخر سواء كان أخذه فيه بنحو الوصفية أو الطريقية ، نعم إذا قام في مورد دليل على أنّ الأمارة الفلانية بمنزلة القطع في أثره الشرعي المجعول له قامت تلك الأمارة مقامه في ذلك الأثر ، وهذا غير الخطاب الدالّ على اعتبار الأمارة ، والوجه في ذلك فإن ثبوت ما للقطع عقلا للأمارة يحتاج إلى تنزيل مؤدى الأمارة منزلة المقطوع بأن يكون نظر المعتبر إلى الأمارة والقطع آليا ، وينظر من القطع إلى متعلقه ومن الأمارة إلى مؤدّاها وثبوت ما للقطع شرعا للأمارة يحتاج إلى تنزيل نفس الأمارة منزلة نفس القطع بأن يكون نظره الاستقلالي إلى نفس الأمارة والقطع والجمع بين اللحاظين في شيء في آن غير ممكن ، وليس في البين ما يجمع بين نحوي اللحاظ في الشيء ليكون دليل اعتبار الأمارة دالّا على تنزيل ذلك المعنى الجامع ليعمّ مدلوله لكلا التنزيلين ، فيكون

٤٠٧

.................................................................................................

______________________________________________________

مدلول دليل الاعتبار تنزيل واحد وهو التنزيل باللحاظ الآلي لانصرافه إليه دون اللحاظ الاستقلالي فإن دلالته عليه يحتاج إلى نصب قرينة تمنع عن الانصراف إلى التنزيل الآلي.

ثمّ ذكر قدس‌سره في آخر كلامه أنّه لو لا جهة امتناع الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي في استعمال واحد أو أغمض عنه لأمكن القول بأنّ مدلول دليل اعتبار الأمارة يوجب قيامها مقام القطع الموضوعي حتّى فيما كان القطع بنحو الوصف موضوعا لحكم آخر ، بدعوى أنّ مدلول دليل الاعتبار هو إلغاء احتمال الخلاف في مورد قيام تلك الأمارة فتكون الأمارة قطعا يثبت لها ما يثبت للقطع بالشيء ولو مع أخذ القطع بنحو الوصفية.

أقول : كما أنّ الأثر المجعول شرعا للقطع بالتكليف أثر لنفس القطع به ، كذلك المنجزية والمعذرية أثر لنفسه غاية الأمر بعنوان أن القطع به وصول الواقع لا بما هو صفة خاصة وحالة مخصوصة ، فلا حاجة في اعتبار أمارة قائمة بالتكليف أن ينزل الحاكم مؤدّاها منزلة المقطوع ، ليقال : إنّ النظر في هذا التنزيل إلى الأمارة والقطع آلي ، فلا يمكن معه التنزيل بلحاظ الأثر الجعلي الشرعي لاستلزامه الجمع بين اللحاظين الآلي والاستقلالي ، حيث إن المعتبر ينزّل الأمارة القائمة بالتكليف منزلة العلم به وإنّما يكون العالم بالشيء نظره إلى علمه آليا لا الحاكم على ذلك العلم سواء كان الحاكم به عقلا كما في القطع بالتكليف بالإضافة إلى متعلقه من منجزيته له ، أو شرعا كما في القطع به بالإضافة إلى حكم آخر فيثبت للأمارة القائمة بالتكليف كلا الأثرين.

وليعلم أيضا أنّ المراد بالتنزيل ليس جعل الأثر الثابت للمنزل عليه للمنزّل ليرجع حاصل هذا التنزيل إلى جعل المنجزية والمعذرية للأمارة القائمة بالتكليف ،

٤٠٨

.................................................................................................

______________________________________________________

فإن التنزيل بجعل الأثر إنّما يكون في الموارد التي لم يكن المنزل عليه قابلا للجعل والاعتبار ، وأما في موارد قابليته للجعل والاعتبار يعتبر المنزل نفس المنزل عليه ومن أفراده كما في المقام ، فإنّ العلم في نفسه قابل لأنّ يعتبر الشيء كخبر الثقة بأمر علما به.

