دروس في مسائل علم الأصول - ج ٣

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-94850-9-1
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٤٥

اللهمّ إلّا أن يقال بحجية أصالة الحقيقة تعبدا ، لا من باب الظهور ، فيكون المرجع عليه أصالة العموم إذا كان وضعيا ، لا ما إذا كان بالإطلاق ومقدمات الحكمة ، فإنه لا يكاد يتم تلك المقدمات مع صلوح الاستثناء للرجوع إلى الجميع ، فتأمل.

______________________________________________________

تلك النسبة الجزئية بنحو تطبيق المستعمل فيه عليها ، ومن ذلك يظهر انّ احتمال رجوع الاستثناء لجميع الجمل كاحتمال اختصاصه بالأخيرة ، فلا يكون لها ظهور في أحدهما ولا يكون أيضا لسائر الجمل ظهور في العموم لاحتفافها بما يمنع عن ظهورها في العموم فيرجع إلى غيره من الدليل أو الأصل العملي.

إلّا أن يلتزم باعتبار أصالة الحقيقة تعبّدا لا من باب حجّية الظهور فإنّه على القول بكون أصالة الحقيقة معتبرة تعبّدا لا من باب حجّية الظهور يؤخذ بها في سائر الجمل إذا كان عمومها وضعيا بخلاف ما إذا كان إطلاقيا موقوفا على تمامية مقدّمات الإطلاق فإنّ مع الاستثناء بعد الجمل واحتمال رجوعه إلى الجميع لا تتمّ مقدّمات الإطلاق.

أقول : رجوع الاستثناء إلى الجميع لا يوجب كون استعمال العام مجازا ليرجع إلى أصالة الحقيقة في نفيه كما تقدّم نظير ذلك سابقا.

وللمحقق النائيني قدس‌سره في المقام تحقيق حاصله : أنّ الاستثناء لا يرجع إلّا إلى عقد الوضع فهو تارة لا يتكرّر بأن لا يذكر العنوان العام إلّا في الجملة الأولى كقوله «أكرم العلماء وأضفهم وأحسن إليهم إلّا الفسّاق منهم» ففي مثل ذلك يرجع الاستثناء إلى تمام الجمل لأنّ الاستثناء المتصل لا بدّ من رجوعه إلى العنوان العام ومعه يقع التخصيص بالإضافة إلى جميع الأحكام الواردة قبله ، وأخرى يتكرّر عقد الوضع بأن يتكرر العنوان في الجملة الأخيرة كما إذا قال : (أكرم العلماء وأحسن إليهم وجالس العلماء إلّا الفسّاق منهم) وفي مثل ذلك يرجع التخصيص إلى العام الأخير حيث يجد الاستثناء محلّه فيه ولا موجب معه لرفع اليد عن العموم بالإضافة إلى غير الأخيرة.

٣٠١

.................................................................................................

______________________________________________________

وما في الكفاية وغيرها من أنّ اتصال الاستثناء يقتضي اكتناف الكلام بما يصلح للقرينيّة وهو يوجب عدم انعقاد الظهور بالإضافة إلى سائر الجمل في العموم لا يمكن المساعدة عليه فإنّ الممانعة تكون فيما إذا صحّ للمتكلّم الاتّكال عليه في بيان التخصيص لتمام العمومات والمفروض أنّه لا يصحّ الاكتفاء في بيان المخصّص لجميعها بالاستثناء بعد العام الأخير ، ومن هذا القبيل قوله سبحانه وتعالى (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا)(١) ، فإنّ وجدان الاستثناء محلّه في عنوان «أولئك» يوجب رفع اليد عن عمومه ويؤخذ بالعموم في الباقي.

وبهذا يظهر ما لو كان عنوان العام مكرّرا في الجملة الوسطى دون ما بعدها كما في قوله : «أكرم العلماء وجالس العلماء وأحسن إليهم إلّا الفسّاق» فإنّ الاستثناء في الفرض لجملة «جالس العلماء» وما بعدها لأنه يجد محلّه فيها ويدخل فيه ما بعدها وأمّا الجملة الأولى فلا موجب لرفع اليد عن عمومها (٢).

وعن سيدنا الاستاذ قدس‌سره في المقام قسمان آخران.

أحدهما : يلحق بما إذا لم يتكرّر عقد الوضع ـ يعني العنوان العام ـ في رجوع الاستثناء إلى الجميع ، وهذا فيما كانت العناوين العامة متعدّدة ولكن لم يتكرّر الحكم في الخطاب كما إذا قال «أكرم العلماء والأشراف والشيوخ إلّا الفسّاق» فإنّ الاستثناء في مثله يرجع إلى الجميع لأنّ العمومات هذه بمنزلة عام واحد ، كأنّه قال أكرم هؤلاء

__________________

(١) سورة النور : الآية ٤.

(٢) أجود التقريرات ١ / ٤٩٦.

٣٠٢

.................................................................................................

______________________________________________________

الطوائف إلّا الفسّاق منهم.

وثانيهما : يلحق بما إذا تكرّر العنوان العام وهذا فيما يتكرّر الحكم الوارد في الخطاب كما إذا قال «أكرم العلماء والأشراف وأكرم الشيوخ إلّا الفسّاق» فإنّ الاستثناء في مثله يرجع إلى ما تكرّر فيه الحكم لتكرّر العنوان لأنّ تكرّر الحكم قرينة عرفية على قطع الكلام عما سبق فيرجع الاستثناء إليه وما بعده إذا كان بعده عام (١).

