عمدة الأصول - ج ٣

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: كيميا
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

المجمع في الجملة في حفظ ظهور الشرطيّتين في الاستقلال بدعوى أنّ الواجب في قوله أكرم عالما وأكرم هاشميّا وإن كان هو الإكرام المضاف إلى عنوان العالم والهاشميّ بحيث كان لحيثيّة الاضافة أيضا دخل في موضوع الحكم إلّا أنّ قضيّة الحكم في تعلّقه بالإكرام المضاف هو مشموليّة الإضافة المزبورة أيضا للحكم ولو ضمنا فلا بأس في مثله بالمصير إلى التأكّد برفع اليد عن استقلال الحكمين وتعدّدهما في المجمع بالإضافة إلى ذات الإكرام التي هي جهة مشتركة بين الإضافتين مع حفظ استقلالهما بالقياس إلى الإضافتين المزبورتين.

فإنّ الذي ينافيه قضيّة الظهور المزبور إنّما هو رفع اليد عن تعدّد الحكمين واستقلالهما في المجمع على الإطلاق حتّى بالقياس إلى الإضافتين وأمّا رفع اليد عن ذلك في الجملة في خصوص ذات الإكرام التي هي جهة مشتركة بين الإضافتين فلا وعلى ذلك فيتمّ قول المشهور من جواز الاكتفاء بإيجاد واحد في المجمع ومورد التصادق في سقوط الأمرين وعدم وجوب تعدّد الإكرام في سقوطهما وامتثالهما نعم لا بدّ حينئذ في سقوط الأمرين من أن يكون الإيجاد الواحد بداعي كلا الأمرين وإلّا يكون الساقط خصوص ما قصد منهما ما لم يكن الآخر توصّليّا وإلّا فيسقطان معا (١).

وفيه أوّلا أنّا اخترنا جواز الاجتماع كما مرّ تفصيل الكلام في محلّه وثانيا : أنّه لو سلّمنا الامتناع فالممتنع هو اجتماع الخطابين في الواحد المعنون بالعنوانين لا الإتيان بالمتعلّقين.

فإذا أتى بالواحد المعنون بالعنوانين أتى بالمتعلّقين لأنّ الواحد المذكور متحيّث بالحيثيّتين فإذا أتى به تحقق الحيثيّتان ويصدق أنّه أتى بالعنوانين من إكرام العالم وإكرام

__________________

(١) نهاية الأفكار : ج ١ ص ٤٩١ ـ ٤٩٢.

٤٢١

الهاشمي ودعوى وحدة الحيثيّة في الواحد الخارجي مع كونه متحيّثا بالحيثيّتين ممنوعة فالواحد المذكور ليس مجرّد الإكرام بل هو إكرام العالم وإكرام الهاشميّ فتداخل الامتثال في مثله لا مانع منه إذ بعد ما أتى به لا وجه لبقاء الأمر عليهما لسقوط الأمر بهما بعد اتيانهما فلا حاجة إلى فرض التأكّد فإنّه مخالف لظهور الشرطيّتين في الاستقلال كما أنّه لا وجه لرفع اليد عن الاستقلال في الجملة إذ تأثير كلّ شرط في موضوعه لا مانع منه وذات الاكرام ليس موضوعهما بل موضوعهما هو الإكرام المضاف إلى العالم وإلى الهاشمي كما هو المفروض.

وبالجملة ليست الجهة المشتركة موضوعا لكل من الشرطيّتين بل الإكرام المضاف إلى العالم أو الهاشمي وهما منطبقان على الواحد الخارجي فمع فرض امتناع الخطابين يسقط أحدهما ولكن بقي ملاكهما وبقاء ملاكهما يكفي في صدق الإتيان بهما بإتيان الواحد المعنون بهما.

وعليه فالمتجه هو عدم الفرق بين كون العنوانين المتصادقين من قبيل الجنس والفصل أو من قبيل العامّين من وجه سواء قلنا بجواز الاجتماع أو لم نقل فمع الإتيان بالواحد المعنون بالعنوانين يصدق الإتيان بالمتعلّقين على الإتيان على الواحد المعنون بهما وذلك لوجود الملاكين فيه ويكفى ذلك في تحقّق الامتثال فتدبّر جيّدا.

ثمّ إنّه كما في المحاضرات لا فرق في العامّين من وجه بين أن يكون طرفاه هما الواجبان كما عرفت أو الواجب والمستحب كصوم الاعتكاف وصوم آخر واجب آخر أو المستحبان كصلاة الغفيلة ونافلة المغرب أو صلاة جعفر عليه‌السلام ونافلة المغرب فإنّ الأمر المتعلّق بكلّ منها مطلق فلا مانع من الجمع بينها في مقام الامتثال بإتيان الجمع بأن يأتي بصلاة الغفيلة بعنوان نافلة المغرب أو صلاة جعفر عليه‌السلام بعنوان نافلة المغرب فإنها تجزي كما أفاد في المحاضرات عن كليهما لانطباق متعلّق كلّ منهما

٤٢٢

عليها (١).

أورد عليه في منتقى الأصول في مثل نافلة المغرب والغفيلة بأنّ تحقّق امتثال كلا الأمرين بركعتي الغفيلة محلّ إشكال من جهة ما قرّر من اعتبار أمر واقعيّ قصديّ في الصلوات المتشابهة صورة يكون موجبا لتباينهما حقيقة وكون أحدهما غير الآخر وأنّه لا طريق إلى قصده إلّا بالإتيان بالعمل بقصد عنوانه الخاص كعنوان الظهر أو العصر ولولاه لما كان هناك فارق بين نافلة الصبح وصلاتها وبين صلاة الظهر والعصر وهكذا.

وعليه فإذا ثبت اعتبار العنوان القصديّ في نافلة المغرب ليتحقّق امتيازه عمّا يشاكلها كالصلاة القضائيّة وثبت اعتباره في الغفيلة أيضا فمن الممكن أن يكون العنوانان القصديّان متباينين واقعا بحيث لا يمكن قصدهما بعمل واحد نظير عدم إمكان الاتيان بأربع ركعات بقصد الظهر والعصر ونظير قصد التعظيم والإهانة بقيام واحد.

