دروس في مسائل علم الأصول - ج ٣

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-94850-9-1
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الموضوع الوارد في الخطاب على الحكم بأن لا يكون لذلك الموضوع حكم أو محمول آخر سواء كان ذلك في الأحكام الشرعية كما في قوله : إنّما العصير حرام ، أي ليس له حكم النجاسة أيضا ، أو كان في غيرها كقوله سبحانه وتعالى (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ)(١) ، بمعنى أنّه لا يثبت للدنيا وصف غيره.

نعم ، ربّما يكون الحصر في غير الإنشائيات ادّعائيا ، وفي الإنشائيات والأحكام إضافيا كما هو الحال في الحصر بأداة الاستثناء أيضا.

وأخرى في حصر الحكم على الموضوع فلا يثبت ذلك الحكم في غيره كقوله عليه‌السلام : «إنّما الحكرة في الحنطة والشعير والتمر والزيت والسمن والزبيب» (٢) ، «وإنّما وضع الزكاة على الحنطة والشعير والتمر والزبيب والذهب والفضة والغنم والبقر والإبل» (٣).

ثمّ إنّ الخلاف في كون المستفاد من حصر الموضوع على المحمول أو حصر المحمول على الموضوع مفهوما أو منطوقا كالخلاف في الحصر المستفاد من الاستثناء غير مهمّ ، وإنّما المهمّ إحراز ظهورها في الحصر. ويمكن إثبات ظهورها فيه بتبادر الحصر إلى أذهان أهل اللسان والمحاورة ولا يتوقّف إحراز ذلك منها على

__________________

(١) سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الآية ٣٦.

(٢) الوسائل : ج ١٢ ، باب ٢٧ من أبواب آداب التجارة ، الحديث ٤ والحصر الوارد في هذا الحديث إنما هو ب (إلّا) لا (انّما) نعم في الحديث ١ باب ٢٨ بعده وارد بلفظة إنّما ، لكن يختلف مضمونه.

(٣) الوسائل : ج ٦ ، باب ٨ من أبواب ما تجب فيه الزكاة ، الحديث ١٦ مع اختلاف يسير ، إليك نص الحديث : عن أبي عبد الله عليه‌السلام انّ الزكاة إنّما تجب جميعها في تسعة أشياء حضها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بفريضتها فيها ... الخبر.

٢٠١

وربما يعد مما دلّ على الحصر ، كلمة (بل) الاضرابية [١] ، والتحقيق أن الإضراب على أنحاء :

منها : ما كان لأجل أن المضرب عنه ، إنما أتى به غفلة أو سبقه به لسانه ، فيضرب بها عنه إلى ما قصد بيانه ، فلا دلالة له على الحصر أصلا ، فكأنه أتى بالمضرب إليه ابتداء ، كما لا يخفى.

ومنها : ما كان لأجل التأكيد ، فيكون ذكر المضرب عنه كالتوطئة والتمهيد لذكر المضرب إليه ، فلا دلالة له عليه أيضا.

ومنها : ما كان في مقام الردع ، وإبطال ما أثبت أولا ، فيدل عليه وهو واضح.

______________________________________________________

وجود مرادف لها في لغتنا لنلاحظ ذلك المرادف كما ناقش في دلالتها عليه بذلك الشيخ الأعظم قدس‌سره (١). ومع الإغماض عن ذلك فلا ينبغي التأمّل في أنّ الهيئة التركيبية التي توجب إظهار الحصر في لغتنا يؤتى بدلها بكلمة «إنّما» في لغة العرب ، مثلا إذا قيل بالفارسية : «اينست وجز اين نيست ، زكاة به نه چيز گذاشته شده» يقال في لغة العرب «إنّما وضع الزكاة على تسعة أشياء».

نعم لا يثبت هذا الظهور بتصريح أهل اللغة كما هو ظاهر كلام الماتن قدس‌سره ، فإنّه لا اعتبار بقولهم في تعيين الظهورات ، بمعنى أنّه لا يثبت الظهور بتصريحهم.

دلالة (بل) الاضرابية على الحصر

[١] وممّا يدلّ على الحصر ـ يعني الحصر الإضافي ـ (بل) الاضرابية ، والمراد بالحصر الإضافي فيها دلالتها على عدم ثبوت الحكم الوارد في الخطاب للموضوع قبلها ويثبت للمذكور بعدها ، كما إذا قيل : يجب إكرام زيد بل عمرو ، وهذا فيما إذا

__________________

(١) مطارح الأنظار : ١٨٨.

