دروس في مسائل علم الأصول - ج ٣

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-94850-9-1
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

نعم ، في مورد الصلاة قام الدليل على عدم سقوطها بالاضطرار أو الإكراه على بعض المانع وهذا أمر آخر ، ولبس الحرير والذهب من هذا البعض ولو كان المنهي عنه ستر الرجل عورته بالحرير المحض لكان هذا النهي التحريمي موجبا فقط لتقيّد الصلاة بعدم كون ساتر المصلي حريرا ، كما قيّد بعدم كون ساتره غصبا وإذا سقطت الحرمة للاضطرار أو الإكراه أو النسيان كانت صلاته فيه محكومة بالصحة ، كما يسقط عن الشرطية اشتراط كون ساتره غير مغصوب مع الاضطرار إلى لبسه أو الإكراه عليه.

وعلى ذلك ، فسقوط الحرمة عن لبس الحرير أو الذهب عند الاضطرار أو الإكراه على لبس أحدهما لا يلازم سقوطهما عن المانعية للصلاة ، بخلاف سقوط الحرمة عن لبس ثوب الغير بلا رضاه بالاضطرار أو الإكراه فإنّه يلازم سقوط اشتراط الصلاة بغير الساتر المزبور ولو اضطرّ المكلّف أو أكره على لبس الحرير أو الذهب في بعض الوقت دون البعض الآخر يتعيّن عليه تأخير صلاته إلى زوال الاضطرار أو الإكراه ، بخلاف ما إذا اضطرّ في بعض الوقت إلى لبس المغصوب أو أكره عليه ، فإنّه يجوز له الصلاة في الثوب المزبور في فترة الاضطرار أو الإكراه ، والفرق انّ اشتراط الصلاة بالساتر المباح استفيد من حرمة التصرّف في ملك الغير بلا رضاه بخلاف اشتراطها بعدم كون لباس المصلّي من الحرير أو الذهب ، فإنّ المانعية فيهما غير تابعة لحرمة لبسهما بل ناشئة من تقيّد طبيعي الصلاة المأمور بها بعدم لبسهما.

ولو شك في ثوب أنّه حرير أو غير حرير فبناء على جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية يثبت باستصحاب عدم كونه حريرا ، حلّية لبسه وعدم مانعيته للصلاة ، كما يثبت في مورد الشك في كون الثوب مما لا يؤكل لحمه ، جواز الصلاة فيه ، وإن منع عن جريان الاستصحاب في العدم الأزلي تصل النوبة إلى أصالة البراءة

١٠١

ومما ذكرنا في بيان أقسام النهي في العبادة ، يظهر حال الأقسام في المعاملة ، فلا يكون بيانها على حدة بمهم ، كما أن تفصيل الأقوال في الدلالة على الفساد وعدمها ، التي ربما تزيد على العشرة ـ على ما قيل ـ كذلك ، إنما المهم بيان ما هو الحق في المسألة ، ولا بد في تحقيقه على نحو يظهر الحال في الأقوال ، من بسط المقال في مقامين :

الأول في العبادات : فنقول وعلى الله الاتكال : إن النهي المتعلق بالعبادة بنفسها ، ولو كانت جزء عبادة بما هو عبادة ـ كما عرفت ـ مقتض لفسادها ، لدلالته على حرمتها ذاتا [١] ، ولا يكاد يمكن اجتماع الصحة بمعنى موافقة الأمر أو

______________________________________________________

عن التكليف بالصلاة المقيّدة بغير الثوب المزبور المعبّر عنها بأصالة البراءة عن المانعية كما ذكرنا في مسألة اللباس المشكوك بأنّ المانعية انحلالية ولا مانع عن الرجوع إلى أصالة البراءة بالإضافة إلى الثوب المشكوك ، ولو بنى على أصالة الاشتغال وعدم جريان أصالة البراءة فلا فرق بين الشك في كون ما استصحبه المصلّي من غير المأكول وبين الشك في كون الثوب حريرا ، ففي مورد الشك في كونه حريرا يجوز لبسه لأصالة الحلّية في لبسه ولكن لا يجوز الصلاة فيه إذا أمكن الصلاة في غيره ولو في آخر الوقت ، حيث إنّ مانعية لبس الحرير غير ناشئة عن حرمة لبسه لترتفع بالتعبّد بحليّة اللبس ، بل ناشئة من تقيّد الصلاة بعدم لبسه ، وهذا بخلاف تقيّد الصلاة بغير الساتر المغصوب فإنّ الصلاة مقيّدة بعدم حرمة الستر لا بعدم كون الساتر ملك الغير بلا رضاه وحصل التقيّد من حرمة الغصب ، حيث إنّ المنافي لإطلاق الطبيعي حرمة الستر فأصالة الحلّية في مورد الشك في كونه ملك الغير تعبّد بعدم المانع ، فتدبّر تعرف.

مقتضى النهي عن العبادة

[١] ذكر قدس‌سره أنّ النهي إذا تعلّق بنفس العبادة بالمعنى المتقدّم أو بالجزء منها

١٠٢

الشريعة مع الحرمة ، وكذا بمعنى سقوط الإعادة ، فإنه مترتب على إتيانها بقصد القربة ، وكانت مما يصلح لأن يتقرب به ، ومع الحرمة لا تكاد تصلح لذلك ، ويتأتى قصدها من الملتفت إلى حرمتها ، كما لا يخفى.

لا يقال : هذا لو كان النهي عنها دالا على الحرمة الذاتية ، ولا يكاد يتصف بها العبادة ، لعدم الحرمة بدون قصد القربة ، وعدم القدرة عليها مع قصد القربة بها إلّا تشريعا ، ومعه تكون محرمة بالحرمة التشريعية لا محالة ، ومعه لا تتصف بحرمة أخرى ، لامتناع اجتماع المثلين كالضدين.