ومع هذا الاحتمال لا مجال للقول بالتداخل لعدم العلم بالفراغ مع الاتيان بعمل واحد بقصدهما معا فقاعدة الاشتغال محكمة ولا رافع لهذا الاحتمال.

نعم يمكن الإتيان بعمل واحد بداعي امتثال كلا الأمرين رجاء وهو غير التداخل فالتفت (٢).

ويمكن أن يقال إنّه يكفي في رفع احتمال التباين عدم اشتراط نافلة المغرب بصورة مخصوصة وهو أن يأتي بها قبل الغفيلة أو بعدها كما أنّ الغفيلة لا تكون مشروطة بالإتيان بها بعد نافلة المغرب أو قبلها حتّى لا يمكن تصادقهما بل نافلة المغرب مطلقة بالنسبة إلى الغفيلة وهي مطلقة بالاضافة إلى نافلة المغرب مع كونهما

__________________

(١) راجع المحاضرات : ج ٥ ص ١٢٥.

(٢) منتقى الأصول : ج ٣ ص ٢٧٠.

٤٢٣

مستحبّتين بين العشاءين فمع الإطلاق المذكور لا مجال لدعوى احتمال التباين فإنّه متوقّف على تقييد صلاة النافلة بالقبليّة بالنسبة إلى الغفيلة وتقييد الغفيلة بالبعديّة بالنسبة إلى النافلة كما في صلاة الظهر والعصر وهما منتفيان فيهما كما أفاده السيّد المحقّق آية الله العظمى البروجرديّ قدس‌سره وعليه فلا إشكال حينئذ في الإتيان بركعتين بصورة الغفيلة بعنوان نافلة المغرب أيضا ويتحقّق الامتثال بالنسبة إلى كلا الأمرين ـ إلى أن ـ : قال نعم يبقى الإشكال في مثل صلاة الغفيلة والوصيّة ونحوهما وأنّه هل تكون من العناوين القصديّة فلا يكفي الإتيان بصورتها من دون قصد عنوانها أم لا تكون كذلك فيكفي الإتيان بمجرّد صورتها وإن قصد بها نافلة المغرب مثلا فيه وجهان (١).

فتحصّل أنّ مقتضى إطلاق أدلّة النافلة والغفيلة هو عدم التباين فلا يقاس بالظهر والعصر اللذين يكون متباينين بتقيّد الظهر بالقبليّة بالنسبة إلى العصر وتقيّد العصر بالبعديّة بالنسبة إلى الظهر بل النافلة والغفيلة تكونان عامّين من وجه إذ النافلة المعنونة بعنوان نافلة المغرب تعلّق بها أمر مستقلّ وصلاة الغفيلة تعلّق بها أمر مستقلّ آخر ولا بأس بتعلّق أمرين بعد تغاير المتعلّقين من حيث المفهوم والعنوان ويمكن تصادقهما في الخارج ومقام الامتثال بعد عدم اشتراط كلّ بتقدّمه على الآخر أو تأخّره عنه.

نعم لا يبعد دعوى احتمال التباين في مثل صلاة جعفر عليه‌السلام ونافلة المغرب لأنّ أدلّة صلاة جعفر عليه‌السلام لا تعرض لها بالنسبة إلى وقت العشاءين فإطلاقه من ناحية امتثاله في ضمن نافلة المغرب يحتاج إلى مئونة زائدة وهي غير محرزة فتأمّل. هذا بخلاف صلاة الغفيلة ونافلة المغرب اللتين كانتا مأمورتين بعنوان الصلوات التي تكون بين العشاءين فعدم تقييد كلّ واحد منهما بالتقدّم أو التأخّر حينئذ دليل على عدم

__________________

(١) نهاية التقرير : ج ١ ص ١٣ ـ ١٦.

٤٢٤

التباين فيجوز امتثالهما بالتداخل.

والحاصل أنّ دعوى إطلاق الأدلّة في جميع الموارد إلّا ما خرج لا تخلو عن الإشكال لأنّ الأدلّة في مقام التشريع لا في مقام بيان أحكام الامتثال وعليه فلا يجوز التداخل إلّا إذا كان انطباق العناوين قهريّا كالجنس والفصل أو إذا أحرز كون دليل التشريع مطلقا من هذه الناحية أيضا كما لا يبعد ذلك في تشريع نافلة المغرب وصلاة الغفيلة فإنّهما مشروعتان بعنوان ما يفعل بين العشاءين.

اللهم إلّا أن يقال : عدم اجتماعهما في مقام الامتثال ناش من اعتبار التقدّم أو التأخّر أو الانفراد أو الاجتماع في نفس المأمور به وعليه فيمكن الأخذ بإطلاق المتعلّقات لنفي هذه الاحتمالات فيجوز التداخل أخذا بإطلاق المتعلّقات إلّا إذا قام الدليل على عدمه فتدبّر وبقيّة الكلام في محلّه.

ثمّ إنّ الظاهر من نهاية التقرير للسيّد المحقّق البروجرديّ قدس‌سره جريان التداخل أيضا فيما إذا كانت النسبة بين العنوانين هي العموم والخصوص المطلق أو التساوي بدعوى أنّ ملاك تعدّد الأمر هو تغاير المتعلّقين في عالم المفهوميّة سواء كانت النسبة فيهما هو التباين أو التساوي أو العموم المطلق أو العموم من وجه غاية الأمر أنّه لا يمكن التداخل في صورة التباين وأمّا في غيرها من الصور الثلاثة فيتحقّق التداخل في مقام الامتثال وإن لم يقصد العنوانين معا نعم لو كان العنوانان من العناوين القصديّة التي قوامها بالقصد بحيث لا يتحقّق بدونه لا يمكن التداخل ما لم يقصد كلاهما (١)

توضيح ذلك أنّ مفهوم الأعمّ إن كان مأخوذا في الأخصّ كطبيعي النافلة والنافلة المختصّة بالأيّام والأمكنة أو طبيعيّ الغسل وغسل الجمعة بناء على كون طبيعة الغسل مأمورا بها للصلاة من جهة الأسباب المختلفة فالمطلق عين ما أخذ في

__________________

(١) نهاية التقرير : ١٣.