٢٠٢

ومما يفيد الحصر ـ على ما قيل ـ تعريف المسند إليه باللام [١] ، والتحقيق أنه لا يفيده إلّا فيما اقتضاه المقام ، لأن الأصل في اللام أن تكون لتعريف الجنس ، كما أن الأصل في الحمل في القضايا المتعارفة ، هو الحمل المتعارف الذي ملاكه مجرد الاتحاد في الوجود ، فإنه الشائع فيها ، لا الحمل الذاتي الذي ملاكه الاتحاد

______________________________________________________

كان الإضراب عن الموضوع وأمّا إذا كان الإضراب عن الحكم والمحمول فيدلّ على عدم ثبوت الحكم الأوّل وأنّ الثابت للموضوع هو الحكم المذكور بعدها كما إذا قيل : يحرم إكرام زيد بل يجب ، وهذا مع عدم إمكان الحكمين للموضوع ظاهر.

ثمّ إنّ دلالتها على الحصر بالمعنى المتقدّم موقوفة على عدم كون الإضراب للغفلة بأن لا يؤتى بالموضوع الأوّل أو الحكم الأوّل بلا قصد وبنحو سبق اللسان ، حيث إنّ هذا النحو من الإضراب لا يقتضي نفي الحكم عن الموضوع الذي قبلها ونفي الحكم الوارد قبلها عن الموضوع ، ولذا ربّما يصرّح المتكلّم بأنّ ما سبق به لساني لا أدري واقع أم لا ، وكذا يتوقّف دلالتها على الحصر على عدم كونها مستعملة في مقام التأكيد والتمهيد لما يذكر بعدها ، المعبّر عنها في بعض الأحيان بكون الإضراب للترقّي وإلّا يثبت الحكم لكلا الموضوعين أو يثبت كلا الحكمين ولا يبعد أن يقال إنّ «بل» الإضرابية وما هو بمفادها في خطاب لا يحمل على كون الإضراب للغفلة عمّا ذكر أوّلا ، فإنّ عدم الخطأ والغفلة عن التكلّم كسائر الأفعال أصل عقلائي وأمّا كونها للتأكيد والتمهيد أو للإضراب المقتضي للحصر فيحتاج كلّ منهما إلى قرينة معيّنة كما لا يخفى.

اقتضاء تعريف المسند إليه للحصر

[١] قد عدّ من أداة الحصر لام التعريف الداخلة على المسند إليه ، وقد تقدّم أنّ الحصر يكون بالإضافة إلى المحمول تارة ، وبالإضافة إلى الموضوع أخرى بأن

٢٠٣

بحسب المفهوم ، كما لا يخفى ، وحمل شيء على جنس وماهية كذلك ، لا يقتضي اختصاص تلك الماهية به وحصرها عليه ، نعم ، لو قامت قرينة على أن اللام للاستغراق ، أو أن مدخوله أخذ بنحو الإرسال والإطلاق ، أو على أن الحمل عليه كان ذاتيا لأفيد حصر مدخوله على محموله واختصاصه به.

وقد انقدح بذلك الخلل في كثير من كلمات الأعلام في المقام ، وما وقع منهم من النقض والإبرام ، ولا نطيل بذكرها فإنه بلا طائل ، كما يظهر للمتأمل ، فتأمل جيدا.

______________________________________________________

لا يثبت لذلك الموضوع غير ذلك الحكم والمحمول ، وظاهر كلام الماتن قدس‌سره أنّ تعريف المسند إليه يعني المبتدأ يقتضي الحصر ، يعني حصر المبتدأ على الخبر واختصاصه به بأن لا يكون لذلك المبتدأ خبر آخر إذا كانت اللام للاستغراق أو كان مدخولها مرادا بنحو الإطلاق والإرسال أو كان الحمل ذاتيا ، إذ مع اتحاد الموضوع والمحمول من حيث المفهوم لا يمكن حصول أحدهما بدون الآخر.

ولكن كلّ ذلك يحتاج إلى قيام قرينة على إرادته بحسب المقام فإنّ اللّام ظاهرها إرادة نفس الجنس والحمل ظاهر في كونه حملا شائعا ، فاتّحاد شيء مع ذات الجنس وجودا لا ينافي اتّحاده مع آخر ، أي اتّحاد ذات الجنس مع شيء آخر بأن يحمل على ذات الجنس شيء آخر ، لأنّ لذات الجنس حصص تتحد إحداها مع شيء وأخراها مع شيء آخر ، كما لا يخفى.

