عمدة الأصول - ج ٣

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: كيميا
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

الخلاصة :

الفصل الخامس في مفهوم الحصر

ولا يذهب عليك أنّ حصر حكم في شيء يدلّ بمفهومه على نفي الحكم المذكور عن غيره ولا كلام في ذلك وإنّما الكلام في موارد إفادة الحصر وهي متعدّدة.

منها كلمة الاستثناء نحو «إلّا» إذا لم تستعمل بمعنى الصفة أي الغير وإلّا فلا تدلّ على الاستثناء بل هي وصف فيدخل في مفهوم الوصف وكيف كان فالاستثناء في الإيجاب كقولك جاءني القوم إلّا زيدا يدلّ على اختصاص الإيجاب بالمستثنى منه والنفي بالمستثنى وعليه فغير الجائي منحصر في زيد.

والاستثناء في النفي كقولك ما جاءني القوم إلّا زيد يدلّ على اختصاص النفي بالمستثنى منه والإيجاب بالمستثنى وعليه فالجائي منحصر في زيد والشاهد على ذلك هو التبادر عند أهل اللسان.

ودعوى أنّ المستفاد من قولك ما جاءني إلّا زيد ليس إلّا عدم دخول زيد في الحكم المذكور وأمّا حكمه فيحتمل أن يكون موافقا أو مخالفا وشيء منهما غير مستفاد من الكلام المذكور.

مندفعة بوضوح دلالة الاستثناء على الحكمين في مثل ليس لزيد على دراهم إلّا درهم أحدهما نفي الدراهم وثانيهما إثبات الدراهم ولذا يحكم العقلاء باشتغال ذمّته بالدرهم بعد إقراره بذلك وليس ذلك إلّا لدلالة الاستثناء وعليه فدعوى إهمال الاستثناء بالنسبة إلى حكم المستثنى غير مسموعة.

نعم ربّما تستعمل الجملة الاستثنائيّة مثل لا صلاة إلّا بطهور في مقام الإرشاد إلى اشتراط الصلاة بالطهارة وليست الجملة حينئذ بعدد الإخبار عن العقد السلبي والايجابي وفي مثله لا مفهوم للاستثناء وأين هذا من مثل ما جاءني القوم إلّا زيد.

٥٢١

ويشهد على تبادر الاختصاص والحصر من الاستثناء قبول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إسلام من قال كلمة لا إله إلّا الله إذ ليس هذا إلّا لدلالة هذه الكلمة على التوحيد والإخلاص ولو كان الاستثناء مهملا من ناحية حكم المستثنى فلا وجه للقبول المذكور كما لا يخفى.

ثمّ وقع الكلام استطرادا في أنّ كلمة التوحيد تفيد توحيد الذات أو توحيد المعبود ذهب الشيخ الأعظم إلى الأوّل وتبعه المحقّق الخراساني قدس‌سره وقال في الكفاية إنّ المراد من الإله هو واجب الوجود ونفي ثبوته ووجوده في الخارج وإثبات فرد منه فيه وهو الله يدلّ بالملازمة البيّنة على امتناع تحقّقه في ضمن غيره تبارك وتعالى ضرورة أنّه لو لم يكن ممتنعا لوجد لكونه من أفراد الواجب.

وأورد عليه بأنّ هذا المعنى بعيد عن أذهان العامّة هذا مضافا إلى أنّ العرب في صدر الإسلام لم يكونوا مشركين في أصل واجب الوجود بل كانوا مشركين في العبادة فكلمة الإخلاص ردع لهم في الشرك في العبادة فقبول كلمة التوحيد إنّما هو لأجل نفي الآلهة (أي المعبودين) لا إثبات وجود الباري تعالى فإنّه كان مفروغا عنه.

على أنّ لفظة الإله تطلق على المعبود بحسب اللغة لا واجب الوجود فالمناسب أن يراد منها في كلمة التوحيد المعبود بالحق أي لا معبود بالحقّ إلّا الله.

ويمكن الجواب بأنّ ارتكاز وحدة الخالق وواجب الوجود غير بعيد عن أذهان الآحاد ولذا متى سئل المشركون عن خالق السموات والأرض أجابوا بأنّه هو الله ومع وجود هذا الارتكاز لا مانع من إرادة التوحيد الذاتي.

ودعوى أنّ العرب كانوا مشركين في العبادة لا في الذات فلا حاجة إلى التوحيد الذاتي كما ترى إذ هذه الكلمة ليست مخصوصة بجماعة المشركين المعاصرين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين اعتقدوا بوجود الخالق الأصلي بل هي لجميع الطوائف والملل ولو لم يعتقدوا بوجود الخالق أصلا كالمادّيين والملحدين فلا وجه لتخصيص هذه الكلمة بتلك

٥٢٢

الطائفة.

وأمّا استعمال كلمة الإله في واجب الوجود في المحاورات فهو موجود ولعلّ منه لو كان فيهما آلهة غير الله لفسدتا.

هذا مضافا إلى إمكان أنّ يقال أن الإله بمعنى المستحقّ للعبادة ذاتا وهو مساو لواجب الوجود ويدلّ على كلا الأمرين أي التوحيد الذاتي والتوحيد في العبادة لأنّ الإله بمعنى المستحقّ للعبادة وإن لم يعبد بالفعل راجع الى الصفات الذاتيّة الراجعة إلى نفس الذات فإنّ استحقاق العبادة من أجل المبدئيّة والفياضيّة فيستحقّ العلّة انقياد المعلول لها وتخضّعه لها فنفي فعليّة هذا المعنى عن غيره تعالى لعدم كونه بذاته مبدأ مقتضيا لذلك ويستحيل أن ينقلب عمّا هو عليه فينحصر المستحقّ للعبادة ذاتا في الله تعالى فتأمّل.

