عمدة الأصول - ج ٣

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: كيميا
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

والفرق بين الذي قلناه وبين تعبيرات المحقّق النائيني قدس‌سره يظهر فيما إذا فرض الأمر بالضدّين مطلقا ؛ كما إذا صدر من المولى أمر بهما بنحو القضيّة الخارجيّة اشتباها وغفلة عن التضادّ بينهما ، فإنّه بناء على تعبيرات المحقّق النائيني قدس‌سره ينبغي أن يقال باستحقاق المكلّف لعقابين لو عصى ولم يأت بشيء منهما ، لأنّ كلّا منهما في نفسه كان مقدورا ، أو قل لأنّ كلّا منهما معصية مقدورة في نفسها ، والجمع بينها وبين المعصية الأخرى مقدور أيضا ، مع حكم الوجدان بعدم استحقاقه ، ذلك ممّا يبرهن على ما قلناه من أنّ الميزان في صحّة العقاب إمكان التخلّص من المعصية ، والمكلّف في المثال لا يمكنه التخلّص إلّا عن إحدى المعصيتين لا كلتيهما ، فلا يستحقّ إلّا عقابا واحدا لا عقابين (١).

ولا يخفى عليك أنّ مورد الاستدلال خارج عن محلّ الكلام الذي هو تزاحم بين الواجبين اللذين لكلّ واحد منهما ملاك ، بحيث يكون مخالفة التكليف المولويّ مؤدية إلى تفويت الملاك عليه. وخطاب المولى الغافل بنحو القضيّة الخارجيّة لا يقاس بالمقام الذي كان المولى ملتفتا وكان خطابه بنحو القضيّة الحقيقيّة ؛ وكيف كان ، فما حكى عن المحقّق النائيني من أنّ العقاب على الجمع بين المعصيتين ، وقد كان مقدورا للمكلّف أن لا يجمع بين المعصيتين فيما لو جاء بالأهمّ ، لا يصلح لتعدّد العقاب مع ما عرفت من عدم القدرة على امتثالهما. نعم ، يصحّ أن يكون القدرة على عدم الجمع بين المعصيتين موجبة لشدّة العقاب.

التنبيه الثالث : أنّه إذا كان أحد التكليفين مشروطا بالقدرة العقليّة والآخر بالقدرة الشرعيّة ، فلا يأتي فيه الترتّب ، لارتفاع موضوع الثاني بالواجب الآخر الأهمّ ، لعدم القدرة عليه بواسطة المزاحمة مع الأهمّ الذي يكون مشروطا بالقدرة العقليّة.

__________________

(١) بحوث في علم الاصول : ج ٢ ص ٣٦٢.

٦١

فإنّ الممتنع شرعا كالممتنع عقلا ؛ فإذا أوجب الشارع صرف شيء في الأهمّ يكون صرفه في غيره ممنوعا شرعيّا ، وهو كالممتنع العقليّ ، فلا يبقى موضوع للمشروط بالقدرة الشرعيّة ، أي العرفيّة.

وقد مثّلوا لذلك بما إذا كان عنده مقدار من الماء يكفي إمّا للوضوء وإمّا لرفع العطش عمّن هو مشرف على الهلاك بسبب العطش ؛ فبناء على أنّ الوضوء مشروط بالقدرة الشرعية ، أي التمكّن من الماء المستفاد هذا الاشتراط من اشتراط التيمّم بعدم وجدان الماء وعدم التمكّن منه بقرينة المقابلة ، وأنّ التفصيل قاطع للشركة ، فلا يجوز فيه الترتّب ، وأن يكون الأمر بالوضوء مقيّدا بعصيان أمر الراجح ، أي الأمر بإعطاء الماء للعطشان المشرف على الهلاك ، لأنّه مشروط بالقدرة العقليّة والوضوء مشروط بالقدرة الشرعيّة على الفرض.

وكيف كان ، فقد اورد على ذلك بأنّ الأمر بأحدهما المطلق لا يكون مانعا عن القدرة على الآخر المقيّد بها بوجوده ، بل إنّما يكون مانعا إذا وصل إلى مرحلة الداعويّة والتأثير ، وهي منتفية في حال العصيان ، فيكون الموضوع حال العصيان موجودا فيشمله الإطلاق بناء على الترتّب فلا مانع من الالتزام بالترتّب هاهنا أيضا.

اجيب عن ذلك بأنّ وجود الأمر بنفسه يكون رافعا للقدرة العرفيّة ، فيكون الأمر المطلق رافعا لموضوع الأمر المقيّد بالقدرة ، فتكون نسبته إليه نسبة الوارد إلى المورود ، فلا يقال عرفا لمن هو منهيّ عن العمل إنّه قادر عليه وإن كان عاصيا له ، بحيث لو أقدم يقال إنّه أقدم مع عدم تمكّنه للنهي ، ومع عدم القدرة العرفية لا موضوع للخطاب ، فلا أمر ولا ملاك.

ويشهد لذلك أنّه لو جاء بالتيمّم قبل أن يصرف الماء في حفظ النفس المحترمة كان مشروعا ولا يلتزم أحد ببطلانه ، وهذا يعني صدق عنوان غير الواجد للماء على المكلّف ؛ فلو اريد تصحيح الوضوء والحال هذه بالترتّب لزم أن يفرض تحقّق عنوان

٦٢

الواجد كي يكون موضوعا للوجوب ، ومن الواضح أنّ صدق عنوان الواجد وغير الواجد في زمان واحد غير معقول ، انتهى.

هذا بخلاف موارد الترتّب ، فإنّ الأمر في ناحية المهمّ موجود وإنّما يرفع اليد عن إطلاقه للمزاحمة ، وهي فيما إذا كان الأمر في ناحية الأهمّ مؤثّرا فلا يرتفع إطلاق الأمر في ناحية المهمّ بمجرّد الأمر في ناحية الأهمّ ، بل هو منوط بتأثير الأمر في ناحية الأهمّ ، فلا تغفل.

التنبيه الرابع : أنّه ربّما يقال إنّ الترتّب إنّما يجري فيما إذا كان الضدّان ممّا لهما الثالث كالصلاة والإزالة وكإنقاذ الغريقين ، وأمّا إذا كان الضدّان ممّا لا ثالث لهما كالحركة والسكون ، فلا يتأتّى بينهما الترتّب ، إذ ترك أحدهما أو عصيانه لا يتحقّق بدون فعل الآخر ، ومعه لا معنى لتعلّق الأمر بالآخر بشرط ترك ضدّه أو عصيانه ، فإنّ الآخر حاصل ، فيكون طلبه من قبيل طلب الحاصل.