أقول : ما ذكر المحقق النائيني قدس‌سره من أنّ الاستثناء مع تكرّر عقد الوضع في الجملة الأخيرة ، يرجع إليه فقط ويؤخذ في الباقي بأصالة العموم كما في قوله «أكرم العلماء وأضفهم وجالس العلماء إلّا الفسّاق» لأنّ الاستثناء يجد محلّه فيه ولا مجال معه لدعوى الإجمال في العمومات السابقة حيث إنّها لو كانت مخصّصة أيضا لما صحّ للمتكلّم الاعتماد على ذلك الاستثناء في بيان عدم عمومها ، لا يمكن المساعدة عليه ، فإنّه مع الإجمال لا يعمل بالعموم وعدم العمل بالعموم يشترك مع التخصيص عملا وهذا المقدار يكفي بأن لا يقع المكلف في محذور الأخذ بالعموم مع أنّه لو كان منشأ الأخذ بأصالة العموم هو ما ذكر للزم الالتزام بجواز الأخذ بها في مورد إجمال المخصّص المتصل بالإضافة إلى غير القدر المتيقّن في التخصيص ، بدعوى أنه لو كان الخارج هو الأكثر لما صحّ للمتكلّم في بيان تفهيمه الاكتفاء بالاستثناء المزبور بأن يقال إنّه لا يمكن أن يكون مراده بيان خروج الأكثر فيؤخذ في غير القدر المتيقن بأصالة العموم ، هذا أوّلا.

وثانيا تفرقته قدس‌سره بين تكرار العام بنحو الضمير في الجملات وتكراره باسم

__________________

(١) أجود التقريرات ١ / هامش ص ٤٩٦.

٣٠٣

.................................................................................................

______________________________________________________

الإشارة بأنّ الثاني من قبيل تكرار عقد الوضع دون الأول لا يمكن المساعدة عليه أيضا ، فإنّ الضمير كما أنّه إشارة إلى مرجعه معنى كذلك اسم الإشارة ، واختلاف كيفية الإشارة لا دخل له في الظهور حيث لا يفهم أهل المحاورة فرقا بين قوله «أكرم العلماء وأضف أولئك إلّا من يعصي الله» وبين قوله «أكرم العلماء وأضفهم إلّا من يعصي الله» وبهذا يظهر الخلل فيما ألحقه بتكرار عقد الوضع ، من تكرار الحكم كقوله أكرم العلماء وأكرم الشيوخ إلّا الفساق في رجوع الاستثناء إلى قوله أكرم الشيوخ.

نعم ، لا يبعد أن يكون مثل قوله «أكرم العلماء وأضفهم وأحسن إليهم إلّا الفسّاق» ظاهر في رجوع الاستثناء إلى الجميع ، لأنّ المرجع المذكور للضمائر ومنها الضمير في المستثنى هو العام المذكور أولا ، ولازم عودها إليه ورود التخصيص على جميعها ، كما لا يخفى.

٣٠٤

فصل

الحق جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد المعتبر بالخصوص [١] كما جاز بالكتاب ، أو بالخبر المتواتر ، أو المحفوف بالقرينة القطعية من خبر الواحد ، بلا ارتياب ، لما هو الواضح من سيرة الأصحاب على العمل بأخبار الآحاد في قبال عمومات الكتاب إلى زمن الأئمة عليهم‌السلام ، واحتمال أن يكون ذلك بواسطة القرينة واضح البطلان.

______________________________________________________

تخصيص الكتاب بخبر الواحد

[١] ذكر قدس‌سره أنّه كما يجوز تخصيص العام من الكتاب المجيد بالخاص من الخبر المتواتر أو المحفوف بالقرينة كذلك يجوز تخصيصه بخبر الواحد المعتبر بعنوانه كخبر الواحد الثقة أو العدل والموثوق به على ما تقدم في بحث اعتبار خبر الواحد ، نعم إذا كان الخبر معتبرا من باب الانسداد الموجب لاعتبار مطلق الظن فقد تقدّم الكلام فيه عند التكلّم في باب الانسداد.

واستدلّ قدس‌سره على تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد بالسيرة الجارية من أصحابنا إلى زمان الأئمة : بل وفي زمانهم على العمل بالخصوصات المروية عنهم : في مقابل عمومات الكتاب واحتمال أن الخصوصات المروية عنهم عليهم‌السلام كانت بالقرائن القطعية مجازفة مع أنه لو لم يكن خبر الواحد المروي عنهم : موجبا لرفع اليد عن عموم الكتاب لا يبقى للخبر الواحد المعتبر مورد إلّا نادرا ، حيث إنّه يندر خبر واحد لم يكن على خلافه عموم الكتاب بل وجود النادر أيضا محلّ تأمّل.

ثمّ ذكر قدس‌سره أنه لو لم يجز رفع اليد عن عموم الكتاب بخبر الواحد بدعوى أن الكتاب قطعي صدورا لم يجز رفع اليد عن عموم الخبر المتواتر بالخبر الواحد

٣٠٥

مع أنه لولاه لزم إلغاء الخبر بالمرة أو ما بحكمه ، ضرورة ندرة خبر لم يكن على خلافه عموم الكتاب ، لو سلم وجود ما لم يكن كذلك.

وكون العام الكتابي قطعيا صدورا ، وخبر الواحد ظنيا سندا ، لا يمنع عن التصرف في دلالته الغير القطعية قطعا ، وإلّا لما جاز تخصيص المتواتر به أيضا ، مع أنه جائز جزما.

