عمدة الأصول - ج ٣

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: كيميا
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

هذا مضافا إلى جريان استصحاب عدم النجاسة بالسبب الثاني فيما إذا أصاب البول يد شخص مرّتين ومتعاقبين لأنّ بعد الإصابة الأولى كان المعلوم هو عدم تنجّس اليد بسبب آخر فإذا حدث الإصابة الثانية وشكّ في حدوث النجاسة ثانيا يستصحب عدمه.

وإن أصابا دفعة وشكّكنا في أنّ كلّ واحد مؤثّر أو الجامع بينما فاستصحاب جامع النجاسة بعد العمل بالمتيقّن من التكليف جار ولكن لا أثر له إذ الأثر مترتّب على الأفراد لا على الجامع واستصحاب جامع النجاسة لإثبات تأثير كلّ واحد منهما مثبت.

وكيف كان فالشكّ في التكليف الزائد على المقدار المتيقّن يكون مجرى لأصالة البراءة.

مقتضى الأصل في الشكّ في تداخل المسبّبات

ولا يذهب عليك أنّ الشكّ في تداخل المسبّبات وعدمه يرجع إلى الشكّ في الامتثال والسقوط بعد الفراغ عن أصل ثبوت التكليف واشتغال الذمّة به.

وحينئذ فإن كان إطلاق المتعلّقات كافيا لدفع احتمال مدخليّة التقدّم والتأخّر وإحراز إمكان التصادق فلا شكّ في كفاية الإتيان بما يتصادق العنوانان عليه.

وإن لم يكن إطلاق أو كان الدليل لبّيا أو كان مجملا فمقتضى الأصل هو عدم التداخل ولزوم الإتيان بكلّ واحد من الأسباب حتّى يحصل الفراغ اليقيني بعد الاشتغال اليقيني.

٤٦١

الفصل الثالث : في مفهوم الوصف

ويقع البحث في مقامين :

أحدهما في محلّ النزاع

ولا يخفى عليك أنّ عنوان البحث كما أفاد الشيخ الأعظم وكان عليه المشهور هو أنّ إثبات حكم لذات مأخوذة مع بعض صفاتها لا يستلزم انتفاء ذلك الحكم عند انتفاء تلك الصفة.

وشمول هذا العنوان فيما إذا اعتمد الوصف على الموصوف كقولهم أكرم رجلا عالما واضح وأمّا شموله لما إذا لم يعتمد عليه في اللفظ كقولهم أكرم عالما فمحلّ الكلام ربما يقال بخروج المثال المذكور عن محلّ النزاع بدعوى أنّه لو كان داخلا في محلّ الكلام لدخل اللقب فيه أيضا لوضوح أنّه لا فرق بين اللقب وغير المعتمد من الوصف من هذه الناحية فكما أنّ الأوّل لا يدلّ على المفهوم من دون خلاف فكذلك الثاني ومجرّد أنّ الوصف ينحلّ بتعمّل من العقل إلى شيئين ذات ومبدأ كما هو الحال في جميع العناوين الاشتقاقيّة لا يوجب فارقا بينه وبين اللقب في هذه الجهة حيث إنّ هذا الانحلال لا يتعدّى عن أفق النفس إلى أفق آخر فلا أثر له في القضيّة في مقام الإثبات والدلالة أصلا حيث أنّ المذكور فيها شيء واحد وهو الوصف دون موصوفه.

وكيف كان فالظاهر أنّه لا خلاف ولا إشكال في عدم دلالته على المفهوم والسبب فيه أنّ الحكم الثابت في القضيّة لعنوان اشتقاقيّا كان أو ذاتيّا فلا تدلّ القضيّة

٤٦٢

إلّا على ثبوت هذا الحكم لهذا العنوان وكونه دخيلا فيه وأمّا انتفائه عن غيره فلا إشعار فيها فضلا عن الدلالة بل لو دلّ على المفهوم لكان الوصف الذاتيّ أولي بالدلالة نظرا إلى أنّ المبدأ فيه مقوّم للذات وبانتفائه تنتفي الذات جزما وهذا بخلاف الوصف غير الذاتيّ فإنّ المبدأ فيه حيث أنّه جعليّ غير مقوّم للذات فلا محالة لا تنتفي الذات بانتفائه فالنتيجة أنّه لا فرق بين اللقب وغير المعتمد من الوصف فإنّ ملاك عدم الدلالة فيهما واحد (١).

وفيه أوّلا : أنّ قياس الوصف غير المعتمد باللقب كما ترى فإنّ الذات في الوصف غير المعتمد كالمذكور عرفا وإن قلنا ببساطة المشتقّ فإنّ مفهوم ضارب وإن كان بسيطا ويعبّر عنه في اللغة الفارسيّة ب «زننده» ولكنّه مفهوم يحتوي الذات عرفا هذا بخلاف اللقب فإنّه لا يكون كذلك عرفا نعم يكون اللقب أيضا قابلا للتحليل العقليّ ولكنّ المعيار ليس هو إمكان التحليل العقليّ بل المعيار هو التفاهم العرفيّ.

وثانيا : إنّ بعد ما عرفت من أنّ المعيار هو التفاهم العرفيّ لا التحليل العقليّ ينقدح أنّه لا مجال لقوله لو دلّ الوصف غير المعتمد على المفهوم لكان الوصف الذاتيّ (كقوله أكرم إنسانا) أولى بالدلالة نظرا إلى أنّ المبدأ فيه مقوّم للذات وذلك لما عرفت من أنّ الذات عند العرف في المثال المذكور غير متفاهم وإن أمكن التحليل العقليّ فيه ولكنّه ليس بمعتبر.

والمراد من تفاهم الذات في الوصف غير المعتمد ليس هو الدلالة الوضعيّة عليه بل المراد أنّه متفاهم عندهم ولو كان اللفظ بسيطا والتفاهم العرفي يكفي في إدراجه تحت العنوان المبحوث عنه.