فيترتب على خبر الثقة بالتكليف ما للعلم به من التنجيز والأثر الشرعي ، ولو لا انصراف الاعتبار إلى اعتباره علما بما هو طريق لأمكن دعوى أنّه علم بالتكليف حتّى بالإضافة إلى الأثر الشرعي المجعول له بما هو صفة وحالة مخصوصة لإمكان أن يعتبر خبر الثقة بتكليف علما به من حيث وصفية العلم وطريقيته.

في الإيراد على ما ذكره الماتن قدس‌سره

وقد يورد على كلّ مما ذكر الماتن في المقام من أن مقتضى دليل اعتبار الأمارة تنزيل مؤدّاها منزلة الواقع ، وما ذكره في بحث اعتبار الأمارة من أنّ الاعتبار يكون بجعل المنجزية والمعذرية لها.

أما الايراد على ما ذكره في المقام ، فيقال : لو كان مقتضى دليل الاعتبار تنزيل المؤدّى فبما أنّ المؤدّى في نفسه قابل للجعل فيكون تنزيله بجعله كالحكم الواقعي ، وهذا يوجب التصويب ؛ لأنّ الحكم الواقعي حكم نفسي على تقدير ثبوته واقعا ، وأما ما ذكر في باب اعتبار الأمارة فلأنّ جعل المنجزية والمعذرية لها يوجب التخصيص في حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، ويصعب الالتزام بتقديم الأمارة على الاستصحاب ، فإن الاستصحاب أيضا كالأمارة منجز فلا وجه لتقديم منجز على منجز آخر مع كون كلّ منهما منجز عند الشك في الواقع.

أقول : الإيرادان غير واردين على كلام الماتن في المقامين ، والوجه في ذلك أنّه

٤٠٩

.................................................................................................

______________________________________________________

ليس مراده من التنزيل جعل المؤدى بحيث يكون المؤدى حكما نفسيا في مقابل الواقع سواء أصابت الأمارة الواقع أم لا ، بل المراد دعوى أنّ مدلول الأمارة هو الحكم الواقعي وأن العمل بها عمل بالتكليف الواقعي ، بحيث لو كان مدلولها مطابقا للحكم الواقعي وترك المكلف العمل بها يكون مؤاخذا بمخالفة التكليف الواقعي ، وإن كان مخالفا لها يكون العمل بها عذرا كما هو الحال فيما قطع به من التكليف ، وإلّا فليست الأمارة القائمة بالتكليف الواقعي موجبة لتغير ملاك الفعل.

وبتعبير آخر ليس في كلامه قدس‌سره دلالة على جعل مؤدى الأمارة التي يكون جعله حكما طريقيا فضلا عن دلالته على كونه هو الحكم النفسي التابع لملاك حاصل في متعلّقه ليكون حكما نفسيا. وأمّا ما ذكر في الإيراد من أنّ الأمارة على تقدير كون اعتبارها بمعنى جعل المنجزية والمعذرية يكون اعتبارها تخصيصا في حكم العقل فغير صحيح ، فإنّ المراد بالبيان في قاعدة قبح العقاب بلا بيان ليس هو العلم ، بل المراد ما يصحّ عقلا احتجاج المولى به في مؤاخذته العبد على مخالفته التكليف من إيجابه الاحتياط أو أمره بالعمل بالأمارة الفلانية أو تنزيل مدلولها منزلة الواقع بدعوى أنّ العمل بها عمل بالواقع ليكون المكلف مؤاخذا بالواقع عند إصابتها الواقع وعذرا عند خطئها ، ومرجع ذلك إلى جعل المنجزية والمعذرية لها ، ومع ثبوت شيء من ذلك لا يكون في المورد موضوع لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

ومما ذكر يظهر أنّه لو تمّ ما ذكره من تنزيل المؤدّى منزلة الواقع لما كان تأمل في تقديم الأمارة القائمة ، لعدم بقاء الحالة السابقة على خطابات الاستصحاب فإن الاستصحاب يجري مع الشك في بقاء الحالة السابقة ومع حكم الشارع بأنّ مدلول الأمارة هو الواقع فعلا يحرز انتقاض الحالة السابقة ، كما أنّه مع الأمارة الموافقة يحرز

٤١٠

.................................................................................................

