دروس في مسائل علم الأصول - ج ٣

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-94850-9-1
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

إكرام كلّ عالم الذي لا يرتكب الكبيرة ولا يصرّ على الصغيرة ، وفعلية هذا العنوان خارجا يوجب فعلية حكم العام ، فالخطابان مع إحراز الصغرى حجة على الحكم الفعلي ، وأمّا مع عدم إحراز الصغرى فالحكم وإن أمكن أن يكون فعليا كما إذا كان فرد عالما ولم يعلم ارتكابه الكبيرة أو إصراره على الصغيرة إلّا أنّ الخطابين لا يعيّنان تحقّق الصغرى أي فعلية العنوان الذي يكون العام حجّة فيه بعد التخصيص ، بل الأمر كذلك حتّى إذا كان مدلول خطاب العام حكما بنحو القضية الخارجية ومدلول خطاب الخاص قضية حقيقية ، إذ بتقيّد الموضوع في خطاب العام بعدم انطباق عنوان الخاص على الخارج ، يكون الموضوع في القضية الحقيقيّة عين المأخوذ في العام مع القيد المدلول عليه في الخاص.

وبالجملة تعيين الموضوع للحكم خارجا من حيث التحقّق وعدمه خارج عن عهدة الخطاب المتضمّن لبيان الحكم بنحو القضية الخارجية.

نعم ، إذا لم يكن الخاص كالعام على نحو القضية الحقيقيّة بأن لم يوكّل إحراز الموضوع في خطاب الخاص إلى المكلّف كقوله «أكرم هؤلاء» مشيرا إلى جماعة من الجلساء ، ثمّ قال : «لا تكرم هؤلاء» مشيرا إلى بعض منهم ، وشك في وقوع الإشارة الثانية إلى زيد وعمرو وبكر أو هم مع خالد فإنّه يتمسّك بالعام فإنّ المثال يدخل في إجمال خطاب الخاص ودوران الأمر بين كون المراد منه هو الأقل أو الأكثر وليس من قبيل التمسّك بالعام في شبهته المصداقية ، فلا تغفل.

وذهب الشيخ العراقي قدس‌سره إلى أنّ الموضوع لحكم العام لا يتقيّد بورود خطاب الخاص بل يكون الموضوع لحكمه هو الموضوع له قبل وروده ، وأوضح ذلك بأنّه كما أنّ انقضاء فرد أو أفراد من العام بموت أو نحوه لا يوجب تقييدا في الموضوع

٢٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

لحكم العام كذلك خروج فرد أو أفراد منه بخطاب الخاص لا يوجبه وإذا ورد في خطاب «أكرم كلّ عالم» ثمّ ورد في خطاب آخر «لا تكرم زيدا العالم» أو كان خطاب العام «أكرم كلّ عالم إلّا زيدا» لا يكون الموضوع لحكم العام إلّا الانطباقات لعنوان العام ، وكما أنّ موت زيد لا يوجب تقييدا في ناحية الموضوع لحكم العام ولا تعنونه بعنوان وجودي أو عدمي كذلك في إخراجه عن حكم العام لا يوجبه وذلك لقصور ملاك الحكم فيه أو في غيره ، وهذا بخلاف باب الإطلاق والتقييد فإنّ خطاب القيد يكون مقيّدا للمطلق الذي علّق عليه الحكم ويوجب تعنونه بعنوان عدمي أو وجودي ولذا لو شك في مصداق القيد لم يقل أحد بجواز التمسّك بخطاب المطلق في ذلك المصداق المشتبه ، كالشك في طهارة ماء مثلا فيما إذا شك في أنّه لاقى النجاسة أم لا؟ فلا يمكن التمسّك بإطلاق ما دلّ على كون الماء مطهّرا من الحدث والخبث ، هذا كلّه بلحاظ مقام الثبوت.

وأمّا بالنسبة إلى مقام الإثبات فقد يحرز أنّ الخطاب مقيّد ، كما لو ورد بلسان الاشتراط أو نفي الحقيقة مثل قوله عليه‌السلام : «لا صلاة إلّا بطهور» ، وقد يعلم أنّه من قبيل المخصّص للعام كقوله : «لا تكرم زيدا» بعد قوله : «أكرم كلّ عالم» أو كقوله : «أكرم كلّ عالم إلّا زيدا».

وقد يتردّد بين كون الخطاب الخاص مخصّصا أو مقيّدا ، كما إذا قال «أكرم كلّ عالم» ثمّ ورد «لا تكرم الفسّاق من العلماء» حيث يدور الأمر بين كونه مقيّدا بأن يكون الموضوع لطلب الإكرام كلّ عالم غير فاسق أو كونه مخصّصا بأن يخرج عن حكم العام الانطباقات المندرجة في عنوان الفاسق من العلماء ، نظير خروج زيد وعمرو وخالد من وجوب إكرام العلماء ، وكما أنّ خروج أفراد منه لا يوجب تقييد العام

٢٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وتعنونه فكذلك خروج انطباقات الفاسق من العلماء لا يوجبه فالباقي يطلب إكرامهم بما هم انطباقات العالم ولا يطلب إكرام انطباقات الفاسق من العلماء ، إمّا لقصور المقتضي أو للابتلاء بالمزاحم أو غير ذلك.

وعلى ذلك ، فلو كان الموضوع للحجية هو الظهور التصوري لكلّ خطاب ، أي ما يتبادر منه إلى ذهن السامع لعلمه بالوضع ولو كان المتكلّم غير شاعر أو غير ملتفت بمعنى أنّه إذا صدر هذا الكلام من متكلّم مريد لإظهار مراده الواقعي يكون ذلك الظهور التصوري حجّة على مراده الواقعي والظهور التصوري في كلّ من خطابي العام والخاص من المتزاحمين في الأفراد التي يعلم أنّها من انطباقات الخاص ، وحيث إنّ الظهور التصوري للخاص في تلك الأفراد أقوى من جهة الكشف عن مراده الواقعي من ظهور العام فيؤخذ فيها بظهور خطاب الخاص وأمّا بالإضافة إلى ما لا يعلم انطباقه في عنوان الخاص ، فلا تزاحم بين الظهورين فيؤخذ فيه بظهور خطاب العام ، هذا فيما كان خطاب الخاص مخصّصا.