وثالثا : أنّ قوله إنّ الحكم الثابت في القضيّة سواء كان لعنوان اشتقاقيّ كقولهم

__________________

(١) المحاضرات : ج ٥ ص ١٢٧ ـ ١٢٨.

٤٦٣

أكرم عالما أو ذاتيّ كقولهم أكرم إنسانا لا يدلّ إلّا على ثبوت الحكم للعنوان ولا اشعار فيه لانتفائه عن غيره (لعدم الاعتماد على الذات ولا يجري فيه ما يستدلّ للمفهوم من لزوم اللغويّة لو لم يدلّ على المفهوم فإنّ المقصود من ذكر الموضوع ليس إلّا إثبات الحكم له لا إثباته له ونفيه عن غيره).

منظور فيه لأنّ بعد ما عرفت من أنّ الذات في الوصف متفاهم عرفيّ يجري في غير المعتمد أيضا تقريب اللغويّة فإنّ الوصف لو لم يكن دخيلا اكتفى بالذات وفاقدا لوصف ولمّا كان لذكر الوصف وجه فالصون عن اللغويّة يقتضي إثبات الحكم للذات ونفيه عن غيره هذا بخلاف ما إذا كان العنوان ذاتيّا.

ومما ذكر يظهر قوّة ما ذهب إليه الشيخ الأعظم قدس‌سره من أنّه يدخل في العنوان المذكور عند طليعة البحث ما إذا كان الموضوع وصفا من الأوصاف كأن يقال أكرم عالما حيث يصدق عليه أنّه إثبات حكم لذات سواء قلنا باعتبار الذات في المشتقّ أو لا (١).

ويؤيّده أيضا ما استدلّ به بعض المثبتين للمفهوم من التمسّك بفهم أبي عبيدة من مثل قوله مطل الغنيّ ظلم أنّه يدلّ على أن مطل غير الغنيّ ليس بظلم حيث لم يرده الثاني بأنّ هذا من قبيل مفهوم اللقب لا الوصف بل ردّه بغيره ولذلك قال في مناهج الوصول : الظاهر أنّ محط الكلام أعمّ ممّا اعتمد الوصف على موصوفه أولا (٢).

بل يمكن أن يقال بلحوق الحال والتمييز وغيرهما من قيود الموضوع فإنّها في حكم الوصف وان لم يصدق عليه عنوان الوصف ودعوى أنّ الحال في جميع الموارد تكون من قيود الحكم مندفعة بأنّ الحال ربّما تكون من قيود الموضوع لا من قيود الحكم كما إذا قيل : أكرم رجلا في حال كونه مسلّما عليك وداعيا لك إذ من المعلوم أنّ

__________________

(١) مطارح الأنظار : ص ١٨٠.

(٢) مناهج الوصول : ج ٢ ص ٢١٥.

٤٦٤

الحال في الجملة المذكور من أحوال الرجل لا المخاطب بوجوب الإكرام ولا تكون أيضا من قيود متعلّق الحكم أي الإكرام.

ولعلّه لذلك قال الشيخ الأعظم قدس‌سره : والإنصاف أنّ مناط الأقوال موجود فيه أي الحال بل ربما يحكى عن بعضهم عدّ جميع جهات التخصيص منه فالمعدود والمحدود موصوفان بالعدّ والحدّ إلّا أنّ وجود المناط ممّا ينهض وجها للإلحاق لا للإدخال (١).

ثمّ إنّ المراد من الوصف المذكور في العنوان هو الوصف الأخصّ كقولهم أكرم انسانا عالما أو الأعمّ من وجه كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وفي الغنم السائمة زكاة فإنّ الأوّل يوجب تضييقا في ناحية الموصوف فلدعوى دلالته على المفهوم مجال كما أنّ الثاني أيضا يفيد تضييق دائرة الموصوف من جهة فيقيد الغنم في المثال المذكور بخصوص السائمة فعلى القول بدلالة الوصف على المفهوم يدلّ على انتفاء وجوب الزكاة عن الموضوع المذكور في القضيّة بانتفائه فلا زكاة في الغنم المعلوفة.

نعم لا يدلّ على انتفاء الحكم عن غير هذا الموضوع كالإبل المعلوفة لاشتراط اتّحاد الموضوع في المفهوم والمنطوق والابل خارج عن موضوع المنطوق.

وممّا ذكر يظهر ما في دعوى بعض الشافعيّة من أنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «وفي الغنم السائمة زكاة يدلّ على نفي وجوب الزكاة في الإبل المعلوفة استنادا إلى دلالة وصف السائمة مع أنّ الموضوع المذكور أجنبيّ عن الموصوف المذكور في القضيّة المذكورة.

نعم لو قيل بأنّ السائمة علّة منحصرة لوجوب الزكاة يمكن التعدّي بها عن موضوع القضيّة ولكنّه غير الاستدلال بدلالة الوصف بما هو وصف.

وكيف كان فإذا كان الوصف مساويا لموصوفه كقولهم أكرم إنسانا ضاحكا

__________________

(١) مطارح الأنظار : ص ١٨٠.

٤٦٥

بالقوّة أو أعمّ منه مطلقا كقولهم أكرم إنسانا ماشيا فلا إشكال في خروجهما عن محلّ النزاع لأنّ الوصف فيهما لا يوجب تضييقا في ناحية الموصوف حتّى يدلّ على انتفاء الحكم في الموصوف بانتفاء الوصف إذ مع انتفاء الوصف لا يبقى موصوف حتّى يدلّ الوصف على عدم الحكم فيه فلا تغفل.

وثانيهما في أدلّة المثبتين

منها التبادر عرفا بدعوى أنّ قول المولى لخادمه اشتر لي عبدا أسود يتبادر منه عدم مطلوبيّة شراء العبد الأبيض بحيث لو اشتراه خادمه لم يكن ممتثلا.