______________________________________________________

بقاؤها فلا شك في البقاء والارتفاع ليجري الاستصحاب.

وعلى الجملة فالصحيح في الإيراد على الماتن ، هو أنّه لو لم يكن اعتبار الأمارة باعتبارها علما بالواقع لزم الالتزام بالتخصيص في مثل قوله سبحانه (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(١) و (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)(٢) سواء التزم بأنّ اعتبارها بمعنى جعل المنجزية أو المعذرية لها أو بايجاب العمل بها طريقا مع أنّ مثلهما آب عن التخصيص.

لا يقال : اعتبار الأمارة علما لا يكفي في قيامها مقام القطع المأخوذ طريقا في موضوع حكم آخر ، بل لا بد من جعل ذلك الحكم الآخر للأمارة القائمة بالتكليف ثانيا ، وذلك فإنّه باعتبارها علما يثبت لها الأثر المترتب على القطع بالتكليف عقلا ، حيث إنّه باعتبارها علما تكون الأمارة القائمة بالتكليف وصولا لذلك التكليف فيحكم العقل بمنجزيتها ومعذريتها ، وأما الأثر الشرعي فليس زمامه إلّا بيد الشارع فلا يسري ذلك الأثر الشرعي المجعول للقطع بالأمارة ثانيا ، قهرا ، بل لا بد من جعله لتلك الأمارة أيضا ، ولا يمكن استفادة هذا الجعل من مجرّد خطاب الاعتبار وتنزيلها منزلة العلم.

فإنّه يقال : ما دلّ على ثبوت الحكم الآخر على العلم بالتكليف في موارد جعل القطع به موضوعا للحكم الآخر مفاده القضية الحقيقية ، بمعنى أنّه لو حصل العلم في مورد بذلك التكليف بحيث لو حصل أمر انطبق عليه عنوان القطع به ، يترتب عليه

__________________

(١) سورة الإسراء : الآية ٣٦.

(٢) سورة يونس : الآية ٣٦.

٤١١

.................................................................................................

______________________________________________________

ذلك الحكم الآخر ، وإذا كان مفاد اعتباره أمارة قائمة بذلك أنّها علم بها يترتب عليها أيضا الحكم الآخر ولا يحتاج ترتبه عليه إلى أمر آخر غير ذلك الاعتبار.

ثم لا يخفى كما أن القطع بالتكليف لامكان عدم إصابته الواقع يختصّ تنجيزه بصورة إصابته ، ولكن حيث إنّه لا يحتمل القاطع خطأ قطعه يترتب عليه الحكم الآخر ، وإن كان ترتبه عليه على تقدير إصابة قطعه الواقع على ما هو مقتضى أخذ القطع بالتكليف موضوعا لحكم آخر بنحو الطريقية ، كذلك الحال في اعتبار الأمارة القائمة بالتكليف حيث إن منجزيتها أيضا عند إصابتها الواقع ، غير أنّ من قامت عنده الأمارة بالتكليف يحتمل عدم إصابتها الواقع ، إلّا أنّ مقتضى تنزيلها منزلة العلم بالتكليف ترتب ذلك الحكم الآخر عليها أيضا ولو كان بنحو الحكم الظاهري ، وما دامت الأمارة قائمة. وإذا ظهر بعد ذلك الخلاف يعلم عدم ترتب شيء على تلك الأمارة لا المنجزية ولا الحكم الآخر كما هو الحال في انكشاف الخلاف في القطع بالتكليف أيضا ، غاية الأمر عند انكشاف الخلاف في القطع لم يكن حكم ظاهري أيضا بخلاف الانكشاف في الأمارة ، وعلى الجملة في موارد كون القطع بالتكليف موضوعا لحكم آخر بنحو الطريقية يكون اعتبار الأمارة من قبيل الحكم الظاهري فتكون حكومتها على الحكم الآخر الثابت للقطع بالتكليف ظاهرية وتكون حكومتها الواقعية تابعة لمصادفتها للواقع.

