عمدة الأصول - ج ٣

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: كيميا
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

التنكير لتقييدها بقيد الوحدة الغير المعيّنة لكن بالمعنى الحرفيّ لا الاسميّ وألفاظ النفي أو النهي وضعت لنفي مدخولها أو الزجر عنه فلا دلالة فيها على نفي الأفراد ولا وضع على حدة للمركّب فحينئذ تكون حالها حال سائر المطلقات في احتياجها إلى مقدّمات الحكمة فلا فرق بين (أعتق رقبة) و (لا تعتق رقبة) في أنّ الماهيّة متعلّقة للحكم وفي عدم الدلالة على الأفراد وفي الاحتياج إلى المقدّمات (١).

يمكن أن يقال كما مرّ في المبحث الرابع في وجه اختلاف الأمر والنهي في كيفيّة الامتثال إنّ منشأ ذلك هو كثرة الاستعمال ، قال سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره إنّ الطبيعة في متعلّق النهي مستعملة بكثرة الاستعمال في الطبيعة السارية بخلافها في متعلّق الأمر فالدلالة في ناحية النهي على الاستغراق مستندة إلى كثرة الاستعمال فلا حاجة إلى المقدّمات كما لا حاجة إليها في دلالة أدوات العموم كلفظة «كلّ» فإنّ العموم مستفاد منها لا من مقدّمات الحكمة في مدخولها وإلّا لما كان إليها حاجة إلّا إذا اريد التأكيد مع إنّ الوجدان قاض بخلافه فإنّ مثابة لفظة «كلّ» في الموارد التي ذكرت فيها مثابة لفظة «مطلقا» في مثل قوله (أكرم رجلا مطلقا) فكما أنّ لفظة «مطلقا» تفيد الإطلاق بالدلالة اللفظيّة فكذلك لفظة «كلّ» تدلّ على العموم بالدلالة اللفظيّة فلا تغفل.

هذا مضافا إلى إمكان دعوى كون الدلالة عقليّة كما ذهب إليها في الدرر واستشكل عليه في نهاية الدراية وأجاب عنه شيخنا الاستاذ الأراكيّ قدس‌سره وقد مضى تفصيله في المبحث الرابع المذكور فراجع ولا اريد الإطالة.

ومنها أنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ، أورد عليه في القوانين بأنّ الأمر دائر بين المفسدة والمفسدة إذ في ترك الواجب أيضا مفسدة.

__________________

(١) مناهج الوصول : ج ٢ ص ٢٣٨ ـ ٢٣٧.

٢٦١

أجاب عنه في الكفاية بأنّ الواجب لا بدّ وأن يكون في فعله مصلحة ولا يلزم أن يكون في تركه مفسدة كما أنّ الحرام لا بدّ وأن يكون في فعله مفسدة لا في تركه مصلحة.

أورد عليه شيخنا الاستاذ الأراكي قدس‌سره بأنّه لا شكّ أنّ العقل النيّر كما يشمئزّ من فعل الحرام كذلك من ترك الواجب بلا فرق ، ألا ترى أنّك كما تبتهج بإنقاذ أحد متعلّقيك من الأخ والابن ونحوهما كذلك تسوء حالك من ترك إنقاذه (١).

يمكن أن يقال : إنّ الاشمئزاز من ترك الواجب من جهة فقدان مصلحة الواجب لا من مفسدة ترك الواجب وهكذا سوء الحال من ترك إنقاذ أحد من المتعلّقين من جهة فوت المصلحة وهو حفظ وجودهم وبقائهم.

هذا مضافا إلى ما مرّ سابقا من أنّ الترك يكون من الأمور العدميّة فلا يتّصف بشيء من الوجوديّات بل الإشكال على الوجه المذكور للترجيح هو الذي أفاده صاحب الكفاية من أنّ الأولويّة مطلقا ممنوعة بل ربّما يكون العكس أولى كما يشهد به مقايسة فعل بعض المحرّمات مع ترك بعض الواجبات خصوصا مثل الصلاة وما يتلو تلوها (٢).

هذا مضافا إلى أنّه لا دوران في محلّ الكلام لإمكان استيفاء كلا الغرضين بإتيان الصلاة في غير مورد الغصب وترك الغصب بجميع أفراده لأنّ المفروض هو وجود المندوحة فله التحرّز عن المفسدة مطلقا مع جلب المنفعة كما حكي عن فوائد صاحب الكفاية.

نعم لو كان العموم شموليّا من الطرفين لكان الدوران صحيحا كما لا يخفى.

ومنها : الاستقراء بدعوى أنّه يقتضي ترجيح جانب الحرمة على جانب

__________________

(١) اصول الفقه : ج ١ ص ٢٢٣.

(٢) الكفاية : ج ١ ص ٢٧٧.

٢٦٢

الوجوب كحرمة الصلاة في أيّام الاستظهار وعدم جواز الوضوء من الإنائين المشتبهين.

وفيه أوّلا المنع عن تحقّقه بمثل الموردين ، وثانيا أنّه لا دليل على اعتبار الاستقراء ما لم يفد القطع.

التنبيه السادس : في لحوق تعدّد الإضافات بتعدّد العنوانات والجهات

ولا يخفى عليك أنّ المتراءى من جماعة هو التعامل مع مثل (أكرم العلماء) و (لا تكرم الفسّاق) معاملة التعارض لا التزاحم وهو محلّ منع مع وجود المقتضي في كل واحد منهما ، فمقتضى القاعدة في مثله هو التزاحم لا التعارض فكما أنّ تعدّد الجهة والعنوان يكفي مع وحدة المعنون وجودا في جواز الاجتماع فكذلك يكون تعدّد الإضافات مجديا في جواز الاجتماع لاقتضاء الإضافات المختلفة اختلافها في المصلحة والمفسدة والحسن والقبح عقلا كاختلافها في الحكم الشرعيّ من الوجوب والحرمة. وبالجملة لا مجال للتفكيك بين تعدّد الإضافات وتعدّد العنوانات وعليه يكون مثل (أكرم العلماء) و (لا تكرم الفسّاق) من باب الاجتماع مثل (صلّ) و (لا تغصب) لا من باب التعارض.

