دروس في مسائل علم الأصول - ج ٣

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-94850-9-1
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٤٥

نعم لو صح ما نسب إلى المشهور ، من كون المطلق عندهم موضوعا لما قيد بالإرسال والشمول البدلي ، لما كان ما أريد منه الجنس أو الحصة عندهم بمطلق ، إلّا أن الكلام في صدق النسبة ، ولا يخفى أن المطلق بهذا المعنى لطروء القيد غير قابل ، فإن ما له من الخصوصية ينافيه ويعانده ، بل وهذا بخلافه بالمعنيين ، فإن كلا منهما له قابل ، لعدم انثلامهما بسببه أصلا ، كما لا يخفى.

وعليه لا يستلزم التقييد تجوزا في المطلق ، لإمكان إرادة معنى لفظه منه ، وإرادة قيده من قرينة حال أو مقال ، وإنما استلزمه لو كان بذاك المعنى ، نعم لو أريد من لفظه المعنى المقيد ، كان مجازا مطلقا ، كان التقييد بمتصل أو منفصل.

______________________________________________________

للخصوصيات في ملاك الحكم والتكليف ، فإنّ الطبيعي أو الحصة التي معنى النكرة ، وإن لم يتحقق خارجا إلّا بالخصوصية ، إلّا أنّ الخصوصيات قد تكون بحيث لا دخل لها في ملاك الحكم أو متعلّق التكليف ، ونتيجة مقدمات الحكمة على ما يأتي رفض الحاكم والمولي تلك الخصوصيات عن الموضوع أو المتعلق في مقام جعل الحكم والتكليف لا جمعها ، حيث إنّ أخذها مع عدم دخالتها فيهما بلا موجب ، فيكون مفاد قوله سبحانه وتعالى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) بعد إحراز الإطلاق ورفض القيود ثبوت الحلية للطبيعي بلا دخل لخصوصية دون أخرى ، فإخراج الموضوع عن الإهمال وصيرورته مطلقا إنّما هو بجريان مقدمات الحكمة ، كما أنّ إخراج المتعلّق عن الإهمال إلى الإطلاق يكون بجريانها ، بحيث يكون مفاد قوله «أعتق رقبة» بعد إحراز مقدماتها ، أعتق أي رقبة. ولا يخفى أنّ الماتن والمحقق النائيني قدس‌سرهما التزما بلزوم إجراء مقدمات الحكمة في العام الوضعي أيضا إذ إثبات أنّ مدخول «كلّ» و «أي» وغيرها من الأداة ، مأخوذ عنوانا للوجودات من غير لحاظ خصوصية أخرى ، لا يكون إلّا بمقدمات الحكمة وبعد إحراز ذلك يكون ثبوت الحكم وتعلّقه لكل واحد من الوجودات بنحو الاستغراق أو

٣٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

البدل ، بدلالة لفظ «كل» أو «أيّ» أو نحوهما ويكون العموم لفظيا بخلاف مثل (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) ، فإن تعلّق الحلية لكل بيع بعد إحراز مقدمات الإطلاق ، بدلالة العقل ، لا بدلالة اللفظ.

ولكن لا يخفى ما فيه فإنّ نسبة انّ المتكلم قد ذكر حلية كل بيع في مثل أحل الله كل بيع ، لا يتوقف على جريان مقدمات الحكمة في المدخول ، بخلاف قوله (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) ، فإنّه لا يصح نسبة تفهيم العموم إلى الله سبحانه وتعالى إلّا بملاحظة تمامية مقدمات الحكمة.

٣٤٢

فصل

قد ظهر لك أنه لا دلالة لمثل (رجل) إلّا على الماهية المبهمة وضعا [١] ، وأن الشياع والسريان كسائر الطوارئ يكون خارجا عما وضع له ، فلا بد في الدلالة عليه من قرينة حال أو مقال أو حكمة ، وهي تتوقف على مقدمات :

إحداها : كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد ، لا الإهمال أو الإجمال.

ثانيتها : انتفاء ما يوجب التعيين.

ثالثتها : انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب ، ولو كان المتيقن بملاحظة الخارج عن ذاك المقام في البين ، فإنه غير مؤثر في رفع الإخلال بالغرض ، لو كان بصدد البيان ، كما هو الفرض ، فإنه فيما تحققت لو لم يرد الشياع لأخلّ بغرضه ، حيث إنه لم ينبه مع أنه بصدده ، وبدونها لا يكاد يكون هناك إخلال به ، حيث لم يكن مع انتفاء الأولى ، إلّا في مقام الإهمال أو الإجمال ، ومع انتفاء الثانية ، كان البيان بالقرينة ، ومع انتفاء الثالثة ، لا إخلال بالغرض لو كان المتيقن تمام مراده ، فإن الفرض أنه بصدد بيان تمامه ، وقد بينه ، لا بصدد بيان أنه تمامه ، كي أخل ببيانه ، فافهم.