تقرير كلام النائيني قدس‌سره

ذكر المحقق النائيني في المقام أنّ القطع بشيء ومنه القطع بالتكليف يكون فيه جهات ثلاث :

٤١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

الاولى : كونه وصفا يحصل للنفس بإيجادها صفة في صقعها الداخلي ، ويعبر عن تلك الصورة بالمعلوم بالذات.

والثانية : انطباقها بنظره على ذو الصورة بحيث يكون ذو الصورة منكشفا بتلك الصورة ، وهذه الجهة مترتبة على الجهة الاولى ؛ لأنّ إحراز الواقع وانكشافه للنفس يكون بتلك الصورة.

الثالثة : البناء والجري العملي على وفق العلم حيث إنّ العلم بوجود الأسد في الطريق يقتضي الفرار عنه ، وبوجود الماء يوجب التوجّه إليه إذا كان عطشانا ولذا سمّى العلم اعتقادا ، حيث إنّ العالم بشيء يعقد القلب على وفق المعتقد والعمل على وفقه ، وهذه الجهات المترتبة مجتمعة في العلم بالشيء وتكون من لوازم ذات العلم ، حيث إن حصول الصورة للنفس حقيقة العلم ومحرزيته وجداني والبناء والجري العملي عليه قهري ، والمجعول في باب الأمارات هي الجهة الثانية ، حيث إن المجعول فيها نفس محرزيتها وطريقيتها إلى الواقع ، حيث إن الأمارة تكون كاشفة عن الواقع بكشف ناقص والمجعول الشرعي فيها إمضاء أو تأسيسا تمامية كشفها واعتبارها علما بالإضافة إلى الواقع ، ولذا يعتبر في كون شيء أمارة أن يكون لها كشف في حدّ نفسها والشارع في مقام التشريع يتمّم جهة كشفها من غير أن يتصرف في الواقع أو يجعل مؤدّاها ، وأما المجعول في الاصول المحرزة يكون مفاد خطاباتها اعتبار المكلف عالما من حيث الجرى العملي من دون أن يكون هناك جهة كشف وطريقية ، بالإضافة إلى أحد طرفي الشيء كما هو فرض الشك فيه موضوعا لتلك الاصول فلا يكون المجعول فيها الطريقية بل المجعول فيها العلم فيما يقتضيه قهرا ، ولذلك تكون الأمارة بدليل اعتبارها مقدمة على تلك الاصول وحاكمة على

٤١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

اعتبارها.

وقد ظهر مما ذكر أنّ حكومة الاصول والأمارات على الأحكام الواقعية ليست حكومة واقعية من حيث التضييق أو التوسعة فيها ، نظير قوله عليه‌السلام لا سهو لمن كثر عليه السهو (١) ، وقوله : الطواف بالبيت صلاة (٢) إلى غير ذلك ، بل الحكومة فيها بالإضافة إلى الأحكام الواقعية ظاهرية فإن أصاب الواقع فالواقع هو الواقع ، وإن لم يصبه فليس هناك توسعة وضيق من جعل المؤدّى أو غيره ، بل يكون اعتبار العلم من الحكم الظاهري المقتضي كونه عذرا لدى عدم الإصابة.