أقول : المعروف في كلمات علماء الأدب أنّ تقديم ما يكون حقّه التأخير مع إدخال اللام عليه يفيد الحصر كما إذا قيل : القائم زيد ، أو : انّ العالم بكر ، أو : الأمير خالد ، والحق بذلك تعريف المسند في الكلام كقوله : زيد العالم ، وبكر القائم.

ولا يبعد القول بدلالة الأوّل على الحصر ، لأنّ تعيين ما يصدق عليه الجنس في شيء لا يقبل التوسعة ، لازمه انحصاره على المحمول ولو كان هذا التعيين في بعض

٢٠٤

.................................................................................................

______________________________________________________

الاستعمالات أو أغلبها ادّعائيا لا حقيقيا ، ولعلّه إلى ذلك يرجع ما أفاده المحقّق الاصفهاني قدس‌سره في المقام حيث قال : «ويمكن تقريب إفادته للحصر بأنّ المعروف عند أهل الميزان ـ ولعلّه كذلك عند غيرهم أيضا ـ انّ المعتبر في طرف الموضوع هو الذات وفي طرف المحمول هو المفهوم حتّى في الأوصاف العنوانية المجعولة موضوعات في القضايا ، فالقائم مثلا وإن كان مفهوما كلّيا لم يؤخذ فيه ما يوجب اختصاصه بشيء خاصّ إلّا أنّ جعله موضوع القضية حقيقة ، لا بعنوان تقديم الخبر ، فاعتباره موضوعا اعتباره ذاتا ، فهو ـ بما هو ـ ذات واحدة لا يعقل أن تعرضه خصوصيات متباينة كخصوصية الزيدية والعمروية والبكرية بل لا يكون الواحد إلّا معروضا لخصوصية واحدة فاعتبار المعنى الكلّي ذاتا بجعله موضوعا ، وفرض المحمول أمرا غير قابل للسعة والشمول هو المقتضي للحصر دائما لا تقديم الخبر ولا تعريف المسند إليه ، بمعنى إدخال اللّام عليه» (١).

__________________

(١) نهاية الدراية ١ / ٤٤٣.

٢٠٥

فصل

لا دلالة للّقب ولا للعدد على المفهوم ، وانتفاء سنخ الحكم عن غير موردهما أصلا [١] ، وقد عرفت أن انتفاء شخصه ليس بمفهوم ، كما أن قضية التقييد بالعدد منطوقا عدم جواز الاقتصار على ما دونه ، لأنه ليس بذاك الخاص والمقيد ، وأما

______________________________________________________

مفهوم اللّقب والعدد

[١] المراد باللّقب ما هو أعم فيشمل الجامد والوصف غير المعتمد على موصوف ولا ينبغي التأمّل في أنّ تعلّق الحكم في الخطاب بعنوان يعدّ من الاسم الجامد أو الوصف ـ كما في قوله «أكرم العالم» ـ لا يقتضي انتفاء سنخ الحكم عن مورد لا ينطبق على ذلك العنوان أو الوصف ، حيث إنّ ثبوت شيء لشيء لا ينافي ثبوت سنخه لغيره وهذا ظاهر.

وكذا لا مفهوم للعدد سواء ذكر العدد في ناحية متعلّق الحكم أو موضوعه فإنّه إذا اعتبر العدد في ناحية متعلّق التكليف لا يكون الإتيان بالأقلّ أو الأكثر امتثالا للتكليف المزبور كاعتبار أربع ركعات فإنّ تحديد كلّ من صلاتي الظهرين بها في ناحيتي القلّة والكثرة معناه أنّ الإتيان بالأقلّ من الأربع والأكثر منها لا يكون امتثالا للتكليف بالصلاتين ، وهذا لا يرتبط بالمفهوم ، كما أنّه لو كان التحديد بلحاظ الأقلّ فقط لا يكون الإتيان بالأقلّ من العدد امتثالا ولا يضرّ الإتيان بالأكثر ، بل ربّما يكون الإتيان بالأكثر أفضل كتحديد الذكر الأصغر في الركوع والسجود بثلاث مرات فلا يجزي الإتيان بالأقل من الثلاثة ، وأمّا الزيادة فلا بأس بها بل يكون أفضل.