______________________________________________________

يقتضي فسادها ؛ لدلالته على حرمة نفس العبادة أو نفس جزئها ولا يمكن اجتماع الحرمة مع الصحة سواء كان المراد بالصحة موافقة الشريعة والأمر أو بمعنى سقوط الإعادة والقضاء ؛ لأنّ الصحّة بكلا المعنيين تتوقّف على الإتيان بالعبادة بقصد التقرّب وكون العمل صالحا به ومع حرمة العمل ومبغوضيّته لا يمكن أن يكون صالحا للتقرّب به ولا يتأتّى قصد التقرّب من الملتفت إلى حرمته.

ثمّ تعرّض قدس‌سره لما يقال من أنّ الحرمة النفسية لا تتعلّق بالعبادة أصلا ، فإنّ الفعل لا يكون معنونا بالعبادة إلّا إذا كان بقصد التقرّب ولا يتمكن المكلف من قصد التقرّب إلّا بنحو التشريع ومع التشريع تكون حرمته تشريعية ولا يمكن أن يتعلّق بها الحرمة النفسية لامتناع اجتماع الحرمتين في فعل واحد ، كما لا يمكن تعلّق الحكمين المتضادّين به.

وأجاب عن ذلك بعدم المنافاة بين الحرمة الذاتية والتشريعية لتعدّد متعلّقهما لأنّ المراد بالعبادة في تعلّق الحرمة النفسية بها ما لو تعلّق به أمر لما كان يسقط بدون قصد التقرّب كصوم يوم العيدين وصلاة الحائض ، أو ما تكون عبادة بنفسها لو لا النهي عنه كالسجود لله ، فإنّه إذا فرض في مورد المفسدة الغالبة في السجود لله سبحانه وتعالى لتعلّق به

١٠٣

فإنه يقال : لا ضير في اتصاف ما يقع عبادة ـ لو كان مأمورا به ـ بالحرمة الذاتية ، مثلا صوم العيدين كان عبادة منهيا عنها ، بمعنى أنه لو أمر به كان عبادة ، لا يسقط الأمر به إلّا إذا أتى به بقصد القربة ، كصوم سائر الأيام ، هذا فيما إذا لم يكن ذاتا عبادة ، كالسجود لله تعالى ونحوه ، وإلّا كان محرما مع كونه فعلا عبادة ، مثلا إذا نهي الجنب والحائض عن السجود له تبارك وتعالى ، كان عبادة محرمة ذاتا حينئذ ، لما فيه من المفسدة والمبغوضية في هذا الحال ، مع أنه لا ضير في اتصافه بهذه الحرمة مع الحرمة التشريعية ، بناء على أن الفعل فيها لا يكون في الحقيقة متصفا بالحرمة ، بل إنما يكون المتصف بها ما هو من أفعال القلب ، كما هو الحال في التجري والانقياد ، فافهم.

هذا مع أنه لو لم يكن النهي فيها دالا على الحرمة ، لكان دالا على الفساد ، لدلالته على الحرمة التشريعية ، فإنه لا أقل من دلالته على أنها ليست بمأمور بها ، وإن عمها إطلاق دليل الأمر بها أو عمومه ، نعم لو لم يكن النهي عنها إلّا عرضا ، كما

______________________________________________________

النهي النفسي كما لو كان سجود الحائض لله محرّما ، وهذه العبادة تتّصف بكلا قسميها بالحرمة التشريعية أيضا ، لكن المتعلّق للحرمة التشريعية ليس نفس الفعل حقيقة بل قصد الإتيان به بداعوية الأمر بها والقصد كالتجري والانقياد من أفعال القلب.

ولو أغمض عن ذلك والتزم بدلالة النهي عن عبادة على حرمتها التشريعية فهذه الدلالة كافية في الدلالة على فسادها حيث إنّه مع دلالته على الحرمة التشريعية يكون دالّا على عدم الأمر بتلك العبادة حتى فيما كان في البين إطلاق يقتضي الأمر بتلك العبادة لو لا النهي عنها الدال على حرمتها تشريعا ، كما هو الحال بالإضافة إلى صوم يوم العيدين والصلاة أيام الحيض والنفاس.

نعم ، لو كان تعلّق النهي بالعبادة من المجاز في الاسناد كتعلّق النهي بالصلاة في

١٠٤

إذا نهى عنها فيما كانت ضد الواجب مثلا ، لا يكون مقتضيا للفساد ، بناء على عدم اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضد الا كذلك أي عرضا ، فيخصص به أو يقيد [١].

______________________________________________________

أوّل الوقت مع وجوب الإزالة بناء على عدم اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه فلا دلالة في تعلّق النهي العرضي المجازي على الفساد ؛ لأنّ النهي في هذا الفرض ليس تشريعيا أيضا بل إرشاد إلى امتثال الأمر بالإزالة وموافقة الأمر بها.

[١] يحتمل أن يكون مراده أنّ النهي التبعي المجازي عن الضدّ يخصّص العموم الوارد في خطاب يعمّ الأمر بتلك العبادة أيضا أو يقيّد إطلاقه ، ولكنّ هذا التقييد والتخصيص عرضي مجازي ، وفي الحقيقة العموم مخصّص أو الإطلاق مقيّد بنفس الأمر بالأهمّ والتخصيص والتقييد بالأمر بالأهم لا يقتضي فساد الضد إذا كان الضد عبادة لأنّ التخصيص والتقييد به ليس لفقد الملاك في تلك العبادة أو مبغوضيّتها ، ولو كانت غيرية كما إذا بنى على اقتضاء الأمر بشيء النهي عن ضدّه بل لعدم إمكان الأمر بالضدّين في زمان واحد ويحتمل أن يكون مراده أنّ النهي التبعي العرضي ليس نهيا عن متعلّقه حقيقة ليخصّص العموم في خطاب الأمر أو يقيّد به إطلاقه.

أقول : لو كان الإشكال في أنّه لا يمكن أن تكون العبادة بالمعنى المتقدّم حراما ذاتا وحراما تشريعا كان الإشكال واهيا لا لما ذكره الماتن قدس‌سره من اختلاف المتعلّقين وتعدّدهما فإنّ المقرّر في محلّه أنّ في مورد التشريع يكون العمل خارجا محرّما فإنّه افتراء وكذب عملي على الله سبحانه وتعالى.