كلام الشيخ العراقي في الإشكال على المحقق النائيني

وقد أورد الشيخ العراقي قدس‌سره على ما ذكره من أنّ اعتبار الأمارة علما أو كون المكلف عالما إن اريد منه كون الأمارة علما حقيقة أو كون المكلف عالما كذلك ، بحيث ينطبق عليها العلم وعليه العالم حقيقة وبلا عناية ففساده أوضح من أن يخفى ، وإن اريد العلم ادعاء وبالعناية كجعل الحياة أو الممات لمن لا يعلم حياته ومماته فهذا أمر صحيح ، ومن الظاهر أن الأمر في جعل العلم يدور بين الأمر من الصيرورة بحيث ينطبق عليه العلم حقيقة ، أو يكون بالادعاء والعناية ، وإذا كان المراد الأمر الثاني الذي قلنا بصحته فلا بد من ادعاء شيء لشيء النظر إلى جهة اخرى مصحح للادعاء والعناية ، فإن كان النظر في تنزيل من قامت عنده الأمارة النظر إلى أثر العالمية من طلب إكرامه ، فلا يترتب عليه غير هذه الجهة ، وإن كان النظر إلى لزوم

__________________

(١) وسائل الشيعة ٨ : ٢٢٧ ، الباب ١٦ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.

(٢) مستدرك الوسائل ٩ : ٣٨.

٤١٤

كما لا ريب في عدم قيامها بمجرد ذلك الدليل مقام ما أخذ في الموضوع على نحو الصفتية من تلك الأقسام ، بل لا بد من دليل آخر على التنزيل ، فإن قضية الحجية والاعتبار ترتيب ما للقطع بما هو حجة من الآثار ، لا له بما هو صفة وموضوع ، ضرورة أنه كذلك يكون كسائر الموضوعات والصفات.

______________________________________________________

عمله على الأمارة فتشترك الأمارة مع الاصول في جهة المعاملة والعمل ، فالأمر بالعمل مشترك بينهما ، غاية الأمر يستفاد الأمر بالعمل في الاصول بدوا وفي الأمارة من جعل الإحراز بدوا بإنشائه أو إحرازه فإنّ من الظاهر أنّ مجرد تنزيل الأمارة على العلم وإنشاء الإحراز لها لا يقتضي شيئا ما لم يأمر الشارع بالعمل على طبقه ، فالمستكشف من إنشاء الإحراز والتنزيل الأمر بالمعاملة ، فالموجب لقيام الأمارة مقام العلم الأمر بالمعاملة ، وحيث إن المقصود من الأمر بالمعاملة ، في الاصول والأمارة إبراز فعلية الإرادة الواقعية ولا ينحصر هذا الإبراز بهما بل يجري في مثل إيجاب الاحتياط أيضا الذي لا عناية فيه أصلا ، فمبرزية خطابات اعتبار الأمارة والاصول والأمر بالاحتياط يكون بهذا المعنى لا تتميم الكشف أو التعبد بالمؤدى كما هو مفاد الخطاب ، وعلى الجملة فالموجب للعمل في هذه الموارد إبراز الإرادة الواقعية.

وذكر قدس‌سره أيضا في الفرق بين الأمارة والاصول أن الواقع في موارد الأمارة محرز بالعناية والادعاء ، وفي الاصول الواقع التعبدي محرز بالوجدان ، ولا نفهم بين الأمارة والاصول فرقا آخر ، وقال من أسّس أساس الحكومة والورود كلماته مشحونة بأنّ مرجع الورود اقتضاء الجعل لتضييق دائرة دليل الإحراز وتوسعته حقيقة ، ومرجع الحكومة إلى تضييق دائرته عناية وبنحو الادعاء بحيث يرجع لبّا إلى التخصيص كما أنّ الأول يرجع إلى التخصص وإن كان بين الورود والتخصص فرق ، وإذا فرض في

٤١٥

ومنه قد انقدح عدم قيامها بذاك الدليل مقام ما أخذ في الموضوع على نحو الكشف ، فإن القطع المأخوذ بهذا النحو في الموضوع شرعا ، كسائر ما لها دخل في الموضوعات أيضا ، فلا يقوم مقامه شيء بمجرد حجيته ، وقيام دليل على اعتباره ، ما لم يقم دليل على تنزيله ، ودخله في الموضوع كدخله ، وتوهم كفاية دليل الاعتبار الدال على إلغاء احتمال خلافه وجعله بمنزلة القطع ، من جهة كونه موضوعا ومن جهة كونه طريقا فيقوم مقامه طريقا كان أو موضوعا ، فاسد جدا.