والسر : أن الدوران في الحقيقة بين أصالة العموم ودليل سند الخبر ، مع أن الخبر بدلالته وسنده صالح للقرينية على التصرف فيها ، بخلافها ، فإنها غير صالحة لرفع اليد عن دليل اعتباره ، ولا ينحصر الدليل على الخبر بالإجماع ، كي يقال بأنه فيما لا يوجد على خلافه دلالة ، ومع وجود الدلالة القرآنية يسقط وجوب العمل به.

______________________________________________________

الخاص لأنّ المتواتر كالكتاب قطعيّ من حيث الصدور ، مع أنّه لم يعهد من العلماء طرح الخبر الخاص في مقابل عموم الخبر المتواتر والوجه في ذلك ما تقدّم من أنّ الخاص قرينة عرفية على المراد الجدي من العام ، ومع دوران الأمر بين التصرّف في أصالة العموم ورفع اليد عن دليل سند خبر الواحد بدليل اعتبار سنده يثبت القرينة على خلاف أصالة العموم ، بخلاف أصالة العموم فإنّها لا تعدّ قرينة لرفع اليد عن اعتبار سند خبر الواحد ، وحمل اعتباره على اعتبار خبر لا يكون على خلاف عموم الكتاب أو عموم الخبر المتواتر لا وجه له ، إذ لا ينحصر دليل اعتبار الخبر بالإجماع ليقال لا إجماع على العمل به إذا كان على خلاف عموم الكتاب ، كيف وقد تقدّم استمرار السيرة على العمل بالأخبار الخاصة في قبال العمومات الكتابية ، وما ورد في غير واحد من الروايات من لزوم طرح الأخبار المخالفة للقرآن وضربها على الجدار وأنها ممّا لم يقله الإمام عليه‌السلام يراد منها المخالفة التي لا يكون الخبر المخالف من قبيل القرينة ، بل لا يعدّ المعدود من القرينة مخالفا للقرآن عرفا فينحصر المراد

٣٠٦

كيف؟ وقد عرفت أن سيرتهم مستمرة على العمل به في قبال العمومات الكتابية ، والأخبار الدالّة على أن الأخبار المخالفة للقرآن يجب طرحها أو ضربها على الجدار ، أو أنها زخرف ، أو أنها مما لم يقل به الإمام عليه‌السلام ، وإن كانت كثيرة جدا ، وصريحة الدلالة على طرح المخالف ، إلّا أنه لا محيص عن أن يكون المراد من المخالفة في هذه الأخبار غير مخالفة العموم ، إن لم نقل بأنها ليست من المخالفة عرفا ، كيف؟ وصدور الأخبار المخالفة للكتاب بهذه المخالفة منهم عليهم‌السلام كثيرة جدا ، مع قوة احتمال أن يكون المراد أنهم لا يقولون بغير ما هو قول الله تبارك وتعالى واقعا ـ وإن كان هو على خلافه ظاهرا ـ شرحا لمرامه تعالى وبيانا لمراده من كلامه ، فافهم.

______________________________________________________

منه بما إذا كان مدلوله مباينا للكتاب مطلقا أو في مورد الاجتماع.

ويمكن أن يراد من تلك الأخبار هو انّ قولهم : لا يكون بخلاف قول الله واقعا وإن كان على خلاف ظاهر الكتاب فهو شارح ومبين لمراده سبحانه وتعالى من كلامه.

أقول : ما ذكره قدس‌سره من سيرة أصحاب الأئمة والمتشرعة على العمل بالخصوصات المنقولة بطريق الثقاة في مقابل العمومات صحيح ، إلّا أنّ الاستدلال على ذلك بأنّه لو لا العمل بخبر الواحد الخاص لما كان خبر الواحد معتبرا إلّا في موارد نادرة لا يمكن المساعدة عليه ، فإنّ الأخبار الواردة في اجزاء العبادات وشرائطها وموانعها مما ليس في مقابلها عموم أو إطلاق من الكتاب كثيرة ، حيث إنّ الخطابات الواردة في الكتاب في العبادات جلّها مجملة أو لا إطلاق فيها فضلا عن العموم لأنّها ليست في مقام بيان أجزائها وشرائطها وموانعها غالبا ، وإنّما تكون في مقام التشريع والتكليف بها ، ولذا يكون المرجع عند فقد الدليل على جزئية شيء أو شرطيته أو مانعيته لها ، الأصل العملي ، لا التمسك بتلك الخطابات بل يمكن دعوى

٣٠٧

والملازمة بين جواز التخصيص وجواز النسخ به ممنوعة ، وإن كان مقتضى القاعدة جوازهما ، لاختصاص النسخ بالإجماع على المنع ، مع وضوح الفرق بتوافر الدواعي إلى ضبطه ، ولذا قلّ الخلاف في تعيين موارده ، بخلاف التخصيص.

______________________________________________________

مثل ذلك بالإضافة إلى غير العبادات أيضا في الجملة ، كما في الشك في بعض الأمور المعتبرة.

وأمّا ما ذكره من احتمال أن يكون المراد من الأخبار الواردة في طرح المخالف ، هو المخالف لمراده سبحانه وتعالى واقعا وأنّهم عليهم‌السلام لا يخالفون المراد الواقعي من الكتاب ، فيدفعه : أنّ هذا الاحتمال لا يناسب ما ورد في عرض الخبر المنقول عنهم عليهم‌السلام على الكتاب وطرح ما يكون مخالفا له ، فإنّ هذا الضابط ينافي الاحتمال المذكور إذ مقتضى هذا الاحتمال المذكور ملاحظة ظاهر الكتاب مع ظاهر الخبر والمفروض أنّه لا سبيل لنا إلى المراد الواقعي لله سبحانه وتعالى إلّا من طريق ظاهر الكتاب كما لا يخفى على المتأمّل.