٤٢٥

المقيّد فمع العينيّة لا يعقل تعلّق الحكمين المتماثلين بالواحد لاستحالة البعث نحو الشيء الواحد ببعثين ولو استحبابيّين فلا مناصّ حينئذ من تقيّد متعلّق كلّ منهما بفرد دون الفرد الآخر كما لا يعقل تعلّق الحكمين المختلفين به ولذا يجري حكم الامتناع بالنسبة إليه في مسألة اجتماع الأمر والنهي لوحدة المتعلّق ولو في الذهن فيحمل النهي على الارشاد إلى سائر الأفراد بعد عدم إمكان تعلّق النهي مع الأمر به أو تخصيص النهي بالمشخّصات الخارجة عن الطبيعة الواحدة مثلا في قوله صلّ ولا تصلّ في الحمام لا يمكن اجتماع الأمر والنهي لوحدة المتعلّق بعد ما كان المطلق مأخوذا في المقيّد فيحمل النهي فيه على الإرشاد إلى سائر الأفراد أو يخصّص النهي بالكون في الحمّام من المشخّصات الخارجة عن الطبيعة.

هذا بخلاف ما إذا لم يؤخذ مفهوم الأعمّ في الأخصّ كقولهم حرّك ولا تدن إلى موضع كذا أو حرّك وأدن من موضع كذا أو الجنس والفصل كالحيوان والناطق فإنّ العنوانين متغايران بحسب المفهوم الذهنيّ وإن كانت النسبة بينهما الأعم والأخصّ بحسب الخارج والمغايرة المفهوميّة تكفي في جواز اجتماع الأمر والنهي أو اجتماع المثلين فيه لأنّ موطن تعلّق الأحكام هو الذهن ومفهوم الحركة والدنوّ والحيوان والناطق متغايران بحسب الذهن فيجوز تعلّق الحكمين المتماثلين بالعنوانين فيتداخلان في الأخصّ بحسب الخارج.

وهكذا العنوانان المتساويان فإنّهما بحسب الذهن مفهومان متغايران وإن كانا بحسب الخارج متّحدين هذا فيجوز تعلق الحكمين المتماثلين بهما ويتداخلان بحسب الخارج.

ويمكن أن يقال إنّ التعدّد في المتساويين كالإنسان والبشر مع وحدتهما في المسمّى والخارج يكون لفظيّا لا واقعيّا وعليه فالتعدّد لا ينتهي إلّا إلى التأكّد إذ لا معنى لتعدّد الأمر بالنسبة إلى الحقيقة الواحدة المعبّر عنها بالعنوانين المتساويين وتعدّد

٤٢٦

اللفظ لا يكون موجبا لتعدّد المسمّى ولو في الذهن فلا يعقل فيه تعدّد الأمر لاستحالة البعث نحو الشيء الواحد ببعثين مستقلّين وهكذا الأمر في المتلازمين المتساويين كالإنسان والضاحك فإنّ المسمى كاللفظ وإن كان متغايرا ومتعدّدا ولكن المعنون بهما ليس متعدّدا فالأمر الأوّل يغني عن الثاني بل لا يعقل إلّا بعنوان التأكيد نعم لو أريد بالأوّل فرد وبالثاني فرد آخر أمكن التعدّد ولكن لا يتداخلان لتغاير الفردين كما لا يتدخّلان فيما إذا تعلّقا بالحقيقة الواحدة وسيأتي إن شاء الله بيانه لا يقال يشكل الأمر أيضا فيما إذا لم يأخذ مفهوم الأعمّ في الأخصّ وكانت النسبة بينهما بحسب الخارج عموما وخصوصا لأنّ متعلّقهما واحد بحسب الخارج وليس بمتعدّد لأنّا نقول : تغاير المفهومين في الذهن يكفي بجواز اجتماع المثلين ولا يضرّه الاتّحاد الخارجي لعدم كونه متعلّقا للحكم وإنّما هو مصداق للمفهومين المتغايرين والمسمّى في الأعمّ والأخصّ مفهومان متغايران وحاكيان عن الأمرين المتّحدين كالجنس والفصل فتأمّل.

فتحصّل إلى حد الآن أنّ مقتضى القاعدة هو جواز التداخل فيما إذا كانت النسبة عموما من وجه أو العموم المطلق إذا لم يؤخذ مفهوم المطلق في مفهوم الأخص وأمّا المفهومان المتساويان فتداخل الأمرين فيهما لا ينتهي إلّا إلى التأكّد وإلّا لزم البعث ببعثين نحو الشيء الواحد ثمّ إنّه لا مجال للتداخل فيما إذا كانت النسبة هي التباين لعدم إمكان اجتماعهما كالكسوة والإطعام فتغاير المتعلّقين فيه لا ينتهي إلى التداخل بل إلى التعدّد.

وهكذا لا مجال للتداخل فيما إذا كان متعلّق الأمرين حقيقة واحدة لأنّ تعدّد الأمر في الحقيقة الواحدة غير معقول فاللازم أن يكون متعلّق كلّ واحد من الأمرين هو الفرد المغاير للفرد الواجب بالسبب الآخر. ومن المعلوم أنّه لا يمكن تداخل الأفراد من ماهيّة واحدة لمغايرتها.

٤٢٧

ولذلك قال الشيخ الأنصاريّ على المحكيّ أنّ تعدّد الأثر يوجب تعدّد الفعل ولا يكفي إيجاد فعل واحد في مقام فعلين الى أن قال : أنّ متعلّق التكاليف حينئذ هو الفرد المغاير للفرد الواجب بالسبب الأوّل ولا يعقل تداخل فردين من ماهيّة واحدة ولا يعقل ورود دليل على التداخل أيضا على ذلك التقدير إلّا أن يكون ناسخا لحكم السببيّة.