______________________________________________________

الطرق أنّها لا تكون توسعة في طريق الواقع بلا حكم ظاهري ولا تصرف في الواقع ولو بالعناية فمن أين لمثل هذا الجعل حكومة على الواقع ولو ظاهرا؟ وتسمية التوسعة في الطريق محضا بالحكومة الظاهرية بالنسبة إلى الأحكام الواقعية اصطلاح جديد ما سمعناه من آبائنا الأولين ، نعم الحكومة الظاهرية صحيحة في الأمارة بالإضافة إلى مفاد الاصول الذي ليس فيها توسعة إحراز بجعل الإحراز ، وإنّما المجعول فيها الأمر بالمعاملة مع أحد الاحتمالين معاملة الواقع فإنّ في اعتبار الأمارة تضييقا واقعيا لمفاد خطاب الأصل بنحو لسان نفي موضوع الأصل.

كلام الشيخ العراقي قدس‌سره والجواب عنه

أقول : اعتبار الأمارة علما ليس بحيث ينطبق عليها عنوان العلم والكشف التام تكوينا ووجدانا كما أنّه ليس بمعنى تنزيلها منزلة العلم بلحاظ جعل الأثر والأمر بوجوب العمل بها ، بل جعل ما في الأمارة من الكشف الناقص وجدانا كشفا تاما اعتبارا ، حيث إن للعلم وجودا حقيقيا ووجودا اعتباريا كما ذكر ذلك في الطلب الحقيقي والاعتباري والملكية الحقيقية والاعتبارية ، ومن المعلوم أنّ الجعل والاعتبار لا بد من أن يكون بحيث لا يكون لغوا ، وفي اعتبار الأمارة علما في جهة طريقية العلم ، يكفي سريان ما للعلم عقلا من كونه وصولا للتكليف الواقعي من تنجز

٤١٦

فإن الدليل الدال على إلغاء الاحتمال ، لا يكاد يكفي إلّا بأحد التنزيلين ، حيث لا بد في كل تنزيل منهما من لحاظ المنزّل والمنزّل عليه ، ولحاظهما في أحدهما آليّ ، وفي الآخر استقلالي ، بداهة أن النظر في حجيته وتنزيله منزلة القطع في طريقيته في الحقيقة إلى الواقع ومؤدى الطريق ، وفي كونه بمنزلته في دخله في الموضوع إلى أنفسهما ، ولا يكاد يمكن الجمع بينهما.

______________________________________________________

ذلك التكليف الواقعي إذا أصابت الأمارة الواقع ، بل وترتب ما للعلم بالتكليف بما هو طريق من وجوب التصدق ، وقد تقدم أن اعتبار الشارع الأمارة علما بالواقع من قسم الحكم الظاهري ، فعلى المكلف رعاية التكليف الواقعي والأثر الشرعي المترتب على العلم بالواقع ، فمع إصابتها الواقع ليس وراء ما في الواقع أمرا آخر من جعل المؤدى أو جعل المنجزية والمعذرية ، ومع عدم إصابتها يكون اعتبارها علما مجرد حكم ظاهري من غير توسعة وتضيق بالإضافة إلى الواقع ، وأما في موارد الاصول المحرزة فمقتضى دليل اعتبارها كون المكلّف عالما بالواقع ولكن ليس في هذا الاعتبار تتميم كشف وإنما يعتبر الشاك في الواقع عالما فيترتب عليه ما للعلم من الجري العملي عليه لأنّ اعتبار المكلّف عالما إما في مقام الامتثال كما في مثل قاعدتي الفراغ والتجاوز ، وإما في مقام عدم الطريق الوجداني التام إلى الحكم الواقعي وعدم قيام طريق كاشف اعتباري كذلك إلى ذلك الواقع بحيث تكون تمامية كاشفيته بالاعتبار على قرار ما تقدم كما يترتب على ذلك عدم المجال للأصل المحرز مع الأمارة القائمة بالواقع ، فإنّه مع قيامها وشمول دليل الاعتبار لها لا شك للمكلّف ليكون معهما موضوع لاعتبار الأصل ، وليس مفاد دليل اعتبار الأصل الأمر بالجري العملي المقصود منه إبراز فعلية الإرادة ، كما أنّه ليس المقصود من اعتبار الأمارة علما أن يأمر الشارع بالجري العملي ويبرز فعلية الإرادة ، فإنّ تعلق إرادة