وهذا لا شبهة فيه في نفسه ، ولكنّ الكلام في صغرى هذه الكبرى ، وقد حكي عن كاشف الغطاء رحمه‌الله تعالى أنّ مسألة الإخفات في موضع الجهر وبالعكس من موارد الترتّب. وأشكل عليه المحقّق النائيني قدس‌سره بأنّ تلك المسألة ليست من مصاديق الترتّب ، لأنّ الجهر والإخفات من الضدّين اللذين لا ثالث لهما ، إذ القارئ لا يخلو عن أحدهما. وقد ثبت أنّ الترتّب لا يجري في الواجبين اللذين لا ثالث لهما لامتناعه.

اورد عليه في المحاضرات بأنّ متعلّق الأمر ليس هو الجهر أو الإخفات بحيث يفرض في موضوع الأمرين هو القراءة كي لا يتخلّف القارئ عن أحدهما ، بل متعلّق الأمر هو القراءة الجهرية أو القراءة الإخفائية ، ومن الواضح أنّهما ليسا من الضدّين الذين لا ثالث لهما ، إذا المكلّف قادر على تركهما معا بترك أصل القراءة.

اجيب عنه بأنّه خلاف الفرض ؛ لأنّ وجوب القراءة في الصلاة معلوم وليس مشروطا بشرط ، وإنّما الكلام في الجهر بها والإخفات كذلك ، وبعبارة اخرى القراءة

٦٣

المفروضة الوجود لقوله عليه‌السلام : «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب ، تعلّق الأمر بالجهر أو الإخفات فيها ، ومعلوم أنّ عدم أحد الضدّين اللذين لا ثالث لهما في القراءة ملازم لوجود الآخر أو عينه (١).

وذهب السيّد الشهيد الصدر قدس‌سره ـ خلافا لكاشف الغطاء ومن جعل مسألة الجهر والإخفات من باب الترتّب ـ إلى أنّ الترتّب لا يعقل بين الأمرين الضمنيّين ، سواء جعلا عبارة عن الأمر بالجهر والأمر بالإخفات أو الأمر بالقراءة الجهريّة والقراءة الاخفاتيّة ، وإنّما المعقول هو الترتّب بين الأمر بالصلاة الجهريّة والأمر بالصلاة الإخفاتيّة ، وهما ـ كما سيأتي ـ لا تضادّ بينهما أصلا ، لإمكان إيقاعهما معا في الخارج ؛ فليس هذا التطبيق من باب الترتّب. ثمّ قال فى تبين عدم معقوليّة الترتّب بين الأمرين الضمنيّين.

والوجه في ذلك أنّ افتراض الترتّب بين الأمرين الضمنيّين في خطاب واحد : يستلزم أخذ ترك الجزءين كالجهر مثلا شرطا للأمر الضمنيّ بالإخفات.

فإن أخذ شرطا في موضوع الأمر الضمنيّ خاصّة فهو غير معقول ، لأنّ مقتضى ضمنيّته. أنّ هناك أمرا واحدا بالمجموع ، فلا بدّ وأن يكون الشرط مأخوذا في ذلك الأمر الواحد الاستقلاليّ ، وإن أخذ شرطا في موضوع الأمر الاستقلاليّ بالمركّب بنحو شرط الوجوب ، لزم منه أخذ ترك الجهر مثلا في الخطاب الواحد الذي من ضمنه الأمر بالجهر وهو مستحيل.

وإن أخذ شرطا في متعلّق الأمر بالإخفات ـ بنحو شرط الواجب ـ لزم فعليّة كلا الأمرين الضمنيّين أي الأمر بالجهر وبالإخفات المقيّد بعدم الجهر ، وهو طلب الجمع بين الضدّين المحال. وأضاف أيضا : إنّ الشرط لو كان هو عدم الجهر الأعمّ من

__________________

(١) منتهى الاصول : ج ١ ص ٣٥٥.

٦٤

السالبة بانتفاء المحمول بأن يقرأ ولا يجهر أو السالبة بانتفاء الموضوع بأن لا يقرأ أصلا فالأمر بالقراءة الإخفاتية يكون معقولا ، وأمّا إذا كان الشرط هو عدم الجهر في القراءة ، أي بنحو السالبة بانتفاء المحمول خاصّة فالأمر بالإخفات لا يكون معقولا حينئذ. وقد لاحظ كلّ من المحقّق النائيني والسيّد الاستاذ إحدى هاتين الفرضيّتين دون الاخرى فتخالفا في إمكان الأمر بالقراءة الإخفاتيّة وعدمه (١).

ولقائل أن يقول : إنّ اللوازم المذكورة في ترتّب الأمرين الضمنيّين ناشئة من فرض كون الخطاب واحدا ، وأمّا إذا قلنا بأنّ الترتّب في مثل الجهر والإخفات أو القراءة الجهريّة والقراءة الإخفاتيّة يمكن فرضه بالخطاب المتعدّد بأن أمر الشارع بمركّب يكون من جملته الجهر بالقراءة ، ثمّ امر بالإخفات على حدة عند ترك الجهر بالقراءة أو عصيانه ، فلا يلزم من ذلك المحاذير المذكورة ، كما أنّ ظاهر الأخبار الواردة هو تعدّد الخطاب ، منها صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام في رجل جهر فيما لا ينبغي الإجهار فيه وأخفى فيما لا ينبغي الإخفاء فيه. فقال : «أي ذلك فعل متعمّدا فقد نقض صلاته وعليه الإعادة ، فإن فعل ذلك ناسيا أو ساهيا أو لا يدري ، فلا شيء عليه وقد تمّت صلاته (٢)». إذ مثل هذه الرواية الناظرة إلى من أجهر مكان الإخفات أو أخفت مكان الإجهار ، يدلّ على خطاب آخر غير الخطاب الأوّل ، فلا مانع من أن يجعل بنحو الترتّب بالنسبة إلى الأوامر الضمنيّة من دون لزوم المحاذير المذكورة ، ولا وجه لفرض الترتّب بين الصلاة الجهريّة والصلاة الإخفاتيّة مع أنّ وجوب أصل الصلاة ووجوب أصل القراءة معلومان وليسا مشروطين بشرط ولا كلام فيهما ، وإنّما الكلام في الجهر والإخفات فيها. هذا مضافا إلى أنّ تخصيص الترتّب بموارد التضادّ لا وجه له كما مرّ

__________________

(١) بحوث في علم الاصول : ج ٢ ص ٣٦٨.