ومنها كلمة «إنّما» وهي على المعروف تكون من أداة الحصر مثل كلمة «إلّا» فإذا استعملت في حصر الحكم أو الصفة في موضوع معين دلّت بالملازمة البيّنة على انتفاء الحكم أو الصفة عن غير ذلك الموضوع.

ويشهد له التبادر عند أهل اللسان مضافا إلى تصريح أهل اللغة ودعوى عدم الخلاف بل الإجماع عليه كما عليه أئمّة التفسير.

ويشكل ذلك بأنّه لا سبيل لنا إلى ذلك فإنّ موارد استعمال هذه اللفظة مختلفة ولا يعلم بما هو مرادف لها في عرفنا حتى يستكشف منها ما هو المتبادر منها.

وأمّا النقل المذكور فاعتباره موقوف على اعتبار قول اللغوي في تشخيص الأوضاع وهو غير ثابت هذا مع احتمال أن يكون ذلك من اجتهاداتهم وتمسّك العلماء بمثل حديث إنّما الأعمال بالنيّات لفساد العمل بلا نيّة لا يجدي لأنّه لا يزيد عن مجرّد الاستعمال.

وأجيب عنه بأنّ السبيل إلى التبادر لا ينحصر بالانسباق إلى أذهاننا فإنّ

٥٢٣

الانسباق إلى أذهان أهل اللسان كالأعشى والمبرّد أيضا سبيل هذا مضافا إلى انسباق ذلك إلى أذهان الذين سكنوا البلاد العربيّة سنوات متمادية كالأزهرى وغيره ويكفي لإثبات التبادر عند أهل اللسان ما حكاه المفسّرون من أهل الأدب العربي من الأقوال والأشعار فإنّها توجب الاطمئنان بذلك.

قال في مجمع البيان لفظة «إنّما» مخصّصة لما أثبت بعده نافية لما لم يثبت يقول القائل لغيره إنّما لك عندي درهم فيكون مثل أن يقول إنه ليس لك عندي إلّا درهم وقالوا إنّما السخاء حاتم يريدون نفي السخاء عن غيره والتقدير إنّما السخاء سخاء حاتم فحذف المضاف والمفهوم من قول القائل إنّما أكلت رغيفا وإنّما لقيت اليوم زيدا نفي أكل أكثر من رغيف ونفي لقاء غير زيد وقال الأعشى :

ولست بالأكثر منهم حصى

وإنّما العزّة للكاثر

أراد نفي العزّة عمّن ليس بكاثر (١) والأعشى أحد المعروفين من شعراء الجاهليّة.

وقال الزمخشري في ذيل قوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) ويعني إنّما اختصاصهم بالموالاة (٢).

وأيضا تاج العروس والصحاح ظاهران في أنّ الحصر مما يفيده كلمة «إنّما» عند ابناء المحاورة وحمله على اجتهاداتهم بعيد جدّا.

ودعوى أنّ قوله تعالى : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ) مع أنّه لا شكّ في أنّ الحياة الدنيا لها أمثال أخرى يدلّ على عدم إفادة إنّما للحصر.

مندفعة أوّلا بأنّ الاستعمال بالقرينة في غير المعنى الموضوع له لا ينافي تبادر

__________________

(١) مجمع البيان : ٣ / ٢٠٩.

(٢) الكشّاف : ج ١ ص ٦٢٣.

٥٢٤

الحصر الموضوع له من الكلمة.

وثانيا بأنّ «إنّما» استعملت في الآية المذكورة في الحصر الإضافي والمقصود منه هو نفي ما توهّمه أهل الدنيا بالنسبة إلى الدنيا ومن المعلوم أنّ إفادة الحصر الإضافي حاكية عن كون الكلمة موضوعة للحصر الحقيقي.

ومنها كلمة «بل» الإضرابيّة وهي على أنحاء لأنّها إمّا مستعملة في مقام إثبات الحكم لشيء آخر زائدا على الموضوع السابق مثل جاء غلام زيد بل زيد.

وإمّا مستعملة للترقّي مثل يجوز صلاة الجمعة بل تجب.

ولا تفيد الصورتان المذكورتان للحصر.

وإمّا مستعملة لإبطال السابق وإثبات اللاحق ففي هذه الصورة إمّا أتي بها غفلة كقوله اشتريت دارا بل دكّانا أو توطئة وتأكيدا كقوله قدم ركبان الحجّاج بل المشاة وعلى كلّ التقديرين لا يدلّ على الحصر وإمّا أتى بها لردع السابق وإثبات اللاحق جدّا ولا إشكال في أنّ القسم الأخير يفيد الحصر ويمكن أن يقال أنّ بل الإضرابيّة ظاهرة في هذا القسم لأنّ احتمال الغفلة وسبق اللسان مندفع بأصالة عدم السهو والخطأ كما أنّ احتمال التوطئة والتأكيد مندفع بأصالة الجدّ فما لم تقم قرينة خاصّة على الأمور المذكورة تكون حكمة «بل» الإضرابيّة ظاهرة في القسم الأخير من إبطال ما سبق وتخصيص الحكم باللاحق وهذا التخصيص يفيد الحصر.

والإنصاف أنّ إفادة القسم الأخير للحصر تتوقّف على إحراز كون المتكلّم في مقام تخصيص سنخ الحكم بمدخول «بل» وهو غير ثابت.

ومنها إفادة الحصر من ناحية تعريف المسند إليه بلام الجنس مع حمل المسند الأخصّ عليه كقوله عزوجل : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

قال في الكفاية ما محصّله أنّ التحقيق أنّه لا يفيد الحصر لأنّ الأصل في اللام وإن كان أنّه لتعريف الجنس ولكنّ الجنس بنفسه لا يفيد الحصر إذ إثبات المحمول

٥٢٥

للطبيعة لا يقتضي سوى اتّحادها به في الجملة كما أنّ الأصل في الحمل هو الحمل المتعارف الذي ملاكه هو مجرّد الاتّحاد في الوجود لا حصر المسند إليه في المسند.