وأمّا إذا كان مقيّدا للعام بأن يكون الموضوع لطلب الإكرام العالم غير الفاسق ، فلا يمكن الأخذ بخطاب العام في الفرد المشكوك لعدم إحراز كونه من مصاديق المقيّد ، وعليه فإن لم يعلم أنّ خطاب الخاص مخصّص أو مقيّد يمكن الحكم باعتبار الظهور التصوري للعام بالإضافة إلى الفرد المشكوك ، حيث إنّ أصالة إطلاق العام غير جارية بالإضافة إلى الانطباقات المحرزة أنّها داخلة في عنوان الخاص للعلم بخروجها عن حكم العام سواء كان بتقييده أو بتخصيصه وتجري أصالة الإطلاق في ناحية العام وعدم تقيّده بغير عنوان الخاص لاندراج الفرد المشكوك في حكم العام والنتيجة الأخذ بالظهور التصوري للعام في ذلك الفرد المشكوك.

٢٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

ولكن ذكر في آخر كلامه أنّ الموضوع للحجية ليس الظهور التصوري للخطاب ، فإنّ الظهور يعتبر لكونه كاشفا نوعيا عن الواقع والكاشف النوعي هو الظهور التصديقي بأن يعلم أنّ الغالب إرادة المتكلّم ذلك المعنى من الكلام المزبور وبما أنّ هذا غير حاصل بالإضافة إلى كون المتكلّم في مقام تعيين أنّ الفرد الخارجي من أفراد العام وغير داخل في عنوان المخصّص فإن كان الشك في الفرد من جهة الشبهة الحكمية في أنّ المتكلّم أخرج الفرد المزبور عن حكم العام أو لم يخرجه فلا بأس بالتمسّك بالعام وإثبات أنّه لم يخرج عن حكم العام. وأمّا إذا شك فيه من جهة الشبهة المصداقية لعنوان الخاص فلا يعتبر لعدم الظهور التصديقي بالإضافة إلى تعيين حال الفرد خارجا من جهة بقائه تحت عنوان العام أو كونه داخلا في عنوان الخاص المحرز خروجه عن العام (١).

أقول : حيث انتهى كلامه إلى بيان أنّ الوجه في عدم جواز التمسّك بالعام في موارد الشبهة المصداقية لعنوان الخاص هو أنّ العام لا تعرّض له لبقاء فرد تحته أو دخوله في العنوان الخاص وهذا عين الوجه الذي ذكرناه من أنّ خطاب الخاص إذا كان بمفاد القضية الحقيقية دون الخارجية لا يمكن التمسّك بخطاب العام لأنّ تشخيص انطباق عنوان العام على فرد وعدم انطباق عنوان الخاص عليه خارج عن مدلولهما وموكول إلى إحراز المكلّف على ما تقدّم.

وأمّا عدم التقييد في عنوان العام بخطاب لا تكرم زيدا ولا تكرم عمروا فالوجه فيه هو كون خطاب الخاص قضية خارجية ، وقد تقدّم أنّ خطابه إذا كان بمفاد القضية

__________________

(١) نهاية الأفكار ١ / ٥٢٤ ـ ٥١٩.

٢٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

الخارجية يكون الشك في حكم فرد آخر من الشك في تخصيص آخر في خطاب العام لا من الشك في الشبهة المصداقية لعنوان الخاص ، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ الموضوع للاعتبار والحجّية ليس المعنى التصوري ، أي ما يخطر بالبال من الألفاظ المسموعة على الهيئة التركيبية ، ولو من غير شاعر أو مجنون ، بل الموضوع له المدلول الاستعمالي التصديقي ، أي ما يصحّ إسناده إلى المتكلّم وأنّه أراد تفهيم هذا المعنى من كلامه وخطابه ، وهذا المدلول الاستعمالي قد يوافق مراده الجدّي وقد لا يوافقه أصلا أو تماما والسيرة العقلائية جارية على البناء على التطابق بين المدلول الاستعمالي والمراد الجدي ما لم تقم قرينة عرفية على عدم تطابقهما ، وقد مرّ أنّ الكلام الملقى من المولى بمفاد القضية الحقيقية غير دالّ على تعيين الموضوع للحكم الوارد فيه وتمييزه بحسب الخارج حتّى بمدلوله الاستعمالي ، بل مدلوله الاستعمالي بيان الحكم لذلك الموضوع على تقدير فعلية الموضوع خارجا ، وعلى ذلك فتعيّن أنّ الفرد المشكوك بالشبهة الخارجية غير داخل في العنوان المبيّن للخاص وأمر خارج عن مدلول خطابي العام والخاص. بل غاية ما يقتضيه أصالة التطابق في ناحية خطاب الخاص أنّ حكم العام ثبوتا يثبت في العالم الذي لا ينطبق عليه عنوان الخاص ، وبعد كشفه عن ذلك فكيف يؤخذ بعموم العام أي بأصالة التطابق لإثبات أنّ المشتبه مصداقا محكوم بحكم العام وغير داخل في عنوان الخاص. ولا يقاس ذلك بموارد إجمال خطاب الخاص من حيث المفهوم ودوران الأمر بين سعة معناه وضيقه فإنّه مع الإجمال لا دلالة في ناحية خطاب الخاص إلّا على أنّ الموضوع لحكم العام مقيّد بعدم كون مصداق العام مما يدخل في المعنى الضيّق حيث إنّ القرينة فرع الدلالة ، ولذا يؤخذ بأصالة التطابق في ناحية العام

٢٤٥

وأما إذا كان لبيا ، فإن كان مما يصح أن يتّكل عليه المتكلم [١] ، إذا كان بصدد البيان في مقام التخاطب ، فهو كالمتصل ، حيث لا يكاد ينعقد معه ظهور للعام إلّا في الخصوص ، وإن لم يكن كذلك ، فالظاهر بقاء العام في المصداق المشتبه على حجيته كظهوره فيه.