(٢) الوسائل : ج ٤ ص ٧٦٦ ، الباب ٢٦ من أبواب القراءة في الصلاة.

٦٥

مرارا.

والتحقيق هو أن يقال : إنّ موضوع الأمر الترتّبي ليس هو العصيان الخارجيّ أو الترك الخارجيّ حتّى يلزم منهما وجود الضدّ الآخر ، ولا مجال لطلبه لكونه تحصيلا للأمر الحاصل ، بل هو العزم على العصيان والبناء عليه وحالة العصيان ؛ ومن المعلوم أنّه في صورة العزم والبناء وحالة العصيان لا يتحقّق الضدّ الآخر ومعه مجال لطلبه ، كما لا يخفى ، فلا يرد على كاشف الغطاء إشكال من جهة جعل مسألة الجهر والإخفات من باب الترتّب ، لأنّ الترتّب يجيء بهذه الملاحظة في الضدّين اللذين لا ثالث لهما أيضا ، بل عرفت سابقا عدم اختصاص الترتّب بالضدّين. وعليه ، فالكبرى المذكورة مخدوشة ، وإن ذهب الأعلام إلى صحّتها ، فلا تغفل.

فتحصّل أنّه من الممكن جعل مسألة الجهر والإخفات من باب الترتّب ، سواء فرض ذلك بين الأمرين الضمنيّين أو بين الأمرين المستقلّين فلا تغفل.

وربّما يشكل جعل مسألة الجهر والإخفات من باب الترتّب من جهة اخرى وهي أنّ الأمر يصير فعليّا ومنجّزا بإحراز موضوعه. وعليه ، فإذا كان موضوعه ممّا لا يقبل الإحراز بأن كان إحرازه مساوقا لانعدامه كالناسي والساهي فلا يعقل ترتّب الحكم عليه ، لأنّه يلزم من وجوده عدمه ، فلا يمكن فعليّة مثل هذا الأمر ، وهو ليس قابلا للداعويّة ، وبدون الإحراز لا موضوع.

وما نحن فيه من هذا القبيل ، لأنّ موضوع الأمر الترتّبي هو عصيان الأمر الآخر بالإجهار ، والعلم بعصيان الأمر بالإجهار مساوق لارتفاع الجهل ومعرفة لزوم الجهر عليه ، فلا يتحقّق منه العصيان ، فيمتنع تعليق الحكم على العصيان في الفرض لاستلزام ذلك عدمه ، وبدون العلم بالتكليف لا عصيان.

واجيب عنه بأنّ ذلك يلزم لو كان المأخوذ في الأمر الآخر هو العصيان ، أمّا إذا كان المأخوذ هو العزم على الترك أو البناء عليه ، فلا يلزم منه ذلك ، لجواز اجتماع العزم

٦٦

والبناء على الترك مع الجهل بوجوبه ، فيكون الحكم فعليّا.

هذا مضافا إلى إمكان اجتماع الجهل مع العصيان ، لأنّ الجاهل المقصّر في حكم العامد ، بمعنى أنّ التكليف يتنجّز عليه ، ولذلك يعاقب على فعل المحرّمات وترك الواجبات ولو كان جاهلا ، إذا كان جهله عن تقصير ، وإذا كان التكليف متنجّزا عليه حتّى في حال جهله. وعليه ، فيكون ترك الواجبات عصيانا لأنّه لا نعني من العصيان إلّا مخالفة التكليف المتنجّز ، فلا منافاة بين صدق العصيان مع الجهل بالتكليف ؛ فلا يلزم من جعل العصيان موضوعا نفي الآخر لصدق العاصي عليه مع جهله التقصيريّ ولا يعلم بعصيانه ـ كما هو المفروض ـ حتّى يرتفع الموضوع للحكم الآخر ، بل هو في عين جهله يكون عاصيا ويشمله الدليل المعلّق على العاصي بحسب الواقع.

لا يقال إنّ التكليف المجهول لا يمكن أن يكون متنجّزا مع كونه مجهولا ، لأنّا نقول إنّ مع الجهل التقصيريّ يصدق الوصول النوعي ، إذ لا يلزم في الوصول تحقّق العلم الشخصيّ ، بل يصدق مع الإمكان العاديّ للرجوع والعلم به ، وهو حاصل.

وممّا ذكر يظهر ما في كلام الشهيد الصدر ، حيث قال إنّ نكتة الإشكال باقية على حالها ، لأنّ المكلّف إنّما يمكنه أن يحرز ذوات أجزاء موضوع الأمر الترتّبي دون أن يعلم بموضوعيّته ، ووصول الحكم لا بدّ فيه من إحراز الموضوع بما هو موضوع.

والوجه في عدم إمكان إحراز المكلّف في المقام موضوعيّة تركه للقصر للأمر الترتّبي هو أنّ المكلّف بحسب الفرض معتقد وجوب التمام عليه بخطاب أوّلي ، ومعه لا يعقل أن يحرز كونه موضوعا لوجوب التمام بخطاب ثانويّ ترتّبي ، إذ إحرازه لذلك إن كان بأن يحرز كون اعتقاده بوجوب التمام موضوعا لنفس ذلك الوجوب كان فيه محذور أخذ العلم بالحكم في موضوع ذلك الحكم الذي هو محذور شبه الدور ، وإن كان بأن يحرز كونه موضوعا لوجوب تمام آخر كان من اجتماع المثلين في نظره. وعليه ، فالمكلّف المسافر في المقام دائما يكون إتيانه بالتمام بتحريك أمر تخيّلي بالتمام يعتقده

٦٧

كخطاب أوّلي على المكلّفين جميعا في الحضر والسفر ، وأمّا وجوب التمام. الترتّبي المخصوص بالمسافر الجاهل بوجوب القصر فلا يعقل وصوله إليه ومحركيّته له نحو التمام انتهى موضع الحاجة (١).