______________________________________________________

مقدمات الحكمة

[١] قد ظهر ممّا تقدم أنّ توصيف موضوع الحكم أو متعلّق التكليف بالإطلاق إنّما يكون في مقام تعلّق الحكم ، وامّا نفس الموضوع أو المتعلّق مع لحاظ معناه الافرادي مهمل فالخروج عن الإهمال في مقام تعلّق الحكم يكون امّا بالتقييد ؛ أي بيان القيد ، أو بالإطلاق المستفاد من مقدمات الحكمة. وقد ذكرنا أنّ الإطلاق في موضوع الحكم بحيث يعمّ جميع انطباقاته ووجوداته أو في متعلّق الحكم بحيث يحصل بأيّ وجود منه أو في الحكم بحيث يجعل في صورتي حصول الشيء

٣٤٣

ثم لا يخفى عليك أن المراد بكونه في مقام بيان تمام مراده ، مجرد بيان ذلك وإظهاره وإفهامه ، ولو لم يكن عن جد ، بل قاعدة وقانونا ، لتكون حجة فيما لم تكن حجة أقوى على خلافه ، لا البيان في قاعدة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ، فلا يكون الظفر بالمقيد ـ ولو كان مخالفا ـ كاشفا عن عدم كون المتكلم في مقام البيان ، ولذا لا ينثلم به إطلاقه وصحة التمسك به أصلا ، فتأمل جيدا.

وقد انقدح بما ذكرنا أن النكرة في دلالتها على الشياع والسريان ـ أيضا ـ تحتاج فيما لا يكون هناك دلالة حال أو مقال من مقدمات الحكمة ، فلا تغفل.

بقي شيء : وهو أنه لا يبعد أن يكون الأصل فيما إذا شك في كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد ، هو كونه بصدد بيانه ، وذلك لما جرت عليه سيرة أهل المحاورات من التمسك بالإطلاقات فيما إذا لم يكن هناك ما يوجب صرف وجهها إلى جهة خاصة ، ولذا ترى أن المشهور لا يزالون يتمسكون بها ، مع عدم إحراز كون مطلقها بصدد البيان ، وبعد كونه لأجل ذهابهم إلى أنها موضوعة للشياع والسريان ، وإن كان ربما نسب ذلك إليهم ، ولعل وجه النسبة ملاحظة أنه لا وجه للتمسك بها بدون الإحراز والغفلة عن وجهه ، فتأمل جيدا.

______________________________________________________

وعدمه يتوقف على تمامية أمور :

الأوّل : إحراز أنّ المتكلم في مقام بيان تمام المراد ؛ يعني المراد الاستعمالي بأن يحرز أن ما وقع في الخطاب موضوعا أو متعلقا يريد المتكلّم بيان تمام قيود ذلك الموضوع أو المتعلّق والحكم ، في مقابل جعل الموضوع أو المتعلق أو حكمه في الخطاب مهملا أو مجملا من حيث القيود ، ولا يخفى أنّ عدم الإهمال والإجمال في كل خطاب صادر عن متكلم حكيم ، هو الأصل الأولى.

الثاني : عدم ذكره في الخطاب قرينة على القيد ، ولم يكن في غير الخطاب

٣٤٤

ثم إنه قد انقدح بما عرفت ـ من توقف حمل المطلق على الإطلاق ، فيما لم يكن هناك قرينة حالية أو مقالية على قرينة الحكمة المتوقفة على المقدمات المذكورة ـ أنه لا إطلاق له فيما كان له الانصراف إلى خصوص بعض الأفراد أو الأصناف ، لظهوره فيه ، أو كونه متيقنا منه ، ولو لم يكن ظاهرا فيه بخصوصه ، حسب اختلاف مراتب الانصراف ، كما أنه منها ما لا يوجب ذا ولا ذاك ، بل يكون بدويا زائلا بالتأمل ، كما أنه منها ما يوجب الاشتراك أو النقل.

لا يقال : كيف يكون ذلك وقد تقدم أن التقييد لا يوجب التجوز في المطلق أصلا. فإنه يقال : مضافا إلى أنه إنما قيل لعدم استلزامه له ، لا عدم إمكانه ، فإن استعمال المطلق في المقيد بمكان من الإمكان ، إن كثرة إرادة المقيد لدى إطلاق المطلق ولو بدال آخر ربما تبلغ بمثابة توجب له مزية أنس ، كما في المجاز المشهور ، أو تعينا واختصاصا به ، كما في المنقول بالغلبة ، فافهم.

______________________________________________________

قرينة عليه أيضا.

والثالث : عدم مانع في البين من بيان القيد أو إقامة القرينة عليه.

فاذا تمت هذه الأمور يكون مدلول الخطاب بملاحظتها ، انّ الطبيعي بلا قيد ، موضوع للحكم أو متعلّق له ويصح نسبة ذلك إلى المتكلم ، وانّ ظاهر خطابه ثبوت حكمه للطبيعي بلا دخالة أمر آخر فيه وجودا وعدما ، أو أنّ الطبيعي أو الحصة متعلقة لحكمه وطلبه ، وأنّ حكمه مجعول على تقدير وجود الشيء الآخر وعدمه ومقتضى أصالة التطابق بين المراد الاستعمالي الجدّي هو أنّ الحكم الذي استفدنا من خطابه هو المراد الجدّي المعبّر عنه بمقام الثبوت ، وإذا ورد بعد ذلك خطاب على اعتبار قيد في الموضوع أو المتعلق أو حتى في ثبوت الحكم لا يكون الخطاب المفروض موجبا لانثلام الظهور الإطلاقي أيضا ، بل يكون كاشفا عن عدم تطابق المراد

٣٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الاستعمالي مع المراد الجدّي بالإضافة إلى مورد القيد ويؤخذ بالظهور المشار إليه بالإضافة إلى غير مورده إذا شك في التطابق من جهة سائر القيود المحتملة.