٣٠٨

فصل

لا يخفى أن الخاص والعام المتخالفين ، يختلف حالهما ناسخا ومخصصا ومنسوخا [١] ، فيكون الخاص : مخصصا تارة ، وناسخا مرة ، ومنسوخا أخرى ، وذلك لأن الخاص إن كان مقارنا مع العام ، أو واردا بعده قبل حضور وقت العمل به ، فلا محيص عن كونه مخصصا وبيانا له.

وإن كان بعد حضوره كان ناسخا لا مخصصا ، لئلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة فيما إذا كان العام واردا لبيان الحكم الواقعي ، وإلّا لكان الخاص أيضا مخصصا له ، كما هو الحال في غالب العمومات والخصوصات في الآيات والروايات.

______________________________________________________

العام والخاص المتخالفان

[١] قد ذكر قدس‌سره ما حاصله أنّه إذا اقترن خطاب الخاص بزمان خطاب العام أو ورد خطاب الخاص قبل حضور وقت العمل بخطاب العام ، فلا ينبغي التأمّل في كون الخاص مخصّصا ويكشف أنّ المدلول الاستعمالي للعام لم يكن مطابقا للمراد الجدّي من العام بجميع أفراده ، وكذلك الأمر فيما ورد خطاب الخاص بعد حضور وقت العمل بخطاب العام ولكن لم يكن الداعي للمولى من خطاب العام مجرّد الكشف عن تمام ما كان في مقام الثبوت ، بل كان الداعي إليه الكشف عن ذلك المقام في الجملة ، وجعل الحجة ـ يعني المعذّر ـ بالإضافة إلى الباقي لمصلحة في جعلها.

وهكذا الحال إذا ورد الخاص بعد ذلك ولو بزمان غير قصير ولكن كان قرينة على عدم ثبوت حكم العام للعنوان الداخل في الخاص من الأوّل ، كما هو الحال في

٣٠٩

وإن كان العام واردا بعد حضور وقت العمل بالخاص ، فكما يحتمل أن يكون الخاص مخصصا للعام ، يحتمل أن يكون العام ناسخا له ، وإن كان الأظهر أن يكون الخاص مخصصا ، لكثرة التخصيص ، حتى اشتهر (ما من عام إلّا وقد خص) مع قلة النسخ في الأحكام جدا ، وبذلك يصير ظهور الخاص في الدوام ـ ولو كان بالاطلاق ـ أقوى من ظهور العام ولو كان بالوضع ، كما لا يخفى ، هذا فيما علم تاريخهما.

وأما لو جهل وتردد بين أن يكون الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام وقبل حضوره ، فالوجه هو الرجوع إلى الأصول العملية.

______________________________________________________

عمومات الكتاب والسنة ، حيث ورد الخصوصات على خلافها ـ بعد زمان ـ في الروايات الصادرة والمنقولة عن المعصومين عليهم‌السلام.

لا يقال : على ذلك يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة وهذا من المولى الحكيم ، قبيح.

فإنّه يقال : إذا كان في جعل المعذّر للمكلّف صلاحا فلا محذور فيه ، ويكفي في الصلاح تسهيل طريق تلقّي الأحكام تدريجا وتسهيل العمل بها لئلّا يفرّ الناس عنها لكلفتها.

نعم ، إذا لم يكن في البين صلاح وكان الخطاب لمجرّد الكشف عن مقام الثبوت فلا يصحّ من الحكيم تأخير خطاب الخاص إلى ما بعد وقت العمل بالعام ، وإذا فرض ورود الخاص كذلك يكون خطاب الخاص ناسخا لعموم العام وكاشفا عن ثبوت حكم العام واقعا إلى زمان ورود الخاص.

ويتفرّع على ذلك أنّه لو ورد خطاب الخاص بعد خطاب العام ولم يعلم أنّه قبل حضور وقت العمل بالعام ليكون مخصّصا أو أنّه ورد بعد حضور وقت العمل

٣١٠

وكثرة التخصيص وندرة النسخ هاهنا ، وإن كانا يوجبان الظن بالتخصيص أيضا ، وأنه واجد لشرطه إلحاقا له بالغالب ، إلّا أنه لا دليل على اعتباره ، وإنما يوجبان الحمل عليه فيما إذا ورد العام بعد حضور وقت العمل بالخاص ، لصيرورة الخاص لذلك في الدوام أظهر من العام ، كما أشير إليه ، فتدبر جيدا.

ثم إن تعين الخاص للتخصيص ، إذا ورد قبل حضور وقت العمل بالعام ، أو ورد العام قبل حضور وقت العمل به ، إنما يكون مبنيا على عدم جواز النسخ قبل حضور وقت العمل ، وإلّا فلا يتعين له ، بل يدور بين كونه مخصصا وناسخا في الأول ، ومخصصا ومنسوخا في الثاني ، إلّا أن الأظهر كونه مخصصا ، وإن كان ظهور العام في عموم الأفراد أقوى من ظهوره وظهور الخاص في الدوام ، لما أشير إليه من تعارف التخصيص وشيوعه ، وندرة النسخ جدا في الأحكام.

______________________________________________________

به ليكون ناسخا أو يحتمل كونه ناسخا فلا سبيل إلى تعيين كونه ناسخا أو مخصّصا ، ولو ترتّب على كونه ناسخا أو مخصّصا أثر عملي فلا بدّ فيه من الرجوع إلى الأصول العملية ، وكثرة التخصيص وقلّة النسخ لا يوجب إلّا الظن بكونه مخصّصا لا ناسخا ولا اعتبار بالظنّ.