لما عرفت من أنّ الوصول المعتبر في تنجيز الخطاب هو الوصول النوعيّ ، وهو متحقّق مع التقصير ، ومعه فالخطاب بالتمام لمن قصّر في تحصيل العلم بأنّ المسافر يقصر صلاته فعليّ ومحرّك له لأنّه عالم في عين جهله ، فما تخيّله مصادف للواقع وإن جهل بموضوعه ، بل لعلّه من باب الخطأ في التطبيق.

وأمّا ما ذهب إليه للتفصّي من الإشكال المذكور من أنّ أصل هذا الإشكال إنّما جاء بتصوّر أنّ الأمر بالتمام في حقّ الجاهل بالقصر بنحو الترتّب أمر آخر غير الأمر الأوّلي بالتمام ، وهذا لا موجب له ، بل هو إطلاق في نفس الجعل الأوّلي الذي يجعل في حقّ كلّ من لم يأت بالقصر نتيجة عدم علمه بوجوب القصر عليه ، سواء كان عدم العلم لعدم الوجوب أو للجهل ، وهذا الخطاب يمكن أن يحرزه المكلّف في كلّ حال (٢).

ففيه ما لا يخفى ؛ فإنّ الخطاب الأوّلي بعد تنويعه إلى المسافر والحاضر لا يشمل المسافر ، والمفروض أنّ الجاهل بالقصر مسافر ، ومعه فلا إطلاق للجعل الأوّلي في الواقع بالنسبة إلى الجاهل المقصّر.

نعم ، الجاهل يتخيّل إطلاقه ولا إطلاق له ، ولكن يشمله الأمر الترتّبي بالتقريب الذي ذكرناه.

هذا مضافا إلى أنّه مع الجهل التقصيريّ والوصول النوعيّ لا يصدق عدم العلم بوجوب القصر ، فلا تغفل.

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) بحوث في علم الاصول : ج ٢ ص ٣٧٠.

٦٨

ثمّ لا يخفى عليك أنّ الترتّب في القصر والإتمام والجهر والإخفات يتحقّق بأمر جديد غير الأمر الأوّلي ، لأنّ الأمر الأوّلي يتنوّع بحسب عنوان المسافر والحاضر أو بحسب الصلوات باختلاف الأوقات ؛ والدليل على الأمر الجديد هو ما ورد في الروايات من كفاية الإتمام مكان القصر عند الجهل بوظيفة المسافر أو كفاية الإخفات موضع الإجهار ، وبالعكس ، عند الجهل.

والترتّب في هذه الموارد يختلف مع الترتّب في سائر الموارد التي ربّما يتزاحم فيها بين الخطابات ويكون طرف منها بالنسبة إلى الآخر أهمّ ، والاختلاف من ناحية أنّ الأمر بالمهمّ عند عصيان الأمر الأهمّ ليس غير الأمر الأوّلي ، بل هو هو ، وإنّما يرفع اليد عنه عند التزاحم ، فإذا لم يكن مزاحم أو كان ولا تأثير له فيؤخذ بالأمر الأوّلي ولا يجوز رفع اليد عنه من دون مزاحم مؤثّر ، كما لا يخفى.

وكيف كان ، فالمتحصّل إلى حدّ الآن هو عدم ورود إشكال على كاشف الغطاء في جعل مسألة الجهر والإخفات أو القصر والإتمام من باب الترتّب.

التنبيه الخامس : ربّما يقال إنّه بناء على عدم إمكان الشرط المتأخّر لزم التفصيل بين الموارد ، فكلّ مورد يلزم من اشتراط عصيان الأهمّ فيه تأثير أمر متأخّر في المتقدّم لا يتأتّى فيه الترتّب ، كما إذا كان الأهمّ والمهمّ تدريجيّ الوجود ، أو كان الأهمّ أمرا باقيا ومستمرّا وكان عصيانه في الآن الأوّل المتعقّب بعصياناته في الآنات المتأخّرة مؤثّرا في فعليّة المهمّ. فإنّ العصيان الخارجيّ في الأزمنة المتأخّرة لو كان مؤثّرا في فعليّة المهمّ من الأوّل لزم تأثير المتأخّر في المتقدّم. وهو محال ، فالترتّب في هذه الموارد مستحيل.

هذا بخلاف ما إذا كان الشرط في فعليّة المهمّ هو عصيان الأهمّ في الآن المقارن ، سواء كان كلّ واحد منهما آنيّا أو كان الأهمّ آنيّا دون المهمّ ولا استمرار للأهمّ ، فإنّ الشرط في كلا الصورتين هو العصيان المقارن ، فلا يلزم تأثير المتأخّر في المتقدّم.

٦٩

ولكن يمكن الجواب عن ذلك بأنّ العصيان في باب الترتّب لا تأثير له في فعليّة المهمّ فإنّ المهمّ عند عدم مزاحمة الأهمّ كان فعليّا بمباديه المخصوصة به ؛ فلو كان المكلّف منقادا صار التكليف في طرف الأهمّ مزاحما لمبادئ الفعليّة في طرف المهمّ ، وأمّا إذا لم يكن المكلّف منقادا فلم يكن التكليف في طرف الأهمّ مزاحما وصار التكليف في طرف المهمّ فعليّا بمبادئ مخصوصة به كالإطلاقات الأوّليّة ؛ فلا تأثير للمتأخّر في المتقدّم في جميع الصور ، حتّى فيما إذا كان الطرفان تدريجيّي الوجود أو كان الأهمّ تدريجيّا وأمرا مستمرّا.

وبالجملة ، فالحكم في طرف المهمّ فعليّ بمبادئه وهي الإطلاقات مع وصولها إلى المكلّف ، والعصيان لا تأثير له في الفعليّة ، بل هو في قوّة عدم المزاحمة عن فعليّة المهمّ. وعليه ، فباب تأثير المتأخّر في المتقدّم مع عدم تأثير العصيان في فعليّة المهمّ لا مجال له في الترتّب فالتفصيل من هذه الجهة غير موجّه.

وأمّا الجواب بمقايسة المقام مع التدريجيّات وجعل عنوان التعقّب بالعصيانات المتدرّجة شرطا ، كما أنّ القدرة على الجزء الأوّل المتعقّب بالقدرة على الأجزاء المتأخّرة شرط حاصل بالفعل في التدريجيّات ، فلا يخلو عن الإشكال ؛ لأنّ وجود التدريجيّات ـ مع تسليم انحصار إمكان صدورها عن الحكيم المتعال بذلك ـ يكفي في مقام الإثبات وجعل وصف التعقّب شرطا ؛ هذا بخلاف المقام فإنّه لا ضرورة في جعل الشرط هو التعقّب ، إذ مع عدم جعل ذلك لا يلزم خلاف حكمة ، بل اللازم هو عدم إطلاق الخطابات المتزاحمة لصورة تدريجيّتها ، ولا بأس به ، وبالجملة قياس المقام بالتدريجيّات مع الفارق ، فلا مجال لإسراء الحكم منها إلى المقام ، هذا مع الغمض عن جعل القدرة شرطا في متعلّق الخطابات.