نعم لو قامت قرينة على أنّ اللام للاستغراق أو أنّ مدخوله أخذ بنحو الإرسال والإطلاق أو أنّ الحمل كان ذاتيّا فحمل المسند على المسند إليه المذكور يفيد الحصر ولعلّه من ذلك قوله عزوجل : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) فإنّ مقام الشكر قرينة على أنّ المراد هو انحصار جنس الحمد به جلّ وعلا.

ويمكن أن يقال لا حاجة في إفادة الحصر إلى إثبات الاستغراق أو الإرسال بل يكفى لام الجنس لذلك إذا كان المسند إليه أعمّ من المسند ولو من وجه إذ ظاهر المبتدأ والخبر أنّ المبتدأ لا يوجد بدون الخبر فإذا اكتفى بواحد من الأخبار دون غيره يفيد لام الجنس الحصر وعليه فإن كان المسند إليه أعمّ من المسند كما إذا كان المراد منه الجنس لا ينفكّ الجنس عن المسند ومعنى عدم الانفكاك هو حصره فيه فالحصر يكون من لوازم حمل الأخصّ ولو من وجه على الأعمّ ولو كان الحمل حملا شايعا صناعيّا ثمّ إنّ الحصر المستفاد من قوله عزوجل : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) يكون من ناحية حصر الجنس الأعمّ في الأخصّ لا من ناحية قرينة المقام ثمّ إنّه يحمل الحصر على الحقيقة فيما إذا أمكن كما في مثل قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) وعلى الحصر الادّعائي فيما إذا لم يمكن الحمل على الحقيقة كقولنا الإنسان زيد.

وبالجملة لا فرق فيما ذكر بين أن يكون النسبة بين المسند إليه والمسند هي العموم والخصوص أو هي العموم من وجه فقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأئمّة من قريش يفيد الحصر لحمل الأخصّ من وجه على الأعمّ من وجه أي جنس الائمّة في الإسلام منحصر بالقريش وليس من غيرهم.

وعليه فلا وجه لإنكار إفادة لام الجنس للحصر مع حمل الأخصّ عليه ؛ فلا تغفل.

٥٢٦

الفصل السادس : في مفهوم اللقب والعدد

أمّا الأوّل أعني اللقب فالمراد منه هو مطلق ما يعبّر عن الشيء سواء كان اسما نحو زيد قائم أم كنية نحو أبى ذر وابن أبي عمير أم لقبا اصطلاحيّا كالنوفليّ وكيف كان فقد قال في مطارح الأنظار : الحقّ كما عليه أهل الحقّ وجماعة من مخالفينا أنّه لا مفهوم في اللقب والمراد به ما يجعل أحد أركان الكلام كالفاعل والمفعول والمبتدأ والخبر وغير ذلك وذهب جماعة منهم الدقّاق والصيرفيّ وأصحاب أحمد إلى ثبوت المفهوم فيه.

لنا انتفاء الدلالات الثلاث يكشف عن أنّه لا دلالة في قولك زيد موجود على أنّه تعالى ليس بموجود وقولك موسى رسول الله على أنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس برسول الله وقد اشتهر على الألسن أنّ إثبات شيء لا ينفي الحكم عن الغير ولا محلّ له إلّا في أمثال المقام.

واحتجّ القائل بالمفهوم بلزوم العراء عن الفائدة لولاه وبأن قول القائل لا أنا بزان ولا أختي زانية رمى المخاطب ولاخته بالزنا ولذلك أوجبوا عليه الحدّ.

والجواب عن الأوّل بمنع الملازمة وعن الثاني بأنّ ذلك بواسطة قرينة المقام (١).

وبالجملة بعد ما عرفت من دخول الوصف غير المعتمد في باب الوصف

__________________

(١) مطارح الأنظار : ص ١٨٩ ـ ١٩٠.

٥٢٧

وخروجه عن اللقب يكون الكلام في المقام ممحّضا في الحكم المتعلّق باللقب ومن المعلوم أنّ تعلّق الحكم باللقب يكون من قبيل تعلّق الحكم الشخصيّ بموضوع خاصّ وقضيّة خارجيّة وليس من قبيل الحكم المتعلّق بموضوع بواسطة الوصف.

وعليه فانتفاء الحكم الشخصيّ بانتفاء الموضوع عقليّ إذ كلّ حكم متقوّم بموضوعه وهو ليس بمفهوم يدلّ عليه الكلام كما لا يخفى ولذا قال في الكفاية لا دلالة للقب على المفهوم وانتفاء سنخ الحكم عن غير مورده أصلا وقد عرفت أنّ انتفاء شخص الحكم ليس بمفهوم (١).

نعم لو كان المتكلّم في مقام بيان تعديد موارد الحكم ومصاديقه ومع ذلك اقتصر على موضوع خاصّ دلّ الكلام على انتفاء الحكم عن غير الموضوع بسبب مقدّمات الإطلاق فإنّ قضيّة الإطلاق هنا نفي الموضوعيّة عن غير المذكور فتكون النتيجة نفي سنخ الحكم عن سائر الموضوعات ولكنّه مختصّ بما إذا كان المتكلّم في مقام بيان تعديد موارد الحكم المذكور لا حكم المورد والغالب هو أنّه يكون في مقام حكم المورد.