وكذا الحال فيما كان العدد مذكورا في ناحية الموضوع كما إذا ورد في خطاب «يجتنب الصائم عن ثلاثة : الأكل والشرب والنساء» فلا دلالة لها على عدم كون غير

٢٠٦

الزيادة فكالنقيصة إذا كان التقييد به للتحديد بالإضافة إلى كلا طرفيه ، نعم لو كان لمجرد التحديد بالنظر إلى طرفه الأقل لما كان في الزيادة ضير أصلا ، بل ربما كان فيها فضيلة وزيادة ، كما لا يخفى ، وكيف كان ، فليس عدم الاجتزاء بغيره من جهة دلالته على المفهوم ، بل إنما يكون لأجل عدم الموافقة مع ما أخذ في المنطوق ، كما هو معلوم.

______________________________________________________

الثلاثة مفطرا ، إلّا إذا كان المتكلّم في مقام بيان جميع المفطرات وتعدادها واقتصر على ذكر عدد معيّن ، فيستفاد عدم كون غيرها مفطرا من الإطلاق المقامي لا من ذكر العدد ، ولذا لو ورد في خطاب آخر الأمر بالاجتناب عن شيء رابع كالارتماس فإمّا أن يرتفع الإطلاق المقامي رأسا أو يرفع اليد عنه بالإضافة إلى ذلك الرابع ، كما يرفع اليد عن الإطلاق اللفظي بمثل ذلك الخطاب ، فيما إذا ورد في خطاب «لا يضرّ الصائم ما صنع إلّا ثلاث خصال : الأكل والشرب والنساء» (١) فإنّه إذا ورد نهي الصائم عن الارتماس فيرفع اليد عن إطلاق المستثنى منه بتقييده بغير الارتماس على ما تقدّم في تقريب مفهوم الشرط والاستثناء.

__________________

(١) الوسائل : ج ٧ ، باب ١ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، الحديث ١.

٢٠٧
٢٠٨

المقصد الرابع

العام والخاص

٢٠٩
٢١٠

المقصد الرابع : في العام والخاص

فصل

قد عرّف العام بتعاريف ، وقد وقع من الأعلام فيها النقض بعدم الاطراد تارة والانعكاس أخرى [١] بما لا يليق بالمقام ، فإنها تعاريف لفظية ، تقع في جواب السؤال عنه ب (ما) الشارحة ، لا واقعة في جواب السؤال عنه ب (ما) الحقيقية ، كيف؟ وكان المعنى المركوز منه في الأذهان أوضح مما عرف به مفهوما ومصداقا ،

______________________________________________________

تعريف العام

[١] ذكر قدس‌سره انّ العام قد عرّف بتعاريف مختلفة في كلماتهم ونوقش فيها بعدم الاطراد والانعكاس ، ولكن لا مورد للمناقشات لأنّ ما ذكر ليس من التعريف بمعنى الحدّ أو الرسم بل المقصود تحديد ما يراد من لفظ العام فيكون ما ذكر من قبيل ما يقع في جواب (ما) الشارحة ، لا تحديد الشيء بجنسه وفصله أو بسائر خواصّه وآثاره بحيث يمتاز عن سائر الأشياء ، وليس أيضا بيان المعنى بتمام قيوده حتّى يتعيّن سعته وضيقه لعدم الحاجة إلى ذلك إذ المعنى المرتكز في الأذهان للعام أوضح مما عرّف به ولذا يكون صدق ذلك المعنى المرتكز وعدم صدقه منشأ النقض على التعاريف بعدم اطرادها وانعكاسها والمعرّف لا بدّ أن يكون أجلى هذا أولا.

وثانيا : إنّ الأحكام المترتبة عليه نظير اعتبار ظهور العام عند الشك في التخصيص أو بعد ورود المخصّص إلى غير ذلك كلّها أحكام مترتبة على ما يحمل عليه عنوان العام لا على نفس عنوانه ، والغرض من تعريف العام بيان ما يكون مشيرا

٢١١

ولذا يجعل صدق ذاك المعنى على فرد وعدم صدقه ، المقياس في الإشكال عليها بعدم الإطراد أو الانعكاس بلا ريب فيه ولا شبهة يعتريه من أحد ، والتعريف لا بد أن يكون بالأجلى ، كما هو أوضح من أن يخفى.

فالظاهر أن الغرض من تعريفه ، إنما هو بيان ما يكون بمفهومه جامعا بين ما لا شبهة في أنها أفراد العام ، ليشار به إليه في مقام إثبات ما له من الأحكام ، لا بيان ما هو حقيقته وماهيته ، لعدم تعلق غرض به بعد وضوح ما هو محل الكلام بحسب الأحكام من أفراده ومصاديقه ، حيث لا يكون بمفهومه العام محلا لحكم من الأحكام.

______________________________________________________

إلى تلك المصاديق المعروفة المرتكزة معانيها ، المترتبة عليها الأحكام الآتية.