التنبيه السادس : أنّ الترتّب يجري أيضا في المتزاحمين الطوليّين بحسب الزمان إذا كان الثاني أهمّ ، وواجب المراعاة إمّا من جهة تصوير الواجب المعلّق أو من جهة

٧٠

أهمّيّة ملاك خطابه ، وحكم العقل مستقلّا أو من باب متمّم الجعل بحفظ القدرة للواجب المتأخّر الأهمّ ، وذلك بأن تكون فعليّة الأمر بالمهمّ في الحال مشروطة بعدم تأثير خطاب الأهمّ المتأخّر زمانا ، كاشتراط فعليّة الأمر بالمهمّ في الحال بعدم تأثير خطاب الأهمّ المقارن المزاحم حرفا بحرف ، والقول بأنّ ذلك مستلزم للالتزام بالشرط المتأخّر الممتنع ، لأنّ عصيانه متأخّر عن فعليّة المهمّ المفروض وهو محال ، غير سديد ، بعد ما عرفت من أنّ العصيان لا تأثير له في فعليّة الخطاب المهمّ ، لأنّ فعليّته تكون بمبادئه المخصوصة به ، وإنّما بالعصيان يرفع المزاحم عن تأثير المقتضي في طرف المهمّ ولا دخل للعصيان في الفعليّة.

وهكذا لا وجه لما يقال من أنّ لازم ذلك هو طلب الجمع بين الضدّين ، لأنّ الذي يزاحم خطاب المهمّ هو خطاب احفظ قدرتك المتولّد من أهمّيّة ملاك الخطاب الثاني عقلا أو المتمّم له شرعا ، والاشتراط بعصيان الخطاب الثاني الأهمّ لا يرفع هذا الخطاب ، أي خطاب احفظ قدرتك ، فالتزاحم وطلب الجمع بين الضدّين لا يرتفع بهذا الاشتراط ، مع أنّ ارتفاع هذين بالاشتراط هو المصحّح للترتّب والمخرج له من المحاليّة إلى الإمكان (١).

وذلك لأنّ خطاب : احفظ القدرة للثاني الأهمّ ناش عن ملاك الثاني وليس هو خطاب مستقلّ في نفسه. وعليه ، فإذا كان ملاك الثاني الموجب للخطاب الثاني غير مؤثّر في المخاطب بالنسبة إلى خطاب ذي المقدّمة ، كان كذلك بالنسبة إلى خطاب احفظ القدرة للثاني للملازمة بين العصيانين ، وعدم التفكيك فيهما إذا كان المفروض عدم استقلال خطاب احفظ القدرة للثاني من جهة الملاك.

فإذا كان خطاب الثاني غير مؤثّر في المخاطب كان خطاب احفظ القدرة أيضا

__________________

(١) منتهى الاصول : ص ٣٦٢.

٧١

كذلك ، فلا يلزم الجمع بين الضدّين من فعليّة خطاب المهمّ ، فإنّه فعليّ في فرض عدم تأثير خطاب الأهمّ وخطاب احفظ القدرة بتبع عدم تأثير خطاب الأهمّ.

ولا حاجة في مجيء الترتّب في المقام أن يجعل فعليّة خطاب المهمّ مشروطة بعصيان خطاب احفظ قدرتك الذي هو خطاب عقليّ أو شرعيّ حتّى يقال إنّ ذلك يلزم المحذور ، وهو إمّا طلب الحاصل أو طلب الممتنع أو كليهما ، لأنّ عصيان حفظ القدرة لا يمكن إلّا بصرفها في شيء ؛ وذلك الشيء إن كان إيجاد المهمّ فيلزم طلب الحاصل ، وإن كان إيجاد شيء آخر غير المهمّ فيلزم طلب الممتنع ، لأنّ المفروض أنّ قدرته كانت بذلك المقدار الذي صرفها في ذلك الشيء ؛ فيرجع الاشتراط في الفرض الأوّل إلى طلب الشيء بشرط وجوده ، وفي الفرض الثاني إلى طلب الشيء بشرط العجز عن إتيانه ؛ وإن كان المراد من عصيان حفظ القدرة صرفها في أيّ شيء كان ، سواء كان هو المهمّ المفروض أو فعل وجوديّ آخر ، فيلزم كلا المحذورين ، لأنّ هذا المطلق والجامع إمّا ينطبق على نفس المهمّ فيلزم الأوّل ، أي طلب الحاصل ، وإمّا ينطبق على شيء آخر غير المهمّ فيلزم الثاني أي طلب الممتنع (١).

وذلك لما عرفت من أنّ الترتّب متصوّر بين فعليّة خطاب المهمّ وعصيان الأهمّ ، وملازمة عصيان الأهمّ مع عصيان خطاب احفظ القدرة. هذا مضافا إلى أنّ خطاب احفظ القدرة مقارن مع خطاب المهمّ. وعليه ، فجعل عصيانه شرطا في فعليّة خطاب المهمّ يلزم خروجه عن المقام من المتزاحمين الطوليّين ، على أنّ اللوازم المذكورة من تحصيل الحاصل أو طلب الممتنع وغيرهما ناشئة من جعل الشرط هو العصيان الخارجيّ ، وأمّا إذا كان هو حالة العصيان والعزم والبناء على عدم الإتيان والاحتفاظ ، فلا يلزم الامور المذكورة من اشتراط فعليّة خطاب المهمّ بعدم تأثير

__________________

(١) منتهى الاصول : ج ١ ص ٣٦٢ ـ ٣٦٣.

٧٢

خطاب احفظ القدرة أي بحالة العصيان والعزم على عدم الاحتفاظ.

فتحصّل أنّه لا وجه للتفصيل المذكور في موارد الترتّب ، فمع إمكان الترتّب يجيء أيضا في المتزاحمين الطوليّين إذا كان الثاني أهمّ وواجب المراعاة.