وبتعبير آخر : التشريع عنوان للعمل الخارجي ولا يقاس بالانقياد والتجري فإنّهما لا يقبلان الوجوب والحرمة المولويين لعدم تغيّر الفعل المنقاد به أو المتجرى به بعنوان الانقياد والتجري عمّا كان عليه قبل عروضهما لعدم كون عنوانهما أمرا التفاتيا.

نعم ، الانقياد كالإطاعة موجبة لاستحقاق المثوبة ، كما أنّ التجري موجب

١٠٥

.................................................................................................

______________________________________________________

لاستحقاق العقوبة كالعصيان ، فلا ملاك في البين للأمر النفسي أو النهي النفسي بل وجه وهن الإشكال هو أنّه لا موجب لامتناع تعلّق حكمين حكم بالفعل بالعنوان الأوّلي وحكم آخر مثله بعنوان ينطبق على ذلك الفعل أحيانا ، كما إذا نذر المكلّف الإتيان بصلواته اليومية فيتعلّق بالصلاة بعنوانها الأوّلي وجوب وبعنوان الوفاء بالنذر وجوب آخر.

غاية الأمر بتعلّقهما يتأكّد الوجوب عند النذر ، وهكذا يمكن في مفروض الكلام تعلّق الحرمة بنفس الصوم يوم العيد وتعلّق حرمة أخرى بعنوان التشريع إذا نوى عند صومه أنّه مطلوب للشارع فتكون الحرمة متأكّدة ، بل الإشكال أنّه إذا ورد النهي عن صوم يوم العيدين أو عن صلاة الحائض فلا يمكن أن يستفاد من ذلك الخطاب الحرمة الذاتية والتشريعية معا بأن يكون الخطاب المزبور ظاهرا في كلّ من الحرمة التشريعية والذاتية ، بل ظاهره خصوص الحرمة التشريعية أو خصوص الحرمة الذاتية.

نعم ، الحرمة الذاتية إذا استفيدت منه يستفاد حرمته التشريعية من خطاب النهي عن الافتراء على الله سبحانه وتعالى ، هذا ولكن قد تقدّم أنّ ظاهر النهي عن صوم يوم العيدين والصلاة أيام الحيض ونحوهما هو الإرشاد إلى عدم المشروعية لا النهي التكليفي فلا يدل على التحريم لذات العمل ولا التشريع في الإتيان بل بعد عدم مشروعية العمل يكون الإتيان به بداعوية الأمر مع العلم بالحال تشريعا مستفادا حرمته مما دلّ على حرمة الكذب والافتراء على الله سبحانه وتعالى. وعليه ففساد العمل ليس من جهة حرمته تشريعا ، بل لعدم مشروعيته بالأمر به وجوبا أو استحبابا.

١٠٦

المقام الثاني في المعاملات : ونخبة القول ، أن النهي الدالّ على حرمتها لا يقتضي الفساد ، لعدم الملازمة فيها ـ لغة ولا عرفا [١] ـ بين حرمتها وفسادها أصلا ، كانت الحرمة متعلقة بنفس المعاملة بما هو فعل بالمباشرة ، أو بمضمونها.

بما هو فعل التسبيب أو التسبب بها إليه ، وإن لم يكن السبب ولا المسبب بما هو فعل من الأفعال بحرام ، وإنما يقتضي الفساد فيما إذا كان دالا على حرمة ما لا يكاد يحرم مع صحتها ، مثل النهي عن أكل الثمن أو المثمن في بيع أو بيع شيء.

______________________________________________________

مقتضى النهي عن المعاملة

[١] وحاصله أنّ النهي عن معاملة بمعنى تحريمها لا يقتضي فسادها أي عدم إمضائها بما لها من الأثر سواء كان المنهي عنه هو الفعل المباشري للمكلّف من غير أن يكون في ناحية المنشأ بها جهة مبغوضية كما في النهي عن البيع وقت النداء بناء على أنّ النهي عنه وقت النداء تكليفي ، لا للإرشاد إلى إتيان صلاة الجمعة وامتثال وجوبها ، فإنّ المحرّم تكليفا هو إنشاء البيع والاشتغال به بما هو فعل مفوّت لصلاة الجمعة لا ملكية المبيع للمشتري والثمن للبائع ، أم كان النهي عن المعاملة لمبغوضية المنشأ من غير أن يكون في إنشائها بخصوصه من إيجابها وقبولها مبغوضية ، كما في بيع المصحف من الكافر فإنّ المبغوض ملكية المصحف له سواء كان بالبيع أو بالمصالحة أو بالهبة أو بغير ذلك ، أو كان المنهي عنه هو التسبيب الخاصّ والوصول به إلى المسبّب كما في النهي عن البيع الربوي فإنّ المبغوض ملكية الزيادة في أحد العوضين المتجانسين بالبيع الجاري عليهما ، وأمّا ملكيّتهما بالهبة مثلا فلا حرمة لها كما أنّ بيع أحد المتجانسين بالآخر أي إنشائه المعبّر عنه بنفس السبب لا حرمة له.

ثمّ إنّ النهي عن المعاملة بالنحو الأخير كالنهي عنها بأحد النحوين الأوّلين لا يقتضي فسادها حيث لا منافاة بين مبغوضية المعاملة في كلّ منها وإمضائها على

١٠٧

نعم لا يبعد دعوى ظهور النهي عن المعاملة في الإرشاد إلى فسادها ، كما أن الأمر بها يكون ظاهرا في الإرشاد إلى صحتها من دون دلالته على إيجابها أو استحبابها ، كما لا يخفى ، لكنه في المعاملات بمعنى العقود والإيقاعات ، لا المعاملات بالمعنى الأعم المقابل للعبادات ، فالمعمول هو ملاحظة القرائن في خصوص المقامات ، ومع عدمها لا محيص عن الاخذ بما هو قضية صيغة النهي من الحرمة ، وقد عرفت أنها غير مستتبعة للفساد ، لا لغة ولا عرفا.

______________________________________________________

تقدير إنشائها فالملازمة بين النهي عنها وفسادها منتفية لغة وعرفا.