وأمّا تداخل الأغسال فبواسطة تداخل ماهيّاتها كما كشف عنه الرواية مثل تداخل الإكرام والضيافة فيما إذا قيل : إذا جاء زيد فأكرم عالما وإن سلم عليك فأضف هاشميّا فعند وجود السببين يمكن الاكتفاء بإكرام العالم الهاشميّ على وجه الضيافة فيما لو قصد امتثال الأمرين في التعبّديّات وأين ذلك من تداخل الفردين.

لا يقال : إنّ تعدّد الأسباب يحتمل أن يكون كاشفا عن تعدّد ماهيّات المسبّبات أيضا فيصحّ دعوى الاكتفاء لأنّا نقول ظهور لفظ المسبّب في ماهيّة واحدة مما لا يقبل الانكار ولو سلّمنا فلا يجدي لعدم العلم بالتصادق لإمكان المباينة فالقاعدة قاضية بالتعدّد (١).

أورد عليه في مناهج الوصول بقوله : وفيه أنّه إن كان مراده من الفرد المغاير للفرد الواجب بالسبب الأوّل هو الفرد الخارجي كما هو الظاهر فتداخل الفردين غير معقول بلا إشكال لكن تعلّق الحكم بالفرد الخارجي ممتنع.

وإن كان المراد هو العنوان القابل للانطباق على الخارج وإن سمّاه فردا لكونه تحت العنوان العامّ فعدم إمكان تداخل العنوانين من ماهيّة واحدة غير مسلّم بل القيود الواردة على ماهيّة مختلفة فقد تكون موجبة لصيرورة المقيّدين متباينين كالإنسان الأبيض والأسود وقد لا تكون كذلك كالإنسان الأبيض والعالم ممّا بينهما

__________________

(١) تقريرات الشيخ الأعظم (قدس‌سره) : ص ١٧٨ ـ ١٧٩.

٤٢٨

عموم من وجه.

فالوضوء في قوله إذا نمت فتوضّأ وإذا بلت فتوضّأ ماهيّة واحدة ولأجل تسليم المقدّمتين لا بدّ من كونها مقيّدة بقيدين حتّى يكون كلّ سبب علّة مستقلّة للإيجاب على أحد العنوانين.

لكن لا يجب أن يكون بين العنوانين التباين حتّى يمتنع تصادقهما على الفرد الخارجيّ.

فمع عدم قيام دليل على امتناعه لا يجوز رفع اليد عن الدليل الدالّ على التداخل فرضا فقوله (أي الشيخ) لا يعقل ورود الدليل على التداخل فرع إثبات الامتناع وهو مفقود بل لنا أن نقول لازم ظهور الشرطيّتين فيما ذكروا ورود الدليل على التداخل كون المقيّدين قابلين للتصادق هذا حال مقام الثبوت (١).

وفيه أوّلا : أنّ المراد من الفرد الخارجي هو وجوده الذهني بنحو الوجود اللافراغي فصورة الذهني من كلّ فرد كنفس الفرد الخارجي في أنّه مغاير لغيره ومباين له ومع المغايرة والمباينة لا مجال لتداخل الفردين في واحد كما أنّه لا مجال للتداخل في الماهيّتين المتباينتين فالفرد الذهنيّ لا يكون قابلا للانطباق على أزيد من واحد وعليه فلا مجال للإشكال بأنّ تعلّق الحكم بالفرد الخارجي ممتنع لأنّه ظرف السقوط لا ظرف الثبوت لما عرفت من المراد من الفرد هو صورته الذهنيّة لا الفرد الخارجيّ.

وثانيا : أنّ عنوان الفرد ليس بعنوان كلّي حتّى يكون قابلا للانطباق على الكثيرين من الأفراد بل المقصود منه هو واحد من الأفراد وحيث لا يمكن تعدّد البعث نحو فرد واحد يحمل جمعا بين الشرطين كلّ واحد على واحد مغاير مع واحد آخر

__________________

(١) مناهج الوصول : ج ٢ ص ٢٠٩ و ٢١٠.

٤٢٩

يكون مبعوثا إليه.

وعليه فقياس الفرد المأخوذ الذهنيّ على الماهيّات الكليّة وتقسيماتها بالقيود المختلفة التي ربما تكون موجبة لصيرورة المقيّدين متباينين كالإنسان الأبيض والأسود وقد لا تكون كذلك كالإنسان الأبيض والعالم ممّا بينهما عموم من وجه ليس في محلّه لما عرفت من أنّ المراد من الفرد ليس عنوانا كلّيّا بل هو واحد من الأفراد.

لا يقال : مفاد كلّ قضيّة شرطيّة أو شرطيّة واحدة بالنسبة إلى مرّات تحقّق الشرط أنّ الجزاء لا بد وأن يقع عقيب شرطه الموجب له فالواجب بكلّ شرط غير ما وجب بالآخر ومع ذلك فحيث لا يقيّد بأزيد من هذه البعديّة فاللازم الاكتفاء بمصداق واحد من الطبيعة لصدق جميع الإيتاءات بقيدها عليه فمقتضى إطلاق كلّ شرطيّة أنّه مع تعدّد الشرط يكون المقام من باب تداخل المسبّبات (١).

لأنّا نقول : إنّ كلّ شرطيّة ظاهرة في كونه موجبا لأثر غير أثر الآخر بعد ما عرفت من عدم مكان اجتماع الشرطين بالنسبة إلى واحد فإذا كان أثر كلّ مغايرا مع الآخر ومباينا له فالاكتفاء بمصداق واحد خلف في كون كلّ منهما موجبا لأثر مباين للآخر كما أفاد الشيخ الأعظم قدس‌سره حيث قال : إنّ تعدّد الأثر يوجب تعدّد الفعل ولا يكفي إيجاد فعل واحد في مقام فعلين.