نعم ، إذا لم يكن الثاني أهمّ ، كما إذا كان خطاب المهمّ أهمّ أو متساويا معه ، فلا مورد للترتّب لأنّ الواجب الفعليّ ليس إلّا خطاب المهمّ ، فلا مزاحم له أصلا ، فمع صرف القدرة فيه يصير قهرا موجبا لعجز المكلّف عن امتثال الثاني ، فلا تغفل.

التنبيه السابع : أنّ الترتّب كما يجيء في ناحية الأمر كذلك يأتي في ناحية النهي ، فمثل لا تغصب إذا تزاحم مع الأهمّ كإنقاذ المؤمن في أرض مغصوبة ، فالخطاب الأهمّ وهو إنقاذ المؤمن يوجب خروج النهي عن الفعليّة ، وإذا كان المخاطب عاصيا بحيث لا يؤثّر خطاب الأهمّ في مثله ، كان مخاطبا بترك الغصب ، فالنهي عن الغصب في مورد التزاحم مترتّب على عصيان خطاب الأهمّ ، كما أنّ الأمر بالصلاة فيما إذا كانت مزاحمة بالإزالة مترتّب على عصيان الأمر بالإزالة.

فكما أنّ العصيان في ناحية الأمر لا تأثير له في فعليّة الخطاب في طرف المهمّ ، بل الفعليّة ناشئة من وصول الإطلاقات الأوّليّة الدالّة على الصلاة ، كقوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) وإنّما العصيان حاك عن عدم المزاحم لتلك الإطلاقات وفعليّتها كذلك في طرف النهي حرفا بحرف.

فإنّ مع عصيان خطاب الإنقاذ لا مزاحم عن فعليّة إطلاق دليل لا تغصب ، ولا تأثير للعصيان في فعليّة خطاب لا تغصب ، بل هو فعليّ بوصول الدليل الدالّ على حرمة الغصب ، فلا مورد لتوهّم تأثير الشرط المتأخّر في المقام ولا حاجة إلى تقدير وصف التعقّب دفعا للتوهّم المذكور ، لأنّ النهي متعلّق بالدخول في أرض الغير من دون إذن بالأدلّة الأوّليّة وإنّما زاحمه وجوب الإنقاذ ، فإذا كان المكلّف غير عازم على الإتيان ارتفع المزاحم ، فكان النهي عن الدخول في أرض الغير فعليّا بمبادئه

٧٣

المخصوصة به ، والأدلّة الأوّليّة. هذا كلّه بناء على عدم وجوب المقدّمة واضح.

فإنّ بين خطاب لا تغصب وانقذ الغريق تزاحم لا تعارض حتّى يستلزم التكاذب ، ولا فرق بينهما وبين خطاب صلّ وأزل النجاسة في كونهما يوجبان التزاحم أحيانا لا التعارض ، وأمّا إذا قلنا بوجوب المقدّمة الموصلة فيقع التعارض بين لا تغصب ووجوب المقدّمة الموصلة ، فإنّ المقدّمة الموصلة عين التصرّف في دار الغير من دون استيذان ، وليس هنا من باب اجتماع الأمر والنهي في العنوانين ، لأنّ عنوان المقدّمة الموصلة لا دخل له ، بل المدخليّة لمعنونه وهو التصرّف الخارجيّ ، لأنّ الموقوف عليه الإنقاذ هو الوجود الخارجيّ لا العنوان ؛ وكيف كان ، فمن المعلوم أنّ حرمة الغصب نفسا لا تجتمع مع الوجوب المقدّميّ في شيء واحد وهو المقدّمة الموصلة ، فيقع التكاذب بينهما فلا يبقى الحكمان ويخرج عن مورد الترتّب ، فإنّ مورد الترتّب لا مضادّة فيه بحسب مقام الجعل ، وإنّما المضادّة في مقام الامتثال ، ولذا يجتمع الحكمان بحسب جعل الشارع ، وإنّما سقط عن الفعليّة عند التزاحم في مورد المزاحمة فليس في المقدّمة الموصلة إلّا حكم واحد وهو لزوم الإتيان بها للوصلة إلى الإنقاذ ، كما أنّ في غير الموصلة ليس إلّا حكم واحد وهو حرمة التصرّف والعدوان في ملك الغير.

وهكذا الأمر إذا قلنا بوجوب مطلق المقدّمة ، فإنّه يقع التعارض بين حرمة الغصب والوجوب المقدّمي ، فيقع التكاذب بينهما ولا يبقى إلّا حكم واحد وخرج عن مورد الترتّب ؛ فمع فرض عصيان الحكم الموجود لا يكون حكم في المقام حتّى يترتّب عليه ، بخلاف مثل الصلاة والإزالة فإنّه مع عصيان الإزالة وعدم تأثير أمرها لا مانع من فعليّة الأمر بالصلاة. نعم ، يصحّ ورود النهي الجديد عند عصيان الخطاب المقدّميّ وعدم تأثيره ، ولكنّه مفقود على المفروض ، فلا يقاس بمورد الجهر والإخفات في الأمر الترتّبي ، فإنّ الإخفات عند الجهل التقصيريّ والعصيان موضوع لخطاب الجهر وبالعكس بدليل خاصّ ، والمفروض في المقام هو عدم ورود دليل خاصّ ، ومع

٧٤

التعارض بين الحرمة النفسيّة والوجوب المقدّميّ وأهمّيّة ذيها ، فلا حكم في طرف الحرمة النفسيّة حتّى يقال عند عدم تأثير الأهمّ يبقى بلا مزاحم كسائر موارد الترتّب.

وممّا ذكر يظهر ما في منتهى الاصول ، حيث ذهب إلى جريان الترتّب في الحرام الذي وقع مقدّمة لواجب يكون فعله أهمّ من ترك ذلك الحرام مع فرض عدم ورود دليل خاصّ.