ثمّ إنّ اتّصاف تلك المصاديق بعنوان العام لأجل الاشتمال كلّ منها على معنى يصلح للانطباق على كثيرين مع ما يدلّ على إرادة جميع تلك الانطباقات ، فلاحظ «كلّ عالم» في قوله «أكرم كلّ عالم» فإنّه يوصف بأنّه عام لكونه متضمّنا لما يصلح للانطباق على كثيرين انطباق الكلّي على فرده ومصداقه للفظة «كلّ» الدالة على إرادة جميع تلك الانطباقات المعبّر عن تلك الانطباقات بشمول المعنى.

وعلى ذلك فلا يكون مثل لفظ «عشرة» من صيغ العموم لأنّها بنفسها لا تتضمن ما يصدق على كثيرين ولا ما يدلّ على إرادة جميع تلك الانطباقات ، فلو قيل «عشرة أثواب» مثلا لا يكون المجموع عامّا لأنّ الثوب وإن صلح للانطباق على كثيرين إلّا أنّ العشرة لا تدلّ على إرادة جميع تلك الانطباقات بل على إرادة مقدار خاص كما لا يخفى.

لا يقال : يوصف الجمع المعرّف باللّام بالعموم مع أنّه ليس كما ذكر حيث إنّ مدلوله كلّ فرد لا كلّ مجموع ومجموع.

فإنّه يقال : الدالّ على العموم ليس لام التعريف فقط ، بل هي مع هيئة الجمع.

٢١٢

ثم الظاهر أن ما ذكر له من الأقسام : من الاستغراقي والمجموعي والبدلي إنما هو باختلاف كيفية تعلق الأحكام [١] به ، وإلّا فالعموم في الجميع بمعنى واحد ، وهو شمول المفهوم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه ، غاية الأمر أن تعلق الحكم به تارة بنحو يكون كل فرد موضوعا على حدة للحكم ، وأخرى بنحو يكون الجميع موضوعا واحدا ، بحيث لو أخل بإكرام واحد في (أكرم كل فقيه) مثلا ، لما امتثل أصلا ، بخلاف الصورة الأولى ، فإنه أطاع وعصى ، وثالثة بنحو يكون كل واحد موضوعا على البدل ، بحيث لو أكرم واحدا منهم ، لقد أطاع وامتثل ، كما يظهر لمن أمعن النظر وتأمل.

______________________________________________________

وبتعبير آخر : العلماء في قوله «أكرم العلماء» يتضمّن معنى لفظ «عالم» وهيئة الجمع مع الألف واللّام دالّة على إرادة جميع انطباقاته فيكون جميع الانطباقات المعبّر عنها بشمول المعنى هو العموم وكلّ ما يكون دالّا لفظيا على شمول المعنى أي إرادة جميع انطباقاته هو العامّ والدالّ على الشمول يدخل في أداة العموم كلفظة (كل) المرادف للفظ (هر) في اللغة الفارسيّة.

أقول : مثل قوله : كلّ هؤلاء في مثل أكرم كلّ هؤلاء من القضايا الخارجية عامّ مع أنّه ليس فيه دلالة على شمول الانطباقات لأنّه ليس مدخول كلّ في المثال عنوانا كليّا ليكون له انطباقات ، فيتعيّن أن يراد من أداة العموم والشمول ما يدلّ على استيعاب مدخوله سواء كان الاستيعاب بحسب الانطباقات أو غيرها من الإشارة ونحوها.

أقسام العام

[١] يقسّم العام إلى الاستغراقي والمجموعي والبدلي ، ومراده قدس‌سره انّ العموم في جميعها بمعنى واحد وهو إرادة جميع الانطباقات وتقسيمه إلى أقسام ثلاثة

٢١٣

وقد انقدح أن مثل شمول عشرة وغيرها لآحادها المندرجة تحتها ليس من العموم ، لعدم صلاحيتها بمفهومها للانطباق على كل واحد منها ، فافهم.

______________________________________________________

باعتبار تعلّق الحكم بتلك الانطباقات ، حيث إنّ الحكم المتعلّق بتلك الانطباقات يكون حكما واحدا لكون الملاك الموجب للحكم واحدا قائما بمجموع تلك الانطباقات فيكون العام مجموعيا ، وأخرى يكون الملاك انحلاليا قائما بكلّ واحد من تلك الانطباقات فيكون الحكم الثابت للعامّ أيضا انحلاليا بحيث يكون كلّ فرد موضوعا مستقلّا للحكم ، فلو أخلّ بالحكم في بعض الأفراد على الأوّل لما كان امتثال أصلا ، بخلاف الفرض الثاني فإنّه يكون مخالفة لبعض الأحكام وموافقة للبعض الآخر ، وربّما يكون كلّ واحد موضوعا للحكم على البدل بحيث لو راعى الحكم في واحد من الانطباقات أطاع الحكم وامتثل ويسمّى الأوّل عامّا مجموعيا والثاني عامّا استغراقيا والأخير عامّا بدليّا.