والحاصل أنّ المراد بالبيان في مقدمات الإطلاق البيان بالإضافة إلى قيود الموضوع والمتعلّق ونفس الحكم الوارد في الخطاب لا البيان على قيد الموضوع أو المتعلّق ثبوتا وبحسب الإرادة الجدية كما هو المراد من البيان في قاعدة «قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة» ، ولذا لا يعتبر في البيان في تلك القاعدة اقترانه بخطاب الحكم ، بل يعتبر وروده قبل حضور وقت العمل بذلك الحكم ، ولو بخطاب منفصل عن ذلك الخطاب بكثير ، بل يجوز التأخير عن وقت العمل أيضا إذا كان في التأخير صلاح على ما تقدم ، واستشهد الماتن قدس‌سره بأنّ ورود المقيّد لا يكون كاشفا عن عدم كون المتكلم بخطاب المطلق في مقام البيان ، لعدم انثلام الظهور الإطلاقي مع ورود القيد منفصلا ، وعدم انثلام صحة التمسك بالإطلاق عند الشك من جهة سائر القيود.

ولكن لا يخفى ما في الاستشهاد فإنّه بورود القيد منفصلا يعلم أنّ المتكلم لم يكن في مقام البيان بالإضافة إلى مورد القيد ، وامّا بالإضافة إلى غيره من القيود المحتملة فأصالة كونه في مقام البيان بحالها باقية ولم يرد منها ما ينافيها.

وبتعبير آخر : يرفع اليد عن الأصل العقلائي بكون المتكلم في مقام بيان مراده الواقعي بخطابه ، بمقدار الكاشف عن الخلاف لا أنّه يرفع اليد عنه رأسا.

نعم لو كان المطلق موضوعا للحصة الخاصة من الماهية وهي المقيدة بالاطلاق دون الأعم منها وما ير عليها القيد لأمكن دعوى أنّ ورود الخطاب المشتمل على القيد يكون كاشفا عن عدم استعماله في الموضوع له ، وحيث إنّ استعماله في الباقي بعد التقييد لتعدده لا معيّن له فيكون الخطاب ـ يعني خطاب المطلق ـ مجملا

٣٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

لا يصحّ التمسك به أصلا ، ولذا التزم المحقق النائيني قدس‌سره (١) بأنّ المراد بالبيان في البابين واحد ، وأنّه يرتفع نفس الإطلاق بالإضافة إلى مورد القيد لارتفاع موجبه من حين وروده ، وهي مقدمات الحكمة غاية الأمر الإطلاق محفوظ بالإضافة إلى سائر القيود فيؤخذ به لتمامية مقدماته بالإضافة إليها.

وإن شئت فلاحظ الأصل العملي مع الدليل الاجتهادي ، فإنّه يرتفع الموضوع للأصل العملي من حين ورود خطاب التكليف والظفر به ، ولا يكون وصوله موجبا لارتفاع الأصل العملي بالإضافة إلى الأزمنة السابقة بأن يكون كاشفا عن عدم الموضوع للأصل العملي من الأوّل.

ويترتّب على المسلكين ما إذا تعارض الخطابان بالعموم من وجه ، وكانت دلالة أحدهما بالوضع ، والآخر بالإطلاق ، كما إذا ورد في خطاب ، الأمر بإكرام العالم ، وورد في خطاب آخر النهي عن إكرام أيّ فاسق ، فيؤخذ في مورد الاجتماع بالعموم الوضعي لأصالة التطابق في ناحيته ، ويرتفع معه مقدمات الحكمة في ناحية خطاب المطلق.

وبالجملة : فالإطلاق الذي يحكم العقل غير داخل في مدلول اللفظ ، فيرتفع من حين ورود البيان بالإضافة إلى القيد.

أقول : الإهمال في معنى المطلق بالإضافة إلى القيود اللاحقة ، والخصوصيّات انّما هو بملاحظة الدالّ الآخر في مقام استعماله ، ولا يكون تقييده في مقام الاستعمال موجبا لخلاف الوضع ، ولكن مع عدم التقييد فيه يكون إظهارا لعدم

__________________

(١) أجود التقريرات ١ / ٥٣١.

٣٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

دخالة القيد في الموضوع أو المتعلق ، بل في الحكم بعد فرض أنّ المولى في مقام تفهيم تمام الموضوع والمتعلق وتمام الحكم مع عدم الإتيان بما يدلّ على القيد مع تمكّنه من الإتيان به.

وبالجملة فمع تمامية مقدمات الإطلاق في مقام استعمال المطلق يكون تمامية تلك المقدمات موجبة لظهور الخطاب في كون الموضوع أو المتعلق ، بل الحكم مطلقا بالإضافة إلى القيد المحتمل ، وبأصالة التطابق بين المراد الاستعمالي والمراد الجدي يستكشف الحكم بموضوعه ومتعلّقه في مقام الثبوت ، نظير أصالة التطابق بين المراد الاستعمالي والجدي في العام الوضعي.

ثمّ إنّه قد ذكر الماتن قدس‌سره في المقدمة الأولى : كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد لا الإهمال والإجمال ، وذكر في المقدمة الثانية : عدم ما يوجب التعيين وكأنّ مراده عدم ذكر القيد أو عدم وجود قرينة عليه في البين عند ورود خطاب المطلق مع تمكّن المكلّف من ذكرها على تقدير إرادة المقيّد.