وفيه منع واضح لعدم استلزام بين عدمه المطلوبيّة من ناحية هذا الخطاب وعدمها من سائر الجهات ، قال الشيخ الأعظم قدس‌سره أنّ المتبادر منه هو ذلك في الإنشاء الخاصّ والكلام ليس فيه نعم لو كان مفاده عدم مطلوبيّته مطلقا كان ذلك وجها (١)

ومنها دعوى الوضع للعلّيّة المنحصرة وأجيب عنها بأنّه لا شاهد لها أصلا.

ومنها أنّ الوصف يقتضى العلّيّة المنحصرة وفيه أيضا أنّه لا دليل له وثبوته في الشرط لا يقضي به في الصفة كما في الكفاية (٢) لظهور الفرق بينهما من جهة دلالة الجملة الشرطيّة على علّيّة الشرط للجزاء على وجه الانحصار بخلاف الوصف لا يقال قد ملأ الأسماع قولهم إنّ التعليق على الوصف يشعر بالعلّيّة لأنّا نقول كما في مطارح الأنظار (٣) بعد الغضّ عن عدم اطّراده وتسليم أصل الإشعار لا يثمر في المقام إذ الإشعار بالعلّيّة لا ينفي احتمال خصوصيّة المورد أيضا فلا إشعار على العلّيّة التامّة

__________________

(١) مطارح الأنظار : ص ١٨١.

(٢) الكفاية : ج ١ ص ٣٢٠.

(٣) مطارح الأنظار : ص ١٨١.

٤٦٦

وعلى تقديره فلا ينفى احتمال التعدّد انتهى موضع الحاجة (١).

هذا مضافا إلى ما في المحاضرات من أنّ مجرّد الإشعار لا يكون من الدلالات العرفيّة التي تكون متّبعة عندهم بل لا بدّ في إثبات المفهوم له من إثبات ظهور القضيّة في كون الوصف علّة منحصرة للحكم المذكور وهو في غاية الإشكال حيث إنّ مردّ هذا الظهور إلى كون الوصف قيدا للحكم دون الموضوع أو المتعلّق وهو ممنوع لظهور القضيّة الوصفيّة في كون الوصف قيدا للموضوع أو المتعلّق دون الحكم (٢).

وتوجيه اقتضاء الوصف للعلّيّة المنحصرة كما في نهاية الدراية (مع توضيح واختصار) بأنّ علّيّة الوصف بعنوانه يقتضي الانحصار إذ بعد كون الأصل في القيود وهو الاحتراز يكون معنى قيديّة شيء لموضوع الحكم حقيقة أنّ ذات الموضوع غير قابلة لتعلّق الحكم بها إلّا بعد اتّصافها بهذا الوصف فالوصف متمّم قابليّة القابل وهو معنى الشرط حقيقة وحيث إنّ الظاهر دخله بعنوانه الخاصّ وأنّ المنوط بهذا الوصف نفس الوجوب بما هو وجوب لا بما هو شخص من الوجوب فلا محالة ينتفي سنخ الوجوب بانتفاء ما هو دخيل في موضوعيّة الموضوع لسنخ الحكم.

والدليل على أنّ الوصف بعنوانه يقتضي الانحصار أنّ مع تعدّد العلّة لا يكون الوصف الخاصّ بعنوانه علّة بل بعنوان جامع إذ لا يصدر الواحد إلّا عن الواحد فالواحد لا يصدر عن المتعدّد بل يصدر عن الجامع وحيث إنّ ظاهر الدليل هو أنّ الوصف بعنوانه الخاصّ مؤثّر يعلم أنّ سائر الأوصاف لا تكون مؤثّرة (٣).

غير تامّ لما ذكره المحقّق الأصفهاني نفسه من أنّ ذلك الدليل متوقّف على

__________________

(١) مطارح الأنظار : ص ١٨١.

(٢) المحاضرات : ج ٥ ص ١٣١.

(٣) راجع نهاية الدراية : ج ٢ ص ١٧٧.

٤٦٧

القاعدة المذكورة وهي خلاف ما يقتضيه النظر الدقيق (١).

ولعلّ مراده من النظر الدقيق أنّه لا موجب لإرجاع العلل المتعدّدة إلى الجامع مع كون معلولها واحدا نوعيّا كالحرارة بالنسبة إلى الشمس والنار ونحوهما إذ القاعدة على فرض صحّتها يختصّ موردها بالواحد الشخصيّ لا الواحد النوعيّ هذا مضافا إلى ما أفاد سيّدنا الإمام قدس‌سره من أنّ تأثير الجامع ليس له أصل مطلقا (٢).

لأنّ الجامع ليس في الخارج بل هو أمر ذهنيّ ومن المعلوم أنّ الماهيّات الذهنيّة لا أثر لها على أنّ الوصف متمّم لقابليّة الموضوع وعلل قوامه لا من علل الحكم وهذا هو الفرق بين الوصف والشرط فإنّ الشرط من علل الأحكام والوصف من علل الموضوعات وانحصار تتميم الموضوع في وصف لا يدلّ على علّيّة الموضوع أو انحصار العلّيّة في الموضوع بالنسبة إلى الحكم فلا وجه لجعل الوصف في معنى الشرط وإرجاع القضايا الوصفيّة إلى القضايا الشرطيّة لوضوح الفرق بينهما فإنّ الشرطيّة كما عرفت سابقا تفيد بالوضع أو الاطلاق أو مجموعهما السببيّة والعلّيّة المنحصرة ، والجملة الوصفيّة لا تدلّ على العلّيّة فضلا عن الانحصار والإشعار ليس من الدلالات كما لا يخفى.

ومنها : أنّ المفهوم مقتضى كون الأصل في القيود هو الاحتراز.

ذهب صاحب الوقاية قدس‌سره إلى أنّ الجملة الوصفيّة تدلّ على المفهوم إمّا بالصراحة وإمّا بالظهور وقال في تقريبه وملخّص القول فيه أنّ التخصيص بأمر زائد على الذات لا بد فيه من الفائدة ومع القطع بعدم شيء منها إلّا النفي عن غير الموصوف يوجب القطع به ويكون اللفظ صريحا فيه كما في قولك صلّ خلف العادل ولا تجالس الجاهل.