وبالجملة انقسام العموم إلى أقسام ثلاثة بلحاظ الحكم الثابت للانطباقات ، ولذا يكون مدلول صيغ العموم في الاستغراقي والمجموعي مع قطع النظر عن الحكم واحدا ، وليس المراد من اتّصاف العام بالمجموعي والاستغراقي والبدلي لحاظها موقوفا على جعل الحكم ، نظير لحاظ المكلّف عالما بالحكم أو جاهلا به ، بأن يكون لحاظها من الانقسامات الثانوية ، بل المراد أنّ لحاظ مجموع الانطباقات ، أو كلّ واحد منها ، أو واحد من أيّ منها يكون في مقام جعل الحكم ، لأنّ ما يريد جعله إمّا حكم واحد لمجموع الانطباقات أو أحكام انحلالية لكلّ من الانحلالات أو حكم واحد لواحد منها على البدل ولذا قد يكون لكلّ منها صيغة تخصّه ، مثلا لفظة «كلّ» لا يصحّ استعمالها في مورد العام البدلي ولفظة «أيّ» لا يصحّ استعمالها في مورد العام المجموعي فاختلاف الصيغ مقتضاه اختلاف لحاظ الانطباقات في مقام الحكم

٢١٤

.................................................................................................

______________________________________________________

لها ، كما لا يخفى.

وعن المحقّق النائيني قدس‌سره أنّ العام البدلي ليس من أقسام العموم ، لأنّ الحكم المجعول فيه واحد لم يتعلّق بمدخول الأداة بجميع انطباقاته بل تعلّق بالطبيعي المقيّد بالوحدة كما هو مدلول النكرة.

وبتعبير آخر : لا يكون في ناحية الحكم شمول لجميع الانطباقات بل لا يتعلّق الحكم في مورده بالافراد أصلا وإنّما يسقط التكليف بفرد لحصول الطبيعي به ، وهذا بخلاف العموم الاستغراقي أو المجموعي فإنّ كلّ فرد من أفراد الطبيعي متعلّق لحكم استقلاليّ في الأوّل ولحكم ضمنيّ في الثاني ، فيستوعب الحكم لجميع الانطباقات ، بخلاف العموم البدلي فإنّه لا شمول للحكم فيه للانطباقات لا بنحو الاستقلال والانحلال ولا بنحو الضمنية والاندراج (١).

وقد صحّح الشيخ العراقي قدس‌سره كون العام البدلي من أقسام العام ، وذكر ما ملخّصه أنّ للعام تقسيمين :

أحدهما : تقسيمه إلى العموم البدلي وغير البدلي ، وهذا التقسيم ليس بلحاظ الحكم والملاك ، بل بلحاظ كيفية العموم والشمول وسير الطبيعي المدخول عليه الأداة في أفراده حيث يلاحظ من الطبيعي سريانه وانطباقاته تارة بنحو العرضية بحيث يعبّر عنه ب (هذا وذاك وذلك) وهكذا ، واخرى يلاحظ سريانه وانطباقاته بنحو البدلية ويعبّر عنه ب (هذا أو ذاك أو ذلك) وهكذا ، فقولك : أيّ رجل في مقابل قولك كلّ الرجال وجميع الرجال.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ / ٤٤٣.

٢١٥

.................................................................................................

______________________________________________________

ثانيهما : تقسيم العام غير البدلي وسير الطبيعي في انطباقاته بنحو العرضية بلحاظ الحكم والملاك إلى قسمين استغراقي ومجموعي ، حيث إنّ الحكم وملاكه إن كان في كلّ واحد من تلك الانطباقات فالعموم استغراقي وإن كان في مجموعها فالعموم مجموعي فيكون العموم البدلي قسيما لمقسم العام الاستغراقي والمجموعي ، لا قسيما لنفس العموم الاستغراقي أو المجموعي ، حيث انقسام العموم غير البدلي إليهما بلحاظ الحكم والملاك بخلاف تقسيم العام إلى البدلي وغير البدلي ، فإنّ سريان الطبيعي في انطباقاته بنحو العرضية والبدلية من الواقعيات غير المحتاجة في تحقّقهما إلى لحاظ الحكم والملاك (١).