وذكر في المقدمة الثالثة انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب وأمّا المتيقن بملاحظة الخارج عن ذلك المقام فلا يضر بالإطلاق ، وأوضح في المقدمة الثالثة بأنّه لو كان القدر المتيقن في مقام التخاطب هو الموضوع للحكم الوارد في الخطاب المشتمل على المطلق ، فقد بيّن الحكم له ، غاية الأمر لا يكون للخطاب دلالة على ثبوت الحكم أو عدم ثبوته لغير ذلك القدر المتيقن وهذا غير ضائر.

أقول : هذا صحيح بالإضافة إلى الخطاب الذي يكون عنوان الموضوع فيه مجملا مردّدا بين الأقل والأكثر ، كما إذا ورد في الخطاب لا تكرم الفاسق وتردّد من الفاسق بين مرتكب المعصية مطلقا وخصوص مرتكب الكبيرة.

٣٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وأمّا إذا لم يكن لعنوان الموضوع إجمال كذلك ، بل كان بعض الافراد متيقنا بحسب الإرادة ، كما إذا قيل في الجواب عن إكرام العالم العادل (أكرم العالم) ، فالظاهر عدم الفرق بينه وبين المتيقن بحسب الخارج في عدم كونه مانعا عن التمسك بالإطلاق ، كما هو المتعارف في المحاورات وعليه الطريقة المتداولة عند الفقهاء العظام في أبواب الفقه من التمسك باطلاق الجواب ، وإن وقع السؤال عن مورد خاص ، وفرد مخصوص ، وأنّ وقوع شيء في السؤال لا يحسب قرينة على تقييد الإطلاق الوارد في الجواب ، ولا مانعا من التمسك بالظهور الإطلاقي ، أو انعقاده.

تنبيه : قد ذكر المحقق النائيني قدس‌سره أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد ليس من تقابل الإيجاب والسلب لأنّ التقييد عبارة عن أخذ قيد في موضوع الحكم أو متعلّقه أو في نفس الحكم ، والإطلاق عبارة عن عدم أخذ هذا القيد ، فإنّ التقابل بين الإيجاب والسلب لا يمكن فيه اجتماع المتقابلين ولا ارتفاعهما ، ومن الظاهر إمكان ارتفاع الإطلاق والتقييد معا كما في موارد الإهمال ، وكون القيد من الانقسامات الثانوية المتوقفة لحاظه على جعل الحكم واعتباره ككون المكلف عالما بالحكم المجعول للموضوع أو التكليف المتعلق بالفعل ، أو جاهلا به ، وكالإتيان بالمتعلّق بداعي الأمر به.

بل الصحيح أنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكة فيحمل الإطلاق على عدم التقييد في مورد يمكن فيه أخذ ذلك القيد كما في القيود التي هي من الانقسامات الأوّلية والمراد بها إمكان تقسيم الموضوع أو المتعلّق إلى تلك الأقسام مع قطع النظر عن الحكم عليه ، فالموارد التي تكون الانقسامات فيها من الانقسامات الثانوية المتوقف لحاظها على جعل الحكم فكما لا يكون إطلاق في الموضوع أو المتعلق

٣٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

كذلك لا يكون فيهما تقييد فلو ورد في خطاب الحكم على موضوع ، أو تعلق التكليف بمتعلّق لا يمكن إثبات عموم الحكم لعامّة المكلفين عالمهم وجاهلهم ، أو إثبات التوصلية بذلك الخطاب ، بل لا بدّ في إثبات الإطلاق أو التقييد من خطاب ثان يكون مدلوله التوسعة تارة كما فيما ورد في بطلان التصويب وعدم اختصاص الشريعة بالعالمين بها ، والتقييد والتضيق أخرى كما فيما ورد في اعتبار قصد التقرب في الصلاة وبتعبير آخر تكون نتيجة الخطاب الثاني نتيجة الإطلاق أو التقييد في مدلول الخطاب الأوّل ، فقد ظهر أنّ كل مورد يؤخذ فيه بإطلاق الموضوع أو المتعلّق فلا بدّ من إحراز كون القيد من الانقسامات الأوّلية (١). وقد جعل قدس‌سره هذا الإحراز المقدمة الأولى من مقدمات الإطلاق.

أقول : الاطلاق في الموضوع أو المتعلق تارة يكون بلحاظ مقام الثبوت ، واخرى بلحاظ مقام الاثبات والخطاب.

أمّا بحسب مقام الثبوت فالاطلاق ليس أمرا زائدا على عدم أخذ الخصوصية ، والتقييد ليس إلّا أخذ الخصوصية في الموضوع أو المتعلق. فيكون التقابل بينهما بالسلب والإيجاب وعليه فمع عدم أخذ الخصوصية ثبوتا ـ بلا فرق بين الانقسامات الأولية والثانوية ـ لا يعقل من الحاكم الملتفت إلى أنحاء الشيء ، جعل الحكم مقيدا بها ويكون الاطلاق فيه ضروريا ولو لعدم إمكان تقييده كما لا يخفى.

ومنه يظهر عدم صحة دعوى الملازمة بين استحالة التقييد واستحالة الإطلاق بلحاظ مقام الثبوت إذ ليس الإطلاق جمعا بين القيود والخصوصيات في موضوع

__________________

(١) أجود التقريرات ١ / ٥٢٨ و ١٠٤.