__________________

(١) نهاية الدراية : ج ٢ ص ١٧٧.

(٢) مناهج الوصول : ج ٢ ص ٢١٨.

٤٦٨

ومع احتماله واحتمال غيره يكون ظاهرا فيه لأنّه أظهر الفوائد وأشهرها وأكثرها ومجرّد احتمال غيره لا يضرّ بالظهور كما لا يضرّ احتمال القرينة المعاندة بأصالة الحقيقة.

والمفهوم بهذا المعنى وبهذا الوجه ممّا لا ينبغي أن يخفى على أحد ومن أنكره في فنّ الأصول فلا شكّ أنّه يعمل به في سائر أبواب الفقه ويجري عليه في سائر محاوراته بل ينكر على من تفوّه بالوصف مع عدم الاختصاص به وعدم الفائدة كما في المثالين المعروفين وهما أنّ الإنسان الابيض لا يعلم الغيب والإنسان الأسود إذا غمّض عينيه لا يبصر.

ثمّ استشهد للمفهوم بفهم العرف كأبي عبيدة أو تلميذه من الوصف الضمنيّ كالكثير والامتلاء كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لئن يمتلئ بطن الرجل قيحا خير من أنّ يمتلئ شعرا.

حيث قال في جواب من قال إنّ المراد من الشعر ما كان في هجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو كان ذلك المراد لم يكن لتعليق ذلك بالكثرة وامتلاء الجوف معنى وأنّ القليل منه ككثيره وكالقاسم بن سلام حيث فهم من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليّ الواجد يحل عقوبته أنّ ليّ غير الواجد لا يحل عقوبته.

ومن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله مطل الغنيّ ظلم أنّ مطل المعدم ليس بظلم إلى غير ذلك (١).

يمكن أن يقال لا كلام في ما إذا علم أنّ الموصوف علّة منحصرة في ترتّب الحكم عليه فإنّ الحكم حينئذ ينتفي بانتفاء الموصوف ولكنّه ليس من جهة دلالة الجملة الوصفيّة على ذلك بل هو لقيام القرينة الخاصّة كالعلم المذكور.

وإنّما الكلام في دلالة الجملة الوصفيّة على المفهوم وعدمها من حيث هي من دون قرينة خاصّة.

__________________

(١) الوقاية : ٤٢٦ ـ ٤٢٨.

٤٦٩

ولا يخفى عليك أنّ احتمال كون الوصف للاهتمام والتوضيح أو الابتلاء ونحوهما يكون خلاف مقتضى الأصل في القيود والأوصاف فإنّ مقتضاه هو الاحتراز وهذه الفوائد لا تكون للاحتراز فلا يحمل القيود والأوصاف على مثل هذه الأمور ولكن لا يوجب ذلك حمل الأوصاف والقيود على بيان العلّة فضلا عن انحصارها بدعوى الشيوع والأكثريّة لأنّ الاحتراز يكفيه دخالة القيود في تحقّق موضوع الحكم وتضيّقه ولا موجب للأزيد منه وهو حاصل في كلّ جملة وصفيّة التي تكون للوصف دخالة في تحقّق موضوعها والقيود قيود الموضوع لا قيود الحكم كالشروط ولو سلّم كونها قيودا فالقيود من علل الحكم ولكن لا دليل على الانحصار ودعوى شيوع العلّيّة المنحصرة غير ثابتة بل الأمر بالعكس لأنّ الجمل الوصفيّة التي لا تدلّ على المفهوم أكثر إذ ترتّب حكم على موصوف لا ينافي ترتّبه على غيره بجهة من الجهات الاخرى كقوله أكرم رجلا عالما وأكرم رجلا كبيرا وأكرم رجلا هاشميّا وأكرم رجلا معينا لك وأكرم رجلا قريبا لك وهكذا وذلك لأن إثبات شيء لشيء لا ينفي عمّا عداه.

وممّا ذكر يظهر أنّ الاستشهاد بالإنكار على من تفوّه بالمثالين لا يكون صحيحا لأنّ الإنكار من جهة عدم دخالة القيد في موضوعيّة الموضوع لا من جهة عدم دلالتها على العلّيّة فضلا عن المنحصرة إذ الأبيضيّة والأسوديّة لا مدخليّة لهما في موضوع عدم العلم بالغيب أو عدم الإبصار بعد تغميض العين.

كما أنّ الاستشهاد بفهم العرف ليس في محلّه بعد ما عرفت من أنّهم لا يقولون بأنّ مثل قولهم أكرم رجلا عالما يدلّ على نفي وجوب الإكرام بالنسبة إلى الكبير والهاشميّ والمعين والقريب وفهم أبي عبيدة أو تلميذه منظور فيه إن أرادا دلالة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «ليّ الواجد يحلّ عقوبته» على ان ليّ غير الواجد لا يحلّ عقوبته أو دلالة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «مطل الغنيّ ظلم» على أنّ مطل المعدم ليس بظلم.

فإنّ الدلالة المذكورة أوّل الكلام اللهمّ إلّا أن يكون مرادهما أنّ ليّ غير الواجد

٤٧٠

أو مطل المعدم خارج عن الحكم المذكور وإلّا فإن سئل عنهما هل تدلّ الجملتان المذكورتان على اختصاص ظلم الغنيّ بالمطل أو حلّيّة عقوبة الواجد باللي أجابا بأنّهما لا تدلّان على ذلك إذ يمكن أن يظلم الغنيّ بجهة اخرى من الجهات أو حلّت عقوبة بجهة غير جهة اللّي.