وممّا ذكر يظهر ما في تحريرات في الأصول حيث قال : ربما يمكن أن يقال : إنّ التمسّك الذي تحرّر فيما سبق في مفهوم الشرط بمقدّمات الإطلاق يقتضي المفهوم هنا ضرورة أنّ في صورة كون اللقب موضع الحكم أو العدد يشكّ تارة في أنّه تمام الموضوع أو جزؤه فالإطلاق ينفي الثاني ويثبت به أنّه تمام الموضوع وأخرى يشكّ في موضوعيّة شيء آخر لذلك الحكم وعدمه وقضيّة الإطلاق هنا أيضا نفي الموضوعيّة عن ذلك الشيء فتكون النتيجة نفي سنخ الحكم عن سائر الموضوعات وما نعني بالمفهوم إلّا ذلك (٢).

__________________

(١) الكفاية : ج ١ ص ٣٣٠.

(٢) تحريرات في الأصول : ج ٥ ص ١٨٩.

٥٢٨

لما عرفت من أنّ الأخذ بالمقدّمات فيما إذا كان المتكلّم في مقام بيان تعديد موارد الحكم لا حكم المورد وعليه فلو شكّ في حكم سائر الموارد ولم يقم فيها دليل على ثبوت الحكم يجري فيه أصالة البراءة إذ لا مفهوم للكلام كما لا يخفى.

وأمّا الثاني أعني العدد

فقد قال الشيخ الأعظم قدس‌سره : الأقوى وفاقا لجمع كثير من أصحابنا ومخالفينا أنّه لا مفهوم في العدد بل وادّعى بعضهم وفاق أصحابنا فيه.

وتبعه في الكفاية حيث قال : إنّ قضيّة التقييد بالعدد منطوقا عدم جواز الاقتصار على ما دونه لأنّه ليس بذلك الخاصّ والمقيّد وأمّا الزيادة فكالنقيصة إذا كان التقييد به للتحديد به بالإضافة إلى كلا طرفيه نعم لو كان لمجرّد التحديد بالنظر إلى طرفه الأقلّ لما كان في الزيادة ضير أصلا بل ربما كان فيها فضيلة وزيادة كما لا يخفى.

وكيف كان فليس عدم الاجتزاء بغيره من جهة دلالته على المفهوم بل إنّما يكون لأجل عدم الموافقة مع ما أخذ في المنطوق كما هو المعلوم (١).

وعليه فلا ينافي مع دلالة دليل آخر على الاجتزاء بغيره إذ لا مفهوم كما لا يخفى.

ولا يخفى عليك أنّ المتكلّم إمّا لا يكون في مقام تحديد سنخ الحكم لا من طرف الأقلّ ولا من طرف الأكثر فلا دلالة للعدد على المفهوم لا من طرف الأقلّ ولا من طرف الأكثر فإذا قيل صم ثلاثة أيّام من كلّ شهر لا يدلّ على عدم استحباب صوم غير الثلاثة الأيّام وإنّما يدلّ على اختصاص الحكم المذكور في هذه القضيّة بثلاثة مذكورة فلا يعارض ما دلّ على استحباب غيرها لأنّ غير المذكور في هذه القضيّة مسكوت عنه فيها إذ هو خارج عن تحت الأمر المذكور في هذه القضيّة وانتفاء هذا

__________________

(١) الكفاية : ج ١ ص ٣٣١.

٥٢٩

الحكم بانتفاء الثلاثة ليس من باب المفهوم حتّى ينافي استحباب غير الثلاثة بل هو من باب حكم العقل بعدم الحكم الشخصيّ بعدم موضوعه وعليه فمجرّد العدد لا دلالة له على المفهوم لا من ناحية النقيصة ولا من ناحية الزيادة فلا ينافي ما دلّ على حكمهما.

فكما أنّ القضيّة ساكتة بالنسبة إلى حكم النقيصة فكذلك تكون بالنسبة إلى الزيادة لوحدة الملاك وهو أنّ النقيصة كالزيادة خارجة عن حدود الموضوع المذكور في القضيّة الشخصيّة فلا ينافي ثبوت الحكم في طرف الزيادة كالنقيصة بدليل آخر لتعدّد المطلوب كما لا يخفى.

وإمّا يكون المتكلّم في مقام تحديد سنخ الحكم من ناحية الأقلّ فيكون العدد مأخوذا من جهة أنّه أقلّ عدد يقع تحت الحكم عند كون الحكم للأعمّ منه وممّا زاد عليه كالعشرة ، في الإقامة للمسافر فالموضوع أعمّ من العشرة وما زاد عليها ولكن يدلّ بالمفهوم على عدم جواز الأقلّ لأنّه في مقام التحديد بالنسبة إليه.

وأمّا يكون المتكلّم في مقام تحديد سنخ الحكم من ناحية الأكثر فيكون العدد مأخوذا من جهة أنّه أكثر عدد يقع تحت الحكم عند كون الحكم له وما دونه كتحديد أكثر الحيض بالعشرة فيدلّ بالمفهوم على أنّ الزائد على العشرة ليس بحيض.

وإمّا يكون المتكلّم في مقام التحديد من الطرفين فيكون العدد مأخوذا من ناحيتين فيدلّ العدد بالمفهوم على خروج النقيصة والزيادة عن الموضوع مثل ما ورد في عدد ركعات الصلوات فإنّه يدلّ على خروج الأقلّ والأكثر لأنّه في مقام التحديد وبالجملة إذا كان المتكلّم في مقام التحديد فدلالة العدد على المفهوم واضحة ولا إنكار فيه ولكنّه مختصّ بما إذا قامت القرينة على أنّه في مقام تحديد سنخ الحكم وإلّا فمجرّد العدد من دون إحراز كونه في هذا المقام لا يدلّ بالمفهوم على نفي سنخ الحكم عن غير المذكور وإن دلّ على عدم الاجتزاء بغير العدد المذكور من أجل عدم الموافقة مع ما

٥٣٠

أخذ في المنطوق.