٣٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

الحكم أو متعلّق التكليف ليقال بأنّ عدم إمكان لحاظ قيد يساوق لعدم أخذه ، بل الإطلاق عبارة عن رفض القيد وعدم أخذه في موضوع الحكم أو متعلّق التكليف.

أضف إلى ذلك أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد على تقدير كونه من قبيل العدم والملكة ، فإنّه لا يقتضي إمكان التقييد في كل مورد من الموارد ، فالتقابل بين العمي والبصر لا يقتضي إمكان البصر في كل موصوف بالعمي ، وتقابل الجهل والعلم لا يقتضي إمكان اتصاف الجاهل بالعلم في كل مورد كالعلم بذات الله سبحانه وتعالى ، فإنّ الجاهل بذاته المقدسة لا يمكن أن يتّصف بالعالم به.

والسرّ في ذلك أنّ القابلية بالاتصاف بالوجود بحسب النوع والصنف كافية في تقابل العدم والملكة ، والشيء يعني الكلّي الطبيعي بحسب نوعه قابل للاتصاف بالإطلاق والتقييد ويجري ذلك في العلم والجهل أيضا ، ـ من أنّ استحالة التقييد توجب ضرورة الإطلاق ـ فلا يمكن أخذ العلم بحكم في موضوع ذلك الحكم ؛ لأنّ أخذه فيه خلف ؛ لأنّ العلم بالحكم فرع تحقّق ذلك الحكم وثبوته مع قطع النظر عن العلم به ، وفرض أخذه في موضوعه فرض لعدم ثبوته بدونه ، فيكون الحكم مطلقا ثبوتا بالإضافة إلى العالم به والجاهل به.

وأمّا الإتيان بالعمل بداعي الأمر به فقد تقدّم في بحث التعبّدي والتوصّلي إمكان أخذه في متعلّق التكليف على تقدير دخالة قصد التقرب في الملاك ثبوتا.

وأما بحسب مقام الاثبات فانّما يصحّ التمسك بالإطلاق فيما إذا أمكن الأمرين في مقام الثبوت ، فيلاحظ الإطلاق في الموضوع والمتعلق بلحاظ مقام الإثبات والإطلاق في هذا المقام موقوف على تمامية مقدمات الإطلاق مع تمكن المتكلم من بيان القيد للموضوع ، أو المتعلق ، أو الحكم ، إذا كان كل من الإطلاق والتقييد في

٣٥١

تنبيه : وهو أنه يمكن أن يكون للمطلق جهات عديدة ، كان واردا في مقام البيان من جهة [١] منها ، وفي مقام الإهمال أو الإجمال من أخرى ، فلا بد في حمله على الإطلاق بالنسبة إلى جهة من كونه بصدد البيان من تلك الجهة ، ولا يكفي كونه بصدده من جهة أخرى ، إلّا إذا كان بينهما ملازمة عقلا أو شرعا أو عادة ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

مقام الثبوت أمرا ممكنا ، وإلّا فلو كان الإطلاق ضروريا في مقام الثبوت فلا حاجة إلى التمسك بمقام الإثبات.

وعلى ذلك فالإهمال في مقام الإثبات أمر ممكن إذ يمكن أن يتعلّق به الغرض أو يطرأ عدم التمكّن من بيان القيد ، وبذلك يمكن دعوى أنّ الإطلاق ينتفي في مقام الإثبات إذا لم يتمكّن المتكلّم من بيان القيد ، كما يمكن الإهمال إذا كان غرض المولى الإهمال وعدم التعرض لحال الموضوع أو المتعلّق من حيث الإطلاق أو التقييد.

[١] وحاصله أنّه يمكن أن يكون للمطلق جهات مختلفة ولبعض الجهات عنوان آخر غير عنوان المطلق ، فإن احرز أنّ الخطاب وارد لبيان الحكم من جهة دون الجهات الأخرى بمعنى أنّ الخطاب كان في مقام الإهمال من الجهات الأخرى ، فلا بدّ من الاقتصار على خصوص الجهة التي احرز أنّه في مقام البيان من تلك الجهة ، وكون الخطاب واردا في مقام البيان من جهة لا يكفي للحكم بكونه في مقام البيان من سائر الجهات ، كما إذا ورد في الخطاب العفو في الصلاة عن الدم الأقل من الدرهم في ثوب المصلّي وبدنه ، وقد أحرز أنّ هذا الخطاب في مقام بيان العفو من جهة نجاسة الدم ، وأمّا إذا كان للدم عنوان آخر ككونه من توابع ما لا يؤكل لحمه أو من الميتة فلا يحكم بالإطلاق من جهتهما إلّا إذا كان بين الجهتين ملازمة في الحكم عقلا أو شرعا أو عادة ، ولذا يقتصر في العفو على الجهة التي أحرز أنّ المتكلم في مقام

٣٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

بيان الحكم من تلك الجهة.

وأوضح منه قوله سبحانه وتعالى (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ)(١) ، فإنّ المقدار المحرز منه هو كون الخطاب بصدد بيانه أنّ صيد الكلب المعلّم ليس كصيد غيره من الحيوانات التي يكون صيدها ميتة ، وأمّا بيان الجواز الذاتي وحلّية الحيوان الذي يصيده الكلب المعلّم فلا تكون الآية الكريمة بصدد بيانه فلا يجوز التمسك باطلاقها فيما إذا شك في كون الحيوان الذي صاده الكلب ممّا يحرم في الشريعة أكله وأنّه داخل في المسوخ مثلا أو لا يحرم أكله ، إذ ليست الآية في مقام بيان هذه الحلية الذاتية كما أنّه ليس في مقام بيان جواز أكل موضع عقر الكلب بلا غسل أيضا إذ لا يكون واردا في مقام جواز الأكل من حيث طهارة موضعه أو عدم البأس بنجاسته.