نعم ، النهي عن المعاملة يقتضي فسادها فيما كان النهي دالّا على حرمة ما لا يمكن حرمته مع صحّتها كالنهي عن أكل الثمن أي التصرّف فيه في بيع شيء كثمن الخمر أو النهي عن التصرّف في المثمن كما في النهي عن استعمال الميتة.

هذا كلّه مع قيام القرينة على أنّ النهي عن المعاملة تكليفي ، وإلّا فظاهر النهي عن معاملة هو الإرشاد إلى عدم إمضائها كما أنّ الأمر بها ارشاد إلى صحّتها كالنهي عن بيع الخمر أو الميتة ، ولكنّ الظهور في الإرشاد إنّما هو في المعاملات بالمعنى الأخص يعني العقود والإيقاعات ، لا المعاملة بالمعنى الأعم المقابل للعبادات ، فإنّ المعاملة إذا لم تكن من قبيل العقد والإيقاع ولم يكن في البين قرينة على أنّ النهي عنها للإرشاد يكون ظاهرا في تحريمها ، وقد علم أنّ تحريم المعاملة لا تستتبع فسادها لا لغة ولا عرفا.

أقول : ما ذكره قدس‌سره من انتفاء الملازمة بين النهي عن معاملة وفسادها لغة وعرفا لعلّه من اشتباه القلم ، والصحيح انتفاء الملازمة عقلا وعرفا ، حيث لا معنى للملازمة لغة إلّا الدلالة الالتزامية اللفظية ومعناها عدم إمكان تصوّر معنى اللفظ بلا تصوّر المعنى الآخر عقلا أو عرفا.

١٠٨

.................................................................................................

______________________________________________________

ومن الظاهر عدم انحصار الاقتضاء بالدلالة الالتزامية ليعلّل عدم الاقتضاء بعدمها.

وأيضا ما ذكره من أنّ المعاملة إذا لم تكن من العقد والإيقاع يكون ظاهر النهي عنها تحريمها تكليفا إذا لم تكن قرينة مقامية على خلافه لا يمكن المساعدة عليه ، فإنّ الفعل إذا كان موضوعا لحكم بحيث ينتزع من ترتّب ذلك عليه عنوان الصحّة كغسل الثوب المتنجّس حيث يترتّب عليه طهارة الثوب ، أو حلّية أكل الحيوان المترتّبة على ذبحه أو نحره أو صيده ، ثمّ ورد النهي عن حصّة من ذلك الفعل أو بذلك الفعل مع خصوصية كالنهي عن غسل المتنجس بالمضاف أو النهي عن الذبح بغير الحديد ، فظاهر النهي الإرشاد إلى عدم ترتّب الطهارة أو الذكاة لا مجرّد تحريم تلك الحصّة من الفعل ولا الفعل بتلك الخصوصية ، ولذا ذكرنا أنّ النهي عن تخنيع الذبيحة قبل زهاق الروح ، ظاهره الإرشاد إلى المانعية عن الذكاة.

وبالجملة النهي عن حصة من الفعل الموضوع للأثر أو النهي عنه مع خصوصيته ظاهره الإرشاد إلى عدم ترتب الأثر على تلك الحصة أو مع تلك الخصوصية وإنّما يكون النهي ظاهرا في تحريم نفس الفعل تكليفا في غير ذلك.

وذكر المحقّق النائيني قدس‌سره أنّ النهي عن معاملة قد يقتضي فسادها وقد لا يقتضي فسادها ، وبيان ذلك أنّ النهي عن المعاملة إن كان غيريا كالنهي عن بيع المجهول فظاهره كون الخصوصية فيها مانعة عنها ، فلا كلام في دلالته على الفساد ؛ لأنّ صحتها مع كون تلك الخصوصية مانعة عن إمضائها لا تجتمعان.

وأمّا إذا كان النهي عنها تحريميا نفسيّا كما هو مورد الكلام في المقام فلا يخفى أنّ المعاملة قد تطلق ويراد منها معناها المصدري أي إيجادها ، وقد تطلق ويراد منها معناها الاسم المصدري ، فعلى الأول لا منافاة بين مبغوضية إيجادها وإمضائها على

١٠٩

.................................................................................................

______________________________________________________

تقدير الإنشاء ، فالنهي عنها بمعناها المصدري لا يقتضي فسادها ، وهذا بخلاف ما إذا كان النهي عنها بمعناها الإسم المصدري كالنهي عن بيع المصحف من الكافر والعبد المسلم منه فالنهي عنها يقتضي فسادها ؛ لأنّ صحة المعاملة تتوقف على أمور ثلاثة.

الأول : كون المتبايعين مالكين للعوضين أو بحكم المالك.

الثاني : عدم الحجر عليهما أو على أحدهما من جهة تعلق حق الغير أو لغير ذلك من أسباب الحجر ليكون له السلطنة الفعلية على التصرف.

الثالث : ايجاد المعاملة بسبب خاص. ونهي المالك أو من بحكمه ممن بيع ماله بمعناه الاسم المصدري معجز مولوي عن الفعل ومعناه عدم سلطنته عليه فيتخلّف به الشرط الثاني ، ولذا ترى أنّ الفقهاء يلتزمون بعدم صحّة الاجارة على الواجبات المجانية لأنّ مع خروج الفعل عن سلطان المالك بإيجاب الشارع وكونه مملوكا له أو حقّا له لا يمكن تمليكه لمن يأخذ الاجرة منه بإجارة أو بغيرها ومن ذلك حكمهم ببطلان بيع منذور الصدقة ، فإنّ المكلّف بنذره التصدّق به يكون محجورا عن كلّ ما ينافي الوفاء بنذره ومن ذلك حكمهم بفساد بيع شيء من شخص فيما إذا اشترط عليه في عقد عدم بيعه منه ، كما إذا باعه شيئا واشترط عليه أن لا يبيعه من زيد وغير ذلك.

وبالجملة النهي عن معاملة بمعناه الاسم المصدري يوجب عدم السلطنة عليها.