ثمّ إنّه إذا شكّ في أنّ العدد مأخوذ بنحو لا بشرط أو بنحو بشرط لا؟ أمكن القول بالأوّل لأنّ أخذ العدد بنحو بشرط لا يحتاج إلى مئونة زائدة ومقتضى الإطلاق هو عدمه وعليه فلا يكون الإتيان بالزائد مضرّا في امتثال العدد المذكور في القضيّة.

وإن لم تكن للقضيّة إطلاق بل تكون مهملة دخلت المسألة في الأقلّ والأكثر الارتباطيين لأنّ الشكّ في أنّ المطلوب هو العدد اللابشرط عن الأكثر أو العدد بقيد عدم الأكثر فيبتني على الأصل في تلك المسألة من البراءة أو الاحتياط.

ربما قيل أنّ الظاهر كون ذلك العدد تمام الموضوع ومأخوذا بشرط لا فتكون الزيادة مضافا إلى عدم وجوبها مضرّة بالواجب وربما تعدّ محرّمة فينتفي سنخ الحكم ويثبت ضدّه فافهم واغتنم (١).

وفيه ما لا يخفى فإنّ دعوى ظهور العدد في كونه مأخوذا بشرط لا مع أنّ الغالب كما في نهاية النهاية هو أخذ أقلّ عدد يجزي تحت الحكم عند كون الحكم للأعمّ منه وممّا زاد عليه (٢) غير مسموعة هذا مضافا إلى أنّه لا وجه لدلالة العدد على عدم وجوب غيره ما لم يكن المتكلّم في مقام تحديد سنخ الحكم ودلالة المنطوق على عدم الاجتزاء بغيره لا ينافي الاجتزاء بدليل آخر لأنّ الدلالة المذكورة من باب حكم العقل بعدم الحكم الشخصيّ بعدم موضوعه فافهم واغتنم.

__________________

(١) تحريرات في الأصول : ج ٥ ص ١٩٠.

(٢) نهاية النهاية : ج ١ ص ٢٧٣.

٥٣١

الخلاصة :

الفصل السادس في مفهوم اللقب والعدد

أمّا الأوّل وهو اللقب فلا مفهوم له إذ إثبات حكم لموضوع لا ينفي سنخ الحكم عن غيره ودعوى أنّه لو لا المفهوم لزم العراء عن الفائدة ممنوعة لمدخليّته في شخص الحكم ولذا يتقوّم شخص الحكم به وينتفي بانتفائه عقلا.

وربّما يستدلّ له بأنّ قول القائل لا أنا بزان ولا أختي زانية رمي المخاطب ولأخته بالزنا ولذلك أوجبوا عليه حدّ القذف وفيه أنّه إن صحّ ذلك فهو بواسطة قرينة المقام وهو خارج عن محلّ الكلام وبالجملة قوله زيد موجود لا يدلّ على أنّ عمروا ليس بموجود.

وعليه فلا دلالة للقب على المفهوم وانتفاء سنخ الحكم عن غير مورده وأمّا انتفاء شخص الحكم بانتفاء موضوعه فليس بمفهوم.

نعم لو كان المتكلّم في مقام تعديد الموجودين واكتفى بموضوع خاصّ.

وقال مثلا زيد موجود دلّ الكلام المذكور على انتفاء الحكم عن غير الموضوع المذكور بسبب مقدّمات الإطلاق فتكون النتيجة نفي سنخ الحكم عن سائر الموضوعات ولكنّ الغالب أنّه في مقام حكم المورد لا سائر الموارد كما لا يخفى.

ثمّ إنّ المراد من اللقب هو مطلق ما يعبّر عن الشيء سواء كان اسما له أو كنية له أو لقبا اصطلاحيّا وأمّا الوصف غير المعتمد فقد مرّ أنّه ملحق بالوصف المعتمد وخارج عن اللقب فلا تغفل.

وأمّا الثاني أعني العدد فإن لم يكن المتكلّم في مقام تحديد سنخ الحكم لا من طرف الأقلّ ولا من طرف الأكثر فلا دلالة للعدد على المفهوم لا من طرف الأقلّ ولا

٥٣٢

من طرف الأكثر فمثل قوله صم ثلاثة أيّام من كلّ شهر لا يدلّ على عدم استحباب غيرها من الأقلّ أو الأكثر وإنّما يدلّ على اختصاص الحكم المذكور في هذه القضيّة بالثلاثة وعليه فلا يعارض مع ما دلّ على استحباب غيرها لسكوته عنه.

وعليه فمجرّد العدد بما هو العدد لا دلالة له على المفهوم ونفي سنخ الحكم لا من ناحية النقيصة ولا من ناحية الزيادة لأنّهما خارجتان عن حدود موضوع الدليل فلا ينافي ثبوت الحكم لهما بدليل آخر لتعدّد المطلوب.

نعم إذا كان المتكلّم في مقام البيان وتحديد سنخ الحكم من ناحية الأقلّ كالعشرة في الإقامة أو من ناحية الزيادة كالعشرة في الحيض أو من ناحيتين كعدد الركعات في الصلوات فلا إشكال في دلالة العدد على المفهوم ونفي سنخ الحكم ولكنّه مختصّ بما إذا أحرز أنّ المتكلّم في مقام البيان من ناحية أو من النواحي المذكورة.

ثمّ أنّه لو شكّ في أنّ العدد مأخوذ بنحو «لا بشرط» أو «بشرط لا» أمكن القول بالأوّل بمقدّمات الحكمة لأنّ أخذ العدد بنحو «بشرط لا» يحتاج إلى مئونة زائدة وعليه فلا يكون الإتيان بالزيادة مضرّا بامتثال العدد.