نعم لو لم يكن لأحد الإضافات ملاك للحكم كان من باب التعارض كما أنّ الأمر يكون هكذا لو علم أنّ أحد العنوانين لا ملاك فيه فتدبّر جيّدا.

ثمّ إنّ حكم صورة وجود المندوحة وعدمها يعرف ممّا مرّ في تعدّد العنوانات والجهات.

٢٦٣

الخلاصة :

تصوير اجتماع الأمر والنهي في العبادات المكروهة :

لا اشكال في تصوير ذلك بناء على القول بالجواز لأنّ النسبة بين العبادة والعنوان المكروه : إمّا هي العموم من وجه كالصلاة المندوبة مع الكون في مواضع التهمة ففي هذه الصورة يتعدّد العنوان في مورد الاجتماع ومع التعدّد لا منافاة بين الاستحباب والكراهة كما هو الواضح.

وإمّا النسبة بين العبادة والعنوان المكروه هي الأعمّ والأخصّ المطلق ففي هذه الصورة فإن أخذ مفهوم الأعمّ في الأخصّ كقولهم (صلّ ولا تصلّ في الحمام) ففي جريان جواز الاجتماع إشكال لأنّ المطلق عين ما أخذ في المقيّد ومع العينيّة لا يعقل تعلق الحكمين المختلفين بالطبيعة الواحدة ولو في الذهن وعليه يجري حكم الامتناع فيحمل النهي على الارشاد إلى سائر الأفراد لعدم امكان تعلّق النهي مع الأمر بالطبيعة الواحدة أو يخصّص النهي بالمشخّصات الخارجة عن الطبيعة الواحدة كايقاع الصلاة في الحمام.

وإن لم يؤخذ مفهوم الأعمّ في الأخصّ كقولهم (حرّك ولا تدن إلى موضع كذا) فيجوز اجتماع الأمر والنهي فيه لتعدّد العنوان وإن كانت النسبة بينهما بحسب المورد هي الأعمّ والأخصّ ، فتأمّل.

هذا كلّه بالنسبة إلى تعلّق الأمر والنهي بعنوانين مختلفين اللذين يجتمعان في الوجود الخارجي.

وأمّا إذا تعلّق النهي بذات العبادة ولا بدل لها كصوم يوم عاشورا أو الصلوات المبتدأة عند غروب الشمس وطلوعها.

٢٦٤

فإن أمكن رجوع النهي إلى عنوان آخر كعنوان الموافقة مع بني أميّة أو التشابه بعبدة الشمس فلا اشكال في اجتماع الأمر والنهي إذ مرجع ذلك إلى تعدّد العنوان لأنّ الأمر متعلّق بذات العبادة والنهي راجع إلى عنوان آخر كالموافقة مع بني أميّة أو المشابهة بعبدة الشمس وإن لم يمكن رجوع النهي إلى عنوان آخر فمقتضاه هو لزوم رفع اليد عن الأمر والحكم بفساد العبادة لدلالة النهي على مرجوحيّة المتعلّق وهو لا يجتمع مع مقرّبية المتعلّق بعد فرض عدم كونه معنونا بعنوان آخر.

وبالجملة فمع تعدّد العناوين والقول بالجواز لا إشكال في اجتماع الأمر والنهي في العبادات المكروهة ولا حاجة إلى دعوى سقوط الأمر عن الفعلية أو حمل النهي على الاقتضائي بل مقتضى ظاهرهما هو بقائهما على الفعلية وهما يحكيان عن وجود المصلحة في متعلّق الأمر والمفسدة في متعلّق النهي من دون كسر وانكسار في مصلحة المأمور به ومن دون تزاحم بينهما مثلا إذا قال المولى لعبده جئني بماء في البلور ولا تأت به في الخزف فإذا تخلّف العبد وأتى بالماء في الخزف لا يتغير مصلحة الماء وهو رفع العطش بل هو باق على ما هو عليه من دون كسر وانكسار وإنّما عصى مولاه لعدم إتيانه في ظرف يليق بشأنه وهو مفسدة غير مرتبطة بمصلحة الماء فإذا كانت المصلحة والمفسدة باقيتين فالأمر والنهي باقيان على المولوية ولا يحملان على الارشاد إذ لا تزاحم بينهما.

وممّا ذكر يظهر حكم اجتماع الوجوب مع الاستحباب أو مع الوجوب أو حكم اجتماع الحرام مع الحرام أو اجتماع المستحبّ مع المستحب فإنّ بناء على جواز الاجتماع لا اشكال في اجتماعهما مع تعدّد العنوان إذ لا مزاحمة بينهما في مقام الامتثال كما لا يخفى.

تنبيهات :

التنبيه الأوّل : في حكم الاضطرار إلى ارتكاب الحرام كالتصرّف في الدّار

٢٦٥

المغصوب وهو على أقسام :

أحدها أن يكون المكلّف مضطرا إلى ارتكاب الحرام من دون سوء الاختيار ولا اشكال في هذه الصورة في سقوط الحرمة والحكم التكليفي إذ لا قدرة له والتكليف بما لا يطاق قبيح هذا مضافا إلى صحاح تدلّ على رفع التكليف عند الاضطرار ولا إشكال أيضا في صحّة صلاته في الدّار المغصوبة بعد اضطراره إلى السكونة فيها وعدم المندوحة.