وثالثا : أنّ بعد ما عرفت من امتناع التداخل في ما إذا كانت متعلّق الأمرين حقيقة واحدة اتّضح صحّة ما أفاده الشيخ قدس‌سره من أنّه لا يعقل ورود الدليل على التداخل إلّا أن يكون ناسخا لسببيّة متعددة بأن يكون السبب صرف الوجود من الأسباب أو يكون كاشفا عن تداخل الماهيّات المختلفة كما يظهر من بعض النصوص كقوله عليه‌السلام إذا اجتمعت عليك حقوق أجزأها عنك غسل واحد فإنّه كما في نهاية

__________________

(١) تسديد الأصول : ج ١ ص ٤٨٠.

٤٣٠

الأفكار ظاهر في أنّ الأغسال مع اتّحادها صورة مختلفات بحسب الحقيقة وقابليّة التصادق على الواحد حيث إنّ قضيّة الاجتزاء بغسل واحد عن المتعدّد حينئذ إنّما هو من جهة تصادقها على الواحد (١).

ورابعا : أنّ مثال الوضوء خارج عن محلّ البحث لأنّ الشرط فيه هو صرف الوجود من النواقض فلا يكون من باب الأسباب المتعدّدة إذ مع تأثير النوم لا مجال لتأثير البول وبالعكس.

وخامسا : أنّ مع الاعتراف بظهور الشرطيّة في استقلال التأثير وكون أثر كلّ منهما غير أثر الآخر لا مجال لدعوى عدم وجوب أن يكون بين العنوانين تباين.

مقتضى الأصل في الشكّ في تداخل الأسباب

ولا يخفى عليك أنّ مرجع الشك في تداخل الأسباب وعدمه إلى الشكّ في التكليف الزائد لا في السقوط بعد الثبوت ومجراه هو البراءة.

فإنّ الشك في تداخل الأسباب وعدمه يرجع الى احتمال كون المؤثّر هو الجامع بينهما المنطبق على أوّل الوجود أو كون كلّ واحد مؤثرا.

وعليه فيجوز له الاكتفاء بوجود واحد لأصالة البراءة عن التكليف الزائد إذ المتيقّن هو حدوث تكليف واحد.

لا يقال : هذا فيما إذا كان الجزاء حكما تكليفيا محضا وأمّا إذا كان تكليفا مرتّبا على وضع كما إذا وقع في بئر ميّتا الإنسان أو أصاب البول يد أحد مرّتين فربما يقال إنّ هذا الأمر الوضعي يحتمل بقاؤه بعد العمل بالمتيقّن من التكليف فيحكم بمقتضى الاستصحاب ببقائه ويرتّب عليه آثاره فيحكم في المثال بنجاسة البئر واليد إلّا إذا أتى

__________________

(١) نهاية الأفكار : ج ١ ص ٤٩٠

٤٣١

بما يتيقّن معه بالفراغ.

لأنّا نقول : نمنع ذلك لأنّ وقوع الميّت الثاني من الإنسان في البئر أو إصابة البول ثانيا إن كان بعد وقوع الميّت الأوّل في البئر وبعد حدوث إصابة البول أوّلا فلا مجال لاستصحاب البقاء لأنّ الأمر بالعكس فإنّ بعد حدوث الأوّل ووقوعه كان المعلوم هو عدم تنجّس البئر بسبب آخر وعدم تنجّس اليد بسبب آخر فإذا وقع الثاني أو حدث الثاني شكّ في التنجّس الثاني فمقتضى الاستصحاب هو عدمه.

وإن كانا واقعين أو أصابا دفعة وشككنا في أنّ كلّ واحد مؤثّر أو الجامع بينهما فبعد العمل بالمتيقّن من التكليف يمكن استصحاب بقاء جامع النجاسة لأنّ قبل العمل بالمتيقّن من التكليف علمنا بوجود النجاسة فإن كان المؤثّر هو الجامع وصرف الوجود بينهما ارتفعت النجاسة بالعمل المتيقّن وإن كان المؤثّر هو كلّ واحد منهما فلا ترتفع النجاسة بالعمل المذكور فالنجاسة في ما إذا كان المؤثّر كلّ واحد منهما طويل البقاء بخلاف ما إذا كان المؤثّر هو صرف الوجود والجامع بينهما فإنّها ترتفع بالعمل المذكور وحيث شككنا في المؤثّر أنّه هو كلّ واحد أو صرف الوجود أمكن استصحاب بقاء جامع النجاسة ولكنّه لا أثر له إذ الأثر مترتّب على الأفراد لا على الجامع واستصحاب جامع النجاسة لإثبات تأثير كلّ واحد منهما لا مجال له لأنّه أصل مثبت فتحصّل أنّ مع التعاقب كان المستصحب هو عدم تنجّس البئر أو اليد بالمؤثّر الآخر فلا مجال لاستصحاب بقاء النجاسة ومع التقارن أمكن استصحاب جامع النجاسة ولكنّه لا أثر شرعيّ له بعد كون الآثار مترتّبة على الأفراد واستصحاب الجامع لترتيب الأثر على الأفراد أصل مثبت فلا مجال له كما لا يخفى.

هذا كلّه بالنسبة إلى مقتضى الأصل في الشكّ في تداخل الأسباب.

٤٣٢

مقتضى الأصل في الشكّ في تداخل المسبّبات

وإذا شكّ في تداخل المسبّبات في أنّه هل تسقط المسبّبات المتعدّدة بوجود واحد أو لا تسقط فمرجع الشكّ إلى الشكّ في الامتثال والسقوط بعد الفراغ عن أصل الثبوت واشتغال الذمّة فالتداخل خلاف الأصل والقاعدة ويحتاج إلى إقامة الدليل ومع عدمه فمقتضى القاعدة هو لزوم الإتيان بكلّ واحد منها حتّى يحصل الفراغ اليقينيّ بعد الاشتغال اليقينيّ.