٤١٧

نعم لو كان في البين ما بمفهومه جامع بينهما ، يمكن أن يكون دليلا على التنزيلين ، والمفروض أنه ليس ، فلا يكون دليلا على التنزيل إلّا بذاك اللحاظ الآليّ ، فيكون حجة موجبة لتنجز متعلقه ، وصحة العقوبة على مخالفته في صورتي إصابته وخطئه بناء على استحقاق المتجري ، أو بذلك اللحاظ الآخر الاستقلالي ، فيكون مثله في دخله في الموضوع ، وترتيب ما له عليه من الحكم الشرعي.

لا يقال : على هذا لا يكون دليلا على أحد التنزيلين ، ما لم يكن هناك قرينة في البين.

______________________________________________________

المولى بفعل العبد أمر لا أساس له ، كما تقدم في بيان جعل الأحكام وإنشائها وبيان الفرق بين ذلك المقام ومقام فعليتها.

وعلى الجملة الوجه في تقديم الأمارة على الاصول المحرزة أن الشك في الواقع غير مأخوذ في دليل اعتبار الأمارة ، بل بما أنّ العالم بالواقع وجدانا اعتبار الطريق له إلى الواقع غير معقول فيقيد دليل اعتبارها بعدم العلم بالواقع وجدانا وتكون الأمارة القائمة مع عدم العلم بالواقع معتبرة وباعتبارها يرتفع الموضوع في اعتبار الأصل المثبت ، فإن الموضوع لاعتبار الاستصحاب مثلا كون المكلف من ثبوت شيء على يقين ومن بقائه على شك بنحو القضية الحقيقية ، ومع شمول دليل اعتبار الأمارة للأمارة القائمة في مورد اليقين بالحدوث والشك في البقاء يرتفع الشك سواء كانت الأمارة على البقاء أو الارتفاع ، أضف إلى ذلك مثل حكم الشارع بالقضاء بالبينة مع كون قول المنكر مطابقا للاستصحاب نوعا دليل على طولية اعتبار الاستصحاب ودعوى اعتبار اليقين بالحدوث علما بالبقاء مع كون الموضوع في الاستصحاب الشك في البقاء لا محذور فيها ؛ لأنّ الشك في البقاء مع قطع النظر عن الاعتبار المزبور. وأما تقديم قاعدة الشك في ركعات الصلاة وكذا تقديم قاعدتي

٤١٨

فإنه يقال : لا إشكال في كونه دليلا على حجيته ، فإن ظهوره في أنه بحسب اللحاظ الآليّ مما لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه ، وإنما يحتاج تنزيله بحسب اللحاظ الآخر الاستقلالي من نصب دلالة عليه ، فتأمل في المقام فإنه دقيق ومزال الأقدام للأعلام.

ولا يخفى أنه لو لا ذلك ، لأمكن أن يقوم الطريق بدليل واحد ـ دالّ على إلغاء احتمال خلافه ـ مقام القطع بتمام أقسامه ، ولو فيما أخذ في الموضوع على نحو الصفتية ، كان تمامه أو قيده وبه قوامه.

فتلخص مما ذكرنا : إن الامارة لا تقوم بدليل اعتبارها إلّا مقام ما ليس بمأخوذ في الموضوع أصلا.