______________________________________________________

بالإضافة إلى عدم دلالة الخاص على خلافه فما ذكره المحقق العراقي قدس‌سره من أنّ أصالة العموم في ناحية العام أمارة على الفرد المشكوك بالشبهة الخارجية وأنّه غير داخل في أفراد الخاص وجعل الأمارة للشبهة المصداقية من شأن الشارع غير مبتن على أساس صحيح بعد ما ذكرنا من سقوط أصالة التطابق في ناحية عموم العام بالإضافة إلى كلّ ما يدخل في العنوان المبيّن من الخاص ، فتدبّر.

المخصّص اللبّي

[١] كلّ ما تقدّم من المباحث إنّما كان بالإضافة إلى المخصّص اللفظي ، وأمّا بالإضافة إلى المخصص اللبّي ، كالإجماع والسيرة ، فذكر الماتن قدس‌سره ما حاصله :

أنّه إذا كان المخصّص اللبي بمثابة من الوضوح بحيث يمنع عن انعقاد ظهور العام في العموم فلا يمكن التمسّك به في مورد الشبهة المصداقية لذلك المخصّص ، بل حكمه حكم العام المتصل به المخصّص اللفظي كما في قوله سبحانه وتعالى (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فإنّه لا ظهور في ناحية «كلّ شيء» بالإضافة إلى الممتنعات ، بل مفاده أنّه لا يشذّ عن قدرته سبحانه وتعالى أيّ شيء ممكن ولو شك في إمكان شيء وامتناعه لا يمكن الأخذ بهذا العموم لإثبات إمكانه ومن هنا لم يتمسك به أحد لإثبات جواز التعبّد بالامارة غير المفيدة للعلم وجدانا.

وأمّا إذا لم يكن المخصّص اللبّي بهذه المثابة بحيث ينعقد معه ظهور للعام في العموم لكونه مما لا يلتفت إليه إلّا بعد التأمّل والنظر فيمكن التمسّك بالعام في

٢٤٦

والسرّ في ذلك ، أن الكلام الملقى من السيد حجة ، ليس إلّا ما اشتمل على العام الكاشف بظهوره عن إرادته للعموم ، فلا بد من اتباعه ما لم يقطع بخلافه ، مثلا إذا قال المولى : (أكرم جيراني) وقطع بأنه لا يريد إكرام من كان عدوا له منهم ، كان أصالة العموم باقية على الحجية بالنسبة إلى من لم يعلم بخروجه عن عموم الكلام ، للعلم بعداوته ، لعدم حجة أخرى بدون ذلك على خلافه ، بخلاف ما إذا كان المخصص لفظيا ، فإن قضية تقديمه عليه ، هو كون الملقى إليه كأنه كان من رأس لا يعم الخاص ، كما كان كذلك حقيقة فيما كان الخاص متصلا ، والقطع بعدم إرادة العدو لا يوجب انقطاع حجيته ، إلّا فيما قطع أنه عدوه ، لا فيما شك فيه ، كما يظهر صدق هذا من صحة مؤاخذة المولى لو لم يكرم واحدا من جيرانه لاحتمال عداوته له ، وحسن عقوبته على مخالفته ، وعدم صحة الاعتذار عنه بمجرد احتمال العداوة ، كما لا يخفى على من راجع الطريقة المعروفة ، والسيرة المستمرة المألوفة بين العقلاء التي هي ملاك حجية أصالة الظهور.

______________________________________________________

الشبهة المصداقية للمخصّص اللبّي ، وذلك لأنّ الكلام الملقى إلى المكلّف بعنوان الحجّة واحد وهو خطاب العام ورفع اليد عنه بالإضافة إلى الأفراد التي يحرز حكم العقل فيها من رفع اليد عن حجّة بحجّة أخرى وهي العلم بعدم ثبوت حكم العام لها ، وأمّا بالإضافة إلى الأفراد التي لا يحرز كونها موردا لحكم العقل يكون رفع اليد فيها عن خطاب العام من رفع اليد عن الحجّة بلا علم بالخلاف كما إذا قال لعبده «أكرم جيراني» وجزم العبد بأنّ مولاه لا يريد إكرام عدوّه يكون رفع اليد عن ظهور خطاب العام بالإضافة إلى المحرز عداوته عذرا ، بخلاف رفع اليد بالإضافة إلى المحتمل عداوته ، ويظهر ذلك لمن سار مع السيرة المألوفة في المحاورات ، فانّ العرف يرى ظهور العام حجّة إلّا بالإضافة إلى الأفراد التي أحرز حكم العقل فيها.

٢٤٧

وبالجملة كان بناء العقلاء على حجيتها بالنسبة إلى المشتبه هاهنا بخلاف هناك ، ولعله لما أشرنا إليه من التفاوت بينهما ، بإلقاء حجتين هناك ، تكون قضيتهما بعد تحكيم الخاص وتقديمه على العام ، كأنه لم يعمه حكما من رأس ، وكأنه لم يكن بعام ، بخلاف هاهنا ، فإن الحجة الملقاة ليست إلّا واحدة ، والقطع بعدم إرادة إكرام العدو في (أكرم جيراني) مثلا ، لا يوجب رفع اليد عن عمومه إلّا فيما قطع بخروجه من تحته ، فإنه على الحكيم إلقاء كلامه على وفق غرضه ومرامه ، فلا بد من اتباعه ما لم تقم حجة أقوى على خلافه.