٥٣٣

الفصل السابع : في مفهوم العلّة والحكمة المنصوصتين

يقع الكلام في مقامين :

المقام الأوّل : في العلّة المنصوصة

ولا يخفى عليك أنّ العلّة بمنطوقها معمّمة وبمفهومها مخصّصة وتوضيح ذلك أنّ مثل قولهم لا تأكل الرمّان لأنّه حامض ظاهر في أنّ الحموضة علّة للحكم المذكور وهو المنع عن أكل الرمّان وإرجاع التعليل إلى بيان قيود الموضوع خلاف الظاهر ولا موجب له ما لم تقم قرينة عليه.

ثمّ إنّ مقتضى عدم تقييد الحموضة بشيء آخر هو أنّها بخصوصها من دون ضميمة شيء آخر تكون علّة للمنع المذكور فهي علّة مستقلّة لا جزء العلّة.

كما أنّ مقتضى عدم تقييد الحموضة بحموضة المورد في المنطوق هو أنّ الحموضة في كلّ مورد تكون موجبة للمنع والنهي ولذا يتعدّى عن الرّمان إلى كلّ حامض ويحكم بحرمته فمن هذه الجهة توصف العلّة بأنّها معمّمة وبعبارة أخرى لأنّه حامض في قوّة تعليل التحريم بكون الرمّان من مصاديق الحامض والحامض محرّم وهو كبرى كلّيّة تدلّ على تعميم الحكم ولكنّ هذا التعميم يكون بمناسبة الحكم والموضوع في دائرة المأكولات فلا يتعدّى عن الأكل إلى المسّ أو الحمل ونحوهما من الأمور.

ثمّ إنّ كون المتكلّم في مقام بيان العلّة واكتفائه بذكر خصوص الحموضة يقتضي بمقدّمات الحكمة أنّ العلّة الوحيدة لحرمة الرمّان هي الحموضة لا غير وعليه فالعلّة المذكورة من جهة دلالتها على انحصار العلّة فيها تخصّص إطلاق المنع عن أكل الرمّان

٥٣٤

بالرمّان الحامض فتدلّ العلّة بمفهومها على جواز أكل الرمّان غير الحامض ولذلك توصف العلّة الوحيدة بأنّها مخصّصة وهذا واضح ومستفاد من أداة التعليل كلام التعليل وفاء التعليل (١) وكي التعليل ولكيلا ونحوها لا من كلّ تعليل ولو كان مستفادا من القضيّة الشرطيّة فإنّه مختصّ بموضوع القضيّة إذ اللازم في مفهوم الشرط ونحوه حفظ الموضوع.

ولذا قال شيخنا الأستاذ الأراكيّ قدس‌سره إنّا ولو ساعدنا المشهور القائلين بدلالة الجملة الشرطيّة على العلّيّة التامّة لكن نقول إنّ العلّيّة هنا تكون للحكم بالنسبة إلى الموضوع المذكور في نفس هذه القضيّة بمعنى أنّ وجود تالي الأداة علّة لترتّب الحكم على هذا الموضوع وعدمه علّة لانتفاء سنخ الحكم عن هذا الموضوع من غير تعرّض لحال موضوع آخر أصلا فالعلّيّة هنا ليس على نحو العلّيّة المستفادة من اللام ففرق إذن بين قولنا الخمر حرام لأنّه مسكر وقولنا الخمر حرام إذا كان مسكرا إذ مفاد الأوّل أنّ ميزان الحرمة هو الإسكار في أيّ موضوع كان ومفاد الثاني أنّ وصف الإسكار متى تحقّق في موضوع الخمر يوجب ترتّب الحرمة عليه ومتى لم يتحقّق فيه يوجب انتفائها عنه من دون تعرّض لحال غير الخمر (٢).

نعم يمكن التعدّيّ بإلغاء الخصوصيّة فيما إذا أحرز عدم مدخليّة الموضوع المذكور في تالي الأداة ولكنّه غير مدلول التعليل.

ثمّ إنّ مقتضى كون العلّة مخصّصة هو نفي الحكم عن الموضوع فيما إذا كان خاليا عن العلّة وحينئذ فإن ورد دليل على إثبات الحكم فيه يقع التعارض بينهما وحيث إنّ

__________________

(١) كقول سيّد الشهداء الامام الحسين عليه‌السلام يا هذا كفّ عن الغيبة فإنّها إدام كلاب النار فإنّ الفاء في قوله فإنّها إدام كلاب النار فاء التعليل بخلاف فاء الترتيب فإنّه لا يفيد التعليل كقوله عليه‌السلام بسم الله الرحمن الرحيم فإنّه من طلب رضا الله بسخط الناس كفاه الله أمور الناس.

(٢) كتاب الطهارة : ج ١ ص ٩ ـ ١٠.

٥٣٥

التعارض بينهما يكون تعارضا تباينيّا يندرجان تحت أخبار العلاجيّة فيحكم بتقدّم ذي المرجّح فيحمل العلّة على الحكمة إن كان الترجيح مع مقابلها وبالتخيير عند عدم المرجّح مثلا إذا ورد بعد النهي عن شرب الخمر بمثل قوله عليه‌السلام لا تشرب الخمر لأنّه مسكر «ما كان كثيره يسكر فقليله حرام ولو لم يكن مسكرا» يقع التعارض بينهما لأنّ النسبة بين التعليل وبين الدليل الوارد هي التباين ضرورة أنّ مفاد منطوق ما كان كثيره يسكر فقليله حرام هو حرمة ما كان كثيره يسكر ومقتضاه أنّ القليل مع عدم كونه بمسكر فهو حرام.