وهذا بخلاف ما ورد العام بعد حضور وقت العمل بالخاص المتقدّم ، فإنّ الخاص المتقدّم ، إمّا منسوخ بالعام المتأخّر أو أنّه مخصّص للعام المتأخّر ، وبما أنّ ظهور الخاص في دوام حكمه ، ولو كان بالإطلاق ، أقوى من ظهور العام في العموم بحسب أفراده ولو كانت هذه الدلالة بالوضع ، يكون الخاص المتقدّم قرينة على تخصيص العام وهذا التقريب لا مورد له في الخاص إذا ورد بعد العام وتردّد أمره بين كونه ناسخا لعموم العام أو مخصّصا له ، فإنّه كما ذكر يرجع فيه إلى الأصول العملية وذلك لأنّ الدوام في العام المتقدّم مقطوع العدم وإنّما يتردّد الأمر فيه بين انقطاعه

٣١١

.................................................................................................

______________________________________________________

من الأول ليكون الخاص مخصّصا أو فيما بعد ليكون الخاص ناسخا وحيث لا معين لأحدهما فيرجع إلى الأصول العملية.

وبالجملة الخاص من حيث زمان الورود مجمل بخلاف صورة ورود العام بعد حضور العمل بالخاص فإنّه لا إجمال في ناحية الخاص غاية الأمر ينافيه ظهور العام في العموم.

ثم ذكر قدس‌سره في آخر كلامه أنّ تعيّن الخاص لكونه مخصّصا فيما إذا ورد خطابه قبل حضور العمل بالعام أو ورد العام قبل حضور وقت العمل بالخاص يبتني على عدم جواز النسخ قبل حضور وقت العمل وإلّا فلا يتعيّن الخاص للتخصيص بل يدور أمره بين كونه ناسخا أو مخصّصا إذا ورد قبل حضور وقت العمل بالعام وبين كونه مخصّصا أو منسوخا إذا ورد العام قبل حضور العمل بالخاص.

أقول : لم يظهر الفرق بين كون الخاص مخصّصا أو ناسخا لعموم العام مع فرض وقوع النسخ قبل حضور وقت العمل بالعام ، نعم ، الفرق بينهما بالإضافة إلى المولى العرفي موجود ولكن الفرق بالإضافة إلى الأحكام الشرعية والأثر العملي المترتب على فعل المكلف فغير واضح.

وأمّا العام المتأخر فلا معنى لتردّد كون الخاص المتقدّم مخصّصا للعام المتأخّر أو كون العام المتأخر ناسخا للخاصّ قبل حضور وقت العمل بالخاص ، بل يتعين كون الخاص مخصّصا وإلّا كان خطاب الخاص مع نسخه قبل حضور وقت العمل به لغوا محضا وهذا من المولى الحكيم غير ممكن.

وأيضا ما ذكره قدس‌سره من أنّ الخاص إذا ورد بعد خطاب العام ولكن تردّد أمره بين

٣١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

أن يكون وروده قبل حضور وقت العمل بالعام ليكون مخصّصا للعام أو بعد حضوره ليكون ناسخا فاللازم الرجوع إلى الأصول العملية ، يلزم عليه أنّه لو كان خطاب العام في الكتاب المجيد والخاص منقولا عن الأئمة عليهم‌السلام بخبر الواحد أن لا يجوز رفع اليد بذلك الخبر عن عموم الكتاب بل يتعيّن العمل بالعام وإلغاء الخاص المزبور رأسا لأنه لم يثبت في الفرض كون الخاص المكشوف بالخبر عن الإمام عليه‌السلام واردا قبل حضور وقت العمل بعموم العام ، ولا يجوز نسخ الكتاب بخبر الواحد فيكون رفع اليد به عن عموم الكتاب من رفع اليد عن الحجة من غير إحراز حجة على خلافها.

ودعوى أنّه لا يحتمل وجود الناسخ للكتاب في الأخبار المروية عن الأئمة عليهم‌السلام لا يمكن المساعدة عليها ، فإنّه يحتمل أن يكون الناسخ مستودعا عندهم بإيداع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليظهروه في الزمان المناسب أو كان الخاص المروي عنهم عليهم‌السلام كاشفا عن الخاص الصادر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد حضور وقت العمل بالعام الوارد في الكتاب المجيد.

والصحيح في الجواب أنّه لا مورد للرجوع إلى الأصول العملية في فرض تردّد الخاص بين وروده قبل حضور وقت العمل بالعام أو بعده بل لا يكون خطاب الخاص كاشفا عن ثبوت مدلوله من حين تشريع الحكم الذي تضمّنه خطاب العام دائما.

وبتعبير آخر : خطاب الخاص قرينة عرفية على عدم إرادة العموم بحسب المراد الجدّي حين صدور خطاب العام ، بلا فرق بين كون خطابيهما مقترنين أو كان أحدهما قبل الآخر أم بعده فإنّ ظاهر خطاب النهي عن البيع الربوي هو أنّ الحكم الثابت له عند التشريع عدم الإمضاء ، فيكون الجمع بينه وبين مثل قوله سبحانه وتعالى. (أَحَلَ

٣١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

اللهُ الْبَيْعَ) أو (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) انّ الإمضاء واللزوم ثبوتا في غير ما ينطبق عليه عنوان الربا ولا ينظر في ذلك إلى زمان الصدور فإنّ حمل خطاب الخاص على أنّه حكم ثان لبعض أفراد العام ثبوتا ، بعد ثبوت حكم العام لتلك الأفراد إلى زمان طويل أو قصير يحتاج إلى قرينة خاصّة ، وإلّا فظاهر كلّ الخطابات الكشف عن مقام تشريع الأحكام وإن وردت خطاباتها تدريجا لما تقدّم من ملاحظة مصلحة التدريج في البيان.