لا يقال : يعتبر في تعلّق النهي بشيء كونه مقدورا ليتمكّن المكلّف من موافقته ومخالفته ، ومع عدم صحّة المعاملة بالمعنى الاسم المصدري لا يكون المكلّف متمكّنا منها ، أضف إلى ذلك أنّ أسامي المعاملات كأسامي العبادات أسامي للصحيحة منها فاللازم أن تكون المعاملة بالمعنى الاسم المصدري صحيحة ، ولذا قيل

١١٠

.................................................................................................

______________________________________________________

النهي عن معاملة يقتضي صحتها مطلقا أو فيما كان المنهي عنها المعنى المسبّبي.

فإنّه يقال : لو كان المسبّب الذي يتعلّق النهي به هو المسبّب الشرعي كان ما ذكر وجيها ، ولكنّ المنهي عنه هنا المسبّب العرفي المجتمع مع إمضاء الشارع وعدم إمضائه ، لا الشرعي وفي هذه الصورة نهي الشارع عنها حجرا على المكلّف ويستلزم عدم إمضاء الشرع ، والمنهي عنه وهو المسبّب العرفي مقدور على المكلّف قبل النهي وبعده بتمكّنه على سببه ، وفرق واضح بين عدم القدرة على الملكية العرفية وعدم كونها ممضاة ، فالمنافي للنهي عدم القدرة عليها لا عدم كونها ممضاة (١).

أقول : لو فرض تعلّق النهي بالمعاملة بمعناها الاسم المصدري وكان النهي عنها تكليفا لا إرشادا إلى فسادها فغاية مدلول النهي مبغوضية المنشأ فيها ، أي صيرورة المبيع للمشتري بإزاء الثمن للبائع ، وإذا كان المبغوض هو الملكية باعتبار العرف أو المتعاقدين كما هو مقتضى بيانه في إمكان النهي عن المعاملة بمعناه الاسم المصدري فلا تنافي المبغوضية كذلك إمضائها ، ومجرّد النهي عنها لا يوجب الحجر بالإضافة إلى المعنى المصدري ، ولذا لو نذر في المال بأن لا يبيعه بأزيد من رأس المال من مؤمن ، فباعه منه بالأزيد يحكم بصحّته ، وأمّا أخذ الأجرة على بعض الواجبات بل عن بعض المستحبّات فلا يجوز لإلغاء المالية عنها على ما ذكر في بحث المكاسب ، وبيع منذور التصدّق به لا بأس به وضعا ، مع أنّه لا يتعلّق النهي بالبيع لأنّ الأمر بالوفاء بالنذر لا يقتضي النهي عن ضدّه الخاص ، هذا فيما كان من قبيل نذر الفعل. وأمّا إذا كان من نذر النتيجة فبناء على صحّة نذرها فإن كان مطلقا أو

__________________

(١) أجود التقريرات ١ / ٤٠٣.

١١١

.................................................................................................

______________________________________________________

مشروطا بما هو حاصل حال البيع فعدم جوازه لعدم كون المال ملكا للبائع وصيرورته ملكا للمنذور له. وبيع الشيء من شخص على أن لا يبيعه من فلان ولو في عقد خارجي كبيع منذور التصدّق محكوم بالصحة ولذا يوجب الخيار للمشروط له. هذا كلّه مع ما تقدّم من أنّه لا فرق بين المعنى المصدري والاسم المصدري إلّا بالاعتبار وكون ألفاظ المعاملات كألفاظ العبادات أسامي للصحيحة مقتضاه تعلّق النهي بما يكون موضوعا للصحة واللزوم ، وقد ذكرنا أنّ النهي إذا كان تكليفيا لا يخرج متعلّقه عن الموضوع للصحة واللزوم.

نعم ، إذا كان في مورد الوفاء بالمعاملة مبغوضا كبيع السلاح من أعداء الدين فيمكن الالتزام بفسادها فإنّ النهي عن الوفاء بالمعاملة لا يجتمع مع صحتها ، وكذا فيما إذا لم يأمر الشارع بالوفاء بها كما إذا استأجر شخصا على عمل في زمان كخياطة ثوبه ، ثم آجر الأجير نفسه في ذلك الزمان بعمل مضادّ للخياطة ، فإنّه يحكم ببطلان الاجارة الثانية لأنّ أمر الشارع بالوفاء بالاجارة الأولى لا يسقط بالاجارة الثانية ولا يمكن الأمر بالوفاء بالاجارة الثانية مع أمره بالوفاء بالأولى.

ومن هذا القبيل إذا آجرت الزوجة نفسها على عمل ينافي الإتيان به حقّ زوجها فلعدم الأمر بالوفاء بتلك الاجارة يحكم ببطلانها.

وما ذكره الماتن قدس‌سره من النهي عن التصرّف في المثمن في بيع أو عن التصرّف في الثمن في بيع شيء يدخل إمّا في المنع عن الوفاء أو إلغاء المالية عن أحد العوضين.

لا يقال : لا مانع عن الأمر بالوفاء بالاجارة الثانية على نحو الترتّب على عدم الوفاء بالأولى ، وكذا الأمر للزوجة بالوفاء بإجارتها على تقدير عدم إطاعة زوجها.

١١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

فإنّه يقال : لا مجال للترتب في المعاملات فإنّ صحتها إمّا أن تكون تنجيزية فيجب الوفاء بها وإمّا أن لا تكون ، فلا أمر بالوفاء بها ، وأمّا الصحة التقديرية كالصحة على فرض الترتب لا مجال لها في المعاملات.

ثمّ إنّه ذكر الشيخ العراقي قدس‌سره عدم اقتضاء النهي التكليفي عن معاملة فسادها سواء كان المنهي عنه هو السبب ، أو التسبيب إلى المسبّب ، أو المسبّب فإنّ مبغوضية شيء منها لا ينافي صحتها ومؤثريتها في النقل والانتقال خصوصا في النهي عن الأخيرين لاقتضاء النهي حصولهما ، إذ مع عدم حصولهما لا معنى للنهي عنهما وتحريمهما.

نعم ، إنّما يقتضي النهي التكليفي للفساد فيما إذا كان النهي عن المعاملة للإرشاد إلى الخلل فيها أو كان النهي التحريمي متعلّقا بلوازم صحة المعاملة كالنهي عن أكل الثمن أو المثمن والتصرّف فيهما مما لا يجتمع حرمته مع صحة المعاملة ونفوذها فيحكم بفسادها.