وبالجملة المراد من الاحترازيّة في القيود أنّها ليست لمجرّد توضيح أو مورد الابتلاء ونحوهما بل هي تدلّ على تقيّد الموضوع وتضيّقه في القضيّة بحيث يكون للقيود إطاعة وعصيان من جهة دخالتها في الموضوع ولكن مع ذلك لا تدلّ على المفهوم لاحتمال تعدّد المطلوب بحيث يكون المقيّد مطلوبا وله إطاعة وعصيان كما أنّ المطلق أيضا مطلوب وله اطاعة وعصيان فإذا قيل جئني بحيوان ناطق لا يدلّ إلّا على مطلوبيّة إتيان الإنسان للخدمة ولا ينافي ذلك مع مطلوبيّة إتيان الحيوان بلا وصف الناطق للركوب أو غيره من المنافع لكون كليهما مورد احتياجه فان قال في دليل آخر جئني بحيوان كان هنا تكليفان لأنّهما مثبتين.

فمع تعدّد المطلوب لا يكون القيود توضيحيّة أو لبيان مورد الابتلاء بل تكون احترازيّة وللدلالة على تضييق موضوع الحكم في شخص هذه القضيّة.

وممّا ذكر يظهر مراد صاحب الكفاية حيث قال ولا ينافي ذلك أي إنكار المفهوم ما قيل من أنّ الأصل في القيد أن يكون احترازيّا لأنّ الاحترازيّة لا توجب إلّا تضييق دائرة موضوع الحكم في القضيّة مثل ما إذا كان بهذا الضيق بلفظ واحد فلا فرق أن يقال جئني بإنسان أو بحيوان ناطق (١).

ومراده أنّ قوله جئني بحيوان ناطق لا يدلّ على انتفاء الحكم عن غير مورد الوصف وهو المطلق أي الحيوان كما لا يدلّ قوله جئني بإنسان على انتفاء الحكم عن

__________________

(١) الكفاية : ج ٢ ص ٣٢٢.

٤٧١

نوع آخر وهو الحيوان الناطق مثلا وكلّ ذلك لاحتمال تعدّد المطلوب بحيث يحتاج إلى كليهما كما عرفت.

ومنها : إنّ القضيّة الوصفيّة لو لم تدلّ على المفهوم لم يكن موجب لحمل المطلق على المقيّد وفيه ما لا يخفى لما عرفت من أنّه لا وجه لحمل المطلق على المقيّد في المثبتين فيما إذا لم يحرز وحدة المطلوب لاحتمال مطلوبيّة كليهما فمع عدم إحراز وحدة المطلوب فالمقيّد يدلّ على مطلوبيّة المقيّد بحيث يكون له إطاعة وعصيان ولا ينافي ذلك مع مطلوبيّة المطلق بدليل آخر بحيث له أيضا إطاعة وعصيان فانتفاء القيد أو الوصف لا يدلّ على عدم حكم آخر بالنسبة إلى ذات الموصوف بعد احتمال تعدّد المطلوب.

نعم لو كان المطلوب واحدا كما في مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن ظاهرت فأعتق رقبة وإن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة فاللازم هو حمل المطلق على المقيّد والمراد من الحمل أنّ المقصود من المطلق في الخطاب المذكور هو المقيّد فقوله أعتق رقبة وأعتق رقبة مؤمنة في قوّة أن يقال من أوّل الأمر أعتق رقبة مؤمنة فالقيد أو الوصف لتحديد الموضوع وتضييقه ولكنّ مع ذلك ليس ذلك من جهة دلالة القيد أو الوصف على المفهوم بنفسه بل من جهة العلم بوحدة المطلوب وحصول المعارضة والمناقضة العرضيّة بينهما فإنّ مقتضى الجمع العرفيّ بينهما هو حمل المطلق على المقيّد لنصوصيّة دلالته بالنسبة إليه.

وممّا ذكر يظهر ما في إيراد شيخنا البهائيّ قدس‌سره حيث قال إنّ القائلين بعدم حجّيّة مفهوم الصفة قد قيّدوا بمفهومها في نحو أعتق في الظهار رقبة مؤمنة فإذا لم يكن مفهوم الصفة حجّة عندهم كيف يقيّدون بها فما هذا إلّا التناقض.

ولذلك خصّ مورد عدم حجّيّة المفهوم بغير مورد الإطلاق (١).

وذلك لأنّ القائلين بعدم حجّيّة المفهوم يقولون به في مورد الإطلاق أيضا لما

__________________

(١) مطارح الأنظار : ص ١٨١.

٤٧٢

عرفت من أنّ حمل المطلق على المقيّد ليس من جهة دلالة الوصف أو القيد على العلّيّة فضلا عن العلّيّة المنحصرة بل من جهة دلالة الوصف أو القيد على تضييق دائرة الموضوع في الظهار بالنسبة إلى الحكم المترتّب عليه من دون منافاته لتعلّق الحكم الأخر بالمطلق من جهة أخرى.

وبعبارة أخرى كما في مطارح الأنظار أنّ حمل المطلق على المقيّد (فيما إذا أحرز وحدة المطلوب) إنّما هو من جهة المنطوق من غير ملاحظة المفهوم (١).

وعليه فحمل المطلق على المقيّد من جهة كشف وحدة المطلق والمقيّد بسبب إحراز وحدة التكليف وحيث إنّ المقيّد نصّ في تعيين المراد يحمل المطلق عليه من دون فرق بين كون المطلق بدليّا ومفاده هو التخيير بحكم العقل ومقدّمات الحكمة إذ المطلوب فيه صرف الوجود وبين كون المطلق شموليّا وينحلّ إلى قضايا متعدّدة حسب تعدّد أفراد الطبيعة بحيث يكون مثل العامّ الأصوليّ كلّ فرد معيّنا موردا للحكم لا مخيّرا وذلك للنصوصيّة المقيّد بالنسبة إلى الإطلاق بدليّا كان أو شموليّا فرفع اليد عنه يوجب اللغويّة بخلاف العكس.

وبعبارة أخرى مع إحراز وحدة المطلوب وقعت المعارضة بين المطلق والمقيّد والجمع العرفيّ بينهما هو بحمل المطلق على المقيّد.