وعليه فيجوز له أن يصلّى فيها مع الركوع والسجود ولا يجب عليه الاقتصار على الايماء والاشارة بدلا عنهما وذلك لمنع التصرّف الزائد بالركوع والسجود إذ لا يتفاوت في إشغال المحلّ بين أن يركع أو يومئ إليه.

نعم لو حصلت له المندوحة لا يجوز له أن يصلّي فيها بل يجب عليه أن يخرج منها ويصلّي في خارجها إن وسع الوقت وإلّا فمع ضيق الوقت يجب عليه أن يصلّي في حال الخروج إذ الصلاة لا تسقط بحال.

ثانيها : أن يكون الاضطرار إلى ارتكاب الحرام بسوء الاختيار كما إذا دخل في الدّار بدون إذن صاحبها وانحصر التخلّص منها بالتصرّف الخروجي.

يقع الكلام حينئذ في مقامين :

المقام الأوّل : في بيان الحكم التكليفيّ للخروج الّذي صار اضطراريّا بسوء الاختيار وهنا أقوال :

أحدها هو اجتماع الوجوب والحرمة في الخروج وفيه أنّه لا مجال له بعد اعتبار المندوحة في باب اجتماع الأمر والنهي إذ المفروض أنّه لا مندوحة له بالنسبة إلى التصرّف الخروجي ومع عدم المندوحة تكليفه بوجوب الخروج مع حرمته تكليف بالمحال.

وثانيها : هو وجوب الخروج مع جريان حكم المعصية عليه بعد سقوط النهي

٢٦٦

عنه بالاضطرار وهو منسوب إلى صاحب الفصول ومختار استاذنا المحقّق الداماد قدس‌سره وهو أقوى الأقوال.

أمّا وجوب الخروج فمن جهة كون الخروج من مقدّمات ردّ المغصوب وهو واجب وأمّا سقوط النهي عن الخروج مع كونه تصرّفا غصبيا فللاضطرار.

ثالثها : أنّ الخروج واجب من دون جريان حكم المعصية عليه وهو ظاهر البطلان بعد كون الاضطرار اليه بسوء الاختيار.

رابعها : أنّ الخروج حرام فعلي ولا وجوب له وفيه أنّ الخروج مقدّمة للواجب الأهمّ وهو وجوب ردّ المغصوب والمقدّمة الموصلة واجبة بوجوب ذيها والحرمة الفعلية لشيء مع فرض الاضطرار إليه مستحيلة فمع الاستحالة يسقط الحرمة ويبقى عقوبته بسوء الاختيار لأنّ الاضطرار بسوء الاختيار لا يمنع عن العقوبة.

خامسها : أنّه لا وجوب ولا حرمة للخروج مع جريان حكم المعصية عليه وفيه أنّ نفي الوجوب مع كونه من مقدّمات وجوب ردّ المغصوب غير مسموع وممّا ذكر يظهر أنّ أقوى الأقوال هو القول الثاني فلا تغفل.

المقام الثاني : في بيان الحكم الوضعي عند الاضطرار إلى الخروج.

ولا يخفى عليك صحّة الصلاة عند الاضطرار إلى الخروج باتيانها مع الايماء بالركوع والسجود حال الخروج الاضطراري وضيق الوقت عن الاتيان بها في خارج الدّار.

بل المختار هو صحّة الصلاة مطلقا ولو عصى في إتيانها سواء قلنا بجواز الاجتماع أو لم نقل وسواء علم المضطرّ بحكم الغصب أو موضوعه أو لم يعلم وسواء وسع الوقت أو لم يسع وسواء تمكن من إقامة الصلاة في خارج الدار المغصوبة مع الشرائط الكاملة أو لم يتمكّن وذلك لما مرّ من تماميّة الملاك وعدم إحراز دليل لاشتراط خلوّ العبادة عن اقتران محرّم من المحرّمات.

٢٦٧

نعم من تمكّن من إقامة الصلاة في خارج الدّار المغصوبة مع شرائطها الكاملة وأتى بها في الدار المغصوبة مع الايماء بالركوع والسجود عند الخروج لا يصحّ صلاته لأنّه اكتفى بوظيفة العاجز مع تمكّنه من الاتيان بصلاة القادر.

التنبيه الثاني : أنّه وقد ذكرنا اختصاص اجتماع الأمر والنهي بوجود الملاك في الطرفين وعليه فلا تعارض بينهما لوجود الملاك في الطرفين على المفروض بل ولا تزاحم بينهما مع وجود المندوحة لامكان الجمع بينهما بتقديم النهي وإتيان المأمور به في مكان آخر جمعا بين الغرضين كما هو مقتضى القاعدة عند تزاحم المضيّق مع الموسّع كوجوب الإزالة ووجوب الصلاة.

وعليه فمع وجود المندوحة وإمكان الجمع المزبور لا مجال للرجوع إلى تقديم جانب الأقوى ملاكا إذ لا وجه لرفع اليد عن أحد الغرضين ولو كان في غاية الضعف لأجل الآخر ولو كان في غاية القوّة بعد إمكان إحرازهما معا كما هو المفروض مع وجود المندوحة نعم يقع التزاحم بينهما مع عدم وجود المندوحة حتّى على القول بالاجتماع لعدم التمكّن من امتثالهما مع عدم وجود المندوحة فاللازم حينئذ هو تقديم الأقوى ملاكا إن كان وإلّا فالحكم هو التخيير من دون فرق بين الامتناع وجواز الاجتماع إذ لا يجوز التكليف بهما فإنّه تكليف بما لا يطاق.