وقد ذكرنا أنّ قبح تأخير البيان ليس من قبيل قبح الظلم في كونه ذاتيا بل لأجل وقوع المكلّف معه في مخالفة الحكم الواقعي وعدم علمه به ، وأمّا لو كان في تأخير البيان صلاح أو كان ذلك لاهتمام الناس بالتحفّظ على ما يتعلّمون من الأحكام ، وعدم فرارهم عن تعلّمها والعمل بها ، وعدم إعراضهم عن أوصياء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتخيل عدم حاجتهم إليهم عليهم‌السلام ، فلا محذور فيه.

ومما ذكرنا يظهر ثبوت المخصّصات والمقيّدات لعمومات الكتاب المجيد ومطلقاته ، عن الأئمة عليهم‌السلام بحيث يحصل الوثوق بعدم كون التخصيص والتقييد ثابتا قبل بيانهم عليهم‌السلام ، لا يوجب نسخ الأحكام المستفادة من عمومات الكتاب أو مطلقاته ، ليتوهّم عدم ثبوت النسخ بخبر الواحد ، وكذلك الحال في العمومات والمطلقات الصادرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالإضافة إلى ما ورد من الخاص والمقيّد الصادرين عن الأئمة : ، وقد ذكرنا تأخّر ورود الخاص عن العام حتّى بزمان غير قصير ، لا يكون نسخا ولا كاشفا عن الناسخ.

فما عن المحقّق العراقي قدس‌سره : من أنّ الخاص إذا كان مقدّما على العام ، فالأصل الجهتي فيه ، يتعارض مع الأصل الدلالي في العام ، وحيث لا ترجيح لأحدهما يتساقطان ، ويكون المرجع استصحاب حكم الخاص ، فينتج نتيجة التخصيص. وأمّا

٣١٤

ولا بأس بصرف الكلام إلى ما هو نخبة القول في النسخ [١] ، فاعلم أن النسخ وإن كان رفع الحكم الثابت إثباتا ، إلّا أنه في الحقيقة دفع الحكم ثبوتا ، وإنما اقتضت الحكمة إظهار دوام الحكم واستمراره ، أو أصل إنشائه وإقراره ،

______________________________________________________

إذا كان الخاص متأخّرا عن العام وصادرا بعد حضور وقت العمل بالعام وكان مخصّصا للعام ولو بإطلاقه بأن كشف عن ثبوت مدلوله من الأول ومن حين ورود العام لوقعت المعارضة بين ظهوره وظهور العام في ثبوت حكمه لجميع الأفراد ، فيتساقطان ومع تساقط الظهورين يكون المرجع هو الأصل العملي فتارة يكون مقتضاه موافقا للتخصيص كما إذا كان مفاد العام حكما إلزاميا مثل وجوب إكرام العلماء ، وكان مفاد الخاص حكما ترخيصيا مثل : عدم وجوب إكرام زيد العالم ، وأخرى يكون مقتضاه موافقا للنسخ كما إذا كان مفاد العام حكما ترخيصيا ، مثل : عدم وجوب إكرام العلماء وكان مفاد الخاص حكما إلزاميا مثل : وجوب إكرام زيد ، حيث مقتضى أصالة البراءة هو عدم وجوب إكرام زيد إلى زمان ورود الخاص فينتج النسخ (١). لا يمكن المساعدة عليه ، لما ذكرنا أنّ الخاص قرينة عرفية على المراد من العام ، تأخّر عن العام أو تقدّم عليه ، والتأخير عن زمان الحاجة لا يكون قرينة على النسخ لأنّ البيان قد يتأخّر لمصلحة في تأخيره على ما تقدّم.

حقيقة النسخ

[١] لا يخفى أنّ النسخ بمعناه الحقيقي بالإضافة إلى الأحكام هو إلغاء الحكم المجعول ، نظير الفسخ في المعاملة بعد عقدها ، ولا يتصور النسخ بهذا المعنى حقيقة ، ممّن لا يتصوّر في حقّه الجهل بجهات الفعل ، دون من يمكن في حقّه الجهل

__________________

(١) نهاية الأفكار ١ / ٥٥٧.

٣١٥

مع أنه بحسب الواقع ليس له قرار ، أو ليس له دوام واستمرار ، وذلك لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الصادع للشرع ، ربما يلهم أو يوحى إليه أن يظهر الحكم أو استمراره مع اطلاعه على حقيقة الحال ، وأنه ينسخ في الاستقبال ، أو مع عدم اطلاعه على ذلك ، لعدم إحاطته بتمام ما جرى في علمه (تبارك وتعالى) ، ومن هذا القبيل لعله يكون أمر إبراهيم بذبح إسماعيل.

وحيث عرفت أن النسخ بحسب الحقيقة يكون دفعا ، وإن كان بحسب الظاهر رفعا ، فلا بأس به مطلقا ولو كان قبل حضور وقت العمل ، لعدم لزوم البداء المحال في حقه (تبارك وتعالى) ، بالمعنى المستلزم لتغير إرادته تعالى مع اتحاد الفعل ذاتا وجهة ، ولا لزوم امتناع النسخ أو الحكم المنسوخ ، فإن الفعل إن كان مشتملا على مصلحة موجبة للأمر به امتنع النهي عنه ، وإلّا امتنع الأمر به ، وذلك لأن الفعل أو دوامه لم يكن متعلقا لإرادته ، فلا يستلزم نسخ أمره بالنهي تغيير إرادته ، ولم يكن الأمر بالفعل من جهة كونه مشتملا على مصلحة ، وإنما كان إنشاء الأمر به أو إظهار دوامه عن حكمة ومصلحة.