بل يمكن أن يقال : إن قضية عمومه للمشكوك ، أنه ليس فردا لما علم بخروجه من حكمه بمفهومه ، فيقال في مثل (لعن الله بني أمية قاطبة) : إن فلانا وإن شك في إيمانه يجوز لعنه لمكان العموم ، وكل من جاز لعنه لا يكون مؤمنا ، فينتج أنه ليس بمؤمن ، فتأمل جيّدا.

______________________________________________________

ولعلّ الموجب للفرق بين المخصّص اللفظي المنفصل واللبّي من قبيل هذا القسم في نظرهم ، هو أنّ ما يلقى الى المكلّف بعنوان الحجّة خطابان ويكون مقتضى الجمع العرفي بينهما تقييد موضوع العام بما لا ينطبق عليه عنوان المخصّص ففي النتيجة يكونان بمنزلة خطاب واحد ، بخلاف المخصّص اللبّي فإنّ الملقى بعنوان الحجة خطاب واحد ولا تنافي بين الحجّتين ليجمع بينهما بالتقييد بل رفع اليد عن العموم لكون العلم في مورد إحراز حكم العقل حجّة ذاتا ، بخلاف ما لم يحرز حكمه فيه.

أقول : الموجب لعدم جواز التمسّك بعموم العام في الشبهة المصداقية لعنوان الخاص الوارد في خطاب منفصل هو كشف خطاب الخاص عن تقيّد موضوع العام ثبوتا ، بعدم انطباق العنوان الوارد في خطاب الخاص على فرده ، وبعد هذا الكشف لا قيمة لظهور العام في كون الموضوع لحكمه عنوان العام بنحو اللابشرط

٢٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

ولا لانطباقه على فرد كذلك.

ومن الظاهر أنّه لا فرق في هذا الكشف بين كون الخاص واردا في خطاب منفصل أو ثبت بدليل لبّي من إجماع أو سيرة المتشرّعة أو حكم العقل ، فإنّه لو ورد في الخطاب لزوم تغسيل الميّت وقام الإجماع على عدم وجوب تغسيل المقتول بالقصاص يكون الإجماع كاشفا عن تقييد الموضوع لوجوب التغسيل بعدم انطباق المقتول قصاصا على الميّت ، ومع الشك في ميّت بالشبهة الخارجية في كونه مقتولا قصاصا لا يفيد العموم بالإضافة إلى لزوم تغسيله.

وبالجملة بعد انكشاف التقيد في الموضوع لحكم العام ثبوتا لا مورد لأصالة التطابق لا لصدق العام على المشكوك ، بل لأنّ عنوانه بنحو اللابشرط ليس بموضوع لحكمه ثبوتا.

نعم ، ربّما يتوهم انّ الخاص اللبّي إذا كان من حكم العقل لا يكون كاشفا عن تقيّد موضوع العام بوصف وجودي أو عدمي ، لأنّ الموضوعات في الأحكام العقلية هي الملاكات لا العناوين حتّى يتقيّد بها العام في كونه موضوعا لحكمه.

ولكنّه مندفع : بأنّ حكم العقل لا يكون من قبيل الجزئي بل من الكلّي ، غاية الأمر يكون الحكم متعلّقا بما هو الملاك.

وبتعبير آخر : يكون العنوان التعليلي في الحكم العقلي عنوانا تقييديا كحسن العدل والإحسان وقبح الظلم والعدوان ، أو حكمه بلزوم الإطاعة والاجتناب عن المعصية ، أو حكمه بلزوم دفع الضرر المحتمل وهكذا ، فإذا ورد في خطاب أنّه لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا بطيب نفسه ، يكون مخصّصا بما إذا لم يكن التصرّف فيه

٢٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

إحسانا إلى مالكه وإنقاذا له أو لماله عن الهلاكة والتلف ، ولو شك في مورد أنّ التصرّف المعيّن إنقاذ للمالك من الهلكة فلا يمكن الحكم بحرمته بالأخذ بالعموم المفروض حيث إنّ حكم العام وإن لم يتقيّد بملاكه إلّا أنّه متقيّد بعدم ملاك الإنقاذ ، وقد تقدّم (١) أنّ مع كون الخاص حكما بنحو القضية الحقيقية لا يجوز التمسّك بالعام ، سواء كان مدلوله أيضا بمفاد القضية الحقيقية أو الخارجية.

نعم ، إذا كان خطاب العام بمفاد القضية الخارجية أو الحقيقية واستفيد منه أنّ المتكلّم بنفسه أحرز عدم انطباق عنوان آخر مخالف في حكمه لحكم العام على الأفراد الخارجية التي يحويها العموم كما في قوله عليه‌السلام : «لعن الله بني أمية قاطبة» حيث إنّ مباشرته عليه‌السلام بلعن بني أمية بنحو العموم مقتضاه إحرازه عدم وجود مؤمن صالح فيهم ، ففي مثل ذلك يؤخذ بالعموم ولا يبعد أن يقال إنّ قول المولى لعبده «أكرم جيراني» من هذا القبيل.

بقي في المقام أمران :

أحدهما : أنّه قد يقال : إذا كان الوارد في خطاب الخاص عنوانا وجوديا مستثنى عن حكم العام يستفاد من الخطابين أنّ عنوان العام مقتض لحكمه وإنّما يمنع عنه تحقّق عنوان الخاص فيكون تحقّقه مانعا ومزاحما عن تأثير العام وفعلية حكمه في فرده ، ففي مورد الشك في تحقّق عنوان الخاص يؤخذ بمقتضى العام لأصالة عدم المانع وعدم المزاحم له.

وفيه : أنّ قاعدة المقتضي والمانع في نفسها لا أساس لها وإن أريد بأصالة عدم

__________________

(١) تقدم في الصفحة ٢٣٨.