أمّا المحقّق النائيني قدس‌سره فقد ذهب إلى انحصار جواز التمسك بالاطلاق بما إذا أحرز أنّه في مقام بيان الحكم من جهة ، وأمّا إذا شك في كونه في مقام البيان من الجهة الأخرى ، أو احرز عدمه فلا يجوز التمسك بالإطلاق للالتزام بثبوت الحكم من سائر الجهات وذلك لعدم إحراز كونه في مقام البيان من غير الجهة المحرزة.

لا يقال : الأصل عند العقلاء في الخطاب الصادر هو كون المتكلم في مقام البيان من حيث تمام قيود الموضوع والمتعلق ، وإذا احتمل كونه في مقام البيان من سائر الجهات أيضا فالأصل يقتضى كونه في مقام البيان من الجهة المشكوكة أيضا.

فإنّه يقال : الأصل عند العقلاء وإن كان كما ذكر إلّا أنّ مورده ما إذا احتمل كونه في مقام الإهمال رأسا ، وأمّا إذا أحرز أنّه في مقام البيان من جهة ، وشك في كونه في

__________________

(١) سورة المائدة : الآية ٤.

٣٥٣

.................................................................................................

______________________________________________________

مقام البيان من سائر الجهات فلا أصل في البين من العقلاء (١).

أقول : يصح ما ذكره قدس‌سره من عدم جواز التمسك بالإطلاق عند الشك في خصوص ما إذا شك في أنّ الخطاب إنّما ورد لبيان حكم واحد للطبيعي فقط أو أكثر منه بحيث يثبت لبعض افراده حكم آخر كطهارة موضع عقر الكلب أو طهارة الدم الموجود فيه.

وأمّا إذا شك في ثبوت أصل الحكم للمطلق من جهة اخرى ـ ولو انطبق على بعض وجوداته عنوان آخر ـ فلا موجب للالتزام بالإهمال بل يحرز كونه في مقام البيان من تلك الجهة الثانية بالأصل وبالاطلاق يثبت الحكم.

نعم لو ثبت لذلك العنوان الآخر حكم مخالف للمطلق بخطاب آخر ، فإن كان أحد الحكمين ترخيصيا والحكم الآخر إلزاميا ، يلتزم بثبوت الحكم الترخيصي في الوجودات التي لم ينطبق عليها العنوان الآخر ، ومن هذا القبيل الدم الأقلّ من الدرهم فيحكم بصحة الصلاة معه حتى لو كان دم ما لا يؤكل لحمه مع ملاحظة العفو عنه في الصلاة ويحكم بمانعيته للصلاة مع ملاحظة النهي عن الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه ورطوباته وكل شيء منه ، ولو كان كلا الحكمين المتخالفين الزاميين ، لا محالة يتعارضان في مورد اجتماعهما ويرجع إلى الأصل لو لم يكن في البين قرينة على دخول المجمع في أحدهما المعين.

ويشهد له الحكم بعدم العفو في الدم الأقلّ من الدرهم إذا كان من غير مأكول اللحم بمقتضى الجمع بين ما دلّ على مانعية أجزاء غير مأكول اللحم ورطوباته وما

__________________

(١) أجود التقريرات ١ / ٥٢٨.

٣٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

دلّ على العفو عن الدّم الأقل من الدرهم في ثوب المصلّي والحكم ببطلان الصلاة في الدم من مأكول اللحم إذا كان أكثر من الدرهم بمقتضى الجمع بين ما دل على العفو عن الدم الأقل من الدرهم ، وموثقة ابن بكير (١) الدالة على جواز الصلاة في كل شيء منه إذا ذكاه الذابح.

وبالجملة لو تمّ ما ذكره المحقق النائيني قدس‌سره ـ من أنّه مع كون الخطاب واردا في بيان الحكم من جهة لا يثبت كونه في مقام البيان من جهة أخرى ولو عند الشك ـ لوجب الالتزام بأنّ لا يتمسك باطلاق المطلق إذا انطبق على بعض أفراده ، عنوان يكون الحكم في تلك الافراد بهذا العنوان المنطبق عليها غير متيقن ، كما إذا ورد الأمر بتغسيل الموتى وشك في إطلاق الحكم لما إذا كان الميت قاتلا لنفسه ، فإنّه يمكن دعوى أنّ الحكم بوجوب التغسيل للميت متيقن إذا لم ينطبق عليه عنوان آخر ، وأمّا إذا انطبق عليه عنوان آخر مثل «قاتل نفسه» فوجوب التغسيل له غير متيقن إذ لعلّ أن يكون هذا العنوان مانعا من الحكم.

__________________

(١) الوسائل : ج ٣ ، باب ٢ من أبواب لباس المصلى ، الحديث ١.

٣٥٥

فصل

إذا ورد مطلق ومقيد متنافيين ، فإما يكونان مختلفين في الإثبات والنفي ، وإما يكونان متوافقين [١] ، فإن كانا مختلفين مثل (أعتق رقبة) و (لا تعتق رقبة كافرة) فلا إشكال في التقييد ، وإن كانا متوافقين ، فالمشهور فيهما الحمل والتقييد ، وقد استدل بأنه جمع بين الدليلين وهو أولى.