______________________________________________________

فإنّ الجاهل بها لخفاء جهة في الفعل يتخيّل أنّ فيه صلاحا ملزما فيأمر به ويبعث نحوه ثم يلتفت إلى جهة الفساد فيه فيلغي أمره به ، نظير من يعتقد أنّ في المعاملة الكذائية ربح وافر وبعد العقد يلتفت إلى كونها خاسرة ، فيفسخها بخيار أو إقالة ، والنسخ بهذا المعنى يمكن وقوعه قبل حضور وقت العمل وبعده كما يحصل الفسخ في الاجارة قبل عمل الأجير أو بعده ولا يخفى أنّ استمرار الحكم وإلغائه خارجان عن مدلول خطابي الأمر والنهي لأنّ بقائه أو إلغائه متأخّران عن مرتبة الجعل ، سواء كان المجعول حكما مؤقتا أو مستمرا ولا بدّ عند الشك في هذا النسخ كالشك في بقاء العقد أو فسخه من قبل ذي الخيار من استصحاب عدم النسخ كالاستصحاب في عدم فسخ المعاملة.

٣١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وأمّا النسخ المتصور في الأحكام الشرعية فلا يعقل أن يكون بالمعنى المتقدّم فإنّه إن كان الصلاح أو الفساد محدودا أو مؤقتا فيعتبر الشارع وجوبه أو حرمته إلى ذلك الحدّ والوقت وإن كان مطلقا ودائميا فيعتبر وجوبه أو حرمته مطلقا ودائما ، هذا بحسب مقام الثبوت ، حيث يقال إنّ النسخ في الأحكام يرجع إلى التقييد والتخصيص بحسب الزمان.

نعم ، ربما يكون خطاب الحكم بحسب مقام الإثبات مطلقا ويأتي خطاب المقيّد والمخصّص بحسب الزمان ، عند حلول ذلك الزمان ، وكما أنّه ربّما يكون المراد الجدّي من العام والمطلق ، عدم العموم والإطلاق بحسب الأفراد ويؤتي بالمخصّص أو المقيّد بعد ذلك فكذلك الحال في خطاب المخصّص أو المقيّد بحسب الأزمان وكما أنّه يؤخذ بالعموم والإطلاق بحسب الأفراد مع عدم ثبوت الخاص والمقيد وكذلك الحال بالإضافة إلى الشك في التخصيص والتقييد بحسب الأزمان.

وبالجملة ، المتّبع هو الإطلاق من جهة الزمان وإثبات المجعول هو الحكم المستمرّ بحسب الأزمان هذا بالإضافة إلى الخطابات المتضمّنة للتكاليف والأحكام حقيقة كما هو ظاهر الخطاب الشرعي.

وأمّا الحكم المنشأ لا بداعي الطلب الحقيقي بل بدواع أخر من التهديد والاعتذار أو إظهار حال العبد وغير ذلك مما لا يكون الداعي إلى الإنشاء إلّا تحقّق صورة الحكم فيمكن النسخ فيه قبل العمل بمعنى إظهار أنّ المنشأ كان صورة الحكم من غير تعلّق غرض في الإتيان بالمتعلّق أصلا ، لأنّ الصلاح الداعي إلى الإنشاء والإبراز إنّما كان في نفس إبراز الحكم لا في نفس الحكم واقعا.

وفي الحقيقة ، ليس هذا القسم من قبيل الحكم والأمر والنهي حقيقة من الأول

٣١٧

وأما البداء في التكوينيات [١] بغير ذاك المعنى ، فهو مما دل عليه الروايات المتواترات ، كما لا يخفى ، ومجمله أن الله تبارك وتعالى إذا تعلقت مشيته تعالى بإظهار ثبوت ما يمحوه ، لحكمة داعية إلى إظهاره ، ألهم أو أوحى إلى نبيه أو وليه أن يخبر به ، مع علمه بأنه يمحوه ، أو مع عدم علمه به ، لما أشير إليه من عدم الإحاطة بتمام ما جرى في علمه ، وإنما يخبر به لأنه حال الوحي أو الإلهام لارتقاء نفسه الزكية ، واتصاله بعالم لوح المحو والإثبات اطلع على ثبوته ، ولم يطلع على كونه معلقا على أمر غير واقع ، أو عدم الموانع ، قال الله تبارك وتعالى : (يمحو الله ما يشاء ويثبت) الآية ، نعم من شملته العناية الإلهية ، واتصلت نفسه الزكية بعالم اللوح المحفوظ الذي هو من أعظم العوالم الربوبية ، وهو أم الكتاب ، يكشف عنده الواقعيات على ما هي عليها ، كما ربما يتفق لخاتم الأنبياء ، ولبعض الأوصياء ، كان عارفا بالكائنات كما كانت وتكون.

______________________________________________________

وإن جعله الماتن قدس‌سره وغيره ممن تبعه من قسم الحكم ، وما كان من الترديد في كلامه من ابتناء وقوع النسخ على إمكانه قبل حضور وقت العمل كان يريد هذا المعنى من النسخ ، وقد ذكرنا أنّه ليس من قسم الحكم حقيقة ليقال إنّه نسخ ، بل هو إنشاء صورة الحكم بحيث يتراءى للمخاطب أنّه حكم واقعي ثم حين النسخ يكشف عن حقيقته.