ثمّ ذكر قدس‌سره في آخر كلامه أنّ نفس السريان إلى الأفراد يكون عرضيا في كلّ من العام الاستغراقي والمجموعي والبدلي ، وإنّما يكون التفاوت بين العام البدلي وغيره في أنّ التطبيق في العام البدلي بدلي بخلاف غيره ، فإنّ التطبيق في غيره يكون عرضيا. فقولك : جئني برجل أيّ رجل يكون دالّا على الاستيعاب في الأفراد ، غايته يكون التطبيق تبادليا بخلاف قولك : أكرم كلّ عالم ، فإنّ الاستيعاب والتطبيق فيه يكون عرضيا (٢).

أقول : كلامه في الأخير شاهد على كون سريان الطبيعي في انطباقاته عرضية ولكن التطبيق التبادلي لا بدّ من أن يكون باعتبار أمر ، وليس في البين إلّا إرادة جعل الحكم أو مقام الامتثال ، وكلام المحقق النائيني قدس‌سره ناظر إلى كونه في مقام الامتثال

__________________

(١) نهاية الأفكار ١ / ٥٠٥.

(٢) نهاية الأفكار ١ / ٥٠٦.

٢١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وأمّا الحكم فيجعل لصرف وجود الطبيعي أو المقيّد بالوحدة.

ولكنّ الصحيح انّ هذا النحو من جعل الحكم لا يخرج العام البدلي عن العموم وذلك فإنّ هذا النحو من جعل الحكم يستلزم الترخيص في تطبيق الطبيعي على أيّ وجود أو تعميم الحكم في انطباقه على أيّ فرد منه ، وإذا كان هذا الشمول بحسب الترخيص في التطبيق أو التعميم في الانطباق ، مستفادا من الاطلاق ـ أي إطلاق المتعلّق أو الموضوع فكذلك يمكن أن يكون مستفادا من دلالة الدالّ اللفظي عليه بالوضع أيضا كلفظة (أيّ) كما في قولك : جئني برجل أيّ رجل.

دوران العام بين المجموعي والاستغراقي

ثمّ إنّه إذا دار الأمر في عامّ بين كونه موضوعا بنحو المجموعي أو الاستغراقي ، يحمل على الاستغراقي ، لأنّ اعتبار الحكم لمجموع الأفراد بما هي مجموع يحتاج إلى عناية زائدة في مقام الثبوت والإثبات. أمّا مقام الثبوت فلأنّه زائدا على لحاظ نفس الأفراد لا بدّ من لحاظها أمرا واحد يقوم به ملاك الحكم ، وهذا يحتاج إلى البيان في مقام الإثبات بخلاف العام الاستغراقي فإنّه لا يحتاج إلى أزيد من لحاظ نفس الأفراد وجعل الحكم لها في عرض واحد.

لا يقال : لا بدّ من حمل العام على المجموعي إلّا مع قيام القرينة على الاستغراقي وذلك لأنّ الموضوع للحكم في مقام الإثبات هو عنوان الكلّ وهذا العنوان لا ينطبق على الفرد ليثبت له الحكم استقلالا بل ينطبق على تمام الأفراد وهذا الكلام يجري حتّى فيما كان استفادة العموم من الهيئة التركيبية التي لا تدخل على الأسماء مثل لام التعريف الداخلة على الجمع ، فإنّ وجه دلالة الجمع المحلّى

٢١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

باللّام هو أنّ اللّام تكون إشارة إلى مرتبة معيّنة من الجمع ، وحيث لا معيّن لمرتبة منه إلّا الأخيرة منها ، يكون الحكم ثابتا لتلك المرتبة لا لفرد وفرد.

فإنّه يقال : لفظة «كلّ» ليست عنوانا للموضوع ، بل هي دالّة على إرادة المتكلّم جميع انطباقات مدخولها فتكون الانطباقات بنفسها موضوعا للحكم ولازمه انحلال ذلك الحكم.

وبتعبير آخر : كما أنّ العنوان في الانطباق على كلّ من وجوداته مستقلّ كذلك في الحكم لها بذلك العنوان ، ويجري هذا الكلام في الجمع المحلّى بالألف واللام حتّى بناء على أنّ العموم فيه ليس بدلالة الألف واللّام وهيئة الجمع على إرادة المدخول بانطباقاته بل باقتضاء المرتبة المتعيّنة من أفراد الجمع ، فإنّ ظاهر الخطاب لحاظ أفراد تلك المرتبة بما أنّ كلّ مرتبة منها فرد لا لحاظ أنّ المجموع شيء واحد ، فإنّ هذا النحو من اللحاظ والحكم بحسب المتفاهم العرفي يحتاج إلى بيان القيد ولحاظ الوحدة.