وقد أورد عليه بإمكان الجمع على وجه آخر ، مثل حمل الأمر في المقيد على الاستحباب.

وأورد عليه بأن التقييد ليس تصرفا في معنى اللفظ ، وإنما هو تصرف في وجه من وجوه المعنى ، اقتضاه تجرده عن القيد ، مع تخيل وروده في مقام بيان تمام المراد ، وبعد الاطلاع على ما يصلح للتقييد نعلم وجوده على وجه الإجمال ، فلا إطلاق فيه حتى يستلزم تصرفا ، فلا يعارض ذلك بالتصرف في المقيد ، بحمل أمره على الاستحباب.

______________________________________________________

المطلق والمقيد المتنافيان

[١] الظاهر أنّه ليس مورد الكلام ما إذا تعلّق التكليف أو الوضع بمركب اعتباري في خطاب وكان خطاب آخر قد تعلّق الأمر فيه بشيء عند الإتيان بذلك المركب ، أو تعلّق الأمر في الخطاب الثاني بحصة خاصة من المركب كالأمر بالوضوء عند الإتيان بالصلاة أو بالصلاة مع الطهارة ، والأمر بطلاق المرأة في طهرها أو بالاستشهاد عند طلاقها ، إلى غير ذلك ممّا يكون الأمر في تلك الموارد ظاهرا في الإرشاد إلى دخل الخصوصية في متعلّق التكليف أو في موضوع الوضع شرطا أو جزء ، وكذا إذا ورد النهي عن شيء عند الإتيان بالمركب أو عن حصة خاصة منه كقوله لا تصل فيما

٣٥٦

وأنت خبير بأن التقييد أيضا يكون تصرفا في المطلق ، لما عرفت من أن الظفر بالمقيد لا يكون كاشفا عن عدم ورود المطلق في مقام البيان ، بل عن عدم كون الإطلاق الذي هو ظاهره بمعونة الحكمة ، بمراد جدّي ، غاية الأمر أن التصرف فيه بذلك لا يوجب التجوز فيه ، مع أن حمل الأمر في المقيد على الاستحباب لا يوجب تجوزا فيه ، فإنه في الحقيقة مستعمل في الإيجاب ، فإن المقيد إذا كان فيه ملاك الاستحباب ، كان من أفضل أفراد الواجب ، لا مستحبا فعلا ، ضرورة أن ملاكه لا يقتضي استحبابه إذا اجتمع مع ما يقتضي وجوبه.

نعم ، فيما إذا كان إحراز كون المطلق في مقام البيان بالأصل ، كان من التوفيق بينهما ، حمله على أنه سيق في مقام الإهمال على خلاف مقتضى الأصل ، فافهم. ولعل وجه التقييد كون ظهور إطلاق الصيغة في الإيجاب التعييني أقوى من ظهور المطلق في الإطلاق.

______________________________________________________

لا يؤكل لحمه أو لا تتكلّم في صلاتك ، وكالنهي عن بيع مكيل أو موزون لم يكل أو لم يوزن ، وغير ذلك مما يكون النهي فيها ارشادا إلى مانعيّة ذلك الشيء والفساد معه ، وبالجملة فالموارد التي يكون الأمر والنهي فيها إرشاديا خارجة عن مورد الكلام في المقام.

ثمّ إنّه ربّما لا يكون بين خطابي المطلق والمقيد تناف لاختلاف الموضوع فيهما كما إذا ورد الأمر بعتق رقبة عند إفطار الصوم ، وورد الأمر بعتق رقبة مؤمنة عند ظهار زوجته ، فإنّه لا موجب في مثل ذلك لرفع اليد عن ظهور شيء من الخطابين ، وكذلك إذا ورد في خطاب «اعتق رقبة» ، وفي خطاب آخر «أعتق رقبة مؤمنة» مع القرينة على تعدّد التكليف بحيث لا يسقط الأمر بالمطلق مع موافقة الأمر بالمقيد كما إذا كان عتق الرقبة مستحبا وعتق المؤمنة واجبا.

٣٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وأمّا إذا كان بين الخطابين تناف فربّما يكون أحد الخطابين إيجابا والآخر نفيا كما إذا دلّ خطاب على الأمر بعتق رقبة ، والآخر على النهي عن عتق رقبة كافرة ، فإنّه يرفع اليد عن إطلاق المتعلّق في الأمر لما تقدم من أنّ النهي في أمثال ذلك ظاهره الإرشاد إلى المانعية وعدم الاجزاء ، أو أنّه نهى تحريمي لا يمكن أن يعمّه الأمر بالمطلق نظير ما يقال في النهي عن صوم يوم العيدين بعد ثبوت الأمر بالصوم في مطلق الأيّام ، ونظير ذلك ما ورد الأمر بإكرام العالم وورد النهي عن إكرام العالم الفاسق ، فإنّ مع النهي عن إكرامه لا يمكن أن يطلب إكرامه.

وأمّا إذا كان الخطابان متوافقين وإيجابيين مع فرض وحدة التكليف ، فالمشهور فيه حمل المطلق على المقيد ، ويستدل لذلك بأنّ به يجمع بين خطابي المطلق والمقيد.

وردّ بأنّه يمكن الجمع بينهما بوجه آخر وهو حمل الأمر بالمقيد في خطابه على بيان أفضل الافراد ، المعبّر عنه باستحباب اختياره.