وأما الاصول فلا معنى لقيامها مقامه بأدلتها ـ أيضا ـ غير الاستصحاب [١].

______________________________________________________

الفراغ والتجاوز على الاستصحاب ، مع أنّ الاستصحاب كالقاعدتين من الأصل المحرز فلأنّ القواعد المزبورة اعتبرت في موارد كون مفاد الاستصحاب على خلافها كلا أو غالبا وعدم لزوم لغوية اعتبارها اقتضى تقديمها على الاستصحاب.

[١] حاصل ما ذكره قدس‌سره أنّه لا تقوم الاصول العملية مقام القطع الطريقي المحض أيضا ، بدليل اعتبارها غير الاستصحاب فإنّه يقوم مقامه ، وذلك فإنّ المراد من القيام مقامه ترتيب ما للقطع من الأثر من تنجيزه التكليف وغيره ، والاصول العملية وظائف مقررة للجاهل بالحكم الواقعي في ظرف الشك فيه من الشارع أو من العقل.

ثم قال : لا يقال لا بأس بقيام الاحتياط مقام القطع الطريقي المحض من تنجز التكليف الواقعي به ، وأجاب بأنّ الاحتياط العقلي هو نفس حكم العقل بتنجز التكليف الواقعي وصحة العقاب على مخالفته ، فليس الاحتياط العقلي شيء ليقوم مقام القطع الطريقي في تنجيز التكليف الواقعي ، نعم الاحتياط النقلي وهو أمر

٤١٩

لوضوح أن المراد من قيام المقام ترتيب ما له من الآثار والأحكام ، من تنجز التكليف وغيره ـ كما مرت إليه الإشارة ـ وهي ليست إلّا وظائف مقررة للجاهل في مقام العمل شرعا أو عقلا.

لا يقال : إن الاحتياط لا بأس بالقول بقيامه مقامه في تنجز التكليف لو كان.

______________________________________________________

الشارع طريقا بالاحتياط في الشبهة وإن يوجب تنجز التكليف الواقعي في مورده على تقدير التكليف ويصحّح العقوبة على مخالفته كالقطع ، إلّا أنّه لا نقول بالاحتياط في الشبهة البدوية ولا يكون بنقلي في الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي.

أقول : لو كان المراد من قيام شيء مقام القطع أن يترتب عليه كلّ من تنجيز الواقع والتعذير عنه كما هو الحال في الاستصحاب ، حيث إنّه يكون منجزا في بعض الموارد ومعذرا في بعضها الآخر فلا معنى لتسلّمه قيام الأمر بالاحتياط النقلي مقام القطع الطريقي ، فإنّه لا يترتب عليه إلّا تنجيز الواقع دون التعذير عنه ، وإن كان المراد في القيام مقامه ترتب الأثر الواحد فلا بد من الالتزام بقيام البراءة الشرعية وأصالة الحل مقام القطع الطريقي ، حيث يترتب عليهما عذر المكلّف إذا صادفتا مخالفة التكليف الواقعي ، فالتفرقة بين الاحتياط النقلي والبراءة النقلية بلا وجه ، نعم إذا بنى أن عذر المكلف في مخالفة التكليف الواقعي في مورد خطأ القطع ليس من أثر القطع ، بل أثره تنجيز التكليف الواقعي إذا أصاب والعذرية في موارد خطئه لعدم وصول الواقع لا القطع بخلافه ، كما هو الصحيح ، صحّ التفصيل بين الأمر بالاحتياط والبراءة الشرعية ، ولا يخفى أيضا أنّ قيام الاحتياط الشرعي مقام القطع ليس معناه تنزيل الأمر به منزلة العلم بالواقع أو اعتباره علما به ليتوهّم ثبوت الأثر الشرعي للقطع بالتكليف للأمر به أيضا ، فإنّ الاستحقاق على مخالفة التكليف الواقعي أثر لوصول الواقع أو لتمام البيان أي المصحّح للعقوبة على مخالفته ، والأمر بالاحتياط

٤٢٠