ودعوى اختصاص الرجوع بالأقوى ملاكا بالقول بالامتناع لا وجه لها بعد عدم إمكان امتثالهما لعدم وجود المندوحة كما لا يخفى.

ثمّ إن كان الأقوى ملاكا معلوما فهو وإلّا فالحكم هو التخيير عند عدم وجود المندوحة وتزاحم الأمر والنهي في مقام الامتثال.

ودعوى تعارض الخطابين من جهة تشخيص الأقوى ملاكا فيرجع إلى المرجّحات السنديّة فيقدّم الأقوى منهما دلالة أو سندا ويكشف بذلك أنّ مدلوله أقوى ملاكا مندفعة أوّلا باختصاص المرجّحات السنديّة بمدارك حكم الحكمين

٢٦٨

لاختصاص المقبولة بذلك وثانيا بأنّ مجرّد أقوائيّة السند لأجل أعدليّة الراوي مثلا لا يكشف عن أقوائيّة ملاك مدلول الخبر.

التنبيه الثالث : في حكم التردّد بين التزاحم أو التعارض وكيفيّة إحراز الملاك في الطرفين.

لا إشكال في وجود الملاك في الطرفين على القول بجواز الاجتماع ووجود المندوحة لوجود الكاشف عن الملاك في الطرفين إذ المفروض هو فعلية الأمر والنهي على هذا القول في الطرفين لعدم المزاحمة بينهما ويستكشف من اطلاق كلّ واحد من الأمر والنهي عن وجود الملاك.

وأمّا على القول بالامتناع أو الاجتماع مع عدم المندوحة فقد يقال بأنّه لا طريق لنا إلى احراز وجود الملاك في الطرفين مع عدم فعلية الأمر والنهي معا فيهما.

وعدم اجتماع الخطابين فيهما يمكن أن يكون لعدم وجود المقتضي في كلّ طرف لا للتزاحم وغلبة أحدهما على الآخر فالمرجع حينئذ هو الاصول العمليّة بعد عدم جريان الأخبار العلاجيّة في العامّين من وجه لاستلزام جريانها لطرح المرجوح مطلقا ولو في مورد الافتراق بعد عدم إمكان التبعيض في الحجّيّة وهو كما ترى فيؤخذ بالبراءة الشرعيّة بالنسبة إلى الوجوب والحرمة ويحكم بالاباحة بالنسبة إلى الفعل والترك.

يمكن أن يقال إن كانت الخطابات بالنسبة إلى مورد الاجتماع شخصيّة فلا يمكن اجتماعهما ولا كاشف حينئذ عن وجود الملاك في الطرفين.

وأمّا إذا كانت الخطابات متعلّقة بالطبيعة المطلقة الحاكية عن أفرادها فالخطاب بالاطلاق الذاتي مع قطع النظر عن المزاحم موجود ومع إحراز وجود الخطاب يكشف عن وجود الملاك في كلّ طرف.

ومزاحمة الخطاب الآخر إنّما توجب رفع فعلية أحد الخطابين لا رفع الملاك

٢٦٩

ولا دليل على رفع الملاك بعد ثبوته بالاطلاق الذاتي.

وحكم العقل بتقديم النهي أو الأمر على تقدير الامتناع أو على فرض عدم وجود المندوحة والقول بالاجتماع لا يدلّ على سلب الملاك لأنّ التقييد عقلي وليس بشرعي.

وعليه فمع دلالة كلّ خطاب على وجود الملاك في الطرفين يندرج المورد في المتزاحمين ويحكم عليه بالتخيير لو لم يكن دليل على ترجيح أحد الملاكين ولا مورد للمرجوع إلى الاصول العمليّة كما لا يخفى.

نعم على القول بالامتناع وتعلّق الخطاب بما يصدر عن الفاعل في الخارج لا علم بوجود الخطابين بعد افتراض استحالة تعلّقهما بالواحد الخارجي.

فحينئذ أمكن الرجوع إلى البراءة الشرعيّة بالنسبة إلى خصوص الوجوب أو الحرمة ويكون الحكم هو الاباحة بالنسبة إلى الفعل والترك فتدبّر جيّدا.

التنبيه الرابع :

في مقتضى القواعد من جهة الحكم الوضعي وقد عرفت ممّا تقدّم أنّ مقتضى المختار من جواز الاجتماع وكفاية تعدّد الحيثيّة والملاك في صحّة العبادة وعدم وجود دليل على اشتراط خلوّ جهة العبادة عن جهة المبغوضيّة هو الحكم بصحّة العبادة ولو مع العلم والعمد فضلا عن الجهل والنسيان والاضطرار.

بل قلنا أمكن القول بالصحّة على الامتناع وتعدّد الملاك ولو كان التركيب بينهما تركيبا اتّحاديّا لصدق العنوانين عليه فلا مانع من أن يأتي به بقصد العنوان المقرّب ولو لم يخل عن صدق العنوان المبعّد لعدم اشتراط خلوّ جهة العبادة عن العنوان المبعّد.

لا يقال لازم ذلك هو كون الموجود الخارجي محبوبا ومبغوضا وهو محال لأنّا نقول إن المحبوبيّة والمبغوضيّة ليستا من الصفات القائمة بالموضوع خارجا كالسواد والبياض بل هما من الكيفيّات النفسانيّة ولا بدّ من أن يتشخّص كلّ واحد بما هو

٢٧٠

حاضر لدى النفس بالذّات وهو الصورة الحاصلة فيها ولذا قد تنسب المحبوبيّة إلى ما ليس موجودا في الخارج مع أنّه ممتنع لو كان مناط الانتساب هو قيام صفة خارجيّة بالموضوع الخارجي.