التنبيه الثامن : أنّ الترتّب لا يجري إلّا في المتزاحمين اللذين بينهما تزاحم اتّفاقيّ ، وأمّا إذا كان بينهما تزاحم دائميّ ، فيرجع إلى باب التعارض ، إذ جعل الحكمين اللذين لا يمكن امتثالهما دائما بل لا مناص في جميع الأوقات إلّا في امتثال أحدهما وعصيان الآخر خال عن الحكمة ، فلا يصدر عن الحكيم. بل في مثله إن كان الملاك في أحدهما أقوى فالجعل على طبقه ، وإن كان الملاك فيهما متساويا فمقتضى ذلك هو الحكم بالتخيير الشرعيّ ، ففي الصورتين لا مجال للتزاحم ، ومع خروجهما عن التزاحم لا مجال للترتّب ، إذ في الصورة الاولى لا حكم آخر ـ مع فرض عدم تأثير الحكم الأقوى ـ حتّى يترتّب عليه. نعم ، يمكن أن يرد بدليل خاصّ حكم آخر مترتّب على عصيان الحكم الأهمّ ، ولكنّ المفروض عدم وجود دليل خاصّ.

وفي الصورة الثانية فلا مجال لفرض العصيان بعد كون الحكم هو التنجيز ، إذ لا حاجة في الأخذ بالحكم الآخر بفرض العصيان ، كما لا يخفى.

وممّا ذكر يظهر ما في منتهى الاصول من أنّ وجه عدم جريان الترتّب في المفروض هو لزوم طلب الحاصل ، وذلك من جهة أنّ عصيان كلّ واحد منهما ملازم لامتثال الآخر ؛ ففي ظرف عصيان أحدهما الأمر بالآخر يكون من قبيل طلب الحاصل (١).

__________________

(١) منتهى الاصول : ج ١ ص ٣٧٢.

٧٥

وذلك لما عرفت من أنّه لا حكم في الصورة الاولى ولا حاجة في الصورة الثانية ، هذا مضافا إلى أنّ الشرط ليس هو عصيان خارجيّ حتّى يلزم من الترتّب فيه طلب الحاصل ، بل الشرط هو حالة العصيان والبناء والعزم كما مرّ مرارا.

التنبيه التاسع : أنّ الترتّب يجري في باب اجتماع الأمر والنهي حتّى بناء على الامتناع وكون التركيب بين متعلّقي الأمر والنهي اتّحاديا ، لأنّ الواحد متحيّث بحيثيّتين وله ملاكان وكلّ ملاك من جهة حيثيّة خاصّة والحكم متعلّق بهما في الذهن لا في الخارج وعليه فلا تزاحم بين الحكمين ، ولكنّ الامتناعيّ حيث تخيّل تعلّق الحكم بالوجود الخارجيّ زعم تزاحم الحكمين مع وجود الملاكين لهما كما يتزاحمان في مقام الامتثال ؛ وبالجملة فمع تقديم جانب النهي سقط الأمر في جانب آخر ، ولكن يمكن جريان الترتّب فيه لوجود الملاك في جانب الأمر ، فإذا لم يكن النهي مؤثّرا فلا مانع من فعليّة الأمر في جانب آخر.

ذهب في منتهى الاصول إلى عدم جريان الترتّب فيه أيضا ، وقال : والسرّ في عدم جريان الترتّب في ذلك الباب هو أنّه بناء على تغليب جانب النهي لا يمكن أن يقال إن عصيت النهي ، أي إن غصبت مثلا فصلّ ، لأنّ الغصب ـ الذي به يتحقّق عصيان النهي عن الغصب ـ إن كان هو الغصب الذي يوجد في ضمن الصلاة وينطبق عليها ، ففي ذلك الظرف تكون الصلاة موجودة وحاصلة فيكون طلبه طلب الحاصل ، وإن كان غصبا آخر غير منطبق على الصلاة فيكون طلبا للممتنع ، وإن كان مطلقا يلزم كلا المحذورين (١).

وفيه ما مرّ مرارا من أنّ الشرط هو حالة العصيان والبناء والعزم على العصيان لا العصيان الخارجيّ ، فلا يلزم المحذورات المذكورة لو لم يدلّ دليل خاصّ على عدم صحّة مورد الأمر ، كما سيأتي إن شاء الله البحث عنه. فتدبّر جيّدا.

__________________

(١) منتهى الاصول : ج ١ ص ٣٧٢.

٧٦

الخلاصة

الفصل الخامس في أنّ الأمر بالشيء

هل يستلزم النهي عن ضدّه أم لا

ويقع الكلام في أمور :

الأمر الأوّل : أنّ المسألة أصوليّة لأنّ نتيجة المسألة تقع في طريق الاستنباط ودعوى أنّها فقهيّة لأنّ البحث فيها عن ثبوت الحرمة لضدّ الواجب وعدمه وهو بحث فقهيّ مندفعة بأنّ البحث ليس كذلك بل هو البحث عن ثبوت الملازمة بين الأمر بالشيء والنهي عن ضدّه وعدمه وهو بحث أصوليّ.

ثمّ أن تعنون المسألة بجهة أخرى تصلح باعتبارها أن تكون من مبادي الأحكام لا تنافي إدراجها في المسائل الاصوليّة باعتبار ثبوت الملازمة وعدمه كما لا يخفى.

الأمر الثاني : إنّ هذه المسألة الاصوليّة تكون من المسائل العقليّة لا اللفظيّة لأنّ البحث لا يختصّ بصورة ثبوت الأمر بلفظ ونحوه هذا مضافا إلى أنّ الغرض من الاستلزام ليس إلّا في عالم الواقع والحاكم بها ليس إلّا العقل ولا صلة للبحث المذكور بدلالة الألفاظ وعدمها ولعلّ ذكرها في باب الألفاظ لعدم أفراد باب لخصوص المسائل العقليّة هذا مضافا إلى غلبة كون الواجبات من الأوامر اللفظيّة.

الأمر الثالث : أنّ المراد من الضدّ في المقام هو الضدّ الاصوليّ لا المنطقيّ ولذا لا يختصّ بالضدّ الوجوديّ بل يشمل مطلق ما يعاند الشيء وينافيه ولو كان أمرا عدميّا كنقيض الشيء أعني عدمه ولذلك يصحّ إطلاق الضدّ على ترك كلّ ضدّ

٧٧

كالصلاة والإزالة في وقت واحد مع أنّ ترك الصلاة والإزالة من النقيض ويسمّى الضدّ بالعامّ من جهة ملائمة ترك كلّ ضدّ مع اجتماعه مع واحد من الاضداد الخاصّة مثلا ترك الإزالة يجتمع مع الصلاة وغيرها من الأكل والشرب ونحوهما وهكذا ترك الصلاة يجتمع مع الإزالة وغيرها من الأفعال.