ثمّ قال : وإذا لم يكن منافاة بين مبغوضية المعاملة وكونها مؤثرة في النقل والانتقال فلا يكون موجب لدعوى اقتضاء الفساد ، وبالنهي عنها تكليفا يخصّص ما دلّ على الجواز تكليفا أو يقيّد به إطلاق الدليل على جوازها ، ولا يكون ذلك موجبا للتخصيص أو التقييد فيما دلّ على جوازها وضعا بالعموم أو الاطلاق حتّى فيما إذا كان الجواز التكليفي أو الوضعي مستفادا من خطاب واحد ، كقوله عليه‌السلام «الناس مسلّطون على أموالهم» (١) ، بناء على القول بأنّ عمومه مثبت لجواز المعاملة تكليفا

__________________

(١) غوالي اللئالي ٢ / ١٣٨ ، الحديث ٣٨٣.

١١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

ووضعا ، فالنهي عن معاملة تكليفا يوجب تخصيص جوازه تكليفا ولا يخصّص عموم الجواز وضعا.

نعم ، لو كان النهي عن معاملة بمعنى مبغوضية المعاملة بشراشر وجودها حتّى بالإضافة إلى حدودها الراجعة إلى الجعل والإمضاء لكان لدعوى منافاة صحتها مع مبغوضيتها كذلك مجال ، ولكن من الواضح عدم قابلية المعاملة بشراشر وجودها وحدودها للنهي عنها ، فإنّ المعاملة كذلك أمر خارج عن تحت قدرة المكلّف فعلا وتركا ، وإنّما القابل لتعلّق النهي هي المعاملة من ناحية التوصّل إلى وجودها بالسبب في ظرف تحقّق أصل الجعل من ناحية الشارع ، لأنّه هذا الذي يكون تحت اختيار العبد فعلا أو تركا ومعلوم انّ مبغوضية المعاملة من هذه الجهة غير منافية لإرادة الشارع الجعل والإمضاء وتأثيرها في النقل والانتقال.

نعم قد يكون في بعض الموارد النهي دالّا على الفساد وعدم الإمضاء ، ولكن ذلك بواسطة بعض القرائن الخارجية كما في البيع الربوي وبيع المصحف من الكافر ، وعلى ذلك فالحكم بفساد المعاملة من جهة النهي عنها يحتاج إلى إحراز كون النهي عنها في مقام الإرشاد إلى عدم الجعل والإمضاء وإلّا فطبع النهي عن معاملة لا يقتضي إلّا المولوي التحريمي الذي عرفت عدم اقتضائه الفساد ، وقال في آخر كلامه : هذا إذا كان النهي متعلّقا بعنوان المعاملة أو بالسبب أو بالتسبّب إلى وجود المعاملة (١).

أقول : مقتضى ذيل كلامه قدس‌سره أنّ المسبب في المعاملة لا يدخل في متعلّق النهي وإنّما يتعلّق النهي إمّا بعنوان المعاملة أو بالسبب أو بالتسبّب إلى وجودها بالسبب ،

__________________

(١) نهاية الأفكار ١ / ٤٥٩.

١١٤

.................................................................................................

______________________________________________________

ومن الظاهر أنّ عنوان المعاملة يكون بالسبب والتسبّب والمسبّب ، وإذا كان المسبّب خارجا عن قدرة المكلّف واختياره ـ لأنّه من فعل الشارع وجعله ـ كان الداخل تحت الاختيار ، السبب والتسبّب إلى المسبّب ، فالنهي في الحقيقة يتعلّق بأحدهما أو بكليهما ، والمبغوضية كذلك لا تنافي حصول المسبّب بجعل الشارع وإمضائه مع أنّه تقدّم في أوّل كلامه أنّ النهي عن التسبّب يقتضي صحّة المعاملة ونفوذها فإنّه لو لا حصول المسبّب به لم يكن للنهي عن التسبّب بالسّبب تكليفا ، معنى معقولا.

وذكر قدس‌سره أيضا في كلامه المتقدّم أنّ ظاهر النهي عن المعاملة أو السبب أو التسبّب كونه تكليفيا لا إرشاديا فالحمل على الإرشاد يحتاج إلى قيام القرينة ، مع أنّه قد تقدّم أنّ ظاهر النهي عن معاملة هو الإرشاد إلى عدم إمضائها ، فيحتاج حمل النهي على التكليف إلى قيام قرينة ككون ملاك النهي عن البيع وقت النداء كون البيع مفوّتا للصلاة ، كما وقد تقدّم منّا مرارا أنّه ليس في المعاملات سبب ومسبّب وتسبّب بل المعاملة أمر إنشائي اعتباري يعتبرها العاقد كسائر العقلاء وتقع مورد الإمضاء من العقلاء والشرع لا أنّ العاقد أو الموقع يوجد اعتبار الشرع وإمضائه أو يتسبّب إلى إمضائه حيث إنّ كثيرا من العاقدين لا يعتقدون بالشرع فضلا عن إمضاء الشارع واعتباره ، وحقيقة المعاملة اعتبار العاقد أمرا قابلا للاعتبار والثبوت الاعتباري ويبرز ذلك المعتبر بقصد انطباق عنوان المعاملة على اعتباره ، والشرع قد يردع عنه وقد يمضيها.

ثم ذكر قدس‌سره في ذيل كلامه السابق أنّ النهي إذا تعلّق بأجزاء السبب وشرائطه يكون كما في العبادات محمولا على الإرشاد لبيان الكيفية اللازمة في السبب وما هو المانع والمخلّ بالمعاملة إلّا أنّ الفرق بين المعاملة والعبادة هو أنّ النهي إذا شك في أنّه إرشادي أو تحريمي فإنّ مقتضى الأصل كون النهي المتعلّق بنفس العبادة ارشادا

١١٥

.................................................................................................