وأجيب عن الردّ بأنّ رفع اليد عن إطلاق المطلق لا يلازم تصرفا في استعمال المطلق بأن يرفع اليد عن ظهوره ؛ لأنّ مع خطاب الأمر بالمقيد يرتفع ظهوره الإطلاقي بانتفاء بعض مقدمات الإطلاق ، حيث يعلم بعد ورود خطاب المقيد ، عدم ورود خطاب المطلق في مقام بيان تمام الموضوع لوجوب العتق ، بخلاف الأمر في خطاب المقيد فإنّ حمله على الاستحباب يقتضي رفع اليد عن ظهوره الوضعي.

وقد أجاب الماتن عن هذا الوجه : بأنّ رفع اليد عن إطلاق المتعلّق أيضا تصرّف في ظهوره وترك للعمل به ، وذلك لأنّ من مقدمات الإطلاق كون المتكلّم بالخطاب في مقام البيان ، دون الإهمال والإجمال فيكون مدلول خطابه أنّ تمام الموضوع

٣٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

لوجوب العتق هو الرقبة ، فيصحّ أن ينسب إلى المتكلّم أنّه أظهر بخطاب المطلق ، أنّ الموضوع لحكمه هو الطبيعي وخطاب المقيّد لا يوجب انثلام هذا الظهور أصلا ، وإنّما يوجب رفع اليد عن أصالة التطابق بينه وبين مقام الثبوت على ما تقدم ، هذا أوّلا.

وثانيا أنّ حمل خطاب المقيّد على أفضل الافراد ليس من التصرف في الظهور الوضعي في الصيغة باستعمالها في الاستحباب تجوّز ، بل تستعمل الصيغة في الوجوب ولكن بما أنّ المقيّد مشتمل على ملاك زائد ، فيتصف بكونه أفضل الافراد.

نعم إذا أحرز الإطلاق في خطاب المطلق بالأصل المشار إليه سابقا يكون التوفيق بين الخطابين بأنّه عند القاء خطاب المطلق كان في مقام الإهمال فيقدم المقيد.

وذكر أيضا أنّ وجه تقديم خطاب المقيّد في الوجوب التعييني على خطاب المطلق لعلّه قوّة ظهوره بالإضافة إليه.

أقول : ما ذكره من أنّه لو كان الحمل على كون المتكلم في خطاب المطلق في مقام البيان بمقتضى الأصل ، لأمكن كشف أنّه كان في مقام الإهمال ، غير صحيح ، فإنّه يوجب بطلان الإطلاق رأسا بحيث لا يجوز التمسك به في رفع احتمال قيد آخر ، كما ذكر ذلك سابقا في ردّ مسلك الشيخ قدس‌سره.

وامّا قوة الظهور فلا وجه لها ، إذ كما أنّ دلالة المطلق على كون متعلّق التكليف هو الطبيعي من غير دخالة قيد آخر بالإطلاق فكذلك دلالة المقيّد على كون الوجوب المتعلق بالمقيّد تعييني بالإطلاق ومقدمات الحكمة أيضا ، فلا ترجيح لأحد الظهورين على الآخر.

٣٥٩

وربما يشكل بأنه يقتضي التقييد في باب المستحبات [١] ، مع أن بناء المشهور على حمل الأمر بالمقيد فيها على تأكد الاستحباب ، اللهمّ إلّا أن يكون الغالب في هذا الباب هو تفاوت الأفراد بحسب مراتب المحبوبية ، فتأمل.

______________________________________________________

لا يقال : لم يثبت التنافي بين خطابي المطلق والمقيد في الفرض ، فإنّه يمكن الالتزام بتعدّد المطلوب بأن يكون الطبيعي مطلوبا والمقيد مطلوبا آخر ، وإن كان يسقط التكليفان بالإتيان بالمقيد.

فانّه يقال : لا يمكن ذلك إذا فرض أنّ الإتيان بالمطلق لا يكفي في سقوط التكليف بالمقيّد ولكن الإتيان بالمقيّد يوجب سقوط التكليف بالمطلق ، فإنّ مع بقاء الأمر بالمقيد ولزوم الإتيان به وسقوط التكليف بالمطلق بالإتيان بالمقيد ، يوجب كون الأمر بالمطلق لغوا فإنّه يرجع إلى التخيير بين الأكثر والأقل.

فالصحيح في المقام هو أنّ الوجه في تقديم خطاب المقيّد وحمل خطاب المطلق عليه ، هو ما ذكرنا سابقا من أنّ خطاب المقيد وإن كانت دلالته على الوجوب التعييني بالإطلاق ، إلّا أنّه كالخاص قرينة عرفية على المراد الجدي من خطاب المطلق ، ومجرد كون كلّ من الدلالتين بالوضع أو بالإطلاق أو بالاختلاف لا يمنع عن القرينية.

والأمر بكل من المطلق والمقيد بنحو تعدّد المطلوب كما فرض في المناقشة ، غير ممكن ، نعم الأمر بعتق رقبة غير مؤمنة مترتبا على عصيان الأمر بعتق رقبة مؤمنة ممكن ، ولكن هذا الأمر الترتبي خارج عن مدلول الخطابين.

الإطلاق والتقييد في المستحبات

[١] وحاصل الإشكال : لو كان اللازم في الواجبات هو حمل الأمر بالمطلق على

٣٦٠