وقضيّة مفهوم العلّة حلّيّة كلّ ما ليس بمسكر لأنّ ذلك مقتضى انحصار علّة الحرمة في الإسكار وعليه فالتعارض يوجب اندراجهما تحت أخبار العلاجيّة ذهب بعض إلى تقدّم مفهوم التعليل على المنطوق بدعوى أنّه لو كان نفس كونه مفهوما سببا لتأخّره تلزم اللغويّة فلا بدّ وأن يكون المرجّح أمورا أخرى حتّى يتقدّم المفهوم أحيانا ويتأخّر أخرى ولا مرجّح في البين فتدور المسألة بين اندراجها في الأخبار العلاجيّة وبين إنكار أصل المفهوم للتعليل لعدم تماميّة مقدّمات الإطلاق لاثبات انحصار العلّة مطلقا (١).

وفيه أوّلا أنّه يلزم اللغويّة فيما إذا كان المفهوم بعنوان أنّه المفهوم سببا لتأخّره في جميع الموارد لا في بعض الموارد أحيانا وعليه فلو قلنا بتأخّر المفهوم في موارد خاصّة من موارد المعارضة من جهة كونه مفهوما لا يلزم اللغويّة.

وثانيا : أنّ عدم تماميّة مقدّمات الإطلاق لإثبات الانحصار مطلقا غير سديد بعد ما عرفت من تقريب كون العلّة مخصّصة ومعمّمة فانحصر الأمر في الاندراج في أخبار العلاجيّة.

__________________

(١) تحريرات في الأصول : ج ٥ ص ١٤١.

٥٣٦

وثالثا : أنّ مقدّمات الإطلاق لو لم تكن تامّة لا تدلّ العلّة على المفهوم أصلا لا في خصوص حال تعارضها مع شيء آخر فالأقرب هو ما ذكرناه من تماميّة مقدّمات الإطلاق واندراجهما تحت عمومات الأخبار العلاجيّة.

هذا كلّه بالنسبة إلى العلّة.

المقام الثاني في الحكمة المنصوصة :

وأمّا الحكمة فلا دلالة لها على التخصيص لأنّها في مقام تقريب الحكم المطلق لا في مقام تحديده وتقييده ولذا يكون إطلاق الحكم محكما ولو في موارد خلت عن الحكمة كتقريب الحكم بالعدّة بحكمة عدم اختلاط المياه وعدم اختلال الأنساب فإنّ الحكمة المذكورة حكمة نوعيّة لإطلاق الحكم بالعدّة فلا ينافي خلوّ بعض موارده عن تلك الحكمة لمعلوميّة عدم الاختلاط من دون حاجة إلى العدّة وعليه فيمكن أن يكون الحكم ثابتا ولو مع عدم الحكمة.

وأمّا دلالتها على التعميم فالمشهور هو العدم ولكن يمكن أن يقال الظاهر أنّها كالتعليل في الدلالة عليه لأنّ المراد من الحكمة هي الحكمة المنصوصة الفعليّة الباعثة التي لا يرضى الشارع بإهمالها فإنّها هي تصلح لوجه الحكم الفعليّ ومن المعلوم أنّ مقتضى كونها باعثة فعليّة كذلك هو ثبوت الحكم أينما كانت بعد عدم تقيّدها بالمورد وعموميّتها ، ويشهد له بناء العقلاء على التعدّي من موارد الحكمة المنصوصة المذكورة إلى غيرها فيما إذا كانت الحكمة بعينها موجودة فيها ألا ترى أنّ الحكومة إذا منعت ساكني بلد عن الخروج في بعض الليالي لحكمة جلب المهاجمين والمفسدين فإذا كانت هذه الحكمة موجودة بعينها في بعض الأيّام أو في بعض الأمكنة الأخرى أيضا تقتضي تلك الحكمة منعهم أيضا عن الخروج فيهما.

قال شيخنا الأستاذ الأراكيّ قدس‌سره تبعا لاستاذه المحقّق الحاج الشيخ قدس‌سره شأن

٥٣٧

الحكمة وإن كان عدم الاطّراد لكن في خصوص جانب العدم أعني لا يدور عدم الحكم مدار عدمها وأمّا في جانب الوجود فلا يمكن أن لا يدور مدارها بأن لا يوجد الحكم مع وجودها فيمكن أن يوجد الحكم في الأعمّ بالملاك الأخصّ وأمّا وجوده في الأخصّ (أي وجود الحكم واختصاصه بالأخصّ والمورد) بالملاك الأعمّ فغير جائز فإذا كان الملاك في هذا الباب (أي باب المنع من السجدة على المأكول والملبوس) للمنع هو المعبوديّة لأهل الدنيا وهو موجود في جميع المأكولات حتّى في مثل الخسّ ، (من البقولات المأكولة التي لا تصدق عليها الثمرة) فلا يجوز تخصيص حكم المنع عن السجدة بما عدى الخسّ (والبقولات ممّا لم تصدق عليه الثمرة) وبالجملة فجعل هذه الحكمة شاهدة لترجيح أخبار استثناء الماكول من النبات (على أخبار استثناء الثمرة) خال عن الإشكال (١).

وتوضيح ما أفاده الأستاذ قدس‌سره ببعض عبائره قدس‌سره أنّ النصوص قد وردت على جواز السجود على نبات الأرض مع استثناء المأكول والملبوس وقد ورد في بعض آخر جواز السجود على نبات الأرض مع استثناء الثمرة من النبات فيقع التعارض بين العقد الإثباتي لكلّ منهما وبين العقد السلبي في موردي الافتراق فإنّ مقتضى العقد الإثباتيّ في الأوّل جواز السجود على غير الماكول وإن صدق عليه الثمرة كالحنظل ونحوه ومقتضى العقد السلبي في الثاني عدمه ومقتضى العقد الإثباتيّ في الثاني جوازه على غير الثمرة وإن كان مأكولا كالخسّ ونحوه (من البقولات) وقد كان مقتضى العقد السلبيّ في الأوّل عدمه فيقع التعارض بين الطائفتين في الحنظل وثمر الشوك (ممّا يصدق عليه الثمرة ولا يكون من الماكولات) وفي الخسّ وشبهه (من البقولات ونحوها ممّا لا يصدق عليه الثمرة ويكون من الماكولات).