______________________________________________________

إلى عدم مشروعيتها بخلاف النهي المتعلّق بجزء العبادة أو شرطها فإنّ مقتضى أصالة البراءة عدم مانعية المنهي عنه عن العبادة بخلاف المعاملات فإنّ مقتضى الأصل عدم مشروعيتها وإمضائها سواء كان المنهي عنه عنوان المعاملة أو غيره ، فإنّ أصالة البراءة لا مورد لها في المعاملات لا البراءة العقلية ولا النقلية ، فإنّ مجرى البراءة العقلية احتمال العقاب ولا إلزام بالمعاملة حتّى تنفى العقوبة المحتملة من جهة الشك في مانعية المشكوك وإخلاله بالمعاملة ، وأمّا البراءة النقلية فمجراها الامتنان ولا امتنان في المقام في إثبات الصحة برفع المشكوك مانعيته لاستلزامه ثبوت وجوب الوفاء الذي هو خلاف الامتنان في حقّه.

لا يقال : هذا بالإضافة إلى مثل حديث الرفع مما كان مسوقا في مقام الامتنان ولا يجري في مثل دليل الحلّية مما لا يكون كذلك فإنّه كما يجري أصالة الحلّية في موارد الشك في الحلّية التكليفية كذلك لا مانع عن جريانها في المشكوك حليته وضعا ، فيحكم في موارد الشك في المانعية والمخلية ، بحلّية نفس المعاملة المساوقة لنفوذها في النقل والانتقال.

فإنّه يقال : دليل أصالة الحلّية لاختصاصه بالمشكوك حلّيته تكليفا غير جار في المعاملات حتّى تقتضي صحتها ونفوذها ، ولذا لم يتوهّم أحد من الأصحاب جريان هذه الأدلّة في المعاملات لإثبات صحّتها بل أطبقوا على جريان أصالة الفساد فيها ، وهذا لا يكون إلّا من جهة اختصاص أدلّتها بالحلّية التكليفية كما هو واضح.

ولكن لا يخفى ما فيه : إذ لا مجال لجريان البراءة في الشك في المانعية والمخلّية في المعاملات حتّى لو لم يكن الرفع فيما لا يعلمون امتنانيا ، أو قلنا بأنّ أصالة الحلّ تعمّ موارد الشك في الحلّية الوضعية كالتكليفية ، وذلك لأنّ التكليف في

١١٦

نعم ربما يتوهم استتباعها له شرعا ، من جهة دلالة غير واحد من الأخبار عليه [١] ، منها ما رواه في الكافي والفقيه ، عن زرارة ، عن الباقر عليه‌السلام : (سأله عن مملوك تزوج بغير إذن سيده ، فقال : ذلك إلى سيده ، إن شاء أجازه وإن شاء فرق بينهما ، قلت : أصلحك الله تعالى ، إن الحكم بن عتيبة وإبراهيم النخعي وأصحابهما ، يقولون : إن أصل

______________________________________________________

العبادة غير انحلالي بل تعلّق الطلب بصرف وجود الطبيعي ، وإذا دار الأمر بين كون المتعلّق للوجوب هو الطبيعي بنحو اللابشرط أو الطبيعي بشرط شيء أو بشرط لا فالاصل في ناحية عدم تعلّق الوجوب بالمطلق غير جار للعلم باستحقاق العقاب على تركه بخلاف تعلّقه بالمشروط أو بالأكثر ، فإنّ العلم بتعلّق التكليف به غير معلوم كما أنّ ترتّب العقاب على تركه غير معلوم ، فيجري الأصل في ناحية نفي التكليف بالأكثر أو المشروط ، وهذا بخلاف المعاملات فإنّ الإمضاء والنفوذ فيها انحلالي يترتّب الامضاء على كلّ معاملة تحقّقت في الخارج والإمضاء في المعاملة الواجدة للشرط المشكوك في شرطيته أو الفاقدة للمانع المشكوك مانعيته محرز والأصل أي مقتضى الاستصحاب عدم تعلّق الإمضاء في فاقد الشرط المشكوك أو الواجد للمانع المشكوك في مانعيته وإذا أحرز عدم حلّية تلك المعاملة وضعا فلا مورد لأصالة الحل فيهما.

نعم يرجع إلى الأصل العملي فيما إذا لم يكن في البين عموم أو إطلاق يقتضي الإمضاء والنفوذ ، ومعه لا مجال له كما لا يخفى.

استظهار فساد المعاملة بالنهي من الروايات

[١] ربّما يستظهر من بعض الروايات أنّ تحريم معاملة عقدا أو إيقاعا يستلزم فسادها ، ففي المروي في الكافي (١) والفقيه (٢) عن زرارة عن الباقر عليه‌السلام «سألته عن

__________________

(١) الكافي : ج ٥ ، ص ٤٧٨ ، باب المملوك يتزوج بغير إذن مولاه ، الحديث ٣.

(٢) الفقيه : ٣ / ٣٥٠ ، باب طلاق العبد ، ح ٤.

١١٧

النكاح فاسد ، ولا يحل إجازة السيد له ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : إنه لم يعص الله ، إنما عصى سيده ، فإذا أجاز فهو له جائز) حيث دلّ بظاهره ان النكاح لو كان مما حرمه الله تعالى عليه كان فاسدا ، ولا يخفى أن الظاهر أن يكون المراد بالمعصية المنفية هاهنا ، أن النكاح ليس مما لم يمضه الله ولم يشرعه كي يقع فاسدا ، ومن المعلوم استتباع

______________________________________________________

مملوك تزوّج بغير إذن سيّده فقال : ذاك إلى سيّده إن شاء أجاز وإن شاء فرّق بينهما ، قلت أصلحك الله تعالى إنّ الحكم بن عتيبة وإبراهيم النخعي وأصحابهما يقولون أصل النكاح فاسد ولا يحلّ إجازة السيّد له ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : إنّه لم يعص الله وإنّما عصى سيّده ، فإذا أجاز فهو له جائز».