وممّا ذكر يظهر ما في المحكيّ عن المحقّق النائينيّ قدس‌سره من الفرق بين الإطلاق البدليّ والشموليّ بأنّه لا موجب للحمل في المطلق الانحلاليّ لعدم التنافي بينهما وذلك لظهور المعارضة والمنافاة مع العلم بوحدة التكليف بين تعلّق التكليف التعييني بخصوص المقيّد وتعلّق التكليف لكلّ واحد واحد من المطلق على وجه الانحلال ومقتضى الجمع العرفيّ هو حمل المطلق الانحلاليّ على المقيّد أيضا لنصوصيّة المقيّد في

__________________

(١) مطارح الأنظار : ص ١٨١.

٤٧٣

الدلالة على تعيين التكليف بخصوص المقيّد.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ المحصّل في الإطلاق والتقييد هو تضييق موضوع التكليف الواحد المذكور في القضيّة بالتصرّف في المنطوقين ولا دلالة فيهما على انتفاء الحكم عن غير المقيّد بجهة من الجهات الأخرى.

وعليه فما في نهاية الدراية من أنّ مقتضى حمل المطلق على المقيّد عدم وجوب المطلق مطلقا بدعوى أنّ مفاد المطلق ليس بعد الحمل مثل ما إذا ورد المقيّد بلا ورود المطلق فإنّ وجوب المقيّد شخصا بناء على عدم المفهوم لا ينافي وجوب المطلق بوجوب آخر بدليل آخر (١).

لا يخلو عن النظر فإنّ العلم بوحدة المطلوب يوجب المعارضة بين المطلق والمقيّد والجمع بينهما بحمل المطلق على المقيّد من جهة الحكم المذكور في القضيّة ولا دلالة للقضيّة على انتفاء الحكم عن المطلق بجهة أخرى من الجهات بعد ما عرفت من عدم دلالة الجملة الوصفيّة على المفهوم فلا تغفل.

هنا تفصيلان

أحدهما : ما ذهب إليه سيّدنا الأستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره من أنّ للقيود مفهوما في الأحكام الوضعيّة لأنّ الأحكام الوضعيّة لا تقبل التعدّد والشدّة والضعف بخلاف الأحكام التكليفيّة فإنّها قابلة للتعدّد وللشدّة والضعف فيمكن أن يحمل المقيّد في التكاليف على التعدّد أو على شدّة التكليف بخلاف الأحكام الوضعيّة مثلا إذا قيل في دليل «العقود لازمة» وورد في دليل آخر «العقود العربيّة لازمة» أو قيل في دليل «الحيازة موجبة للملكيّة» وورد في دليل آخر «الحيازة مع النيّة والقصد موجبة

__________________

(١) نهاية الدراية : ج ٢ ص ١٧٧ ـ ١٧٨.

٤٧٤

للملكيّة» فالمقيّد بالعربيّة أو بالنيّة يدلّ على عدم لزوم ذات المقيّد.

يمكن أن يقال حيث أن المطلقات والمقيّدات الواردة في الأحكام الوضعيّة تكون نوعا مقترنة بالعلم بوحدة السبب تحمل المطلقات على المقيّدات كما في الأحكام التكليفيّة لحصول المعارضة حينئذ بين سببيّة المطلق وسببيّة المقيّد والجمع العرفيّ كما مرّ بحمل المطلق على المقيّد وعليه فلا فرق بين الأحكام الوضعيّة وبين الأحكام التكليفيّة إلّا في أنّ العلم بوحدة السبب في الأحكام الوضعيّة موجود في نوع الموارد فلا وجه لدعوى المفهوم في تقييد الأحكام الوضعيّة إذ عدم سببيّة العقد غير العربي على الفرض أو الحيازة المطلقة من سائر الجهات ليس إلّا من جهة عدم قابليّة المورد لا من جهة مفهوم الوصف وعليه فالقضيّة الوصفيّة لا مفهوم لها إلّا إذا كانت في مقام التحديد فتدبّر جيّدا.

وثانيهما : ما ذهب إليه السيّد المحقّق الخوئي قدس‌سره من أنّ النزاع في دلالة الوصف على المفهوم تارة بمعنى أنّ تقييد الموضوع أو المتعلّق به يدلّ على انتفاء الحكم عن غيره فلو ورد في الدليل (أكرم رجلا عالما) يدلّ على انتفاء وجوب الإكرام عن غير مورده يعني الرجل العادل أو الفاسق أو الفقير أو ما شاكل ذلك ولو بسبب آخر.

وأخرى بمعنى أنّ تقييده به يدلّ على عدم ثبوت الحكم له على نحو الإطلاق أو فقل أنّ معنى دلالته على المفهوم هو دلالته على نفي الحكم عن طبيعيّ موصوفه على نحو الإطلاق وأنّه غير ثابت له كذلك فإن كان النزاع في المعنى الأوّل فلا شبهة في عدم دلالته على المفهوم بهذا المعنى ضرورة أنّ قولنا (أكرم رجلا عالما) لا يدلّ على نفي وجوب الإكرام عن حصّة أخرى منه كالرجل العادل أو الهاشميّ أو ما شاكل ذلك لوضوح أنّه لا تنافي بين قولنا (أكرم رجلا عالما) وقولنا (أكرم رجلا عادلا) مثلا بنظر العرف أصلا فلو دلّت الجملة الأولى على المفهوم أي نفي الحكم عن حصص أخرى منه لكان بينهما تناف لا محالة.

٤٧٥

وان كان النزاع في المعنى الثاني فالظاهر أنّه يدلّ على المفهوم بهذا المعنى ونكتة هذه الدلالة هي ظهور القيد في الاحتراز ودخله في موضوع الحكم أو متعلّقه إلّا أن تقوم قرينة على عدم دخله فيه ففي مثل قولنا أكرم رجلا عالما يدلّ على أنّ وجوب الإكرام لم يثبت لطبيعيّ الرجل على الإطلاق ولو كان جاهلا بل ثبت لخصوص حصّة خاصّة منه وهي الرجل العالم وكذا قولنا (أكرم رجلا هاشميّا) وهكذا.