فحينئذ إذا شكّ في تداخل المسبّبات من ناحية الشكّ في احتمال تصادق العناوين المتعدّدة على مجمع واحد فالمرجع فيه إلى الاشتغال لا غير لو لم نقل بكفاية إطلاق المتعلّقات لنفي احتمال مدخليّة التقدّم والتأخّر وإحراز إمكان التصادق أو لو كان دليل المسببات لبيّا أو لو أجمل الدليل من جهة قيام القرائن المختلفة بحيث اختلت المقدّمات وإلّا فمقدّمات الاطلاق جارية في المتعلّقات ومقتضاها هو عدم اتّخاذ قيد فيها يمنع عن التصادق فلا مجال للشكّ المذكور.

ربما يقال إن كان الجزاء حكما تكليفيّا محضا فحيث إنّ الشكّ في التطابق يكون لا محالة منشؤه الجهل بحدود العنوان المكلّف به ولا محالة هذا الشكّ سار في كلّ منهما وحينئذ فإن كان الأمر دائرا في كلّ منهما بين الأقلّ والأكثر تجري البراءة عن الزائد المشكوك فلا يجب في كلّ منهما إلّا الأقلّ اللازم منه تطابقهما على واحد كما إذا شكّ في أنّ الواجب طبيعة الوضوء الواقعة بعد موجبه أو هي مقيّدة أيضا باستقلاله في مقام الامتثال فوجوب الوضوء الواقع بعد موجبه معلوم وقيد الاستقلال مشكوك تجري البراءة عنه فلا يجب إلّا الوضوء بعد الموجب ووضوء واحد مصداق لكلتا الطبيعتين انتهى.

وفيه أنّه إن أريد بكون منشأ الشكّ هو الجهل بحدود العنوان المكلّف به

٤٣٣

ولا محالة هذا الشكّ سار في كلّ منهما ما ذكرناه من أنّ مقتضى مقدّمات الإطلاق في المتعلّقات هو عدم تقيّدها بما يمنع عن صدقها وتطابقها على جود واحد فلا ارتباط له مع البراءة لأنّه أخذ بمقدّمات الإطلاق وقد عرفت كفايتها لرفع احتمال التباين فيما إذا جرت المقدّمات هذا مضافا إلى أنّ احتمال تقييد المتعلّقات بأحكام الامتثال لا مجال له بعد كون الأدلّة في مقام تشريع الأحكام لا أحكام الامتثال فاللازم هو إرجاع القيد إلى قيود المتعلّقات كما بيّناه.

وإن أريد بذلك أنّ المتعلّقات مجهولة في مفادها ومفهومها في نفسها ففيه منع واضح فإنّ مفاهيمها واضحة ولا إجمال لها ولا تقاس بموارد الشبهات المفهوميّة وإنّما الشكّ في كونها مقيّدة بما يمنع عن تطابقها على مصداق واحد وعدمه وهو كما عرفت مجرى مقدّمات الإطلاق ومع عدم جريانها فاللازم هو الفراغ اليقينيّ لمعلوميّة الاشتغال بالمتعدّد بعد ظهور الشرطيّة في الاستقلال والحدوث بعد الحدوث ولا مجال للبراءة كما لا يخفى.

ثمّ إنّه إن شكّ في التداخل من جهة احتمال تأكّد الوجوب وعدمه ذهب في نهاية الأفكار إلى أنّه لا محيص حينئذ من الاحتياط حيث يعلم تفصيلا بتأثير كلّ شرط في مرتبة من التكليف وإنّما الشكّ في تعلّقهما بوجود واحد أو بوجودين وبعبارة أخرى يعلم تفصيلا بأنّه من قبل كلّ شرط توجّه الزام إلى المكلّف وإنّما الشكّ في تعلّقهما بوجود واحد فيلزمه تأكّد الوجوب فيه أو بوجودين مستقلّين وفي مثله لا محيص إلّا من الاحتياط من جهة أنّه في الاكتفاء بإيجاد واحد يشكّ في الخروج عن عهدة ذلك التكليف الناشئ من قبل الشرط الثاني لاحتمال تعلقه بوجود آخر (١).

ولا يخفى عليك أنّه لا مجال لاحتمال التأكيد بعد استظهار تعدّد المتعلّق بتقدير

__________________

(١) نهاية الأفكار : ج ١ ص ٤٩٤ ـ ٤٩٥.

٤٣٤

الوجود في كلّ واحد منهما في الحقيقة الواحدة لأنّ مقتضى الجمع بين الدليلين هو بعث كلّ واحد إلى فرد مغاير مع فرد آخر ومع المغايرة لا مجال لاحتمال التأكيد نعم لو قلنا بأنّ متعلّق الوجوب هو نفس الطبيعة لا وجودها وفردها لكان للاحتمال المذكور مجال ولكنّه سبق أنّ الطبيعة ليست مطلوبة حتّى يحمل الوجوبان المتعلّقان بها على التأكيد لوحدة المتعلّق بل المتعلّق هو وجود الطبيعة وهو ممّا يقبل التعدّد فمع كون المتعلّق قابلا للتعدّد والتكرار يكون مقتضى ظهور القضيّة في الحدوث عند الحدوث هو حدوث الوجود وهو مساوق لحدوث الفرد ومن المعلوم أنّ دلالة كلّ قضيّة على ذلك تنتهي إلى مطلوبيّة وجودين وفردين من الحقيقة وحيث إنّ الفردين متغايران فلا مجال لاحتمال التأكيد كما لا يخفى وإن أبيت عما ذكر وشكّ في تعلّقه بوجود واحد أو وجودين فلا مجال للزوم الاحتياط إذ لا علم بالاشتغال بالأزيد من واحد حتّى يجب الفراغ عنه ومجرّد معلوميّة توجّه إلزام نحو المكلّف مع احتمال تعلّقهما بواحد وكونه تأكيدا لا يوجب العلم باشتغال التكليفين إذ مع الاحتمال المذكور لا يفيد الإلزامان إلّا تكليفا مؤكّدا.