فإذا كان الأمر كذلك يمكن أن يتعلّق الحبّ بعنوان والبغض بآخر فيكون الموجود الخارجي محبوبا ومبغوضا من جهة كون العنوانين موجودين بوجود واحد.

وعلى ما ذكرنا أمكن القول بصحّة العبادة مطلقا ولو مع العلم والعمد فضلا عن الجهل والنسيان والاضطرار والتفصيل بين العلم وغيره مبنىّ على الاحتياط أو تماميّة الأدلّة الخاصّة المذكورة في الفقه وأمّا إذا قلنا بعدم الوجه للزوم الاحتياط لأنّ الأدلّة الخاصّة ضعيفة والاجماع المدّعى في المقام محتمل المدرك فمقتضى القاعدة هو الصحّة مطلقا.

ولو سلّمنا عدم تماميّة ما ذكرناه من صحّة العبادة بمقتضى القاعدة فالعبادة في صورة العلم والعمد باطلة وفي صورة النسيان والاضطرار صحيحة لقيام الدليل الخاص على رفع شرطيّة الاباحة بسبب النسيان أو الاضطرار.

وأمّا الصحّة عند الجهل بالموضوع أو الحكم فهي غير واضحة بعد كون الدليل يفيد الحكم الظاهري إذ مع كشف الخلاف لا مجال للدليل بعد حصول العلم.

والقاعدة على المفروض غير تامّة اللهمّ إلّا أن يدّعى الاجماع في المقام وهو لا يخلو عن التأمّل.

والّذي يسهل الخطب هو ما عرفت من أنّ القاعدة تامّة ومقتضاها هو الصحّة على كل حال وبقيّة الكلام في محلّه.

التنبيه الخامس : في الوجوه المذكورة لترجيح جانب النهي بناء على الامتناع وعدم تعدّد الحيثيّات.

وقد ذكرنا أنّ على القول بجواز الاجتماع ووجود المندوحة يلزم القول بتقديم

٢٧١

النهي على الأمر في مورد الاجتماع جمعا بين الغرضين مع إمكانه.

ومع عدم وجود المندوحة يلزم القول بتقديم الأقوى ملاكا إن كان وإلّا فالتخيير بل الأمر كذلك بناء على الامتناع والاعتراف بتعدّد الحيثيّات وعدم وجود المندوحة.

وأمّا بناء على الامتناع وعدم الاعتراف بتعدّد الحيثيّات فقد ذكروا لترجيح النهي وجوها :

منها : أنّ النهي أقوى دلالة من دليل الوجوب لأنّ دلالة النهي على سريان الحرمة إلى الأفراد ناشئة من الوضع بخلاف دلالة صيغة الأمر على السريان فإنّها مستندة إلى الاطلاق بمعونة مقدّمات الحكمة.

ومن المعلوم أنّ الظهور الاطلاقي ينتفي بوجود الظهور الوضعيّ لأنّ الظهور الاطلاقي متقوّم بعدم البيان والظهور الوضعيّ يصلح لأن يكون بيانا وهذا هو الوجه في تقديم النهي على الأمر.

اورد عليه بأنّ التقوّم المذكور واضح فيما إذا كان الظهور الوضعيّ مقارنا فإنّه يمنع عن انعقاد الظهور وإلّا فالظّهور الإطلاقي منعقد ويقع التعارض حينئذ بين الظهور الوضعي والإطلاقي فاللّازم هو مراعاة الأقوى وربما يكون الإطلاقي أقوى من الوضعيّ كما قرّر في محلّه.

هذا مضافا إلى أنّ التزاحم بين الأمر والنهي لا يختصّ بصورة تزاحم الإطلاقي مع الوضعي بل يعمّ ما إذا تزاحم الوضعي مع الوضعي مثل أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق.

مع أنّ الاستغراق في كليهما وضعيّ.

ومنها : أنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.

ربّما يقال في الجواب أنّ الأمر دائر بين المفسدة والمفسدة فإنّ في ترك الواجب

٢٧٢

أيضا المفسدة ويمكن دفعه بأنّ الواجب لا بدّ وأن يكون في فعله مصلحة ولا يلزم أن يكون في تركه مفسدة.

فالأولى في الجواب أن يقال أنّ الأولوية مطلقا ممنوعة لإمكان العكس أحيانا.

هذا مضافا إلى أنّه لا دوران فيما إذا كانت المندوحة وأمكن استيفاء الغرضين.

ومنها : أنّ الاستقراء يشهد على تقديم جانب النهي على الأمر.

وفيه أوّلا أنّه استقراء غير تام.

وثانيا : أنّه لا دليل على اعتبار الاستقراء.

فالحاصل أنّ دعوى تقدّم النهي على الأمر مطلقا ممنوعة بل يمكن تقديم الأمر عليه فيما إذا كانت مراعاة المصلحة أولى فاللّازم حينئذ هو مراعاة الأولى وهو يختلف بحسب الموارد.

التنبيه السادس : أنّ تعدّد الإضافات كتعدّد العنوانات من جهة كونها من باب التزاحم لا التعارض فكما أنّ تعدّد العنوان يكفي في جواز الاجتماع فكذلك تعدّد الاضافات يوجب جواز الاجتماع لاقتضاء الاضافات المختلفة اختلافها في المصلحة والمفسدة كما يقتضي اختلاف العناوين ذلك وعليه فلا مجال للتفكيك بين تعدّد الاضافات كاكرام العلماء واكرام الفساق وتعدّد العنوانات مثل عنوان الصلاة والغصب وممّا ذكر يظهر أنّ مثل أكرم العلماء ولا تكرم الفساق يكون من باب التزاحم واجتماع الأمر والنهي كما أنّ صلّ ولا تغصب يكون كذلك.