حقيقة البداء في التكوينيات

[١] قد ذكر الماتن قدس‌سره انّ البداء في التكوينيات مما ثبت وقوعه بالروايات المتواترة والمراد منه ليس تغيّر إرادة الله سبحانه وتعالى ومشيئته لما تقدّم من امتناعه على الله سبحانه وتعالى بل المستفاد من تلك الأخبار وجهان :

أوّلهما : أنّ الله سبحانه وتعالى قد يكشف لنبيّه أو وليّه (صلوات الله وسلامه عليهما) وقوع شيء يمحوه فيوحى أو يلهم إليهما أن يخبرا وقوع ذلك الشيء مع علمهما بعدم

٣١٨

نعم مع ذلك ، ربما يوحى إليه حكم من الأحكام ، تارة بما يكون ظاهرا في الاستمرار والدوام ، مع أنه في الواقع له غاية وأمد يعينها بخطاب آخر ، وأخرى بما يكون ظاهرا في الجد ، مع أنه لا يكون واقعا بجد ، بل لمجرد الابتلاء والاختبار ، كما أنه يؤمر وحيا أو الهاما بالإخبار بوقوع عذاب أو غيره مما لا يقع ، لأجل حكمة في هذا الإخبار أو ذاك الإظهار ، فبدا له تعالى بمعنى أنه يظهر ما أمر نبيه أو وليه بعدم إظهاره أولا ، ويبدي ما خفي ثانيا.

وإنما نسب إليه تعالى البداء ، مع أنه في الحقيقة الإبداء ، لكمال شباهة إبدائه تعالى كذلك بالبداء في غيره ، وفيما ذكرنا كفاية فيما هو المهم في باب النسخ ، ولا داعي بذكر تمام ما ذكروه في ذاك الباب كما لا يخفى على أولي الألباب.

______________________________________________________

وقوعه وأنّه يمحوه الله سبحانه وتعالى أو مع عدم علمهما بالمحو المزبور لأنّ النبي أو الولي لا يحيط بتمام ما جرى في علمه سبحانه وتعالى لأنّ حال الوحي أو الإلهام ترتقي نفسه الزكية وتتصل بلوح المحو والإثبات فيطّلع على وقوع شيء ولا يطلع على كونه معلّقا على أمر غير واقع ، أو على عدم المانع ، قال الله سبحانه وتعالى. (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ)(١) ، وكلّ من إظهاره سبحانه وتعالى ، وقوعه ، والأمر بالإخبار به ، إنّما هو لمصلحة داعية إلى ذلك من ترتّب توبة الناس عليه أو انبعاثهم إلى عمل خير خاص ، أو غير ذلك مما يظهر للعباد بعد ذلك.

ثانيهما : أنّ من شملته العناية الإلهية فاتّصلت نفسه الزكية بعالم اللوح المحفوظ الذي هو من أعظم العوالم الربوبية وهو أمّ الكتاب الذي ينكشف عنده الواقع على ما هو عليه ، كما قد اتّفق ذلك لخاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعض الأوصياء عليهم‌السلام فيعرف الكائن على ما يكون ، ومع ذلك يؤمر وحيا أو إلهاما ، بوقوع عذاب أو غيره مما لا يقع لحكمة

__________________

(١) سورة الرعد : الآية ٣٩.

٣١٩

ثم لا يخفى ثبوت الثمرة بين التخصيص والنسخ ، ضرورة أنه على التخصيص يبنى على خروج الخاص عن حكم العام رأسا ، وعلى النسخ ، على ارتفاع حكمه عنه من حينه ، فيما دار الأمر بينهما في المخصص ، وأما إذا دار بينهما في الخاص والعام ، فالخاص على التخصيص غير محكوم بحكم العام أصلا ، وعلى النسخ كان محكوما به من حين صدور دليله ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

داعية إلى هذا الاخبار ، ثم يظهر سبحانه وتعالى ما أمر نبيّه أو وليه عدم إظهاره في الابتداء من عدم وقوع العذاب أو غيره ويبدي ما خفي على العباد ثانيا ، فيكون البداء من الله سبحانه وتعالى بمعنى الإبداء والإظهار ، وإطلاق البداء على هذا الإبداء لشباهته بالبداء من غيره سبحانه وتعالى صورة من ثبوت الشيء في المستقبل أو الإخبار به أوّلا وظهور خلافه ثانيا مما كان خفيا على من بيده الإثبات والقرار والاخبار.

أقول : الأخبار الواردة في البداء (١) متواترة إجمالا ، وقد ورد في بعضها أنّ البداء مما يعبد به الله سبحانه وتعالى ، وأنّه تعظيم لله سبحانه وتعالى ، وأنّه ما بعث نبيّا إلّا وقد ألزم أن يعلم أنّ الله سبحانه وتعالى يقدّم ما يشاء ويؤخّر ما يشاء ، وأنّ لله سبحانه وتعالى علمين علم مخزون لا يعلمه إلّا هو فمن ذلك يكون البداء ، وعلم علّمه ملائكته ورسوله وأنبيائه فنحن نعلمه ، وأنّ من الأمور أمور موقوفة عند الله يقدّم ما يشاء ويؤخّر منها ما يشاء إلى غير ذلك.

وليتّضح مفاد الاخبار لا بدّ من ملاحظة أمرين :

الأوّل : عدم تخلّف العلم عن المعلوم ، فالعلم المخزون عند الله لا يتخلّف عن المعلوم خارجا ، وإلّا لم يكن علما ، سواء كان حضوريا أو حصوليا ، ولكنّ هذا العلم أيضا لا يوجب خروج المعلوم ـ إذا كان فعلا من الافعال ـ عن قدرة الفاعل واختياره ،

__________________

(١) الأصول من الكافي ١ / ١٤٦ باب البداء.

٣٢٠