__________________

(١) كتاب الصلاة : ج ١ ص ٣٤٧.

٥٣٨

وحينئذ ففي مقام الجمع يحتمل وجوه :

الأوّل : تقييد كلّ من العنوانين بالآخر فيقيّد المأكول بما إذا كان ثمرة والثمرة بما إذا كان مأكولا فالذي لا يجوز السجود عليه هو ما اجتمع فيه الأمران وما تخلف فيه أحدهما يجوز السجود عليه وإن تلبّس بالآخر.

الثاني : أن يجعل أحدهما أصلا والآخر معرّفا ومن باب المثال لأجله وهذا يتصور على وجهين : الأوّل أن يكون الأصل هو المأكول من النبات بحسب الغالب في الثمار.

وأمّا الاسفناج والخسّ والبقول فمن الأفراد النادرة والباذنجان والبطّيخ والخيار ونحوها والحبوبات كلّها داخلة في قسم الثمار والثاني أن يكون الأصل في المنع هو الثمرة وإنّما عبّر في الأخبار الأوّل بملاحظة أفراد الثمار غالبا في المأكول وندرة ما كان منها غير مأكول إلى أن قال ما حاصله حينئذ يمكن.

تخصيص الأوّل بالثاني بدعوى اختصاص الثمرة بما كان ممّا ينتفع به فائدة معتدّا بها فليس الشوك والحنظل من أفراد هذا العموم.

اللهمّ إلّا أن يتمسّك بالحكمة المذكورة في الأخبار لعدم جواز السجدة على المأكول والملبوس بأنّ أبناء الدنيا عبيد ما يأكلون ويلبسون والساجد في سجوده في عبادة الله عزوجل فلا ينبغي أن يضع جبهته في سجوده على معبود أبناء الدنيا الذين اغترّوا بغرورها فإنّ مفادها أنّ كلّما كان مأكولا لا يجوز السجود عليه وإن لم يكن ثمرة كالخسّ والاسفناج والبقولات فهذا يوجب أن يكون المقصود من ذكر الثمرة التمثيل للمأكول بواسطة الغلبة فالعبرة في وجود الحكم بوجود الحكمة المذكورة وهي موجودة في مطلق المأكول وإن لم تصدق عليه الثمرة فالجملة المذكورة تعمّمه حتّى بالنسبة إلى غير الثمرة من المأكولات (١) ظاهره هنا هو الميل الى ذلك ولكن يظهر منه

__________________

(١) كتاب الصلاة لشيخنا الاستاذ الأراكي : ج ١ ص ٣٤٥ ـ ٣٤٧.

٥٣٩

العدم في مسألة اشتراط مباشرة الجهة لما يصح السجود عليه فراجع (١) وكيف كان فقد ذهب إليه سيّدنا الأستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره حيث قال : إنّ مقتضى كون شيء حكمة هو جواز أن يوجد الحكم وهي غير موجودة وأمّا إذا وجدت فلا إشكال في وجود الحكم ولو في غير موضوع الدليل كما في العلّة فافتراقهما في الجهة الأولى لا الثانية.

ولذا تعدّى الأستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره عن تحريم النظر بشهوة إلى الأجانب إلى حرمة النظر بشهوة إلى المحارم بسبب عموم الحكمة لأنّ حكمة حرمة النظر بشهوة إلى الأجانب على ما في خبر محمّد بن سنان هي ما فيه من تهييج الرجال وما يدعو إليه التهييج من الفساد والدخول فيما لا يحلّ ولا يحمل (٢) ومن المعلوم أنّ هذه الحكمة لا تختص بالنظر بشهوة إلى الأجانب وعليه فمقتضى وجودها في النظر بشهوة إلى المحارم هو تحريم النظر الشهويّ إليهم أيضا لأنّها هي التي بعثت الشارع نحو تحريم النظر إلى الأجانب (٣).

فمع تعميم الملاك المنصوص لا وجه لتخصيص الحكم بالأخصّ بل يتعدّى عن مورده إلى ساير الموارد ولو لم يكن من أفراد الإنسان كما ذهب الأصحاب إلى عدم جواز النظر الشهويّ إلى الحيوان أيضا فلا تغفل.

لا يقال إنّ الحكمة المنصوصة تكون في قوّة المقتضى فإذا لم ينضمّ إليه عدم المانع لا يوجب شيئا فمورد الحكمة المنصوصة من الموارد التي يعلم انتفاء الموانع فيه لأنّ المتكلم في مقام توجيه الحكم الفعلي ومن المعلوم أنّ الحكم الفعلي لا يجتمع مع وجود المانع هذا بخلاف سائر الموارد لوجود احتمال الموانع فيها ومع احتمال الموانع فلا يجوز التعدّي عن مورد الحكمة إلى سائر الموارد.

لأنّا نقول إنّ توجيه الحكم المطلق بالحكمة المنصوصة لا يكون غالبا إلّا إذا

__________________

(١) نفس المصدر : ج ٢ ص ٢٦٩ ـ ٢٧١.

(٢) الوسائل : الباب ١٠٤ من مقدّمات النكاح : ح ١٢.

(٣) راجع تقريرات الصلاة لسيّدنا الأستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره : ج ١ ص ٣٦٧.

٥٤٠