نعم لو لم يكن لأحد الاضافات ملاك كان ذلك من باب التعارض لا التزاحم كما مرّ تفصيل ذلك ، فراجع.

٢٧٣

الفصل الثالث : في أنّ النهي هل يكشف عن

الفساد أو لا؟

وهنا مقدّمات :

المقدّمة الأولى : أنّه قد عرفت في المسألة السابقة بيان الفرق بينها وبين هذه المسألة وحاصله أنّ تمايز المسائل كتمايز العلوم بالموضوعات والمحمولات وهما في المسألتين متغايرتان فإنّ مرجع الموضوع والمحمول في المسألة السابقة إلى أنّ الواحد المعنون بعنوانين هل يعدّ واحدا حقيقيّا أو لا ، والموضوع في هذه المسألة هو أنّ النهي المتعلّق بذات العبادة أو المعاملة هل يقتضي الفساد أو لا ، ومن المعلوم أنّ الموضوع والمحمول في المسألتين متغايران إذ الموضوع في المسألة الأولى هو الواحد المعنون بعنوانين والموضوع في هذه المسألة هو النهي المتعلّق بذات العبادة أو المعاملة والمحمول في الأولى هو أنّه يكون واحدا حقيقيّا وفي الثانية هو أنّه هل يقتضي الفساد أو لا.

ومع امتياز المسألتين بالموضوع والمحمول لا يبقى الإجمال والشبهة حتّى ترفعه الجهة المبحوث عنها في المسألتين إذ الاختلاف بالذاتيّات يوجب التميّز بينهما في المرتبة السابقة على الاختلاف بالجهات المترتّبة والعارضة وممّا ذكر يظهر ما في الكفاية حيث قال : إنّ البحث في هذه المسألة في دلالة النهي على الفساد بخلاف تلك المسألة فإنّ

٢٧٤

البحث فيها في إنّ التعدّد يجدي في رفع غائلة الاجتماع أم لا (١).

فالحقّ إنّ الاختلاف بين المسألتين باختلاف الموضوع والمحمول لا بالجهات العارضة.

وممّا ذكر يظهر أيضا ما في المحاضرات حيث قال : إنّ نقطة الامتياز بين هذه المسألة والمسألة المتقدّمة هي أنّ النزاع في هذه المسألة كبرويّ فإنّ المبحوث عنه فيها إنّما هو ثبوت الملازمة بين النهي عن عبادة وفسادها وعدم ثبوت هذه الملازمة بعد الفراغ عن ثبوت الصغرى وهي تعلّق النهي بالعبادة ، وفي تلك المسألة صغرويّ حيث إنّ المبحوث عنه فيها إنّما هو سراية النهي في مورد الاجتماع والتطابق عن متعلّقه إلى ما ينطبق عليه متعلّق الأمر وعدم سرايته.

وعلى ضوء ذلك فالبحث في تلك المسألة في الحقيقة بحث عن إثبات الصغرى لهذه المسألة حيث إنّها على القول بالامتناع وسراية النهي عن متعلّقه إلى ما ينطبق عليه متعلّق الأمر تكون من إحدى صغريات هذه المسألة ومصاديقها فهذه النقطة الرئيسيّة للفرق بين المسألتين (٢).

وذلك لأنّ النقطة المذكورة أيضا من الجهات المترتّبة على ناحية اختلاف المسألتين في الموضوع والمحمول فكما أنّ الامتياز في ناحية الموضوعات والمحمولات لا يبقي المجال للاعتبار من ناحية الجهات العارضة المذكورة في الكفاية فكذلك لا يبقي المجال للامتياز من ناحية الجهات المترتّبة المذكورة في المحاضرات.

ثمّ إنّ ما أفاده من أنّ نتيجة المسألة الأولى تكون صغرى لهذه المسألة ، بناء على القول بالامتناع وسراية النهي من متعلّقه إلى ما ينطبق عليه متعلّق الأمر ، لا ما إذا قلنا بجواز الاجتماع فإنّ النهي حينئذ لم يتعلّق بالعبادة أصلا حتّى يبحث عن

__________________

(١) الكفاية : ج ١ ص ٢٨٣.

(٢) المحاضرات : ج ٥ ص ٣.

٢٧٥

ملازمته مع الفساد وعدمها.

منظور فيه بعد ما ستعرف أنّ موضوع البحث في المقام هو ما إذا تعلّق النهي بنفس العبادة من دون توسيط أيّ عنوان آخر وإلّا فهو خارج عن محلّ الكلام وسيأتي إن شاء الله تعالى بقيّة الكلام في المقدّمة السابعة.

وأمّا الفرق بين المسألتين بأنّ مورد المسألة السابقة هو العامّان من وجه بخلاف هذه المسألة فإنّ موردها هو العامّ والخاصّ المطلق.

ففيه منع تخصيص المسألة الأولى بالعامّين من وجه إذ يجرى النزاع المتقدّم فيما إذا لم يؤخذ مفهوم العامّ في الخاصّ وإن كانا بحسب المورد العامّ والخاصّ المطلق وعليه فيجري النزاع في مثل قولهم (حرّك ولا تدن إلى موضع كذا) مع إنّ النسبة بينهما بحسب المورد هو العامّ والخاصّ المطلق لتعدّد العنوان وكفايته في المغايرة في الذهن الذي يكون موطن تعلّق الأحكام ، وعليه فلا يصحّ الفرق المذكور المحكيّ عن المحقّق القميّ قدس‌سره ، وقد مرّ شطر من الكلام في توضيح ذلك في ص ٥٨ فراجع.