٢٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

المانع موارد جريان الاستصحاب في ناحية عدم كون الفرد من العام وأنّه داخلا في عنوان الخاص ، ففي هذه الصورة يلزم إحراز الموضوع لحكم العام في فرده بعدم كونه مصداقا لعنوان الخاص كما يأتي ، وإلّا فلا يمكن إثبات حكم العام بمجرّد الشك في وجود المانع بعد إحراز المقتضي.

الثاني : ما إذا ثبت حرمة إكرام زيد ودار الأمر بين كون المراد منه زيد العالم حتى يكون خطاب النهي عن إكرامه مخصّصا لخطاب إكرام كلّ عالم وبين كون المراد منه غير العالم ليكون خروجه عن خطاب العام بالتخصّص ، وحيث لم يقم في الفرض قرينة على تخصيص العام يكون عمومه متّبعا فإنّ المقام من موارد الشك في التخصيص وينحلّ العلم الإجمالي بحرمة إكرام واحد من المسميين بزيد بالعموم الدال على إكرام كلّ عالم والعموم لا يقل عن سائر الأمارات القائمة على نفي التكليف في بعض أطراف العلم الموجبة لانحلاله.

ولكن قد يقال : إنّ العام المفروض لا يمكن الأخذ به في زيد العالم فضلا عن كونه موجبا لانحلال العلم الإجمالي بحرمة إكرام أحد المسميين بزيد ، وذلك فإنّ العام لا يقاس بالبينة القائمة بتعيين المعلوم بالإجمال أو بالخبر الدال على وجوب إكرام زيد العالم ، حيث إنّ الخبر المفروض بضميمة العلم الإجمالي الحاصل بحرمة إكرام أحدهما يكون دالّا على حرمة إكرام زيد الآخر.

وبتعبير آخر : للخبر الدال على إكرام زيد العالم مدلول التزامي يؤخذ به ، وهذا بخلاف العام فإنّه متضمّن للحكم بعنوان القضية الحقيقية ولا نظر له إلى خصوص الافراد فلا يكون موجبا لانحلاله بل يكون العلم الإجمالي بحرمة إكرام أحد الزيدين موجبا لسقوط العموم عن الاعتبار.

٢٥١

إيقاظ : لا يخفى أن الباقي تحت العام بعد تخصيصه بالمنفصل أو كالاستثناء من المتصل ، لما كان غير معنون [١] بعنوان خاص ، بل بكل عنوان لم يكن ذاك بعنوان الخاص ، كان إحراز المشتبه منه بالأصل الموضوعي في غالب الموارد ـ إلّا ما شذ ـ ممكنا ، فبذلك يحكم عليه بحكم العام وإن لم يجز التمسك به بلا كلام ،

______________________________________________________

ولكن لا يخفى ما فيه ، فإنّ العام وإن لم يتكفّل لبيان الحكم الفعلي ابتداء إلّا أنّه يثبته بعد ضمّ صغراه إليه ، وبضمّ العلم الإجمالي يكون كاشفا عن أنّ المحرّم هو إكرام زيد الآخر ، ودعوى أنّه لا حاجة في انحلال العلم إلى هذا الإثبات بل يكفي فيه مجرّد العلم الإجمالي بحرمة إكرام أحدهما لا يخفى ما فيها ، فإنّه لو لم يحرز بعموم العام أنّ المنهي عن إكرامه زيد الآخر لكان حرمة إكرام زيد الآخر مجرى لأصالة البراءة ، فيوجب العلم الإجمالي المفروض سقوط عموم العام وسقوط أصالة البراءة في كلّ من الزيدين عن الاعتبار.

وبالجملة هذا المثال من أمثلة موارد إجمال الخطاب الآخر بعموم العام ، فتدبّر.

إحراز الفرد المشكوك بأصالة العدم الأزلي

[١] لا يخفى أنّ الخاص يكون كاشفا عن تقيّد موضوع العام إمّا ثبوتا فقط كما في الخاص المنفصل ، أو حتّى إثباتا كما في المتصل الذي بمفاد الاستثناء نعم التقيد ليس إلّا هو عدم اتصاف فرده بعنوان الخاص وعدم انطباق عنوان الخاص عليه.

وعليه فإن كانت الحالة السابقة في الفرد المشتبه دخوله في عنوان الخاص عدم اتصافه به وعدم دخوله تحته ، يكون مقتضى الاستصحاب في ناحية عدم انطباق عنوان الخاص عليه بقائه تحت العام ، كما إذا كانت الحالة السابقة اتصافه بعنوان الخاص واندراجه تحته يكون الاستصحاب في ناحية اتصافه به وانطباق

٢٥٢

ضرورة أنه قلما لا يوجد عنوان يجري فيه أصل ينقح به أنه مما بقي تحته ، مثلا إذا شك أن امرأة تكون قرشية ، فهي وإن كانت وجدت اما قرشية أو غيرها ، فلا أصل يحرز أنها قرشية أو غيرها ، إلّا أن أصالة عدم تحقق الانتساب بينها وبين قريش تجدي في تنقيح أنها ممن لا تحيض إلّا إلى خمسين ، لأن المرأة التي لا يكون بينها وبين قريش انتساب أيضا باقية تحت ما دلّ على أن المرأة إنما ترى الحمرة إلى خمسين ، والخارج عن تحته هي القرشية ، فتأمل تعرف.

______________________________________________________

عنوان الخاص عليه مخرجا لذلك الفرد عن العموم.

نعم ، إذا تبادل الحالتان في فرد بأن اتّصف بعنوان الخاص في زمان ولم يكن متصفا به في زمان آخر واشتبه المتقدّم بالمتأخّر فلا يمكن الاستصحاب في ناحية الاتصاف وفي ناحية عدم الاتصاف للمعارضة بين الاستصحابين أو لعدم جريان الاستصحاب في ناحيتهما أصلا ، ولكن تبادل الحالتين كذلك قليل ولذا قال الماتن قدس‌سره «يكون إحراز المشتبه بالأصل الموضوعي في غالب الموارد ـ إلّا ما شذّ ـ ممكنا».