كما يصحّ إطلاق الضدّ على الضدّ الخاصّ بمعناه المنطقيّ وهو الذي لا يلائم ولا يجتمع مع غيره من الأضداد الوجوديّة كضدّيّة الإزالة مع الصلاة وبالعكس إذ الضدّان بالمعنى المنطقيّ أمران وجوديّان لا يجتمعان في محلّ واحد.

الأمر الرابع : إنّ محلّ النزاع ليس في الواجبين الموسّعين إذ لا مزاحمة بينهما كما ليس في المضيّقين اللذين لا أهمّ بينهما إذ من المعلوم إنّ الحكم هو التنجيز بينهما بل محلّ النزاع في الموردين :

أحدهما ما إذا كان أحد الواجبين موسّعا والآخر مضيّقا.

وثانيهما : هو ما إذا كانا مضيّقين ولكن كان أحدهما أهمّ من الآخر.

الأمر الخامس : في استدلال القوم على استلزام طلب الشيء والأمر به للنهي عن ضدّه ويقع الكلام في مقامين :

المقام الأوّل : في الضدّ الخاصّ :

واستدلّ له بوجوه :

الوجه الأوّل : أنّ ترك الضدّ الخاصّ مقدّمة للضدّ الآخر وحيث أنّ مقدّمة لواجب واجب فترك الضدّ الخاصّ واجب فإذا كان ترك الضدّ واجبا كان فعله محرّما وهو المطلوب إذ نتيجة القياس أنّ الأمر بالشيء أو إرادته يستلزم النهي عن ضدّه ويمكن أن يقال : إنّ ترك الضدّ الخاصّ ليس من مقدّمات وجود الضدّ الآخر لأنّ الأمر العدميّ لا حظّ له من الوجود حتّى يؤثّر في وجود الضدّ الآخر فمع عدم كون

٧٨

ترك الضدّ مقدّمة لا مجال لسراية الوجوب من ذي المقدّمة إليها كما لا يخفى.

هذا مضافا إلى ما قيل من أنّه لا تقدّم ولا تأخّر بين الضدّين بما هما ضدّان وعليه فنقيض كلّ واحد منهما وهو العدم البديل للوجود أيضا لا تقدّم له على وجود الآخر وهذا معنى كونهما في مرتبة واحدة.

وفيه ما لا يخفى لأنّ صرف كون عدم الضدّ بديلا لعين الضدّ لا يقتضى أن يكون في رتبته لجواز أن يتقدّم عليه أو يتأخّر عنه طبعا بشهادة أنّ الشرط وجوده متقدّم بالطبع على وجود مشروطه ومع ذلك لا تقدّم لعدمه البديل على وجود مشروطه بالطبع وأيضا أنّ المعلول متأخّر عن العلّة رتبة وما هو متّحد معه وهو عدم البديل له لا يكون متأخّرا عن العلّة الموجودة مع أنّ المفروض أنّ عدم المعلول يكون في مرتبة وجود المعلول.

وبالجملة فلا ملازمة بين انتفاء التقدّم في وجود الضدّين وبين انتفائه في نقيضهما وعليه فمع عدم الملازمة لا يثبت عدم التقدّم لنقيض أحد الضدّين بالنسبة إلى الآخر فلا يصلح هذا الجواب لردّ من جعل نقيض كلّ واحد من الضدّين مقدّمة لوجود الضدّ الآخر.

فالأولى هو أن يقال إنّ التقدّم والتأخّر والمقارنة والمعيّة من خواصّ الوجود والعدم لا حظّ له من الوجود حتّى يتصوّر فيه هذه الامور. وعليه فعدم النقيض أو الضدّ في عين عدم اختصاصه بمرتبة النقيض أو الضدّ لا تقدّم له من أنواع التقدّم ومع عدم التقدّم فلا وجه لتعلّق الوجوب المقدّميّ إليه.

الوجه الثاني : أنّ وجود الضدّ متلازم لترك الضدّ الآخر والمتلازمان لا يمكن اختلافهما في الحكم بأن يكون أحدهما واجبا والآخر محرّما وعليه فإذا كان أحد الضدّين واجبا فلا محالة يكون ترك الآخر أيضا واجبا وإلّا لكان المتلازمان مختلفين في الحكم وهو خلف فإذا كان ترك الآخر واجبا ففعل نفس الآخر يكون محرّما وهو

٧٩

المطلوب من استلزام الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه.

يمكن أن يقال إنّ غاية ما يدلّ عليه الدليل المذكور هو أنّه لا يكون أحد المتلازمين محكوما بغير ما حكم به الآخر ولا يستفاد منه أنّه محكوم بحكمه بل يمكن أن لا يكون له حكم أصلا وعليه فالمحذور كما يندفع بالالتزام بكونهما متوافقين في الحكم فكذلك يندفع بكون أحدهما غير محكوم بحكم من الأحكام وعليه فالالتزام بالتوافق في الحكم يحتاج إلى إقامة دليل.

فتحصّل أنّ الأمر بأحد الضدّين لا يستلزم الأمر بترك الضدّ الآخر وإن كان كلّ ضدّ متلازما مع ترك الآخر.

فمع عدم الاستلزام المذكور لا يكون فعل الآخر حراما حتّى يدّعى أنّه هو المطلوب.

المقام الثاني : في الضدّ العامّ

وتقريب الاستلزام فيه بأن يقال :

أنّ الأمر بالضدّ كالإزالة كقوله أزل النجاسة عين النهي عن الضدّ العامّ كقوله لا تترك الإزالة أو مشتمل عليه أو مستلزم له والضدّ العامّ هو الترك فإذا كان الترك منهيّا عنه يسري النهي منه إلى محقّقاته وهي أضداد الإزالة وعليه فمثل الصلاة التي تكون من محقّقات ترك الإزالة منهيّ عنها ومن المعلوم أنّ النهي عن الصلاة بضميمة أنّ النهي في العبادات يقتضي الفساد ينتج فساد الصلاة.

ويمكن أن يقال أوّلا : نمنع تعدّد الخطاب من الأمر والنهي بناء على أنّ النهي هو طلب الترك إذ الأمر هو طلب الفعل والنهي هو من طلب الترك وهما يرجعان إلى أمر واحد لأنّ النهي عن الترك يرجع إلى طلب ترك الترك ومن المعلوم إنّ طلب ترك الترك عين طلب الفعل فلا تعدّد للخطاب. هذا مضافا إلى عدم وجود الملاك لتعدّد

٨٠