المقدّمة الثانية : أنّه اختلف أصحابنا الأصوليّون في كون هذه المسألة من مباحث الألفاظ أو المباحث العقليّة مع اتّفاقهم في مسألة الاجتماع على أنّ المسألة عقليّة ، والسبب في ذلك هو اختلاف استدلالات القوم فإنّ جملة منها عقليّة وجملة أخرى لفظيّة ، وبهذا الاعتبار جعل سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره المسألة عقليّة لفظيّة حتّى تناسب استدلالات القوم.

ولكن ينبغي أن يقال علينا أن نجعل المسألة لفظيّة لأنّ الملازمة العقليّة بين حرمة العبادة وانتفاء ملاك الأمر بوجود المفسدة والمرجوحيّة واضحة كما أنّ عدم الملازمة العقليّة بين حرمة المعاملة تكليفا وعدم ترتّب الأثر واضح فلا ينبغي أن يبحث في الواضحات بل ينبغي البحث عن كشف النهي الذي يدلّ على الحرمة عن مرجوحيّة المتعلّق وعدم وجود ملاك الأمر من المصلحة وعدم كشفه.

٢٧٦

ولذلك يكون الأنسب أن يجعل في العنوان لفظ الكشف ويقال هل النهي عن الشيء يكشف عن الفساد أو لا.

وأمّا الاقتضاء بمعناه الفلسفيّ فلا مجال له لعدم التأثير والتأثّر بين لفظ النهي والفساد كما لا يخفى ، وسيأتي إن شاء الله تعالى أنّ الدلالة الالتزاميّة ممنوعة في المقام لفقدان شرطها من كون التلازم ذهنيّا وواضحا.

المقدّمة الثالثة : في تحرير محلّ النزاع

ولا يخفى عليك أنّ محلّ النزاع هو دلالة النواهي المولويّة وعدمها على الفساد لا الإرشاديّة الدالّة على المانعيّة في المعاملات كالنهي عن الغرر ، وفي العبادات كالنهي عن الصلاة في وبر ما لا يؤكل لحمه ، إذ بعد إحراز كون النواهي هي الإرشاديّة إلى المانعيّة فلا خفاء في دلالتها على الفساد لأنّ مقتضى اعتبار عدم وجود شيء في صحّة المعاملة أو العبادة هو عدم شمول أدلّتهما لهما مع وجود الشيء المذكور واختصاصهما بغير صورة وجود الحصّة المنهيّ عنها وهذا ليس إلّا الفساد.

إدراج النواهي التنزيهيّة

ثمّ إنّ النواهي المولويّة هل تختصّ بالتحريميّة أو تعمّ التنزيهيّة ولو بتعميم الملاك ، ذهب في الكفاية إلى الثاني وإن كان ظاهر النواهي المولويّة هي التحريميّة وذلك لعموم ملاك البحث ، إذ سيأتي إن شاء الله تعالى أنّ منشأ اقتضاء الفساد هو كاشفيّة النهي عن المرجوحيّة ومبغوضيّة متعلّق النهي فإنّ مع المبغوضيّة والمرجوحيّة لا يصلح المتعلّق للتقرّب.

وهذا الملاك موجود في النواهي التنزيهيّة أيضا لأنّها تدلّ على مرجوحيّة المتعلّق وهو مع المرجوحيّة لا يصلح للتقرّب ، والكلام فيما إذا تعلّق النهي بذات العبادة لا بالخصوصيّات اللاحقة بذاتها ، ولا إشكال حينئذ في دلالة النواهي على مرجوحيّة ذات العبادة ومبغوضيّتها ، ومن المعلوم أنّه لا يمكن التقرّب بالمبغوض والمرجوح وإن

٢٧٧

كانت المبغوضيّة والمرجوحيّة ناقصة ، هذا بخلاف ما إذا تعلّقت النواهي بالخصوصيّات اللاحقة فإنّ المرجوحيّة والمبغوضيّة ليست حينئذ في ذات العبادة بل في الخصوصيّات اللاحقة بالمصاديق فيمكن التقرّب بذات العبادة لأنّ حالها حال سائر الحصص والأفراد في إفادة الغرض ولكن هذه الصورة خارجة عن محلّ الكلام لأنّ الكلام في النواهي المتعلّقة بذوات العبادات.

ذهب شيخنا الاستاد الأراكي قدس‌سره إلى أنّ الحقّ هو عدم كون التنزيهيّ محلّا للنزاع مستدلّا بأنّ المفروض كون العنوان من حيث الذات مشتملة على المصلحة الوجوبيّة المانعة من النقيض وهذه المصلحة لا تزاحمها إلّا المفسدة التحريميّة المانعة من النقيض أيضا لا المفسدة الكراهيّة الغير المانعة عنه المشوبة بالرخصة في الفعل فإنّ هذه لا يعقل أن تصير مزاحمة للجهة الوجوبيّة ومسقطة لها عن التأثير.

وبعبارة اخرى الجهة الكراهيّة تقتضي كون الفعل خلاف الأولى وهو غير مناف للعباديّة وإنّما المنافي لها كونه معصية ولهذا تراهم يسمّون العبادات التي تعلّق بها النهي التنزيهيّ بالعبادات المكروهة فإنّ معنى ذلك أنّها صحيحة غاية الأمر كونها أقلّ ثوابا ولم يعهد القول بفسادها من أحد حتّى من القائلين بأنّ النهي في العبادات موجب للفساد فهذا دليل على خروج النهي التنزيهيّ من تحت هذا النزاع (١).