والحاصل أنّه في المصداق المشتبه يمكن في غالب موارده إحراز الموضوع بضمّ الوجدان إلى الأصل فيقال إنّ زيدا عالم وجدانا وبالاستصحاب في ناحية عدم كونه فاسقا يحرز أنّه مصداق لما هو الموضوع لوجوب الإكرام وهذا فيما كانت الحالة السابقة للفرد الاتصاف بذلك العنوان أو عدم الاتصاف بمفاد كان الناقصة أو ليس الناقصة ظاهر.

وأمّا إذا كانت الحالة السابقة للفرد بنحو السالبة بانتفاء الموضوع مع ترتّب حكم العام ثبوتا على السالبة بانتفاء المحمول ففيه كلام ، وهو أنّ الاستصحاب في عدم انطباق عنوان الخاص على فرد ليس له حالة سابقة ، وعدم حصول ذلك العنوان بمفاد ليس التامّة لا يثبت نفي انطباق عنوان الخاص عليه بمفاد ليس الناقصة أو أنّه

٢٥٣

.................................................................................................

______________________________________________________

لا يثبت اتصاف الفرد بنفيه كما هو مفاد القضية المعدولة مثلا إذا شك في كون مرأة قرشية أم لا ، فهي في الواقع إمّا قرشية وإمّا غير قرشية ، أو أنّها إمّا تكون قرشية أو لا تكون ، ولكن ليس لاتصافها بالقرشية أو عدمها حالة سابقة بمفاد كان الناقصة. غاية الأمر يصدق قولنا أنّها لم تكن بقرشية بنحو السالبة بانتفاء الموضوع ، ونفي هذا الانتساب لا يثبت أنّها بعد وجودها ليست بقرشية أو أنّها غير قرشية.

وذكر الماتن قدس‌سره أنّ الاستصحاب في عدم انتساب المرأة إلى قريش يكفي في الحكم عليها بأنّها تحيض إلى خمسين سنة المستفاد من قوله «كل امرأة تحيض إلى خمسين إلّا أن تكون قرشية» (١) ، فإنّ استثناء القرشية وأنّها تحيض إلى ستين سنة وإن أوجب تقيّد الموضوع المأخوذ في خطاب العام إلّا أنّ التقييد ليس بمفاد العدم النعتي المعبّر عنه بمفاد كان الناقصة والقضية المعدولة ، حتّى يكون الموضوع للتحيّض إلى خمسين سنة ، كلّ امرأة غير القرشية ، ليقال ليس لهذا الموضوع ـ أي العدم النعتي وكون المرأة غير القرشية ـ حالة سابقة ليستصحب ، والموجود من الحالة السابقة هو العدم المحمولي المعبّر عنه ب (ليس) التامّة ، وليقال إنّ نفي الانتساب إلى قريش بهذا المفاد لا يثبت كون المرأة المفروضة غير قرشية ، بل التقييد الحاصل بمفاد الاستثناء المتصل أو الخاص المنفصل هو مفاد السالبة المحصّلة فإنّ العام بعد التخصيص يبقى موضوعا لحكمه إلّا أنّه يتقيّد بأن لا ينطبق على مصداقه عنوان الخاص بأن يسلب عمّا يصدق عليه عنوان العام ، عنوان الخاص ، ونفي

__________________

(١) لم أظفر على هذا التعبير في الروايات بل ما ظفرت عليه هو هذا التعبير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إذا بلغت المرأة خمسين سنة لم تر حمرة إلّا أن تكون من قريش. الوسائل : ج ٢ ، باب ٣١ من أبواب الحيض.

٢٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

اتصاف الموجود من فرد العام بعنوان الخاص يكفي فيه العدم في الحالة السابقة ولو بنحو السالبة بانتفاء الموضوع ، حيث إنّ نفي الاتصاف والعرض لا يتوقف على وجود الموضوع والمعروض بل الاتصاف والعرض في وجوده يحتاج إلى الموضوع والمعروض ، ولذا كما تصدق السالبة المحصلة في مورد السالبة بانتفاء المحمول كذلك تصدق في مورد السالبة بانتفاء الموضوع.

وبالجملة ، الموضوع لحكم العام بعد الاستثناء أو بعد ورود الخاص المنفصل وإن صار مقيدا بالعدم بمفاد السالبة بانتفاء المحمول ولكن يكفي في إحراز هذا الموضوع ، الاستصحاب في نفي الاتصاف بمفاد السالبة بانتفاء الموضوع ، حيث إنّ بعد وجود الموضوع وبقاء النفي السابق في ناحية الاتصاف ـ يعني بقاء عدم الاتصاف بعنوان الخاص على حاله ـ يتحقّق موضوع العام ويحرز قيده بمفاد السالبة بانتفاء المحمول.

وبتعبير آخر : لا يقاس مفاد ليس الناقصة بمفاد كان الناقصة ، حيث يعتبر في جريان الاستصحاب بمفاد كان الناقصة حصول الاتصاف سابقا سواء كان اتصاف الشيء بأمر وجودي ، أو بأمر عدمي كما هو مفاد القضية المعدولة ، بخلاف الاستصحاب في ناحية نفي الاتصاف بمفاد ليس الناقصة الذي هو مفاد السالبة المحصلة ، فإنّه يحرز مفادها بنحو السالبة بانتفاء المحمول ، ولو كانت الحالة السابقة بنحو السالبة بانتفاء الموضوع.