ووجه الاستظهار أنّ تعليل صحّة النكاح في فرض إجازة المولى بأنّ العبد لم يعص الله سبحانه وتعالى وإنّما عصى سيّده فإذا أجاز فهو له جائز ، مقتضاه أنّ النكاح لو كان فيه معصية الله سبحانه وتعالى كما إذا حرّمه الشارع يكون فاسدا ، وهذا عبارة أخرى عن الملازمة بين تحريم المعاملة وفسادها ، وتوهّم أنّ نكاح العبد بلا إذن مولاه ورضاه أيضا حرام شرعا فاسد ، فإنّ مجرّد إنشاء العبد النكاح بلا رضى مولاه ليس حراما تكليفا بل حتى مع منعه أيضا لا يكون الإنشاء محرّما فإنّ نكاح العبد يعني إنشائه كسائر تكلّمه لا يكون حراما عليه.

ولكن مع ذلك لا دلالة في الرواية على الملازمة بين حرمة العقد تكليفا وبين فساده فإنّ المراد بمعصية الله في النكاح حكم الشارع بفساده في نفسه مع قطع النظر عن إذن مولاه ورضاه كالنكاح بذات المحرم ، ومراده عليه‌السلام أنّ هذا لم يحصل في نكاح العبد وإنّما لا يتمّ نكاحه لنقصه من حيث إذن مولاه ورضاه وإذا أجاز يرتفع النقص ويتمّ النكاح.

والحاصل ليس المراد من معصية الله في الرواية مخالفة الحرمة التكليفية

١١٨

المعصية بهذا المعنى للفساد كما لا يخفى ، ولا بأس بإطلاق المعصية على عمل لم يمضه الله ولم يأذن به ، كما أطلق عليه بمجرد عدم إذن السيد فيه أنه معصية.

وبالجملة : لو لم يكن ظاهرا في ذلك ، لما كان ظاهرا فيما توهم ، وهكذا حال سائر الأخبار الواردة في هذا الباب ، فراجع وتأمل.

______________________________________________________

ليتوهّم الملازمة بين تحريم معاملة تكليفا وبين فسادها ، بل المراد بها في مفروض الرواية فساد أصل النكاح وعدم إمضاء الشرع مع قطع النظر عن رضى المولى وعدم رضاه كما هو ظاهر النهي عن معاملة عقدا أو إيقاعا ، وإطلاق معصية الله على عدم إمضاء الشرع أصل المعاملة نظير إطلاق معصية السيد وإرادة عدم إمضائه لا بأس به.

وربما يناقش في هذا الجواب ويقال بأنّ نكاح العبد بلا إذن سيّده أيضا عصيان الله ولكنّ الصحيح في الجواب هو ما تقدّم في مسألة جواز الاجتماع من انّ الوجوب والحرمة وغيرهما من الأحكام لا تسري من العنوان الذي تعلقت به إلى غيره حتّى إلى معنونه وظاهر الرواية أنّه إذا تعلّق النهي بعنوان النكاح فهذا يوجب فساده بخلاف ما إذا تعلّق نهي الشارع بعنوان آخر ينطبق على النكاح خارجا ، فإنّ هذا لا يوجب فساده والأمر في نكاح العبد بلا إذن مولاه كذلك حيث إنّ النهي لم يتعلّق بعنوان النكاح بل تعلّق بمخالفة السيد والخروج عن رسوم عبوديته فهذا لا يوجب بطلان النكاح ، وقد أيّد قدس‌سره ما ذكره بروايات أخرى (١).

ولكن لا يخفى ما فيه ، فإنّ ظاهر الصحيحة أنّه لم يتحقّق في الفرض عصيان الله من العبد لا أنّه لم يتعلّق الحرمة بعنوان نكاحه ، بل ذكرنا أنّ إنشاء النكاح من العبد ولو بلا رضا مولاه استعمال للسانه ومقاطع الحروف وهذا لا يكون محرّما عليه ، ولو مع

__________________

(١) تهذيب الأصول : ١ / ٣٣٤.

١١٩

تذنيب : حكي عن أبي حنيفة والشيباني دلالة النهي على الصحة [١] ، وعن الفخر أنه وافقهما في ذلك ، والتحقيق أنّه في المعاملات كذلك إذا كان عن المسبب أو التسبيب ، لاعتبار القدرة في متعلق النهي كالأمر ، ولا يكاد يقدر عليهما إلّا فيما كانت المعاملة مؤثرة صحيحة ، وأما إذا كان عن السبب ، فلا ، لكونه مقدورا وإن لم يكن صحيحا ، نعم قد عرفت أن النهي عنه لا ينافيها.

______________________________________________________

منع المولى كان يقول له مولاه لا تسلّم على عدوّي أو على جيراني والمراد من عصيان مولاه العصيان الوصفي وهو عدم تحصيل إذنه ورضاه في نكاحه وإذا أجاز تمّ النكاح ويدلّ على ما ذكرنا ما في الرواية الأخرى (١) أنّ ذلك ليس كإتيان ما حرّم الله من النّكاح في العدّة وأشباهه.

القول بدلالة النهي على الصحة

[١] قد حكي عن أبي حنيفة والشيباني دلالة النهي على الصحة ، ومقتضى إطلاق المحكي عنهما عدم الفرق بين النهي عن العبادة أو المعاملة. وقد استدلّا على دلالته على الصحّة بلزوم تعلّق النهي بالمقدور ومع عدم الصحة لا تمكّن على متعلق النهي.

وعن الفخر أنّه وافقهما على ذلك ، ولكنّ الماتن قدس‌سره قد قبل دلالة النهي في المعاملات على الصحة إذا لم يكن متعلّق النهي هو السبب بأن يكون متعلّق النهي المسبّب أو التسبيب إليه ، فإنّه لو لا ترتّب المسبّب على السبب لم يكن المسبب أو التسبيب إليه مقدورا ليمكن تعلّق النهي به ، وكما أنّ الأمر لا يتعلّق بفعل غير مقدور كذلك النهي والتحريم ، وأمّا إذا كان متعلّق النهي هو السبب أي الإتيان به كالإتيان بالإيجاب والقبول في عقد أو بالإيجاب في إيقاع فلا ملازمة بين تحريمه وصحّته لكون

__________________

(١) الوسائل : ج ١٤ ، باب ٢٤ من أبواب نكاح العبيد ، ح ٢.

١٢٠