والضابط أنّ كلّ قيد أتى به في الكلام فهو في نفسه ظاهر في الاحتراز ودخله في الموضوع أو المتعلّق يعني أنّ الحكم غير ثابت له إلّا مقيّدا بهذا القيد لا مطلقا وإلّا لكان القيد لغوا فالحمل على التوضيح أو غيره خلاف الظاهر فيحتاج إلى قرينة.

والحاصل أنّ مثل قولنا (أكرم رجلا عالما) وإن لم يدلّ على نفي وجوب الإكرام عن حصة أخرى من الرجل كالعادل أو نحوه ولو بملاك آخر إلّا أنّه لا شبهة في دلالته على أنّ وجوب الإكرام غير ثابت لطبيعيّ الرجل على نحو الإطلاق.

إلى أن قال : ثمّ إنّ هذه النقطة التي ذكرناها لها ثمرة مهمّة في الفقه منها ما في مسألة حمل المطلق على المقيّد حيث إنّ المشهور قد خصّوا تلك المسألة فيما إذا كانا مثبتين أو منفيين بما إذا كان التكليف فيهما واحد وأمّا إذا كان متعدّدا فلا يحملوا المطلق على المقيّد.

وأمّا على ضوء ما ذكرناه من النقطتين فيحمل المطلق على المقيّد ولو كان التكليف متعدّدا كما إذا ورد في دليل (لا تكرم عالما) وورد في دليل آخر (لا تكرم عالما فاسقا) فإنّه يحمل الأوّل على الثاني مع أنّ التكليف فيهما انحلاليّ وكذا إذا ورد في دليل (أكرم العلماء) ثمّ ورد في دليل آخر (أكرم العلماء العدول) فيحمل الأوّل على الثاني.

والنكتة في ذلك هي ظهور القيد في الاحتراز يعني أنّه يدلّ على أنّ الحكم وهو وجوب الإكرام لم يثبت للعالم على نحو الإطلاق وإنما يثبت لحصّة خاصّة منه وهو العالم العادل في المثال دون العالم مطلقا ولو كان فاسقا ومن الواضح أنّه لا فرق في

٤٧٦

دلالة القيد على ذلك بين كون التكليف واحدا أو متعدّدا (١).

ولا يخفى ما فيه إذ معنى الاحتراز هو عدم ثبوت الحكم المترتّب على الموضوع في هذه القضيّة لمطلق الموضوع بل للموضوع الموصوف بكذا وهذا لا ينافي أن يكون مطلق الموضوع محكوما بحكم من جهة أخرى لا من هذه الجهة ألا ترى إذا قال المولى أكرم زيدا العالم فلا شبهة في كون القيد احترازيّا والموضوع مضيّق فلا يشمل ما إذا لم يكن زيد عالما وأمّا إذا سئل المولى بعد قوله المذكور عن إكرام زيد غير العالم بجهة أخرى فقال أكرمه لا تقع المكاذبة بين الدليلين.

وعليه فكما أنّ تقييد الموضوع لا يدلّ على انتفاء الحكم عن الحصص الأخرى فكذلك لا يدلّ على انتفاء الحكم عن مطلق الموضوع بجهة أخرى نعم إذا علم بوحدة الحكم فمع وحدة الحكم حصلت المعارضة بينهما والجمع العرفيّ حينئذ يقتضي حمل المطلق على المقيّد وأمّا مع تعدّد الحكم فلا معارضة إذ المفروض أنّ المقيّد لا ينفي الحكم الآخر المتعلّق بالمطلق وإنّما يدلّ على اختصاص الحكم المتعلّق بالمقيّد به وعدم شمول هذا الحكم لذات المقيّد والمطلق وهو لا ينافي أن يتعلّق بالمطلق حكم آخر من دون فرق في ذلك بين أن يكون الحكمان مثبتين أو منفيين فقولهم أكرم العلماء في عبارة غير أكرم العلماء العدول في عبارة اخرى ، وعليه فاختصاص وجوب الإكرام بالعلماء العدول في قضيّة أكرم العلماء العدول وعدم جريانه في العلماء من دون قيد العدول لا ينافي وجوب إكرام مطلق العلماء بسبب آخر.

وهكذا الأمر في الحكمين المنفيين عند تعدّد المطلوب مثلا إذا قيل لا تكرم كافرا ثمّ قيل لا تكرم كافرا حربيّا فاختصاص الكافر بالحربيّ في الثاني لا ينافي النهي عن إكرام مطلق الكافر في دليل آخر من ناحية حكم آخر.

__________________

(١) المحاضرات : ج ٥ ص ١٣٣ ـ ١٣٥.

٤٧٧

فالتفصيل المذكور والثمرة المترتّبة عليه منظور فيه إذ قاعدة احترازيّة القيود تدلّ على انتفاء شخص الحكم لا سنخ الحكم ومنشأ التفصيل المذكور هو عدم التفكيك بين الشخص والسنخ فإن دلّت الجملة الوصفيّة على نفي شخص الحكم فلا يدلّ على نفي سنخ الحكم لا في الحصص ولا في طبيعيّ الموضوع وإن دلّت الجملة الوصفيّة على نفي سنخ الحكم فهي دالّة على المفهوم سواء كان الحصص أو طبيعيّ الموضوع وعلى كلّ تقدير لا يصحّ التفصيل.

هذا مضافا إلى منع دلالة الجملة الوصفيّة على علّيّة الوصف بالنسبة إلى الحكم فضلا عن العلّيّة المنحصرة.