وقد تحصّل من جميع ما ذكرنا أنّ المنكر للاستصحاب في العدم الأزلي في المقام إن أراد أنّ الموضوع لحكم العام بعد ورود التخصيص لا يبقى على إطلاقه وإنّما يتقيّد باتصاف فرده بغير عنوان الخاص الذي مفاده العدم النعتي المعبّر عنه

٢٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

بمفاد القضية المعدولة فقد بيّنا أنّه لا يستفاد من الاستثناء أو خطاب الخاص إلّا اعتبار نفي عنوان الخاص في فرد ينطبق عليه عنوان العام بنحو السالبة المحصّلة ، وإن أراد أنّ الاستصحاب في العدم المحمولي أو ما هو مفاد السالبة بانتفاء الموضوع لا يثبت السلب الناقص وما هو مفاد السالبة بانتفاء المحمول ، فقد ذكرنا أنّ السالبة بانتفاء الموضوع سلب ناقص ، ولكن إذا أحرز بقاء السلب بعد وجود الموضوع يثبت مفاد السالبة بانتفاء المحمول وهذا المقدار يكفي لتحقق الموضوع إذا الموضوع مركب من أمر وجودي وعدمي بمفاد واو الجمع.

ومما ذكرنا يظهر الخلل فيما ذكره المحقّق النائيني قدس‌سره في وجه عدم إحراز الفرد المشتبه في عدم كونه من أفراد الخاص بالأصل في العدم الأزلي ، حيث ذكر أنّ الأوصاف القائمة بوجود العام سواء كان الوصف من العناوين المتأصلة أو الانتزاعية إمّا أن يكون العام مطلقا في موضوعيته بالإضافة إلى تلك الأوصاف أو مقيّدا بقيامها بالعام أو بعدم قيامها ، وإذا ورد في الخطاب «كل امرأة تحيض إلى خمسين سنة إلّا القرشية» أو ورد في خطاب «تحيض كل امرأة إلى خمسين سنة» وورد في خطاب آخر «تحيض القرشية إلى ستين» يكون الموضوع لحكم العام ـ أي المرأة ـ مقيّدا بكونها غير القرشية ، حيث لا يمكن إبقاء العام على إطلاقه لأنّه ينافي الاستثناء بالمتصل أو خطاب الخاص المنفصل والمرأة بقيد القرشية موضوع لحكم مخالف ، فيتعيّن أن يكون الموضوع لحكم العام المرأة المقيّدة بعدم القرشية والاستصحاب في عدم انتساب المرأة إلى قريش لا يثبت أنّها متصفة بعدم القرشية (١).

__________________

(١) أجود التقريرات ١ / ٤٦٤.

٢٥٦

.................................................................................................

______________________________________________________

والوجه في الاشكال هو أنّ العام وإن كان لا يبقى على إطلاقه ثبوتا أو حتى إثباتا في الاستثناء بالمتصل في كونه موضوعا لحكمه إلّا أنّ القيد هذا ليس مفاده الاتصاف بعدم القرشية بنحو القضية المعدولة كما هو مفاد كان الناقصة ، بل غاية دلالة الاستثناء أو خطاب الخاص أنّ موضوع العام مقيّد بأن لا ينطبق عليه عنوان الخاص ، يعني مقيّد بعدم الاتصاف بعنوان الخاص لا الاتصاف بعدم الخاص. وقد تقدّم أنّ عدم الوصف للموصوف لا يحتاج إلى ثبوت الموصوف كما في ثبوت الوصف وليس قائما به كقيام العرض به فإنّ العرض والوصف في ثبوته يحتاج إلى الموصوف ، وإذا كان المقيّد بالعدم المحمولي موضوعا لحكم وكانت الحالة السابقة السالبة بانتفاء المحمول وأحرز وجود الموضوع بالوجدان كفى في إحراز قيده جريان الاستصحاب في ناحية عدم الوصف ، حيث إنّ تقيّد الموضوع بالعرض بنحو القيام مختصّ بفرض وجود العرض والوصف وأمّا في فرض عدمه ففي الحقيقة يكون الموضوع بمفاد واو الجمع ، بأن يوجد ذات الموضوع ولا يكون له وصف ، واعتبار تقيّد الموضوع بعدم الوصف بأن يكون المفاد مفاد القضيّة المعدولة يحتاج إلى قرينة ودليل ، والفرق بين تقيّد العام بوصف عدم عنوان الخاص وبين تقيّده بعدم التوصيف بعنوان الخاص وعدم انطباق عنوانه عليه مما لا يكاد يخفى ، ومما يساعد عليه الاستثناء أو خطاب الخاص هو التقييد بالنحو الثاني دون الأول ، وعلى ذلك فيمكن إثبات الموضوع لحكم العام بضمّ ما يجري فيه الاستصحاب إلى ما هو محرز بالوجدان.

وإن شئت قلت الارتباط بين الوصف والموصوف بمفاد كان الناقصة في ناحية ثبوت الوصف لا في ناحية نفي الوصف ولذا يصحّ سلب شيء ونفيه عن شيء حتّى

٢٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

مع عدم الارتباط بينهما في الوجود ، كقوله «ليس الإنسان بحجر» وقبحه إنّما هو لكونه من اللغو وبيان الواضحات ، بخلاف السلب في موارد يحتمل ثبوت العنوان المنفي للشيء كما هو ظاهر.

ومما ذكر يظهر الحال في الصلاة في اللباس المشكوك في أنّه من أجزاء ما لا يؤكل بناء على أنّ المأخوذ في الصلاة عدم وقوعها فيه ، حيث يصحّ أن يقال : كان زمان لم يكن فيه صلاة فيما لا يؤكل لحمه ، ولا واقع مقارنتها مع أجزاء ما لا يؤكل ، وبعد الإتيان بالصلاة نحتمل بقاء واقع عدم مقارنتها مع اجزاء ما لا يؤكل بحاله ، فيحرز بضمّ الوجدان إلى الأصل حصول متعلّق الأمر.