هذا مضافا إلى أنّه لا مجال لاحتمال التأكيد فى العامّين من وجه وإلّا لزم الجمع بين التأكيد والتأسيس في صيغة واحدة فإنّها بالنسبة إلى مادّة الافتراق تأسيس وبالنسبة إلى مادّة الاجتماع تأكيد وهو كما ترى.

فتحصّل أنّ مقتضى الأصل في الشكّ في تداخل المسبّبات هو عدم التداخل فيما اذا لم يكن إطلاق في المتعلّق يقتضي جواز التداخل فإنّ مرجع الشكّ حينئذ إلى الشكّ في ناحية الامتثال والسقوط بعد الفراغ عن أصل الثبوت واشتغال الذمّة فاللازم حينئذ هو الإتيان بكلّ واحد حتّى يحصل اليقين بالفراغ بعد العلم بالاشتغال.

٤٣٥

الخلاصة :

المقصد الثالث في المفاهيم

وهنا فصول :

الفصل الأوّل في تعريف المفهوم والمنطوق

ولا يخفى أنّ المنطوق هو ما دلّت عليه القضيّة الملفوظة بالدلالة المطابقيّة أو التضمنيّة.

والمفهوم على تقدير ثبوته هو ما دلّت عليه القضيّة غير المذكورة في شخص الكلام وهي التي تستفاد من القضيّة الملفوظة بالدلالة الالتزاميّة بسبب اشتمال القضيّة الملفوظة على خصوصيّة وهي تستتبع القضيّة غير المذكورة بلزوم بيّن بالمعنى الأخصّ ولقد أفاد وأجاد في الكفاية حيث قال : إنّ المفهوم كما يظهر من موارد إطلاقه هو عبارة عن حكم إنشائي أو إخباري تستتبعه خصوصيّة المعنى الذي أريد من اللفظ بتلك الخصوصيّة ولو بقرينة الحكمة وكان يلزمه لذلك وافقه في الإيجاب والسلب أو خالفه.

وممّا ذكر يظهر أنّ المفهوم مستند إلى اللفظ لأنّ الخصوصيّة المذكورة في القضيّة الملفوظة تدلّ على القضية غير المذكورة.

وبهذا الاعتبار يكون البحث عن المفاهيم من مباحث الألفاظ ثمّ الفرق بين المفهوم والمعنى الالتزامي بأنّ المفهوم أخصّ منه لاعتبار الخصوصيّة الملفوظة في القضيّة المذكورة في المفهوم دون المعنى الالتزامي إذ يكفي الملازمة بين المعنى المطابقي والمعنى الالتزامي.

ثمّ إنّ المنطوق والمفهوم يكونان من أوصاف المدلول لا الدالّ ولا الدلالة كما

٤٣٦

يظهر من تعاريف القوم منهم الحاجبي حيث قال المنطوق هو ما دلّ عليه اللفظ في محل النطق والمفهوم هو ما دلّ عليه اللفظ لا في محلّ النطق.

قال الشيخ الأعظم قدس‌سره : إنّ لفظة «ما» موصولة فتدلّ على أنّ المنطوق وخلافه من أوصاف المدلول.

ويظهر ممّا ذكرناه من اعتبار التابعيّة بين المفهوم والمنطوق باعتبار اشتمال المنطوق على خصوصيّة تستتبع القضيّة غير المذكورة خروج مثل وجوب المقدّمة على المفهوم لأنّ الصيغة الدالّة على وجوب ذي المقدمة لا تشتمل على خصوصيّة تدلّ باعتبارها على وجوب مقدّماته بل منشأ وجوب المقدّمة على تقدير ثبوته هو الملازمة العقلية بين الوجوبين مع عدم خصوصيّة في صيغة وجوب ذي المقدّمة.

وهكذا يظهر خروج دلالة الاقتضاء عن المفهوم كدلالة للآيتين أي قوله تعالى : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) وقوله عزوجل : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) على أنّ مدّة أقلّ مدّة الحمل هو ستّة أشهر وذلك لأنّ هذه الدلالة تكون بحكم العقل إذ لا يمكن جعل مدّة الرضاع حولين مع زيادة مدّة الحمل عن ستّة أشهر وإلّا لزم ازدياد الحمل والفصال عن ثلاثين شهرا هذه الدلالة كما عرفت من جهة حكم العقل جمعا بين الآيتين لا من جهة خصوصيّة مذكورة في إحدى الآيتين ثمّ لا يذهب عليك أنّ استفادة المفهوم من المنطوق على القول بها تكون باعتبار اشتمال المنطوق على الخصوصيّة المستتبعة للقضيّة غير المذكورة ومن المعلوم أنّها هي استفادة من ألفاظ المنطوق باعتبار وضع أداة الشرط أو القضيّة الشرطيّة أو مقدمات الإطلاق الجارية في الكلام.

وعليه فما نسب الى القدماء من أنّ الدلالة على المفهوم من باب دلالة الأفعال لبناء العقلاء على حمل الفعل الصادر عن الغير على كونه صادرا عنه لغاية وفائدة لا لغوا وأنّ الغاية المنظورة هي إفادة المعنى أيّ شيء كان وليس هذا مربوطا بباب دلالة

٤٣٧

الألفاظ على معانيها بل هو من باب بناء العقلاء على حمل فعل الغير على كونه صادرا عنه لغايته الطبيعية لا لغوا وهذا مقدّم بحسب المرتبة على الدلالة الثابتة للفظ بما هو لفظ موضوع على معناه لأنّه من باب دلالة الفعل لا اللفظ بما هو لفظ ولذا يحكم به العقلاء قبل الاطّلاع على المعنى الموضوع له تفصيلا.

وهذا البناء كما يكون ثابتا بالنسبة إلى مجموع الكلام فكذلك يكون ثابتا بالنسبة إلى أبعاضه.

منظور فيه لعدم إحراز النسبة المذكورة بل يخالفها ما حكى عن الحاجبي لظهور تعريفه في أنّ المنطوق والمفهوم من باب دلالة الألفاظ لا من باب الأفعال وبناء العقلاء.