وقد يقال : إنّه ليس الوجه في إفادة الجمع المحلّى باللّام العموم ، تعيّن المرتبة الأخيرة من الجمع ، وذلك لأنّ عدم تعيّن سائر المراتب لا يقتضي إرادة تمام الأفراد بل يمكن إرادة أقلّ الجمع حيث إنّه متعيّن في الثلاثة.

ويجاب : بأنّ أقلّ الجمع متعيّن من حيث العدد لا بحسب الخارج وإذا كانت الألف واللّام إشارة إلى المرتبة المتعيّنة بحسب الخارج فيتعيّن إرادة تمام الأفراد ، ويؤكّد ذلك أنّه لو كانت هيئة الجمع مع الألف واللّام موضوعة للعموم لكان استعمال الجمع المحلّى بالألف واللّام في موارد العهد الذكري أو الخارجي الآخر مجازا.

٢١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

ولكن يمكن الجواب بوجه آخر ، بالالتزام بأنّ هيئة الجمع مع الألف واللّام تدلّ على العموم وضعا بأن وضع مجموعهما لما يرادف لفظ كلّ ، وإذا دخلتا على الطبيعي دلّ على الاستغراق ، فقوله سبحانه وتعالى (الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ)(١) يرادف قوله (كلّ مطلّقة تتربّص) ، ولكن لكلّ من الألف واللّام وهيئة الجمع وضع مستقلّ ، حيث إنّ الألف واللّام وضعت لتعيّن المدخول خارجا أو ذهنا أو ذكرا وهيئة الجمع وضعت لإرادة أزيد من الفردين من الطبيعة وعلى ذلك فلا يلزم في استعمال الجمع المحلّى الألف وباللّام في موارد العهد الذكري أو الذهني أو الخارجي مجازية أصلا ، كما لا يخفى.

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ٢٢٨.

٢١٩

فصل

لا شبهة في أن للعموم صيغة تخصه ـ لغة وشرعا ـ كالخصوص كما يكون ما يشترك بينهما [١] ويعمهما ، ضرورة أن مثل لفظ (كل) وما يرادفه في أي لغة كان تخصه ، ولا يخص الخصوص ولا يعمه ، ولا ينافي اختصاصه به استعماله في الخصوص عناية ، بادعاء أنه العموم ، أو بعلاقة العموم والخصوص.

______________________________________________________

صيغ العموم

[١] وكأنّ مراده قدس‌سره أنّ للعموم صيغة تخصّه كلفظ (كلّ) وما يرادفه ، كما أنّ للخصوص صيغة تخصّه كلفظ بعض وما يرادفه ، وأمّا ما يكون مشتركا بينهما فلعلّه يشير إلى ما يذكره في النكرة الواقعة في سياق النهي أو النفي ، فإنّه قدس‌سره ذكر فيها أنّ النفي أو النهي وإن اقتضيا انتفاء الطبيعي أو تركه إلّا أنّ الطبيعي الواقع في حيزهما في نفسه مهمل فلا بدّ من تعيين أنّه مرسل ولا بشرط أو مقيّد ومشروط ، وإذا عيّن ولو بمقدّمات الإطلاق أنّه مرسل ولا بشرط نفيه أو نهيه يقتضي عقلا انتفاء تمام أفراده أو ترك جميعها ، كما أنّه إذا كان مقيّدا ومشروطا يقتضي النفي أو النهي عقلا انتفاء أفرادهما المقيّدة أو تركها.

وبالجملة ، فسلب الطبيعي بالنفي أو النهي لا يقتضي إلّا سلب المراد من مدخول النفي أو النهي ، وبما أنّ المتيقّن من مدخولهما البعض فلا يقتضي مجرّد النفي أو النهي الاستيعاب في كلّ ما يصلح أن ينطبق عليه مدخولهما من أفراده.

ويمكن أن يقال بجريان ذلك في مثل لفظ كلّ مما يكون دلالته على العموم وضعيا لا عقليا ، حيث يمكن دعوى أنّ لفظة (كلّ) موضوعة للدلالة على استيعاب الحكم بالإضافة إلى أفراد المراد من المدخول لا بالإضافة إلى كلّ ما يصلح أن ينطبق

٢٢٠