قال الشهيد السيّد الصدر قدس‌سره مفاد هيئة أكرم مقيّد بمدلول المادّة باعتباره طرفا لها ومدلول المادّة مقيّد بالفقير لأنّ المطلوب أكرم الفقير والفقير مقيّد بالعدالة تقييد الشيء بوصفه وينتج ذلك أنّ مفاد هيئة أكرم هو حصّة خاصّة من وجوب الإكرام يشتمل على التقييد بالعدالة فغاية ما يقتضيه الربط المخصوص بين مفاد أكرم والوصف انتفاء تلك الحصة الخاصّة عند انتفاء العدالة وهذا واضح لا انتفاء طبيعيّ الحكم : إلى أن قال ـ : فبالإمكان أن نضيف إلى ذلك أيضا منع دلالة الجملة الوصفيّة على ذلك الربط المخصوص الذي يستدعي الانتفاء عند الانتفاء وهو التوقّف فإنّ ربط مفاد أكرم بالوصف إنّما هو بتوسّط نسبتين ناقصتين تقييديتين لأنّ مفاد هيئة الأمر مرتبط بذاته بمدلول مادّة الفعل وهي مرتبطة بنسبة ناقصة تقييديّة بالفقير وهذا مرتبط بنسبة ناقصة تقييديّة بالعادل ولا يوجد ما يدلّ على التوقّف والالتصاق لا بنحو المعنى الاسميّ ولا بنحو المعنى الحرفيّ فالصحيح أنّ الجملة الوصفيّة ليس لها مفهوم نعم لا بأس بالمصير إلى دلالتها على الانتفاء عند الانتفاء بنحو السالبة الجزئيّة (١).

__________________

(١) دروس في علم الأصول الحلقة الثالثة : ج ١ ص ١٧٦ و ١٧٧.

٤٧٨

الخلاصة :

الفصل الثالث : في مفهوم الوصف

ذهب المشهور إلى أنّ إثبات حكم لذات مأخوذة مع بعض صفاتها لا يستلزمه انتفاء ذلك الحكم عند انتفاء تلك الصفة.

ويقع البحث عنه في مقامين :

أحدهما : في محلّ النزاع ، ولا إشكال في شمول عنوان البحث للوصف المعتمد على الموصوف كقولهم أكرم رجلا عالما وأمّا ما لم يعتمد على الموصوف كقولهم أكرم عالما فقد يقال بخروجه عن عنوان البحث بدعوى أنّه لا فرق بين اللقب والوصف غير المعتمد فكما أنّ اللقب لا يدلّ على المفهوم من دون خلاف فكذلك الوصف غير المعتمد والملاك في عدم الدلالة فيهما واحد وهو أنّ الحكم الثابت في القضية لعنوان اشتقاقيّا كان أو ذاتيّا لا تدلّ القضية إلّا على ثبوت هذا الحكم لهذا العنوان وأمّا انتفاء الحكم عن غير العنوان المذكور بجهة من الجهات فلا إشعار لها فضلا عن الدلالة عليها.

ويمكن أن يقال أنّ قياس الوصف غير المعتمد على اللقب في غير محلّه فإنّ الذات في الوصف غير المعتمد كالمذكور عند العرف وإن قلنا ببساطة المشتقّ فإنّ مفهوم ضارب مثلا وإن كان بسيطا ويعبّر عنه في اللغة الفارسية ب «زننده» ولكن هذا المفهوم عند العرف يحتوى الذات بخلاف اللقب فإنّه لا يكون كذلك نعم يمكن تحليله عقلا بالذات والعنوان ولكنّ المعيار هو التفاهم العرفي لا التحليل العقليّ فالأظهر كما أفاد الشيخ الأعظم قدس‌سره هو دخول الوصف غير المعتمد في عنوان البحث فراجع.

ويؤيّده بعض الاستدلالات والأجوبة كالاستدلال بقوله عليه‌السلام مطل الغني ظلم

٤٧٩

على أنّ مطل غير الغني ليس بظلم والجواب عنه بأنّ الدلالة مع القرينة لا مانع منها وإنّما الكلام فيما إذا كان الكلام خاليا عن القرينة مع أنّه لو لم يكن الوصف غير المعتمد داخلا في محلّ البحث كان الأولى في الجواب عنه بكونه من قبيل مفهوم اللقب لا الوصف.

ثمّ إنّ الوصف إمّا وصف أخصّ كقولهم أكرم إنسانا عالما أو الوصف الأعمّ من وجه كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي الغنم السائمة زكاة.

وكلاهما داخلا في عنوان البحث وأمّا الوصف المساوي كقولهم أكرم إنسانا ضاحكا بالقوّة أو الوصف الأعمّ المطلق كقولهم أكرم إنسانا ماشيا فلا إشكال في خروجهما عن محلّ البحث لأنّ الوصف المساوي أو الأعمّ المطلق لا يوجبان التضييق في ناحية الموصوف حتّى يدلّ على انتفاء الحكم في الموصوف عند انتفاء الوصف بل عند انتفاء الوصف لا يبقى موصوف كما لا يخفى.

ثمّ يمكن إلحاق الحال والتمييز وغيرهما من قيود الموضوع فإنّ مناط المفهوم في الوصف يأتي في تلك الموارد أيضا ولكن مقتضى وجود المناط فيها هو الإلحاق كما ذكرنا لا الإدخال لعدم صدق عنوان الوصف على أمثال هذه الموارد فتدبّر جيّدا.

وثانيهما : في أدلّة المثبتين

منها : التبادر كما يشهد له تباعد عدم مطلوبيّة شراء العبد الأبيض من قول المولى لخادمه اشتر لي عبدا أسود.

وفيه منع واضح لأنّ عدم مطلوبيّته شراء العبد الأبيض من ناحية هذا الخطاب لا يستلزم عدمه مطلوبيته بسائر الجهات.

ومنها دعوى وضع الوصف للعلّيّة المنحصرة وفيه أيضا منع واضح لعدم شاهد لذلك بل لا دلالة للوصف على العلّيّة فضلا عن انحصارها وما اشتهر من أنّ تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلّيّة منظور فيه لاحتمال خصوصيّة المورد ودخالة

٤٨٠