هذا مضافا إلى أنّ ما حكم به العقلاء يكون من المبادي لدلالة الألفاظ على معانيها إذ لا يستفاد منها إلّا الدلالة الإجمالية وأمّا التفصيل فهو مربوط بمفاد اللفظ بما هو اللفظ وعليه فمجرّد دلالة اللفظ بما هو فعل على دخالة القيد في المطلوب لا ينفى دخالة شيء آخر في شخص الحكم في المنطوق بل هي متوقّفة على استظهار الانحصار من مدلول اللفظ.

ثمّ إنّ البحث في المقام بحث عن وجود المفهوم لا البحث عن حجيّته لأنّ حجيّة الظهورات مفروغ عنها.

الفصل الثاني : في دلالة الجملة الشرطية على المفهوم وعدمها

ولا يخفى أنّ المشهور ذهبوا إلى دلالتها بمعنى أنّها كما تدلّ على ثبوت شيء عند ثبوت شيء فكذلك تدلّ بالالتزام على الانتفاء عند الانتفاء.

واستدلّ له بوجوه :

منها التبادر بدعوى أنّ المنساق من الجملة الشرطيّة هو تعليق شيء وتوقّفه

٤٣٨

على شيء آخر وهو دليل على كون الجملة الشرطيّة موضوعة لذلك.

ومقتضاه هو الانتفاء عند الانتفاء إذ لا معنى للتوقّف إلّا ذلك.

ويؤيّده ما هو المعروف من أنّ أداة «لو» للامتناع إذ مقتضاه هو الالتزام بالمفهوم والعلّيّة المنحصرة وإلّا فلا وجه لامتناع التالي بمجرّد امتناع المقدّم مع إمكان وجود علّة أخرى.

هذا مضافا إلى شهادة صحّة الاستدراك كما إذا قيل إن ضربتني ضربتك ولكنّك لم تضربني فلا أضربك مع أنّه لو لم يكن للقضيّة الشرطيّة مفهوم لم يكن حاجة إلى الاستدراك.

أورد عليه بأنّ تبادر العلّيّة المنحصرة من الجملة الشرطيّة غير ثابت بل غايته هو تبادر الترتب.

ولعلّ وجهه هو توهّم انصراف الترتّب الّذي يدلّ عليه الجملة الشرطيّة الى التوقّف والتعليق من جهة كونه أكمل الأفراد من الترتّب مع أنّ مجرّد الأكمليّة لا يوجب الانصراف.

هذا مضافا إلى إمكان منع الأكمليّة فإنّ الانحصار لا يوجب الأكمليّة.

وأمّا تأييد ذلك بكلمة «لو» وصحّة الاستدراك ففيه منع كون ذلك دليلا على الوضع لإمكان ذلك مع القول بالدلالة من باب الإطلاق أيضا فالدليل أعم من المدّعى وبالجملة دلالة القضية على حصر العلّة في المقدّم أعم من أن يكون ذلك من جهة الوضع أو مقدّمات الإطلاق أو المركّب منهما ، فتدبّر جيّدا.

منها ما في نهاية الأفكار من إطلاق الجزاء وبيانه أنّ قولهم أكرم زيدا مع قطع النظر عن القرائن الخارجيّة لا يقتضي إلّا مجرّد ثبوت الحكم والمحمول لزيد بنحو الطبيعة المهملة الغير المنافي مع ثبوت شخص حكم آخر من هذا السنخ للعمرو.

وإهماله من هذه الناحية لا ينافي إطلاقه من ناحية أخرى ومن أنّ هذا الحكم

٤٣٩

ثابت على الإطلاق لزيد من دون فرق بين حالاته من القيام والقعود والمجيء ونحوه.

وبعبارة أخرى أنّ الموضوع باعتبار حالاته مطلق ويلزمه قهرا إطلاق في طرف الحكم المترتّب عليه أيضا بحسب تلك الحالات.

فإذا ورد عليه أداة الشرط لا يقتضي إلّا مجرد إناطة النسبة الحكميّة بمالها من المعنى الإطلاقي بالشرط وهو المجيء لأنّ ما هو شأن الأداة إنّما هو إناطة الجملة الجزائية بمالها من المعنى الذي يقتضيه طبع القضيّة الحمليّة أو الإنشائيّة بالشرط.

فإذا كان مقتضى طبع القضيّة في مثل قولهم أكرم زيدا هو ثبوت حكم شخصي محدود لزيد على الإطلاق الملازم لانحصاره وعدم فرد آخر منه في بعض الحالات وكان قضيّة الأداة على ما هو شأنها إناطة تلك الجملة بمالها من المعنى بالشرط وهو المجيء فلا جرم بعد ظهور الشرط في دخل الخصوصيّة بمقتضى ما بيّناه يلزمه قهرا انتفاء وجوب الإكرام عن زيد عند انتفاء المجيء.

وهذا البيان لا يحتاج في إثبات المفهوم في القضايا الشرطية إلى إثبات العلية المنحصرة لأنّ إطلاق الجزاء يكفي في إفادة المفهوم من جهة أنّ لازم إناطة مثل هذا الحكم الشخصي حينئذ هو لزوم انتفاء ذلك عند الانتفاء.

وحيث أنّه فرض انحصار الطبيعي أيضا بهذا الشخص بمقتضى الظهور الإطلاقي قهرا يلزمه انتفاء الحكم السنخي بانتفائه من دون احتياج إلى إثبات العلّيّة المنحصرة.

ويمكن أن يقال أنّ إطلاق القضيّة من جهة موضوعها بحسب الأحوال ومنها المجيء وعدمه غير باق بمجرّد إناطة القضيّة بالشرط وهو المجيء ومع عدم اطلاق القضيّة بالنسبة إلى عدم المجيء فلا دليل على نفي الحكم الآخر في صورة عدم المجيء بجهة أخرى إلّا إذا أفادت القضيّة الشرطيّة علّيّة منحصرة وهو أوّل الكلام كما لا يخفى.

٤٤٠