ويمكن أن يقال أوّلا إنّ المصلحة الوجوبيّة راجحة فلا يجتمع مع المرجوحيّة الدالّة عليها النهي التنزيهيّ فكما إنّ النهي التحريميّ لا يجتمع مع المصلحة الوجوبيّة فكذلك لا يجتمع النهي التنزيهيّ الكاشف عن المرجوحيّة مع المصلحة الوجوبيّة فلا بدّ من تخصيص المطلقات بغير صورة النواهي التنزيهيّة ولعلّ تسمية العبادات بالمكروهة أو القول بأنّ العبادات المكروهة أقلّ ثوابا تختصّ بما إذا تعلّقت النواهي التنزيهيّة

__________________

(١) اصول الفقه : ج ١ ص ٢٣٨.

٢٧٨

بالخصوصيّات اللاحقة لا بذوات العبادات.

وثانيا : أنّ محلّ الكلام في النواهي التنزيهيّة لا يختصّ بالواجبات المنهيّة بالنهي التنزيهيّ بل يعمّ المستحبّات المنهيّة بالنهي التنزيهيّ ، ومن المعلوم أنّها لا تشتمل على المصلحة الوجوبيّة حتّى يقال لا تزاحمها إلّا المفسدة التحريميّة المانعة من النقيض.

لا يقال : إنّ عموم الملاك لا يكون إلّا بالنسبة إلى العبادات إذ المرجوحيّة لا تجتمع مع المقرّبيّة وهذا بخلاف المعاملات فإنّه لا مانع من اجتماع المرجوحيّة مع ترتّب الأثر ولذا تصحّ المعاملات المكروهة كبيع الأكفان لأنّا نقول كما في تعليقة المحقّق الأصفهاني قدس‌سره بأنّ عدم العموم للمعاملات لا يقتضى التخصيص بالتحريميّ مع العموم بالإضافة إلى العبادات لأنّ التحفّظ على عموم العنوان الساري في جميع الأقسام ممكن بملاحظة النهي مطلقا أي غير مقيّد بمرتبة خاصّة لا ملاحظته بجميع مراتبه حتّى لا يعقل سريانه في جميع موارده من العبادات والمعاملات فتدبّر (١).

وبالجملة فلا وجه لتخصيص النزاع بالنواهي التحريميّة لما عرفت من تعميم الملاك بالنسبة إلى النواهي التنزيهيّة أيضا ولو في العبادات.

خروج النواهي الغيريّة

ثمّ إنه ربّما يعمّم النزاع بالنسبة إلى النواهي الغيريّة كما ذهب إليه في الكفاية بدعوى تعميم الملاك أيضا من جهة دلالتها على الحرمة وإن لم تكن موجبة لاستحقاق العقوبة على مخالفتها ، إذ الحرمة مساوقة للمرجوحيّة ومن المعلوم أنّها لا تجتمع مع العبادة لأنّها مساوقة للراجحيّة ومقتضى تقديم النهي على الأمر هو تخصيص مطلقات العبادة بغير صورة النواهي وهذا ليس إلّا معنى الفساد.

أورد عليه أوّلا بأنّ التكاليف المقدّميّة على فرض تسليم المقدّميّة ووجود

__________________

(١) نهاية الدراية : ج ٢ ص ١٤١.

٢٧٩

التكاليف شرعا خارجة عن محلّ النزاع لأنّها ليست متعلّقة بذات العبادة بل هي متعلّقة بها بعنوان غير عنوان ذات العبادة وهي مقدّميّتها لترك التكاليف النفسيّة مع أنّ الكلام في النواهي المتعلّقة بذاتها.

وثانيا : بأنّ التكاليف المقدّميّة لا توجب مخالفتها العقوبة والبعد استقلالا لأنّهما مترتّبان على مخالفة التكاليف النفسية وعليه فالنواهي الغيريّة وإن قلنا بعدم اجتماعها مع الأمر بالعبادة إلّا أنّها بمجرّدها لا توجب سقوط العبادة عن صلاحيّتها للتقرّب إذ لا تكون مخالفتها عصيانا ولا مبعّدة مستقلّا.

لا يقال إنّ مقدّميّة العبادة لترك ذي المقدّمة الذي هو مبعّد يكفي في المنع عن التقرّب بها كما ذهب إليه المحقّق الأصفهاني (١) ، بل وشيخنا الاستاذ الأراكي قدس‌سره حيث قال : لا شكّ في اتّصاف المقدّميّة باللابدّيّة العقليّة إذ معنى المقدّميّة ذلك فيكون ترك ذيها مسبّبا عن تركها فيكون ترتّب العقاب والبعد على ترك ذي المقدّمة معلولا في الحقيقة لترك المقدّمة وما هو علّة لترتّب العقاب والبعد ولو على غيره يكون اختياره قبيحا لا محالة فيكون الحسن الفاعليّ المعتبر في العبادة منتفيا فيه فلهذا يمتنع عباديّة الفعل الذي يكون تركه مقدّمة لواجب.

ومن هنا ظهر أنّ جريان ملاك النزاع في المقدّمة التي تكون علّة للحرام غير مبنيّ على القول بوجوب مقدّمة الواجب بل يجري ولو على القول بعدم وجوبها وذلك لما عرفت من كفاية المقدّميّة واللابدّيّة العقليّة في ذلك ، فمن قال في مبحث الضدّ بعدم الاقتضاء لا لمنع مقدّميّة ترك الضدّ لفعل ضدّه بل لمنع الوجوب مع تسليم المقدّميّة كان له أن يقول بفساد الضدّ لو كان عبادة فيشترك هذا القول مع القول بالاقتضاء بنتيجته (٢).

__________________

(١) نهاية الدراية : ج ٢ ص ١٤٢.

(٢) اصول الفقه : ج ١ ص ٢٣٩.

٢٨٠