نعم ، إذا كان عدم لبس غير مأكول اللحم أو عدم حمله معتبرا في ناحية المصلي فيجري الاستصحاب بمفاد ليس الناقصة حيث إنّ الشخص لم يكن لابسا ولا حاملا لما لا يؤكل لحمه قبل لبس المشكوك أو حمله ، ومقتضى الاستصحاب بقائه على ما كان بعد لبسه أو حمله له ، وأمّا إذا كان مأخوذا في ناحية اللباس والمحمول يكون الاستصحاب في عدم انتساب اللباس أو المحمول إلى ما لا يؤكل لحمه ـ كالاستصحاب في عدم كون الصلاة فيما لا يؤكل ـ من الاستصحاب في العدم الأزلي ، كعدم انتساب المرأة إلى قريش.

وربّما يدّعى بما أنّ الثوب أو المحمول كان موجودا في الخارج بصورة ما من الصور النوعية ولم يكن جزءا من أيّ حيوان فيمكن الاستصحاب بمفاد السالبة بانتفاء المحمول ، ولكنّ الصحيح أنّه بالدقّة العقلية وإن كان كذلك إلّا أنّه بنظر العرف لا يكون موجودا قبل تكوّن الحيوان ، سواء كان مما يؤكل أو مما لا يؤكل ، فتدبّر.

ثمّ إنّه قد ينسب إلى المشهور أنّهم يقولون بجواز التمسّك بالعام في الشبهة

٢٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

المصداقية لعنوان المخصّص ويستظهر ذلك من حكمهم بالضمان فيما دار أمر اليد على مال الغير بكونه يد ضمان أو غيرها ، ولكن ذكر بعض الأصحاب أنّ حكمهم بالضمان لقاعدة المقتضي والمانع نظرا إلى أنّ اليد مقتضية للضمان ، وكونها يد أمان ، مانعة عن ذلك وإذا شك في وجود المانع بعد إحراز المقتضي يحكم بعدمه ، وذهب بعض آخر إلى انّ الحكم بالضمان غير مبني على شيء من الوجهين بل من جهة الاستصحاب في عدم كون اليد أمانيّة ولو بنحو الاستصحاب في العدم الأزلي حيث إنّ الموضوع للضمان وضع اليد على مال الغير مع عدم الاستيمان وإذا أحرز وضعها على المال وجرى الاستصحاب في عدم الاستيمان يتمّ الموضوع لضمان المال.

أقول : قد تقدّم عدم جواز التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية لعنوان المخصّص بل عموم حديث «على اليد» (١) لضعفه لا يحسب من العام الذي ورد عليه التخصيص وقاعدة المقتضي والمانع لا أساس لها كما ذكرنا.

نعم ، الموضوع لضمان المال وضع اليد على مال الغير بغير استيمان من مالكه أو ولّى مالكه أو من الشرع وإذا أحرز وضع اليد وجرى الأصل في عدم الاستيمان يتمّ الموضوع لضمان المال وقد ذكرنا أنّ هذا هو الموضوع لضمان المال في سيرة العقلاء ويستفاد ذلك من الأدلة الشرعية من التعليلات الواردة في نفي ضمان التالف بكون ذي اليد أمينا.

وقد ظهر من جميع ما ذكرنا أنّ جريان الاستصحاب في ناحية عدم اتصاف الفرد بعنوان المخصّص من صغريات ما يحرز فيه الموضوع للحكم بضمّ الوجدان

__________________

(١) سنن أبي داود : ٣ ، ٢٩٦ / ٣٥٦١ ، لم أظفر عليه في المصادر الحديثة عندنا.

٢٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

إلى الأصل وضابط ما يحرز فيه الموضوع كذلك هو أنّ الموضوع إذا كان في لسان الدليل مركّبا من المعروض وعرضه يكون الموضوع بمفاد كان الناقصة لا محالة وترتّب هذا الحكم على المصداق المشتبه يتوقّف على ثبوت الحالة السابقة بمفاد كان الناقصة ، وإذا لم تكن الحالة السابقة بمفاد كان الناقصة يكفي في نفي الحكم المزبور جريان الاستصحاب في ناحية عدم عرضه حتّى فيما كانت الحالة السابقة بنحو السالبة بارتفاع الموضوع فإنّ مع إحراز ذات الموضوع وإحراز عدم عرضه ولو بالأصل يتمّ مفاد السالبة بانتفاء المحمول ، وكذا فيما إذا كان الشيء مع عدم ثبوت الوصف والعرض موضوعا لحكم كالحكم بفساد الصلاة فيما كانت الصلاة فيما لا يؤكل لحمه فإنّ الموضوع لصحتها ليست وقوعها فيما يؤكل ولذا تصحّ الصلاة فيما إذا لم يكن ثوبه من أجزاء الحيوان أصلا ولا مستصحبا له ، بل الموضوع للفساد الصلاة فيما لا يؤكل لحمه ومع إحراز نفس الصلاة وإحراز أنّه لا يستصحب ما لا يؤكل لحمه ، أو أنّ الّذي معه لم يكن مما لا يؤكل لحمه ، يحرز الموضوع لصحتها ، ولا يعارض باستصحاب عدم كون لباسه أو ما عليه مما يؤكل ، فإنّه غير موضوع لصحتها كما تقدّم ، هذا كلّه بالإضافة إلى العرض ومعروضه.

وأمّا إذا كان الموضوع مركّبا من عرض وغير معروضه أو من عرضين لمعروض واحد أو لمعروضين أو من معروضين فلا بدّ من لحاظ خطاب الحكم فإن كان موضوعه عنوان بسيط انتزاعي مثل عنوان التقدّم والتأخّر والتفاوت ونحوها فبإحراز أحد الجزءين بالوجدان والآخر بالأصل ، لا يحرز ذلك العنوان البسيط المنتزع عن واقعهما ويتفرّع على ذلك ما عن الشيخ الانصاري قدس‌سره من عدم إحراز إدراك الجماعة بركوع المأموم مع شكّه في بقاء الإمام في الركوع عند وصوله إلى حدّه فإنّ الموضوع

٢٦٠